التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣١
فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ
٣٢
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٣
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣٤
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٥
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٣٦
-يونس

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإقامتها على المشركين، وهي ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة والمتانة فالحجة الأولى تسلك من الطريق الذي يعتبره الوثنيون وعبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلاً منهم لأجل ما يخص به من الشأن، وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمّن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، وأهل الجبال وأهل البر وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات وغيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه.
ومحصّل الحجة أن تدبير العالم الإِنساني وسائر الموجودات جميعاً يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحدوه بالربوبية ولا يعبدوا إلا اياه.
والحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين، وذلك أنهم لا يلتفتون كثيراً إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، وإنما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي تتعين سعادتها وشقاوتها بالجزاء الإِلهي بأعمالهم فإذا قامت البيّنة العقلية على الإِعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلا الله سبحانه، ولا يتخذ أرباب من دونه طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه.
والحجة الثالثة وهي التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين وهي أن المتبع عند العقل هو الحق، ولما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، وسيأتي في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.
ولولا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أولاً الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى والثالثة فيذكر بعدها.
قوله تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار } إلى آخر الآية. الرزق هو العطاء الجاري، ورزقه تعالى للعالم الإِنساني من السماء هو نزول الأمطار والثلوج ونحوه، ومن الأرض هو بإنباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما يرتزق الإِنسان، وببركة هذه النعم الإِلهية يبقى النوع الإِنساني والمراد بملك السمع والأبصار كونه تعالى متصرفاً في الحواس الإِنسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها فإنما هو يشخص ويميّز ما يريده مما لا يريده بأعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده، ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها.
فالحواس هي التي تتم بها فائده الرزق الإِلهي، وإنما خص السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، والله سبحانه هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما بالإِعطاء والمنع والزيادة والنقيصة.
وقوله: { ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } الحياة بحسب النظر البادئ في الإِنسان هي المبدأ الذي يظهر به العلم والقدرة في الشيء فيصدر أعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك.
ثم اكتشف من طريق النظر العلمي أن ذلك لا يختص بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فإن الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات.
وكذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطي ذلك فإن جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهي أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدي إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان والنبات.
ثم الحياة وهي تقابل الموت الذي هو بطلان مبدأ الأعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشيء بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرّة وموتها خلافه، وحياة العمل كونه بحيث ينتهي إلى الغرض الذي أتى به لأجله وموته خلافه، وحياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع أثراً مطلوباً وموتها خلافه، وحياة الإِنسان كونه جارياً على ما تهدي إليه الفطرة الإِنسانية ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا عدّ القرآن الشريف الدين حياة للإِنسان لأنه يرى أن الدين الحق وهو الإِسلام هو الفطرة الإِلهية.
إذا تبيّن هذا اتضح أن خروج الحي من الميت وخروج الميت من الحي يختلف معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمني والبيضة والبذر فإن الحي كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضاً بحسب البدء في حياة غير متناهية ولا طريق إلى إثباته، وخروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان والنبات بالانفصال.
وعلى النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الأمور غير المفيدة في باب أُمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتولد كخلق الإِنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس، وكخروج الإِنسان العاقل الصالح من الإِنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحي من الميت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، وذلك أن الآية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الآلهة المختلفة وهو أن العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتّة علوية وسفلية والسفلية من إنسان وحيوان ونبات وبحر وبر وأُمور وراء ذلك كثيرة، وكل منها تحت تدبير مدبّر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقرّبنا إلى الله زلفى وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبّرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة.
والآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وإن ذلك يدل على أن الله سبحانه رب كل شيء وحده، فهي تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم وما يعمّكم وغيركم منه ينتهي إلى الله سبحانه فهو المدبّر لأمركم وأمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.
وقد بدأت في التعداد بما يخص الإِنسان أعني قوله: { قل من يرزقكم من السماء والأرض } وختمت بما يعمّه وغيره أعني قوله: { ومن يدبّر الأمر } وظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: { أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت } هو التدبير الخاص بالإِنسان فيكون المراد ملك السمع والأبصار التي لأفراد الإِنسان، وكذا إخراج الحي من الإِنسان من ميّته وبالعكس، وقد تبيّن أن الحياة المخصوصة بالإِنسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين.
فالمراد بإخراج الحي من الميت وبالعكس - والله أعلم - إخراج الإِنسان الحي بالسعادة الإِنسانية من الإِنسان الميت الذي لا سعادة له وبالعكس.
فالله سبحانه يلقّن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: { قل } أن يقول لهم في سياق الاستفهام { من يرزقكم من السماء والأرض } بالإِمطار والإِنبات والتكوين { أمّن يملك السمع والأبصار } منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيّبات الرزق، ولولاهما لم توفقوا لذلك وفنيتم عن آخركم { ومن يخرج الحي من الميت } أي كل أمر مفيد في بابه من غيره { ويخرج الميت من الحي } فيتولد الإِنسان السعيد من الشقي والشقي من السعيد { ومن برّ الأمر } في جميع الخليقة.
{ فسيقولون الله } اعترافاً بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإِنسان وغيره لأن الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوبخهم أولاً على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: { فقل أفلا تتقون } ثم قال: { فذلكم الله ربكم }.
قوله تعالى: { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تصرفون } الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، وقد وصف الرب بالحق ليكون توضيحاً لمفاد الحجة، وتوطئة وتمهيداً لقوله بعده: { فماذا بعد الحق إلا الضلال }.
وقوله: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فإن الهدى في اتباعه وعبادته فإن الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فماذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شيء وأقيم الباقي مقامه إيجازاً، وقيل: فماذا بعد الحق إلا الضلال، ولذا قال بعضهم: ان في الآية احتباكاً - وهو من المحسنات البديعية - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شيء يدل عليه الآخر فإن تقدير الكلام: فماذا بعد الحق إلا الباطل؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الأول والهدى من الثاني وبقي قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ والوجه هو الذي قدّمناه.
ثم تمم الآية بقوله: { فأنّى تصرفون } أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.
قوله تعالى: { كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } ظاهر السياق أن الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتماً وهو أن الفاسقين - وهم على فسقهم - لا يؤمنون ولا تنالهم الهداية الإِلهية إلى الإِيمان، وقد قال تعالى:
{ { والله لا يهدي القوم الفاسقين } [الصف: 5]. وعلى هذا فالإِشارة بقوله: { كذلك } إلى ما تحصل من الآية السابقة: أن المشركين صرفوا عن الحق وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
فمعنى قوله: { كذلك حقت كلمة ربك } الخ، أن الكلمة الإِلهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين - وهو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلماً ولا جزافاً وإنما قضينا ذلك لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.
وفي الآية دلالة على أن الأمور الضرورية والأحكام والقوانين البيّنة التي تجري في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإِلهي، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.
وربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب وقوله: { أنهم لا يؤمنون } في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقّت كلمة ربك على الذين فسقوا وهي وعيدهم بالعذاب وإنما حقّت عليهم العذاب لأنهم لا يؤمنون.
ولا يخلو عن سقم فإن وجه الشبه غير ظاهر ولا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها وأما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر وهو أنهم لا يؤمنون.
والحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدّعونها من ربوبية أربابهم واستحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إن تدبير كل شأن من شؤون العالم العامة إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، وإنما نعبد اصنامها وتماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.
فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له وهو خالق الكل ومبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية وهو المستحق للعبادة لا غيره.
قوله تعالى: { قل هل من شركائكم من يبدءُ الخلق ثم يعيده } إلى آخر الآية. تلقين للاحتجاج من جهة المبدأ والمعاد فإن الذي يبدأ كل شيء ثم يعيده يستحق أن يعبده الإِنسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه يوم المعاد.
ولما كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يتصدى جواب سؤاله بنفسه وقال: { قل الله يبدء الخلق ثم يعيده فأنّى تؤفكون } وإلى متى تصرفون عن الحق.
وليس اعتماد الآية على مسألة الإِبداء والإِعادة في احتجاجها اعتماداً على مقدمة غير بيّنة ولا مبيّنة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل وغير ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.
والحجة - كما تقدم الإِيماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفاً من العقاب أو رغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة.
قوله تعالى: { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق } إلى آخر الآية، يهدي للحق وإلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، وقد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله:
{ أولم يهد لهم } [السجدة: 26]، وقوله: { { يهدي للتي هي أقوم } [الإسراء: 9] إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: { يهدي للحق } للتعليل ليس بشيء.
لقّن سبحانه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحجة وهي ثالثة الحجج، وهي حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، وتوضيحها أن من المرتكز في الفطرة الإِنسانية وبه يحكم عقله أن من الواجب على الإِنسان أن يتَّبع الحق حتى أنه ان انحرف في شيء من أعماله عن الحق واتَّبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فإنما اتبعه لحسبانه إياه حقاً والتباس الأمر عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقاً فالحق واجب الاتباع على الإِطلاق ومن غير قيد أو شرط.
والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه أو يهدي إلى غيره لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري.
وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ ومن البيّن أن لا جواب للمشركين في ذلك مثبتاً إذ شركاؤهم سواء أكانوا جماداً غير ذي حياة كالأوثان والأصنام أم كانوا من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وإذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنهم لا يجيبون، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - أعني الهداية إلى الحق - بإثباتها لله سبحانه فقيل: { قل الله يهدي للحق } فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شيء إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله:
{ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، وقوله: { الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى } [الأعلى: 3] وهو الذي يهدي الإِنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة بإذنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع، وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.
وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:
{ الحق من ربك فلا تكن من الممترين } [آل عمران: 60] أن الحق من الاعتقاد والقول والفعل إنما يكون حقاً بمطابقة السنّة الجارية في الكون للذي هو فعله فالحق بالحقيقة إنما يكون حقاً بمشيئته وإرادته.
وإذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق، وأن الله سبحانه يهدي إلى الحق سألهم بقوله: { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدي إلا أن يهدى }؟ أن يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى واتباع شركائهم وهو تعالى يهدي إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم، ومن المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدي اي لاتباعه تعالى على اتباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: { فما لكم كيف تحكمون }؟
والتعبير في الترجيح في قوله: { أحق أن يتّبع } بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعيّن والانحصار مع أن اتّباعه تعالى حق لا غير واتباعهم لا نصيب له من الحق إنما هو بالنظر إلى مقام الترجيح، وليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم وتهييج لجهالتهم.
وقد أبدع تعالى في قوله: { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى } والقراءة الدائرة: { لا يهدّي } بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدي، وظاهر قوله: { لا يهدّي إلا أن يهدى } وقد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدي بغيره لا بنفسه.
والكلام قد قوبل فيه قوله: { يهدي إلى الحقّ } بقوله: { من لا يهدّي } مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحقِّ، وعدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحق، وكذا الملازمة بين الهداية إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدي إلى الحق يجب أن يكون مهتدياً بنفسه لا بهداية غيره والذي يهتدي بغيره ليس يهدي إلى الحق أبداً.
هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعني الإِيصال إلى صريح الحق ومتن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:
{ { وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنَّ } [البقرة: 124] الآية.
وقد تبيّن بما قدّمناه في معنى الآية أُمور:
أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الإِيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهي إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.
وثانيها: أن المراد بقوله: { من لا يهدّي إلا أن يهدى } من لا يهتدي بنفسه، وهذا أعمّ من أن يكون ممّن يهتدي بغيره أو يكون ممّن لا يهتدي أصلاً، لا بنفسه ولا بغيره كالأوثان والأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أن قوله: { إلا أن يهدى } استثناء من قوله: { من لا يهدّي } الأعم من أن لا يهتدي أصلاً أو يهتدي بغيره، والمأخوذ في قوله: { أن يهدى } فعل دخلت عليه أن المصدرية المؤوَّلة إلى المصدر، والجملة الفعلية المؤوَّلة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله:
{ أن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184] فلا يدل على الوقوع وبين نحو قوله: { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } [يونس: 29] فيدل على الوقوع، ويقال: ضربك زيداً عجيب إذا ضربته، وأن تضرب زيداً عجيب إذا هممت أن تضربه.
فقوله: { من لا يهدّي إلا أن يهدى } معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، ومن المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، وأما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدي فافهم ذلك.
وللمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة:
منها: أنه استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال لأن من نفي عنهم الهداية ممن اتّخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم وعزيراً والملائكة عليهم السلام، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم:
{ { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء: 73]. وفيه: أن محصّله: أن المعنى لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى فيهدي غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، وقد اختلَّ عليه معنى الآية من أصله فإن من لا يهتدي إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدي إلى الحق فإنه إنما يماسّ الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟
على أن ما ذكره لا ينطبق على الأصنام التي هي مورد الاحتجاج في الآية فإانها لا تقبل الهداية من أصلها، وقد ذكر المسيح وعزيراً وهما ممن قدَّسته النصارى واليهود وليس وجه الكلام في الآية إليهم وإن شملتهما وغيرهما الآية بحسب عموم الملاك.
ومنها: أن الاستثناء منقطع والمراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية اصلاً فحسب، والمعنى: أم من لا يهتدي أصلاً كالأصنام إلا أن يهديه الله فيهتدي حينئذ.
وفيه: أنه لا يفي بتوجيه المقابلة التي بين قوله: { من يهدي إلى الحق } وقوله: { من لا يهدي } فإن الهداية إلى الحق والاهتداء إليه لا يتقابلان إلا أن يؤول المعنى إلى مثل قولنا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتَّبع أم من لا يهتدي أصلاً إلا أن يهديه الله فيهتدي فيهدي غيره، ويرد عليه أنه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الأصنام ممن لا يهتدي أصلاً حتى يصير الاستثناء منقطعاً بل يعم ما لا يهتدي أصلاً لا بنفسه ولا بغيره، ومن لا يهتدي بنفسه ويهتدي بغيره كالملائكة مثلاً، ويرد عليه ما ورد على الوجه السابق.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية و { إلا } بمعنى حتى والمعنى لا يهتدي ولا يقبل الهداية حتى يهدى.
وفيه: أن الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتَّبع أم من لا يهتدي أصلاً حتى يهدى إلى الحق، ويعود الاستثناء مستدركاً لا يتعلق به غرض في الكلام. مضافاً إلى أن مجيء إلا بمعنى حتى غير ثابت وعلى تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة والجن ممن يعبدون من دون الله وهم يقبلون الهداية من الله وإن لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فإنهم وإن لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية ولو هدوا إلى الحق لهدوا إليه.
وفيه: أن الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، والقول بأن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة والجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد.
وثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الإِيصال إليه إنما هي شأن من يهتدي بنفسه أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية أما من بادئ أمره أو بعناية خاصّة من الله سبحانه كالأنبياء والأوصياء من الأئمة، وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالأئمة من الأنبياء والأوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول:
{ { وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد } [غافر: 38]، وقال: { { إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً } [الإنسان: 3]. وأما قوله تعالى خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو إمام: { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56] وغيره من الآيات فهي مسوقة لبيان الإِصالة والتبع كما في آيات التوفّي وعلم الغيب ونحو ذلك مما سيقت لبيان أن الله سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكاً تبعياً أو عرضياً، ويكون سبباً لها بإذن الله، قال تعالى: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء: 73] وفي الأحاديث إشارة إلى ذلك وأن الهداية إلى الحق شأن النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وقد مرّ بعض الكلام في الهداية فيما تقدّم.
وقوله في ذيل الآية: { فما لكم كيف تحكمون } استفهام للتعجيب استغراباً لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتّباع من لا يهتدي ولا يهدي إلى الحق.
قوله تعالى: { وما يتّبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أغنى يغني يتعدّى بمن وعن كلتيهما وقد جاء في الكلام الإِلهي بكل من الوجهين فعدّي بمن كما في الآية، وبعن كما في قوله:
{ { ما أغنى عني ماليه } [الحاقة: 28]. وإنما نسب اتّباع الظن إلى أكثرهم لأن الأقل منهم وهم أئمة الضلال على يقين من الحق، ولم يؤثروا عليه الباطل ويدعوا إليه إلا بغياً كما قال تعالى: { { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم } [البقرة: 213] وأما الأكثرون فإنما اتّبعوا آباءهم تقليداً لهم لحسن ظنهم بهم.
وقوله: { إن الله عليم بما يفعلون } تعليل لقوله: { وما يتّبع أكثرهم إلا ظناً } والمعنى أن الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنها اتّباع للظن.