التفاسير

< >
عرض

وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
٤١
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ
٤٢
قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ
٤٣
وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ
٤٥
قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٤٦
قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٤٧
قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤٨
تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
٤٩
-هود

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتمة قصة نوح عليه السلام وهي تشتمل على فصول كإخباره عليه السلام بنزول العذاب على قومه، وأمره بصنع الفلك، وكيفية نزول العذاب وهو الطوفان، وقصة ابنه الغريق، وقصة نجاته ونجاة من معه لكنها جميعاً ترجع من وجه إلى فصل واحد وهو فصل القضاء بينه عليه السلام وبين قومه.
قوله تعالى: { وأُوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } الابتئاس من البؤس وهو حزن مع استكانة.
وقوله: { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } إيئاس وإقناط له عليه السلام من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، ولذلك فرّع عليه قوله: { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس ويغتمُّ من مخالفة المدعوين وتمردهم ما دام يرجو منهم الإِيمان والاستجابة لدعوته، وأما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم ولا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع والطاعة والإِلحاح عليهم بالإِقبال إليه ولو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة وإبراز المعذرة.
وعلى هذا ففي قوله: { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } تسلية من الله لنوح عليه السلام وتطييب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإِشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه وبين قومه، وصيانة لنفسه من الوجد والغم لما كان يشاهد من فعلهم به وبالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل (مما يقرب من ألف سنة) لبث فيه بينهم.
ويظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبداً كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه. وفيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب وأما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقاً ولا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، وأما ثباتهم ودوامهم على الإِيمان فلا دليل عليه.
ويستفاد من الآية أولاً: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإِيمان مرجواً منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.
وثانياً: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله:
{ { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [نوح: 26] كان واقعاً بين قوله: { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } الخ، وبين قوله: { واصنع الفلك } إلى قوله { إنهم مغرقون }.
وذلك لأنه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل وإنما طريقة السمع بالوحي فهو عليه السلام علم أولاً من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحداً منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب وذكر في دعائه ما أُوحي إليه فلما استجاب الله دعوته وأراد إهلاكهم أمره عليه السلام باتخاذ السفينة وأخبره أنهم مغرقون.
قوله تعالى: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } الفلك هي السفينة مفردها وجمعها واحد والأعين جمع قلّة للعين وإنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.
وذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله: { واصنع الفلك } الخ، حتى يكون وحياً للحكم بل وحي في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا وافعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم عليهم السلام بقوله:
{ { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [الأنبياء: 73]، قد تقدمت الإِشارة إليه في المباحث السابقة وسيجيء إن شاء الله في تفسير الآية.
وقوله: { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي لا تسألني في أمرهم شيئاً تدفع به الشر والعذاب وتشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل والحكم حتم وبذلك يظهر أن قوله: { إنهم مغرقون } في محل التعليل لقوله: { ولا تخاطبني } الخ، أو لمجموع قوله: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا } ويظهر أيضاً أن قوله: { ولا تخاطبني } الخ، كناية عن الشفاعة.
والمعنى: واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملد وتعليمنا إياك ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضيٌّ عليهم الغرق قضاء حتم لا مردَّ له.
قوله تعالى: { ويصنع الفلك وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } قال في المجمع: السخرية إظهار خلاف الإِبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير لتذليل يكون استضعافاً بالقهر، والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة، واستنقاصاً ولا تكون إلا في الحيوان وقد يكون اللعب بجماد، انتهى.
وقال الراغب في المفردات: سخرت منه واستسخرته للهزء منه قال تعالى: { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون } { بل عجبت ويسخرون } وقيل: رجل سخرة - بالضم فالفتح - لمن سخر وسخرة - بالضم فالسكون - لمن يسخر منه، والسخرية - بالضم - والسخرية - بالكسر - لفعل الساخر، انتهى.
وقوله: { ويصنع الفلك } حكاية الحال الماضية يمثّل بها ما يجري على نوح عليه السلام من إيذاء قومه وقيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته والاستهزاء به في عمل السفينة وصبره عليه في جنب الدعوة الإِلهية وإقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل وينثني.
وقوله: { كلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه } حال من فاعل يصنع والملا ها هنا الجماعة الذين يعبأ بهم، وفي الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه وهو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، وأنه عليه السلام كان يصنعها في مرأى منهم وممرّ عام.
وقوله: { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } في موضع الجواب لسؤال مقدّر كأن قائلاً قال: فماذا قال نوح عليه السلام؟ فقيل: { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } ولذا فصل الكلام من غير عطف.
ولم يقل عليه السلام: إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه وعن عصابة المؤمنين به وكأنه كان يستمد من أهله وأتباعه في ذلك وكانوا يشاركونه في عمل السفينة وكانت السخرية تتناولهم جميعاً فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحاً ومن معه في عمل السفينة بسخرية نوح ورميه عليه السلام بالخبل والجنون فيشمل هزؤهم نوحاً ومن معه وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحاً فقط.
على أن الطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضاً كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض وإن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، ولذا قيل: { سخروا منه } ولم يقل: سخروا منه ومن المؤمنين.
والسخرية وإن كانت قبيحة ومن الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة وبعنوان المقابلة وخاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة وإتمام الحجة، قال تعالى:
{ { فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } [التوبة: 79]، ويدل على اعتبار المجازاة والمقابلة بالمثل في الآية قوله: { كما تسخرون }.
قوله تعالى: { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم } السياق يقضي أن يكون قوله: { فسوف تعلمون } تفريعاً على الجملة الشرطية السابقة { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم } وتكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح عليه السلام، ويكون قوله: { من يأتيه عذاب يخزيه } الخ، متعلقاً بتعلمون على أنه معلوم العلم.
والمعنى: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ وهذه سخرية بقول حق.
وقوله: { من يأتيه عذاب يخزيه } المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا وهو الغرق الذي أخزاهم وأذلهم، والمراد بقوله: { ويحل عليه عذاب مقيم } أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، والدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا والثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة وتكرر العذاب - منكّراً - في اللفظ وتوصيف الأول بالإِخزاء والثاني بالإِقامة.
وربما أخذ بعضهم قوله: { فسوف تعلمون } تاماً من غير ذكر متعلق العلم وقوله: { من يأتيه عذاب يخزيه } الخ، ابتداء كلام من نوح عليه السلام وهو بعيد عن السياق.
قوله تعالى: { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنّور } إلى آخر الآية، يقال: فار القدر يفور فوراً وفوراناً إذا غلا واشتدَّ غليانه، وفارت النار إذا اشتعلت وارتفع لهيبها، والتنّور تنّور الخبز، وهو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية والفارسية أو الكلمة فارسية في الأصل.
وفوران التنّور نبع الماء وارتفاعه منه، وقد ورد في الروايات: أن أول ما ابتدأ الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجّر الماء من تنّور، وعلى هذا فاللام في التنّور للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، ويحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: (حمي الوطيس) إذا اشتدَّ الحرب.
فقوله: { حتّى إذا جاء أمرنا وفار التنور }: أي كان الأمر على ذلك حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الأمر الربوبيّ وتعلَّق بهم وفار الماء من التنّور أو اشتّد غضب الربّ تعالى قلنا له كذا وكذا.
وفي التنّور أقوال أُخر بعيدة من الفهم كقول من قال: إن المراد به طلوع الفجر وكان عند ذلك أوّل ظهور الطوفان، وقول بعضهم: إن المراد به أعلى الأرض وأشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة ونجود الأرض، وقول آخرين: إن التنور وجه الأرض هذا.
وقوله: { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } أي أمرنا نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين وهي الذكر والأُنثى.
وقوله: { وأهلك إلا من سبق عليه القول } أي واحمل فيها أهلك وهم المختصون به من زوج وولد وأزواج الأولاد وأولادهم إلا من سبق عليه قولنا وتقدّم عليه عهدنا أنّه هالك، وكان هذا المستثنى زوجته الخائنة التي يذكرها الله تعالى في قوله:
{ { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } [التحريم: 10]. وابن نوح الذي يذكره الله تعالى في الآيات التالية وكان نوح عليه السلام يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى بيّن الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله وأنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من الذين ظلموا.
وقوله: { ومن آمن وما آمن معه إلا قليل } أي واحمل فيها من آمن بك من قومك غير أهلك لأن من آمن به من أهله أُمر بحمله بقوله: { وأهلك } ولم يؤمن به من القوم إلا قليل.
في قوله: { وما آمن معه } دون أن يُقال: وما آمن به تلويح إلى أن المعنى: وما آمن بالله مع نوح إلا قليل، وذلك أنسب بالمقام وهو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، والملاك فيه هو الإِيمان بالله والخضوع لربوبيّته، وكذا في قوله: { إلا قليل } دون أن يقال: إلا قليل منهم بلوغاً في استقلالهم أن من آمن كان قليلاً في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلّة.
قوله تعالى: { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } قرئ مجراها بفتح الميم وهو مجرى السفينة وسيرها، ومجراها بضم الميم وهو إجراء السفينة وسياقها، ومرساها بضم الميم مصدر ميميّ مرادف الإِرساء، والإِرساء الإِثبات والإِيقاف، قال تعالى:
{ { والجبال أرساها } [النازعات: 32]. وقوله: { وقال اركبوا فيها } معطوف على قوله في الآية السابقة: { جاء أمرنا } أي حتى إذا قال نوح الخ، وخطابه لأهله وسائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة.
وقوله: { بسم الله مجراها ومرساها } تسمية منه عليه السلام يجلب به الخير والبركة لجري السفينة وإرسائها فإن في تعليق فعل من الأفعال أو أمر من الأُمور على اسم الله تعالى وربطه به صيانة له من الهلاك والفساد واتقاء من الضلال والخسران لما أنه تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور والفناء والعيّ والعناء إليه فما تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء.
فهو عليه السلام يعلق جري السفينة وإرساءها باسم الله وهذان هما السببان الظاهران في نجاة السفينة ومن فيها من الغرق، وإنما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الإِلهية من ركبها، وإنما تشمل العناية بشمول المغفرة الإِلهية لخطايا ركابها والرحمة الإِلهية لهم لينجوا من الغرق ويعيشوا على رسلهم في الأرض، ولذلك علل عليه السلام تسميته بقوله: { إن ربي لغفور رحيم } أي إنما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي ومرساها لأنه ربي الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها ومرساها من الاختلال والتخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته ورحمته.
ونوح عليه السلام أول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهو عليه السلام أول فاتح فتح هذا الباب كما أنه أول من أقام الحجة على التوحيد، وأول من جاء بكتاب وشريعة وأول من انتهض لتعديل الطبقات ورفع التناقض عن المجتمع الإِنساني.
وما قدمناه من معنى قوله: { بسم الله مجراها ومرساها } مبني على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح عليه السلام والمجرى والمرسى مصدرين ميميين وربما احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها ومرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى.
قال في الكشاف في الآية: يجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين: فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالاً من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها إما لأن المجرى والمرسى للوقت وإما لأنهما مصدران كالإِجراء والإِرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج،ويجوز أن يراد مكانا الإِجراء والإِرساء، وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة أي بسم الله اجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما ويراد بالله اجراؤها وارساؤها.
قال: وقرئ مجراها ومرساها بفتح الميم من جرى ورسى إما مصدرين أو وقتين أو مكانين، وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله.
قوله تعالى: { وهي تجري بهم في موج كالجبال } الضمير للسفينة، والموج اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء وفي الآية إشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء ولم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل.
قوله تعالى: { ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } المعزل اسم مكان من العزل وقد عزل ابنه نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم، ولذلك قال: { ونادى نوح ابنه } ولم يقل: وقال نوح لابنه.
والمعنى: ونادى نوح ابنه وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم وقال في ندائه: يا بنيّ - بالتصغير والإِضافة دلالة على الإِشفاق والرحمة - اركب معنا السفينة ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة، ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه وأنه غير مؤمن إلا باللفظ، ولذلك دعاه إلى الركوب.
قوله تعالى: { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله } الخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوي أُويّاً ومأوى تقول: أوى إلى كذا: انضم إليه يأوي أُوياً ومأوى وآواه غيره يؤويه إيواء، انتهى.
والمعنى: قال ابن نوح مجيباً لأبيه رادّاً لأمره: سأنضم إلى جبل يعصمني ويقيني من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - وهو يوم اشتد غضب الله وقضى بالغرق لأهل الأرض إلا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل ولا غيره، وحال بين نوح وابنه الموج فكان ابنه من المغرقين ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره وتبرأ منه.
وفي الكلام إشارة إلى أن أرضهم كانت أرضاً جبلية لا مؤنة زائدة في صعود الإِنسان إلى بعض جبال كانت هناك.
قوله تعالى: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين } البلع إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف، والإِقلاع الإِمساك وترك الشيء من أصله، والغيض جذب الأرض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها وهو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقّصته.
والجوديّ مطلق الجبل والأرض الصلبة، وقيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهي إلى أرمينية وهي المسماة "آرارات".
وقوله: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } نداء صادر من ساحة العظمة والكبرياء لم يصرّح باسم قائله وهو الله عز اسمه للتعظيم، والأمر تكويني تحمله كلمة { كن } الصادرة من ذي العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع الأرض ما على وجهها من الماء المتفجّر من عيونها، وأن تكفّ السماء عن إمطارها.
وفيه دلالة على أن الأرض والسماء كانتا مشتركتين في إطغاء الماء بأمر الله كما يبيّنه قوله تعالى:
{ { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجَّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } [القمر: 11]. وقوله: { وغيض الماء } أي نقص الماء ونشف عن ظاهر الأرض وانكشف البسيط، وذلك إنما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران وتشكيل البحار والبحيرات، وانتشاف ما على سائر البسيطة.
وقوله: { وقضي الأمر } أي أُنجز ما وعد لنوح عليه السلام من عذاب القوم وأُنفذ الأمر الإِلهي بغرقهم وتطهّر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل فقضاء الأمر كما يُقال على جعل الحكم وإصداره كذلك يُقال على إمضائه وإنفاذه وتحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإِلهي والحكم الربوبي الذي هو عين الوجود الخارجي جعله وإنفاذه واحد، وإنما الاختلاف بحسب التعبير.
وقوله: { واستوت على الجوديّ } أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودي المعهود، وهو إخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح ومن معه من أمر الطوفان.
وقوله: { وقيل بعداً للقوم الظالمين } أي قال الله عزّ اسمه: بعداً للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعداً فأبعدهم بذلك من رحمته وطردهم عن دار كرامته، والكلام في ترك ذكر فاعل "قيل" ها هنا كالكلام فيه في "قيل" السابق.
والأمر أيضاً في قوله: { بعداً للقوم الظالمين } كالأمرين السابقين: { يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدي إلى خزيهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة، وإن كان من وجه آخر من جنس الأمر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الأمر الإِلهي بالإِيمان والعمل، وكونه جزاء لهم على استكبارهم واستعلائهم على الله عز وجل.
وللصفح عن ذكر الفواعل في قوله: { وقيل يا أرض } الخ، وقوله: { وقضي الأمر } وقوله: { وقيل بعداً } الخ، في الآية وجه آخر مشترك وهو أن هذه الأُمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر.
ولمثل هذه النكتة حذف فاعل { غيض الماء } وهو الأرض، وفاعل { استوت على الجودي } وهو السفينة، ولم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، ولا الناجون بأنهم نوح عليه السلام ومن معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغاً ليس فيه إلا سماء تنزل أمطارها، وأرض انفجرت بعيونها وانغمرت بالماء وسفينة تجري في أمواجه، وأمر مقضي، وقوم ظالمون هم قوم نوح وأمر إلهي يوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، ولو استقر شيء واستوى فإنما هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وقيل: بعداً للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عزّ اسمه والقوم الظالمون هم المقضي عليهم بالعذاب، ولو قيل: قضي الأمر فإنما القاضي هو الله سبحانه، والأمر هو ما وعده نوحاً ونهاه أن يراجعه في ذلك وهو أنهم مغرقون، ولو قيل للسماء: أقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد إقلاعها وإمساكها ماءها.
ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الإِيجاز وتوافق لطيف فيما بينها كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول ويدهش الألباب وإن كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها.
وقد اهتم بأمرها رجال البلاغة وعلماء البيان فغاصوا لجيّ بحرها وأخرجوا ما استطاعوا نيله من لآليها، وما هو - وقد اعترفوا بذلك - إلا كغرفة من بحر أو حصاة من بر.
قوله تعالى: { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } دعاء نوح عليه السلام لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة وقد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه وأمره بركوب السفينة فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح عليه السلام وهو يرى أنه مؤمن بالله من أهله وقد وعده الله بإنجاء أهله.
ولما به من الوجد والحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى: { ونادى نوح ربه } ولم يقل: سأل أو قال أو دعا، ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر وهاج به الوجد أمر طبعي. والدعاء أعني نداء نوح عليه السلام ربه في ابنه وإن ذكر في القصة بعد ذكر إنجاز غرق القوم وظاهره كون النداء بعد تمام الأمر واستواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال أن يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما وعلى هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان إنما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الأخذ ببيان بعض جهاته الباقية.
وقد كان عليه السلام رسولاً أحد الأنبياء أُولي العزم عالماً بالله عارفاً بمقام ربه بصيراً بموقف نفسه في العبودية، والظرف ظهرت فيه آية الربوبية والقهر الإِلهي أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا وأهلها، ونودي من ساحة العظمة والكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوح عليه السلام يدعو لابنه والظرف هذا الظرف لم يجترىء عليه السلام - على ما يقتضيه أدب النبوة - على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: { احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك }.
وكان أهله - غير امرأته - حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهراً ولو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح عليه السلام مؤمناً لم يدعه البتَّة إلى ركوب السفينة فهو عليه السلام الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: { ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً } فقد كان يرى ابنه هذا مؤمناً ولم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفراً أو مؤدِّياً إلى الكفر وإنما هي معصية دون الكفر.
ولذلك كله قال عليه السلام: { ربّ إنَّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ } فذكر وعد ربّه وضمَّ إليه أنَّ ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة { ربِّي } على الاسترحام، ودلالة الإِضافة في { إبني } على الحجَّة في قوله: { من أهلي } ودلالة التأكيد بأن ولام الجنس في قوله: { وإنَّ وعدك الحقُّ } على أداء حق الإِيمان.
وكانت الجملتان: { إن ابني من أهلي } { وإنَّ وعدك الحقُّ } تنتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه عليه السلام لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدباً في مقام العبوديّة فلا حكم إلا لله بل سلّم الحكم الحقّ والقضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: { وأنت أحكم الحاكمين }.
فالمعنى: ربّ إنَّ ابني من أهلي، وإنَّ وعدك حقّ كل الحقّ، وإنَّ ذلك يدلّ على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق ومع ذلك فالحكم الحقّ إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنه عليه السلام يستوضح ما هو حقيقة الأمر ولم يذكر نجاة ابنه ولا زاد على هذا الذي حكاه الله عنه شيئاً وسيوافيك بيان ذلك.
قوله تعالى: { قال يا نوح إنَّه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم } الخ. بيَّن سبحانه لنوح عليه السلام وجه الصواب فيما ذكره بقوله: { إنَّ ابني من أهلي وإنّ وعدك } الخ، وهو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى: { إنَّه ليس من أهلك } فارتفع بذلك أثر حجّته.
والمراد بكونه ليس من أهله - والله أعلم - أنّه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم لأنّ المراد بالأهل في قوله: { وأهلك إلا من سبق عليه القول } الأهل الصالحون، وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله بمعنى الاختصاص، ولذلك علَّل قوله: { إنه ليس من أهلك } بقوله: { إنه عمل غير صالح }.
فإن قلت: لازم ذلك أن تكون امرأته الكافرة من أهله لأنها إنما خرجت من الحكم بالاستثناء وهي داخلة موضوعاً في قوله: { وأهلك } ويكون ابنه ليس من أهله وخارجاً موضوعاً لا بالاستثناء وهو بعيد.
قلت: المراد بالأهل في قوله: { وأهلك إلا من سبق عليه القول } هم الأهل بمعنى الاختصاص وبالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين ومصداقه امرأته وابنه هذا، وأما الأهل الواقع في قوله هذا: { إنه ليس من أهلك } فهم الصالحون من المختصِّين به عليه السلام طبقاً لما وقع في قوله: { رب إن ابني من أهلي } فإنه عليه السلام لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من أُولي الاختصاص وإلا شمل امرأته وبطلت حجته فافهم ذلك.
فهذا هو الظاهر من معنى الآية، ويؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام مما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وذكروا في تفسير الآية معان أُخر:
منها: إن المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله. ونسب إلى جماعة من المفسِّرين. وفيه أنه في نفسه معنى لا بأس به إلا أنه غير مستفاد من سياق الآية لأن الله سبحانه ينفي عنه الأهلية بالمعنى الذي كان يثبتها له به نوح عليه السلام ولم يكن نوح يريد بأهليته أنه مؤمن غير كافر بل إنما كان يريد أنه أهله بمعنى الاختصاص والصلاح وإن كان لازمه الإِيمان. اللهم إلا أن يرجع إلى المعنى المتقدم.
ومنها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنما ولد على فراشه فقال نوح عليه السلام: إنه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أن الأمر على خلاف ذلك، ونبهه على خيانة امرأته. وينسب إلى الحسن ومجاهد.
وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياء عليهم السلام، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم وينزّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور فليس في القصة إلا قوله: { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } وليس بظاهر فيما تجرّؤا عليه وقوله في امرأة نوح:
{ { امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } [التحريم: 10] وليس إلا ظاهراً في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما وتسران إليهم بأسرارهما وتستنجدانهم عليهما.
ومنها: أنه كان ابن امرأته عليه السلام وكان ربيبه لا ابنه من صلبه. وفيه أنه مما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنه لا يلائم قوله في تعليل أنه ليس من أهله: { إنه عمل غير صالح } ولو كان كذلك كان من حق الكلام أن يُقال: إنه ابن المرأة.
على أن من المستبعد جداً أن لا يكون نوح عليه السلام عالماً بأنه ربيبه وليس بابنه حتى يخاطب ربه بقوله: { إن ابني من أهلي } أو يكون عالماً بذلك ويتكلم بالمجاز ويحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه أنه ليس ابنه وإنما هو ربيب.
وقوله: { إنه عمل غير صالح } ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح عليه السلام فيكون هو العمل غير الصالح، وعده عملاً غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، وقولها: فإنما هي إقبال وإدبار، أي ذات إقبال وإدبار.
فالمعنى: إن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم. ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: { إنه عمل غير صالح } بالفعل الماضي أي عمل عملاً غير صالح.
وذكر بعضهم: إن الضمير راجع إلى سؤال نوح عليه السلام المفهوم من قوله: { رب إن ابني من أهلي } أي إن سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنه سؤال لما ليس لك به علم ولا ينبغي لنبي أن يخاطب ربه بمثل ذلك.
وهو من أسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئاً من الجملتين المكتنفتين به لا قوله: { إنه ليس من أهلك } ولا قوله: { فلا تسألني ما ليس لك به علم } وهو ظاهر، ولو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: { إنه ليس من أهلك } ويتصل بقول نوح عليه السلام.
على أنك عرفت أن قول نوح عليه السلام: { رب إن ابني من أهلي } الخ، لا يتضمن سؤالاً وإنما كان يسوقه - لو جري في كلامه - إلى السؤال لكن العناية الإِلهية حالت بينه وبين السؤال.
وقوله: { فلا تسألن ما ليس لك به علم } كأن قول نوح عليه السلام: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق } في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه وهو لا يعلم أنه ليس من أهله فأخذته العناية الإِلهية، وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله: { لا تسألن ما ليس لك به علم } بتفريع النهي على ما تقدم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملاً غير صالح وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم.
والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه عليه السلام لا مستقلاً ولا في ضمن قوله: { رب إن ابني من أهلي } لأن النهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وقد قال تعالى:
{ { لا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } [طه: 131] فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الدنيا والافتتان بزينتها وحاشاه عن ذلك.
وإنما يفتقر النهي في صحة تعلقه بفعل ما أن يكون فعلاً اختيارياً يمكن أن يبتلي به المكلف، وما نهي عنه الأنبياء عليهم السلام على هذه الصفة وإن كانوا ذوي عصمة إلهية وتسديد غيبي، فإن من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم وكلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإِنسان نبههم على وجه الصواب ويدعوهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى:
{ { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } [الإسراء: 74] فأنبأ تعالى أنه هو الذي ثبته ولم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون.
وقال تعالى:
{ { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } } [النساء: 113]. ومن الدليل على أن النهي - { فلا تسألن } الخ - نهي عما لم يقع بعدُ قول نوح عليه السلام بعد استماع هذا النهي: { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } ولو كان سأل شيئاً لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق والارتكاب.
ومن الدليل أيضاً على أنه عليه السلام لم يسأل ذلك تعقيب قوله: { فلا تسألن ما ليس لك به علم } بقوله: { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } فإن معناه: إني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، ولو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم.
فإن قلت: إنه تعالى قال: { أن تكون من الجاهلين } أي ممن استقرت فيه صفة الجهل، واستقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة والدفعة، وبذلك يعلم أنه سأل ما سأل وتحقق منه الجهل مرة وإنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.
قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار والتكرُّر وإنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه، ويشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة:
{ { قالوا أتتخذنا هزؤاً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67] وقوله في قصة يوسف: { وإن لا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [يونس: 33]، وقوله خطاباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: { { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } } [الأنعام: 35]. وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى: { { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [النور: 15] إلى أن قال { { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً } [النور: 17]. قوله تعالى: { قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } لما تبين لنوح عليه السلام أنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلاً ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وأن عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم }.
والكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأُمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب والآثام وقد تقدم الكلام فيه وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى:
{ قل أعوذ برب الناس } [الناس: 1] إلى أن قال { { من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس } [الناس: 2-3] وقال: { { وأعوذ بك رب أن يحضرون } [المؤمنون: 98] والوحي مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: { { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [الجن: 27]. وقوله: { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.
أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعاً إلى ربه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الإِنسان ما فيه زلّته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدَّم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعمّ من مخالفة الأمر التشريعي بل كل وبال وأثر سيء الإِنسان بوجه، وأن المغفرة أعمّ من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الإِنسان ويجمع شمله.
وأما حقيقة الشكر فإن العناية الإِلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت ستراً إلهياً على زلَّة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله عليه السلام: { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } أي إن لم تعذني من الزّلات خسرت، ثناء وشكر لصنعه الجميل.
قوله تعالى: { قيل يا نوح اهبط بسلام منَّا وبركات عليك وعلى أُمم ممَّن معك } الخ، السلام هو السلامة أو التحية غير أن ذكر مسّ العذاب في آخر الآية يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب وكذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتع يدل على أن المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإِنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة.
فقوله: { قيل } ولم يذكر القائل وهو الله سبحانه للتعظيم { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك } معناه - والله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - ونعم ذوات بركات وخيرات نازلة منا عليك، أو انزل بتحية وبركات نازلة منا عليك.
وقوله: { وعلى أُمم ممن معك } معطوف على قوله: { عليك } وتنكير أُمم يدل على تبعيضهم لأن من الأُمم من يذكره تعالى بعد في قوله: { وأُمم سنمتعهم }.
والخطاب أعني قوله تعالى: { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك } إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره وليس وقتئذ متنفّس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان وقد أُغرقوا جميعاً ولم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة وقد رست واستوت على الجوديّ، وقد قضي أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها ويعيشوا فيها إلى حين.
خطاب عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإِلهي يوم أُهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض وقد حكاه الله تعالى في موضع بقوله: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين } إلى أن قال
{ { قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 38] وفي موضع آخر بقوله: { { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } [الأعراف: 25]. وهذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأول موجه إلى نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين - وإليهم ينتهي نسل البشر اليوم - متعلق بهم وبمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، وهو يتضمن تقدير حياتهم الأرضية والإِذن في نزولهم إليها واستقرارهم فيها وإيوائهم إياها.
وقد قسّم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبّر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام والبركات وهم نوح عليه السلام وأُمم ممن معه، ولطائفة أُخرى بالتمتيع، وعقّب التمتيع بمس العذاب لهم كما أن كلمتي السلام والبركات لا تخلوان من بشرى الخير والسعادة بالنسبة إلى من تعلقتا به.
فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام وبركات وتمتيع موجّه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، ووزانه وزان خطاب الهبوط الموجّه إلى آدم وزوجته عليهما السلام، وفي هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضية ووعد لمن أطاع الله سبحانه ووعيد لمن عصاه كما أن في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.
وظهر بذلك أن المراد بقوله: { وعلى أُمم ممن معك } الأُمم الصالحون من أصحاب السفينة ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، والظاهر على هذا أن يكون { من } في قوله { ممن معك } ابتدائية لا بيانية، والمعنى وعلى أُمم يبتدي تكوّنهم ممن معك، وهم أصحاب السفينة والصالحون من نسلهم.
وظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، والاعتبار يساعد ذلك فإنهم قد محّصوا بالبلاء تمحيصاً وآثروا ما عند الله من زلفى وقد صدّق الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل:
{ { إلا من قد آمن } [هود: 36]، وقال: { { ومن آمن وما آمن معه إلا قليل } [هود: 40]. وقوله: { وأُمم سنمتّعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } كأنه مبتدأ لخبر محذوف والتقدير: وممن معك أُمم أو وهناك أُمم سنمتعهم الخ، وقد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإِذن فلم يقل: ومتاع لأُمم آخرين سيعذبون طرداً لهم من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أُمماً آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم وهم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى.
وفي الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في { قيل } وتخصيص نوح عليه السلام بخطاب الهبوط والتكلم مع الغير في قوله: { منا } في موضعين و { سنمتعهم } وغير ذلك.
وظهر أيضاً: أن ما فسروا به قوله: { على أُمم ممن معك } أن معناه: على أُمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب وكذا قول من قال: يعني بالأُمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لأن الله جعل فيهم البركة. وفساده أظهر.
قوله تعالى: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك } أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
وقوله: { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } أي كانت وهي على محوضة الصدق والصحة مجهولة لك ولقومك من قبل هذا، والذي عند أهل الكتاب منها محرّف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته عليه السلام.
وقوله: { فاصبر إنّ العاقبة للمتَّقين } أمر منتزع عن تفصيل القصّة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح عليه السلام وقومه من هلاك قومه ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين وقد ورَّثهم الله الأرض على ما صبروا، ونصر نوحاً على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإنَّ العاقبة للمتقين، وهم الصابرون في جنب الله سبحانه.
(بحث روائي)
في الدرّ المنثور أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحاً عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنّك قال: يا أبت أمكنِّي من العصا ثم أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجَّه موضحة في رأسه وسالت الدماء.
قال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبّرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعني لا تحزن عليهم واصنع الفلك. قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء فأغرق أهل معصيتي وأُطهّر أرضي منهم. قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.
وفي الكافي بإسناده عن المفضّل قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: ها هنا صلب عمي زيدرحمه الله ، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السرّاجين فنزل وقال: انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطّه آدم وأنا أكره أن أدخله راكباً. قلت: فمن غيّره عن خطته؟ قال، أمّا أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى والنعمان ثم غيّره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضّل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة.
قال: وكان نوح رجلاً نجاراً فجعله الله عز وجل نبياً وانتجبه، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء. قال: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزءون به ويسخرون منه فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفَّاراً، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجّل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها.
قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله عليه السلام عند زوال الشمس فقام أبو عبد الله عليه السلام فصلَّى الظهر والعصر ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الدارين وهي موضع دار ابن حكيم وذلك فرات اليوم فقال: يا مفضل وها هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر. ثم مضى حتى ركب دابته.
فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال: في دورين. قلت: وكم الدوران؟ قال: ثمانين سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلا. كيف؟ والله يقول: { ووحينا } قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال: كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: وكان بدؤ خروج الماء من ذلك التنّور؟ فقال: نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً والعيون كلهن فيضاً فغرقهم الله وأنجا نوحاً ومن معه في السفينة - الحديث.
أقول: والرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنّا أوردناها لتكون كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة وأهل السنَّة ولتكون عوناً لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.
وفي الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } الآية، وفي الرواية نسبة زياد إلى أبي سفيان ولعل الوارد في لفظ الإِمام "زياد" فأضيف إليه "ابن أبي سفيان" في لفظ بعض الرواة.
وفيه بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن نوحاً عليه السلام لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنّور ففار التنّور في بيت امرأة فقالت: إن التنّور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ثم جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عز وجل: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجَّرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر.
قال: وكان نجره في وسط مسجدكم. ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.
أقول: وكون فوران التنور علامة له عليه السلام يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة والعامة وسياق الآية: { فلما جاء أمرنا وفار التنّور قلنا احمل } الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعاداً.
وفيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد والإِخلاص وخلع الأنداد وهي الفطرة التي فطر الناس عليها وأخذ الله ميثاقه على نوح والنبيين أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئاً وأُمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم سراً وعلانية فلما أبوا وعتوا قال: { رب إني مغلوب فانتصر } فأوحى الله عز وجل إليه: { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } فذلك قول نوح: { ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً } فأوحى الله إليه: أن اصنع الفلك.
أقول: ورواه العياشيّ عن الجعفيّ مرسلاً وظاهر الرواية أن له عليه السلام دعاءين على قومه أحدهما وهو أولهما قوله: { رب إني مغلوب فانتصر } الواقع في سورة القمر، وثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه وهو قوله: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } الواقع في سورة نوح.
وفي معاني الأخبار بإسناده عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل { وما آمن معه إلا قليل } قال: كانوا ثمانية.
أقول: ورواه العياشي أيضاً عن حمران عنه عليه السلام، وللناس في عددهم أقوال أُخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان وسبعون أو ثمانون ولا دليل على شيء منها.
وفي العيون بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا عليه السلام لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح وولده ومن تبعه ثمانين نفساً فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين.
أقول: ولا تنافي بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح عليه السلام وقد عمّر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.
وفيه بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: قال أبي: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله عز وجل قال لنوح: { إنه ليس من أهلك } لأنه كان مخالفاً له، وجعل من اتبعه من أهله.
قال: وسألني كيف يقرؤن هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عملٌ غير صالح، وإنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه ولكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.
أقول: ولعله عليه السلام يشير بقوله: { وجعل من اتبعه من أهله } إلى قوله تعالى
{ { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } [الأنبياء: 76]. فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه.
وكأن المراد من قراءة الآية تفسيرها والراوي يشير بإيراد القراءتين إلى تفسير من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الإِبن من غيره فألحقه بفراشه ولذلك قرأ بعضهم: { ونادى نوح ابنها } أو { ونادى نوح ابنه } بفتح الهاء مخفف ابنها ونسبوا القراءتين إلى علي وبعض الأئمة من ولده عليهم السلام.
قال في الكشاف: وقرأ علي رضي الله عنه { ابنها } والضمير لامرأته، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير { ابنه } بفتح الهاء يريدان { ابنها } فاكتفيا بالفتحة على الألف وبه ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه { إن ابني من أهلي } وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل: مني. انتهى.
واستدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله ولم يعده بنجاة من كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني مني عند سؤال نجاته، وقد تقدم بيان أن لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.
وما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق.
وفي الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في المصاحف وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه قرأ: { ونادى نوح ابنه }.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله: { ونادى نوح ابنه } قال هي بلغة طيء لم يكن ابنه وكان ابن امرأته.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام.
وفي تفسير العياشي عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: { ونادى نوح ابنه } قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته وهي لغة طيء يقولون لابن امرأته: ابنه. الحديث.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قول نوح: { يا بني اركب معنا } قال: ليس بابنه. قال: قلت: إن نوحاً قال: يا بني؟ قال: فإن نوحاً قال ذلك وهو لا يعلم.
أقول: والمعتمد ما تقدم من رواية الوشّاء عن الرضا عليه السلام.
وفيه عن إبراهيم بن أبي العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال: لمّا قال الله: { يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } قالت الأرض: إنما أُمرت أن أبلع مائي أنا فقط، ولم أُؤمر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها وبقي ماء السماء فصيّر بحراً حول الدنيا.
وفيه عن أبي بصير عن أبي الحسن موسى عليه السلام في حديث ذكر فيه الجوديّ قال: وهو جبل بالموصل.
وفيه عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام { استوت على الجوديّ } هو فرات الكوفة.
أقول: ويؤيد الرواية السابقة روايات أُخر.
وفيه عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ركب نوح عليه السلام في السفينة قيل: بعداً للقوم الظالمين.
وفي المجمع في قوله تعالى: { قيل يا أرض ابلعي ماءك } الآية، قال: ويروى أن كفَّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.
أبحاث حول قصة نوح في فصول وهي أبحاث قرآنية وروائية وتاريخية وفلسفية
1- الإِشارة إلى قصته: ذكر اسمه عليه السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعاً يشار فيها إلى شيء من قصته إجمالاً أو تفصيلاً، ولم تستوف قصته عليه السلام في شيء منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتصّ تواريخ الناس من برّ أو فاجر.
وإنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبيِّن لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والأُمم لتظهر به سنَّة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفّق للكرامة، وتتم به الحجة على الباقين.
وقد فصّلت قصة نوح عليه السلام في ست من السور القرآنية وهي سورة الأعراف وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح وأكثرها تفصيلاً سورة هود التي ذكرت قصته عليه السلام فيها في خمس وعشرين آية (25 - 49).
2- قصته عليه السلام في القرآن:
بعثه وإرساله:
كان الناس بعد آدم عليه السلام يعيشون أُمة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الإِنسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجياً واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً وهذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت واخضرت وأينعت لم تثمر إلا دين الوثنية والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القوي للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين الناس.
فشاع في زمن نوح عليه السلام الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمَّى الله سبحانه منها ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا (سورة نوح).
وتباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء والجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم (الأعراف - هود - نوح).
فبعث الله نوحاً عليه السلام وأرسله إليهم بالكتاب والشريعة يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم بالتبشير والإِنذار.
دينه وشريعته عليه السلام:
كان عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء (كما يظهر من جميع قصصه القرآنية) والإِسلام لله (كما يظهر من سورتي نوح ويونس وسورة آل عمران آية 19) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كما يظهر من سورة هود آية 27) والصلاة (كما يظهر من آية 103 من سورة النساء وآية 8 من سورة الشورى) والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد وهو عليه السلام أول من حكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأُمور الهامة.
اجتهاده عليه السلام في دعوته:
وكان عليه السلام يدعو قومه إلى الإِيمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحق ليلاً ونهاراً وإعلاناً وإسراراً فلا يجيبونه إلا بالعناد والاستكبار وكلما زاد في دعائهم زادوا في عتوّهم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدَّة قليلة من غيرهم حتى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربه وطلب منه النصر (سورة نوح والقمر والمؤمنون).
لبثه في قومه:
لبث عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء والسخرية ورميه بالجنون وأنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصر ربه (سورة العنكبوت) فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن وعزّاه فيهم (سورة هود) فدعا عليهم بالتبار والهلاك، وأن يطهر الله الأرض منهم عن آخرهم (سورة نوح) فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (سورة هود).
صنعه عليه السلام الفلك:
أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقول عليه السلام: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله لنزول العذاب علماً وهو أن يفور الماء من التنور (سورتا هود و المؤمنون).
نزول العذاب ومجيء الطوفان:
حتى إذا تمت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول الإِلهي بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الذي تخلَّف عن ركوب السفينة، وأن يحمل الذين آمنوا (سورتا هود والمؤمنون) فلما حملهم وركبوا جميعاً فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر (سورة القمر) وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهي تسير في موج كالجبال (سورة هود) فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، ويقول: رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.
قضاء الأمر ونزوله ومن معه إلى الأرض:
فلما عمّ الطوفان وأغرق الناس (كما يظهر من سورة الصافّات آية 77) أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين، وأُوحي إلى نوح عليه السلام أن اهبط إلى الأرض بسلام منا وبركات عليك وعلى أُمم ممَّن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام، ومنهم أُمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسّهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإِسلام، وتوارثت ذرِّيته عليه السلام الأرض وجعل الله ذريته هم الباقين (سورتا هود والصافات).
قصة ابن نوح الغريق:
كان نوح عليه السلام عندما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، وكان لا يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه وهو في معزل فناداه: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فردّ على أبيه قائلاً: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام: لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم - يريد أهل السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ولم يكن نوح عليه السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته ولو كان علم ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [نوح: 26-27] الدعاء وهو القائل: { { فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين } [الشورى: 118] وقد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه: { { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [هود: 37]. فوجد نوح عليه السلام وحزن فنادى ربه من وجده قائلاً: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلي وأنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك ولا تجهل في قضائك، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإِلهية وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤال لما ليس له به علم - وأوحى الله إليه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالاً فيما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
فانكشف الأمر لنوح عليه السلام والتجأ إلى ربه تعالى قائلاً رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم أسألك أن تشملني بعنايتك وتستر عليّ بمغفرتك، وتعطف عليّ برحمتك، ولولا ذلك لكنت من الخاسرين.
3- خصائص نوح عليه السلام: هو عليه السلام أول أُولي العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب وشريعة فكتابه أول الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله، وشريعته أول الشرائع الإِلهية.
وهو عليه السلام الأب الثاني للنسل الحاضر من الإِنسان إليه ينتهي أنسابهم والجميع ذريته لقوله تعالى:
{ { وجعلنا ذريته هم الباقين } [الصافات: 77] وهو عليه السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم وإدريس عليهما السلام قال تعالى: { { وتركنا عليه في الآخرين } [الصافات: 78]. وهو عليه السلام أول من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحي فهو الأصل الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم فله المنة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل: { { سلام على نوح في العالمين } [الصافات: 79]. وقد اصطفاه الله على العالمين وعده من المحسنين وسماه عبداً شكوراً وعده من عباده المؤمنين وسماه عبداً صالحاً.
وآخر ما نقل من دعائه قوله:
{ { رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً } [نوح: 28]
4- قصته عليه السلام في التوراة الحاضرة: وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الإِنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضاً إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
ورأى الرب أن شر الإِنسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرّ ير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإِنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإِنسان الذي خلقته. الإِنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عين الرب.
هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساماً وحاماً ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.
فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض.اصنع لنفسك فلكاً من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. ولكن أُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكراً وأُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل.
وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأني إياك رأيت بارّاً لديَّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكراً وانثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكراً وأُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكراً وانثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض. لأني بعد سبعة أيام أيضاً أُمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلَّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة ومن الطيور وكل ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر وأنثى. كما أمر الله نوحاً.
وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكل الوحوش كأجناسها وكل الدبابات التي تدبّ على الأرض كأجناسها وكل الطيور كأجناسها كل عصفور ذي جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكراً وأنثى من كل ذي جسد كما أمره الله. وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جداً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والدبابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.
ثم ذكر الله نوحاً وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال.
وحدث من بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردداً حتى نشفت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياهاً كانت على وجه كل الأرض فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيام أُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيام أُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.
وكان في السنة الواحدة والستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض.
وكلّم الله نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد الطيور والبهائم وكل الدبابات التي تدب على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكل الحيوانات وكل الدبابات وكل الطيور كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإِنسان لأن تصور قلب الإِنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضاً أُميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.
وبارك الله نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء مع كل ما يدب على الأرض وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحماً بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه ومن يد الإِنسان أطلب نفس الإِنسان من يد الإِنسان أخيه. سافك دم الإِنسان بالإِنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإِنسان. فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.
وكلم الله نوحاً وبنيه معه قائلاً. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض. فيكون متى أنشر سحاباً على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفاناً لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقاً أبدياً بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث وحام هو أبو كنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كل الأرض.
وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرَّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.
فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإِخوته. وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.
وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.
وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:
منها: أنه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرَّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أن من الجائز أن يكون لنوح زوجان أُغرقت إحداهما ونجت الأُخرى.
ومنها: أنه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصَّه القرآن.
ومنها: أنه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.
ومنها: أنه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنها المدة التي لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:
{ { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } [العنكبوت: 14]. ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهي خصوصيات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصة نوح عليه السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالإِسرائيليات أشبه.
5- ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الأُمم وأساطيرهم: قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الأُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلاً ومنها المخالف له إلا قليلاً.
وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين، وهم الذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم "برهوشع" و "يوسيفوس" أن "زيزستروس" رأى في الحلم بعد موت والده "أُوتيرت" أن المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الأرض جيل من الجبَّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.
وقد عثر بعض الانجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر آشور بانيبال من نحو ستمائة وستين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهي أقدم من سفر التكوين.
وروى اليونان خبراً عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أن كهنة المصريين قالوا لسولون - الحكيم اليوناني - أن السماء أرسلت طوفاناً غيَّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله ومعارفهم.
وأورد "مانيتون" خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروي عن قدماء اليونان خبر طوفان عمَّ الأرض كلها إلا "دوكاليون" وامرأته "بيرا" فقد نجوا منه.
وروي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إن هذا الطوفان فار أولاً من تنور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنه كان خاصاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.
وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافيّ آخرها أن ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدها بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها، وروي تعدد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.
وقد وقع في "أوستا" وهو كتاب المجوس المقدس أن "أهورامزدا" أوحى إلى "إيما" (وتعتقد المجوس أنه جمشيد الملك) أنه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبني حائطاً مرتفعاً غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبني في داخل السور بيوتاً وقباباً في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوي إليها الدواب والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.
وفي تاريخ الأدب الهندي في قصة الطوفان: أنه بينما كان "مانو" (هو ابن الإِله عند الوثنيين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، ومما اندهش به أن السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنها ستنقذ "مانو" في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ "مانو" السمكة في المرتبان.
فلما كبرت أخبرت "مانو" عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ثم أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا أنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.
ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل "مانو" السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرتها إلى الجبال الشمالية، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وجف بقي مانو وحده. انتهى.
6- هل كانت نبوته عليه السلام عامة للبشر؟ مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيت عليهم السلام ما يدل عليه، وعلى أن أُولي العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافة.
وأما أهل السنة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلهم كقوله:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً } [نوح: 26] وقوله: { { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } [هود: 43]، وقوله: { { وجعلنا ذريته هم الباقين } [الصافات: 77]، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافة.
ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبُعثتُ إلى الناس كافَّة" وأجابوا عن الآيات أنها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كانوا يسكنونها وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون: { { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } [يونس: 78]. فمعنى الآية الأولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي دياراً، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرِّيته هم الباقين من قومه.
والحق أن البحث لم يستوف حقه في كلامهم، والذي ينبغي أن يُقال: إن النبوّة إنما ظهرت في المجتمع الإِنساني عن حاجة واقعية إليها ورابطة حقيقية بين الناس وبين ربهم وهي تعتمد على حقيقة تكوينية لا اعتبارية جزافية فإن من القوانين الحقيقية الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجودية، وقد قال تعالى:
{ { الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى } [الأعلى: 2-3]، وقال: { { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]. فكل نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أول تكونه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الذي فيه خيره وسعادته، والنوع الإِنساني أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.
ومن الضروري عندنا أن هذا الكمال لا يتم للإِنسان وحده لوفور حوائجه الحيوية وكثرة الأعمال التي يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العملي الذي يبعثه إلى الاستفادة من كل ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بني نوعه.
غير أن الأفراد أمثال وفي كل واحد منهم من العقل العملي والشعور الخاص الإِنساني ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العملي، واضطرهم ذلك إلى الاجتماع التعاوني بأن يعمل الكل للكل وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:
{ { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } [الزخرف: 32]. وهذا الذي ذكرناه من بناء الإِنسان على الاجتماع التعاوني اضطراري له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوة الرقباء فهو في الحقيقة مدني تعاوني بالطبع الثاني وإلا فطبعه الأوَّلي أن ينتفع بكل ما يتيسر له الانتفاع حتى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوي الإِنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه وأخذ يسترق الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى: { { إن الإِنسان لظلوم كفّار } [إبراهيم: 34] وقال: { { إن الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربّك الرجعى } [العلق: 6-8]. ومن الضروري أن الاجتماع التعاوني بين الأفراد لا يتم إلا بقوانين يحكم فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا مما استمرت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإِنسانية كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلا ويجري فيه رسوم وسنن جرياناً كلياً أو أكثريّاً، والتاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي مواد وقضايا فكرية تطبق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلياً أو أكثرياً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظناً فهي أُمور متخللة بين كمال الإِنسان ونقصه، وأشياء متوسطة بين الإِنسان وهو في أول نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدي الإِنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.
وقد علم أن من الواجب في عناية الله أن يهدي الإِنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الذي يبعثها إليه نظام الكون والجهازات التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميز خيره من شره وسعادته من شقائه كما قال تعالى:
{ { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها } [الشمس: 7-10]. يهديه بواجب عنايته إلى أُصول وقوانين اعتقادية وعملية يتم له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإن العناية الإِلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة.
ولا يكفي في ذلك ما جهّز به الإِنسان من العقل - وهو ها هنا العملي منه - فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شيء من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أن المتخلفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع العقل مجهزون به.
فظهر أن هناك طريقاً آخر لتعليم الإِنسان شريعة الحق ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكر والتعقل وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الإِنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيوية والأخروية.
فإن قلت: الأمر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لأتى به فإن العالم الإِنساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحي أن يدير المجتمع الإِنساني ويركّبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟.
قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أن العناية الإِلهية من واجبها أن تهدي المجتمع الإِنساني إلى تعاليم تسعده وتكمله لو عمل بها وهي الهداية بالوحي ولا يكفي فيها العقل، وجهة أن الواقع في الخارج والمتحقق بالفعل ما هو؟ وإنما نبحث في المقام من الجهة الأولى دون الثانية، ولا يضر بها أن هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلا قليلاً. وذلك كما أن العناية الإِلهية تهدي أنواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كل نوع دون الوصول إلى غايته النوعية ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعي.
وبالجملة فطريق النبوة مما لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإِلهية وإلا لم تتم الحجة بمجرد العقل لأن له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإِنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شيء من صلاح النوع فإنما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:
{ { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلّم الله موسى تكليماً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً } [النساء: 163-164]. فمن الواجب في العناية أن يُنزّل الله على المجتمع الإِنساني ديناً يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضروري أن يكون أول شريعة نزلت عليهم شريعة عامة.
وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عز من قائل:
{ { كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213]، فبيَّن أن الناس كانوا أول ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيوية ثم ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادة الخصومة والنزاع.
ثم قال تعالى فيما امتن به على محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
{ { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [الشورى: 13] ومقام الامتنان يقضي بأن الشرائع الإِلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت لا غير، وأول ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامة للبشر كلهم وخاصة في زمنه عليه السلام لكان هناك إما نبي آخر ذو شريعة أُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإما إهمال سائر الناس غير قومه عليه السلام في زمنه وبعده إلى حين.
فقد بان أن نبوة نوح عليه السلام كانت عامة، وأن له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأن كتابه أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة، وأن قوله تعالى في الآية السابقة { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من أُولي العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وظهر أيضاً أن ما يدل من الروايات على عدم عموم دعوته عليه السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضا عليه السلام أن أولي العزم من الأنبياء خمسة لكل منهم شريعة وكتاب ونبوتهم عامة لجميع من سواهم نبياً أو غير نبي، وقد تقدم الحديث في ذيل قوله تعالى:
{ { كان الناس أُمة واحدة } [البقرة: 213]، في الجزء الثاني من الكتاب.
7- هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض؟ تبين الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإن عموم دعوته عليه السلام يقضي بعموم العذاب، وهو نعم القرينة على أن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً } [نوح: 26]، وقوله حكاية عنه: { { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } [هود: 43]، وقوله: { وجعلنا ذريته هم الباقين } } [الصافات: 78]. ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنه أمر نوحاً أن يحمل من كل زوجين اثنين فمن الواضح أنه لو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أي حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.
واختار بعضهم كون الطوفان خاصاً بأرض قوم نوح عليه السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أما قوله في نوح عليه السلام بعد ذكر تنجيته وأهله: { وجعلنا ذريته هم الباقين } فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافياً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأما قوله: { وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً } فليس نصاً في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها فإن المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون: { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } يعني أرض مصر، وقوله: { وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها } فالمراد بها مكة، وقوله: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرّتين } والمراد بها الأرض التي كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.
ولكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلها إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإن علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجية - يقولون إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.
ثم أشار إلى ما استدل به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنَّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عمَّ الأرض هذا.
وردَّ عليه بأن وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنه من أثر تكوُّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإن صعود الماء إلى الجبال أياماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها.
ثم قال ما ملخّصه: إن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبينها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرّنا لأنه لا ينقض نصّاً قطعياً عندنا. انتهى.
أقول: أما ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأما قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إن صعود الماء إليها في أيام معدودة لا يكفي في حدوثها! ففيه أن من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثم تبقى عليها بعد النشف فإن ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيام معدودة غير عزيز.
وبعد ذلك كله قد فاته ما تنصّ عليه الآيات أنه عليه السلام أُمر أن يحمل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإن ذلك كالنص في أن الطوفان عمَّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع.
فالحق أن ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أن الطوفان كان عاماً للأرض، وأن من كان عليها من البشر أُغرقوا جميعاً، ولم تقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور.
وقد كنت سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا بكلية طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان العام إن كان فيها ما يؤيد ذلك على وجه كلي فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصلاً في فصول:
1- الأراضي الرسوبية: تطلق الأراضي الرسوبية في الجيولوجيا على الطبقات الأرضية التي كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات التي غطتها الرمال ودقاق الحصى.
نعرف الأراضي الرسوبية بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكروية المدوّرة فإنها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادة الأطراف والزوايا حولتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثم إن الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.
وليست تنحصر الأراضي الرسوبية في البطائح فغالب الأراضي الترابية من هذا القبيل تخالطها أو تكونها رمال بالغة في الدقة، وقد حملها لدقتها وخفتها إليها جريان المياه والسيول.
نجد الأراضي الرسوبية وقد غطتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك:
أولاً: إمارة أن تلك الطبقات لم تتكون في زمان واحد بعينه.
وثانياً: إن مسير المياه والسيول أو شدة جريانها قد تغير بحسب اختلاف الأزمنة.
ويتضح بذلك أن الأراضي الرسوبية كانت مجاري ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.
وهذه الأراضي التي تحكي عن جريان مياه كثيرة جداً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقي الصين، ومصر، وأكثر قطعات أمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبية في بعض الأماكن إلى مئات الأمتار كما أنها في أرض طهران تجاوز أربعمائة متراً.
وينتج مما مر أولاً: أن سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربما غطت معظم بقاعها.
وثانياً: أن الطغيان والطوفان - بالنظر إلى صخامة القشر الرسوبي في بعض الأماكن - لم يحدث مرة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرر في مئات من السنين كلما حدث مرة كوّن طبقة رسوبية ثم إذا انقطع غطتها طبقة ترابية ثم إذا عاد كون أُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبية في دقة رمالها وعدمها يدل على اختلاف السيلان بالشدة والضعف.
2- الطبقات الرسوبية أحدث القشور والطبقات الجيولوجية: ترسب الطبقات الرسوبية عادة رسوباً أفقياً ولكن ربما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبية قوية شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الأفقية إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكونت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.
ويستنتج من ذلك أن الطبقات الرسوبية والقشور الأفقية الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكونة على البسيط، والدلائل الفنية الموجودة تدل على أن عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا.
3- انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها: كان تكون القشور الرسوبية الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتساعها بأطرافها فارتفعت مياهها وغطت أكثر سواحلها، وملت جزائر في السواحل أَحاطت بها من معظم جوانبها.
فمن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من أُوربا بالكلية، وكانت أُوربا من ناحية جنوبها وإفريقيا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّي إلى هذا الحين فانفصلتا باتساع البحر المتوسط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقي وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندونيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبي جزيرة اليابان متصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقي إلى هذا الحين فانفصلت وتحولت إلى صورتها الفعلية، وكذا انقطاع إمريكا الشمالية من جهة شمالها عن شمال أُوربا أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.
وللحركات والتحولات الأرضية الداخلية آثار قوية في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحلية المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستولياً على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسع بحاراً، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبية انكشف عنها ماء الخليج.
4- العوامل المؤثرة في ازدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان: الشواهد الجيولوجية التي أشرنا إلى بعضها تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإِنسانية وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيرات جوية هامة خارقة للعادة قطعاً. فكان الهواء حاراً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقاً ببرد شديد وقد غطى معظم النصف الشمالي من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قوياً أن المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقياً لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشمالية.
فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجو وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادي وتعقبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.
نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم استدامتها النزول على الارتفاعات والنُجود وخاصة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب أُوربا وشمال إفريقيا كجبال ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق أُخرى قديمة وتوسعها ثم تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشوراً رسوبية جديدة.
ومما كان يمد الطوفان السماوي في شدة عمله ويزيد حجم السيول الجارية أن حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائية في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطرية، ويزيد في قوة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.
غير أن الذخائر الأرضية متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإِمطار ينقضي الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأراضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الذي أفرغته السيول بالتفجير والمص.
5- نتيجة البحث: وعلى ما قدمناه من البحث الكلي يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيات الطوفان الواقع في زمن نوح عليه السلام كقوله تعالى:
{ { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } [القمر: 11-12]، وقوله: { { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنّور } [هود: 40]، وقوله: { { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر } [هود: 44]. انتهى.
ومما يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد طهران في هذه الأيام وملخّصه: إن جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركي عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقي تركيا في مرتفع 1400 قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة 2500 قبل الميلاد.
والقياس يعطي أنها قطعات من سفينة تعادل حجمها ثلثي حجم مركب "كوئين ماري" الانجليزية التي طولها 1019 قدماً وعرضها 118 قدماً، وقد حملت الأخشاب إلى سانفراسيسكو لتحقيق أمرها وأنها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟ عليه السلام.
8- عمره عليه السلام الطويل: القرآن الكريم يدل على أنه عليه السلام عمَّر طويلاً، وأنه دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أن الأعمار الإِنسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتى ذكر بعضهم أن القدماء كانوا يعدّون كل شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلا خمسين عاماً يعدل ثمانين سنة إلا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.
وذكر بعضهم أن طول عمره عليه السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبي في قصص الأنبياء في خصائصه عليه السلام: وكان أطول الأنبياء عمراً وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوة. انتهى.
والحق أنه لم يقم حتى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإِنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأولي بأزيد من الأعمار الطبيعية اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلة الهموم وقلة الأمراض المسلطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلما وجدنا معمّراً عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستين وجدناه بسيط العيش قليل الهم ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقي بعض الأعمار في السابقين إلى مئات من السنين.
على أن الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوح عليه السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدم كلام في المعجزة في الجزء الأول من الكتاب.
9- أين هو جبل الجودي: ذكروا أنه بديار بكر من موصل في جبال تتصل بجبال أرمينية، وقد سماه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطلاع: الجودي مشددة جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لما نضب الماء.
10- ربما قيل: هب أنه أُغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الذي على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كل هلاك ولو كان عاماً عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامة التي تهلك الأُلوف ثم الأُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضي حكم.
(كلام في عبادة الأصنام في فصول)
1- الإِنسان واطمئنانه إلى الحس: الإِنسان يجري في حياته الاجتماعية على اعتبار قانون العلية والمعلولية الكلي وسائر القوانين الكلية التي أخذها من هذا النظام العام المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان وأفعاله يجري في التفكر والاستدلال أعني القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.
وهو مع ذلك لا يستقر في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشيء من الإِثبات والنفي لما يرى أن سعادة حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة بالإِله عز اسمه ونفيه اختلافاً جوهرياً فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الإِنسان المتأله الذي يثبت للعالم إلهاً حياً عليماً قديراً لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجري على ما يحبه ويرضاه، وبين حياة الإِنسان الذي يرى العالم سدى لا مبدأ له ولا غاية، وليس فيه للإِنسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت وتبطل بالفوت، ولا موقف للإِنسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.
فهذه نزعة فكرية أُولى للإِنسان إلى الحكم بأنه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهي القضاء الفطري بالإِثبات، والحكم بأن للعالم إلهاً خلق كل شيء بقدرته وأجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شيء إلى غايته وكمال وجوده بمشيئته وسيعود كل إلى ربه كما بدئ. هذا.
ثم إن مزاولة الإِنسان للحس والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة وإخلاده إلى الأرض عوّده أن يمثل كل ما يعقله ويتصوره تمثيلاً حسياً وإن كان مما لا طريق للحس والخيال إليه البتة كالكليات والحقائق المنزهة عن المادة على أن الإِنسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإِحساس والتخيل فهو أنيس الحس وأليف الخيال.
وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإِنسان أن يصور لربه صورة خيالية على حسب ما يألفه من الأُمور المادية المحسوسة حتى إن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه ساحة رب العالمين تعالى وتقدس عن الجسمية وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي والإِثبات والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحد المسلم: إنه تعالى شيء ليس كمثله شيء له قدرة لا كقدرة خلقه، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.
وقلّ أن يتفق لإِنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة، وما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانية، قال تعالى:
{ { سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 159-160]، وقال حكاية عن إبليس: { { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } } [ص: 82-83]. وبالجملة الإِنسان شديد الولع بتخيل الأُمور غير المحسوسة في صورة الأُمور المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شيء إلا بأمره ولا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته ومشيئته لم يتلق من جميع ذلك إلا ما يضاهي أوصاف الجسمانيات وما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض.
وكثيراً ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبر أمر العالم بالتفكر ويتممه بالإِرادة والمشيئة والأمر والنهي، وقد صرحت التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك، وأنه تعالى خلق الإِنسان على صورته، وظاهر الأناجيل أيضاً ذلك.
فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الإِنسان وخاصة الإِنسان الأولي الساذج أن يصنع لربه المنزه عن الشبه والمثل صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية وتناسب الأوصاف والنعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلاً من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.
2- الإِقبال إلى الله بالعبادة: إذا قضى الإِنسان أن للعالم إلهاً خلقه بعلمه وقدرته لم يكن له بد من أن يخضع له خضوع عبادة اتباعاً للناموس العالم الكوني وهو خضوع الضعيف للقوي ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنه ناموس عام جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثر الأسباب في مسبباتها وتتأثر المسببات عن أسبابها.
وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإِرادة من الحيوان كان مبدءً للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوي كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوة القوي آئساً من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.
وظهوره في العالم الإِنساني أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإِدراك وخصيصة الفكر فهو متفنن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله جلباً للنفع أو دفعاً للضرر كخضوع الرعية للسلطان والفقير للغني والمرؤوس للرئيس والمأمور للآمر والخادم للمخدوم والمتعلم للعالم والمحب للمحبوب والمحتاج للمستغني والعبد للسيد والمربوب للرب.
وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلل وهوان نفساني قبال عزة وقهر مشهود، والعمل البدني الذي يظهر هذا التذلل والهوان هي العبادة أياً ما كانت؟ وممن ولمن تحققت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للرب تعالى وبينه إذا تحقق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرّعية بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغني أو غير ذلك فالجميع عبادة.
وعلى أي حال لا سبيل إلى ردع الإِنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطري ليس للإِنسان أن يتجافى عنه إلا أن يتبيّن له أن الذي كان بظنه قوياً ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنه بل هما سواء مثلاً.
ومن هنا ما نرى أن الإِسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلا بعد ما بيّن للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأن العزّة والقوة لله جميعاً قال تعالى:
{ { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [الأعراف: 194] وقال: { { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [الأعراف: 197-198] وقال تعالى: { { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون } [آل عمران: 64] ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى: { { أن القوة لله جميعاً } [البقرة: 165]، وقال: { { فإن العزّة لله جميعاً } [النساء: 139] وقال: { { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } [السجدة: 4] إلى غير ذلك من الآيات.
فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممن دونه إلا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته قال تعالى: { الذين يتّبعون الرسول النبي الأُميّ } إلى أن قال
{ { فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أُولئك هم المفلحون } [الأعراف: 157]، وقال: { { إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا } [المائدة: 55] إلى قوله { { وهم راكعون } [المائدة: 55] وقال: { { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [التوبة: 71]، وقال: { { ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [الحج: 32]. فلا خضوع في الإِسلام لأحد دون الله إلا ما يرجع إليه تعالى ويقصد به.
3- كيف نشأت الوثنية؟ وبماذا بدأت؟ اتضح في الفصل المتقدم أن الإِنسان في مزلّة من تجسيم الأُمور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.
ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإِنساني سراية تكاد لا تقبل التحرُّز والاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنية العهود الأولى والإِنسان الأولي. على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مآت الملايين قاطنين في شرقها وغربها.
ومن هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وقد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك ففي تفسير القميّ مضمر أو في علل الشرائع مسنداً عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { وقالوا لا تذرنّ آلهتكم } الآية، قال: كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا فضجَّ قومهم وشقَّ ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعدّ لهم أصناماً على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز وجل وينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت.
فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك وتعالى: { ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً } الآية.
وكان رب البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإِبراهيم عليه السلام الذي حاجّه في ربه، وفرعون موسى.
وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.
واتخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم لا يبطلون بالموت وأن أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادة وأشد تأثيراً لما أنها خلصت من شوب المادة ونجت من التأثرات الجسمانية والانفعالات الجرمانية، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى:
{ { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك } [الأعراف: 127]
4- اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم: كأن اتخاذ تماثيل الرجال هو الذي نبّه الناس على اتخاذ صنم الإِله إلا أنه لم يعهد منهم أن يتخذوا تمثالاً لله سبحانه المتعالي أن يحيط به حدّ أو يناله وهم، وكأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه بل تفرقوا في ذلك فأخذ كلٌّ ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعني بها بزعمهم.
فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان، وسكّان الأودية رب الوادي، وأهل الحرب رب الحرب، وهكذا.
ولم يلبثوا دون ان اتخذ كلٌّ منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة والشكل، ومما يختاره من فلزّ أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتى روي أن بني حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنماً من أقط ثم أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.
وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجراً حسناً وهواه عبده، وكانوا يذبحون غنماً أو ينحرون إبلاً فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها إليه فمسحوها به، وكانوا يتخذون كثيراً من الأشجار أرباباً فيتبرَّكون بها من غير أن يمسّوها بقطع أو كسر ويتقربون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.
وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم أنهم يتخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر، وربما أخذها بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء، وربما كانوا يتخذونها شفعاء ويقدمونها أو يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى:
{ { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } [الأنعام: 136] الآية.
وكان بعضهم يعبد الملائكة، وآخرون يعبدون الجن، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعرى، وطائفة تتخذ بعض السيارات إلهاً - وقد أُشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإِلهي - كل ذلك طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرها.
وقل أن يتخذ إله من دون الله ولا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتخذوا شيئاً من الأشياء إلهاً شفيعاً عملوا له صنماً من خشب أو حجر أو فلزّ، ومثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوّونه في صورة إنسان أو حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير الهيئة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيارة وإله العلم والحب والرزق والحرب ونحوها.
وكان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم: إن الإِله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادية أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الذي يتحول من طلوع غروب يصعب التوجه إليه كلما أُريد بالتوجه فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أُريد.
5- الوثنية الصابئة: الوثنية وإن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد هو اتخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها، ولعلها استولت على الأرض وشملت العالم البشري مراراً كما يحكيه القرآن الكريم عن الأُمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام إلا أن اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتت واتباع الأهواء والخرافات مبلغاً كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتني على أُصول متقررة وقواعد منتظمة متلائمة.
ومما يمكن أن يعد منها مذهباً قريباً من الانتظام والتحصل مذهب الصابئة والوثنية البرهمية والبوذية:
أما الوثنية الصابئة فهي تبتني على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضي إلى الأجرام العلوية كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومرّيخ والمشتري وزحل وأنها بما لها من الروحانيات المتعلقة بها هي المدبرة للنظام المشهود يدبر كل منها ما يتعلق به من الحوادث على ما يصفه فن أحكام النجوم، ويتكرر بتكرر دوراتها الأدوار والأكوار من غير أن تقف أو تنتهي إلى أمد.
فهي وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرّب عبادتها الإِنسان منه تعالى ثم من الواجب أن يتخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرب إليها بعبادة تلك الأصنام والتماثيل.
وذكر المؤرّخون أن الذي أسس بنيانها وهذّب أُصولها وفروعها هو "يوذاسف" المنجّم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، ودعا إلى مذهب الصابئة فاتبعه خلق كثير، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها، وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب، ولهم أحكام وشرائع وذبائح وقرابين يتولاها كهنتهم. وربما ينسب إليهم ذبح الناس.
وهؤلاء يوحدون الله في أُلوهيته لا في عبادته، وينزهونه عن النقائص والقبائح، ويصفونه بالنفي لا بالإِثبات كقولهم: لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور، ويسمون ذلك بالأسماء الحسنى مجازاً وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدمنا شيئاً من تاريخهم في تفسير قوله تعالى:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين } [البقرة: 62] الآية، في الجزء الأول من هذا الكتاب.
6- الوثنية البرهمية: والبرهمية - على ما تقدم - من مذاهب الوثنية المتأصلة، ولعلها أقدمها بين الناس فإن المدنية الهندية من أقدم المدنيات الإِنسانية لا يضبط بدء تاريخي لها على التحقيق، ولا يضبط بدء تاريخي لوثنية الهند غير أن بعض المؤرخين كالمسعودي وغيره ذكروا أن برهمن اسم أول ملوك الهند الذي عمّر بلادها وأسس قواعد المدنية فيها وبسط العدل بين أهلها.
ولعل البرهمية نشأت بعده باسمه فكثيراً ما كانت الأُمم الماضية يعبدون ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنهم ذوو سلطة غيبية وأن اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، ويؤيده بعض التأييد أن الظاهر من "ويدا" وهو كتابهم المقدس أنه مجموع من رسائل ومقالات شتى ألَّف كل شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورَّثوها من بعدهم فجمعت وأُلفت كتاباً يشير إلى دين ذي نظام وقد صرح به علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهمية كغيرها من مذاهب الوثنية مبتدئة من أفكار عامية غير قيّمة، متطورة في مراحل التكامل حتى بلغت حظها من الكمال.
ذكر البستاني في دائرة المعارف ما ملخصه:
برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء) هو المعبود الأول والأكبر عند الهنود، وهو عندهم أصل كل الموجودات واحد غير متغيّر وغير مدرك أزلي مطلق سابق كل مخلوق خلق العالم كله بمجرد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوْم أي كن.
وحكاية برهم تشبه من كل وجه حكاية "اي بوذة" فليس الفرق إلا في الاسم والصفات وكثيراً ما يجعلون نفس برهم اسماً للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود، وهي: "برهما ووشنو وسيوا" ويُقال لعبدة برهم: البرهميون أو البراهمة.
وأما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم) وهو الأقنوم الأول من الثالوث الهندي أي إن برهم ينبثق في نفسه في ثلاث أقانيم كل مرة في أقنوم - فالأقنوم الأول الذي يظهر به أول مرة هو برهما، والثاني وشنو، والثالث سيوا.
فلما انبثق برهما لبث مدة طويلة جالساً على سدرة تسمى بالهندية "كمالا" وبالسنسكريتية بدما، وكان ينظر من كل جهة، وكان له أربعة رؤوس بثماني أعين فلم يرَ إلا فضاء واسعاً مظلماً مملوءً ماءً فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سر أصله فلبث ساكتاً أبكم غارقاً في التأملات.
فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق أُذنيه بغتة ونبّهه من سباته وأشار عليه أن يفزع إلى "باغادان" وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما وجعل يسبّحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف الظلمات، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدرة وأعطاه القوة لإِخراجها من هذا الخمول.
فبقي برهما يتأمل في ذلك مائة سنة إلهية وهي عبارة عن ستة وثلاثين ألف سنة شمسية ثم ابتدأ بالعمل فأبدع أولاً سبع السماوات المسماة عندهم "سُوَرغة" وأنارها بالأجرام المسماة "ديقانة" ثم أبدع "مريثلوكا" أي مقر الموت ثم الأرض وقمرها، ثم المساكن السبعة السفلى المسماة بتالة، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة على رؤوس ثماني حيات.
فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهندية.
ثم خلق الأزواج السبعة لكي تعينه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها وهي "موني" والريشة التسعة التي منها "ناريدا أو نوردام" واقتصرت على التأملات الدنيوية فتزوج حينئذ أُخته "ساراسواتي" وأولدها مائة ولد، وكان البكر اسمه "دكشا" فولد لدكشا خمسون بنتاً فتزوجت ثلث عشرة منهن (كاسيابا) الذي يسمّونه أحياناً برهمان الأول، وهو الذي ولد لبرهما ولداً يسمى "مارتشي".
وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها "أديتي" الأرواح المنيرة المسماة "ديقانة" وهي التي تفعل الخير وتسكن السماوات، وأما أُختها "ديتي" فولدت جمهوراً غفيراً من الأرواح الشريرة المسماة "داتينة" أو "أسورة" وهي سكان الظلام وفاعلة كل شر في العالم.
وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكان فقال بعضهم: إن برهما أخرج من نفسه "مانوسويامبوقا" الذي يقول الآخرون: إنه سابق له وأنه نفس برهم المعبود الواحد ثم إن برهما زوَّجه "ساتاروبا" وقال لهما أن يكثرا وينميا.
وقال آخرون: إن برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا وسودرا فالأول خرج من فمه، والثاني من ذراعه اليمنى، والثالث من فخذه اليمنى والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع أرومات لأربعِ فرق أصلية.
وتزوّج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضاً خرجت واحدة من ذراعه اليمنى والثانية من فخذه اليسرى، والثالثة من رجله اليسرى، وسمّين باسم بعولتهن بزيادة علامة التأنيث وهي "نى"، وتزوج برهمان أيضاً زوجة من أبيه، ولكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفية خلق العالم.
ثم إن برهما بعد أن كان الإِله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الأقنوم الثاني وسيوا الأقنوم الثالث وذلك أنه انتفخ بالكبرياء والعجب، وظن نفسه نظير العليّ فسقط في ناراك أي الجحيم، ولم ينل العفو إلا بشرط أن يتجسّد مرة في كل من الأجيال الأربعة، فتجسّد أول مرة بصورة غراب شاعر اسمه "كاكابوسندا" وفي الثانية بصورة "بارباقلميكي" فكان أولاً لصاً ثم رجلاً عبوساً رزيناً نادماً ثم ترجماناً مشهوراً للفيداس ومؤلفاً للراميانا، وفي المرة الثالثة بصورة "قياسا" وهو شاعر ومؤلف "المهابارانا" والبغاقة وعدة بورانات، وفي المرة الرابعة وهو العصر الحالي المسمى "كالي يوغ" بصورة "كاليداسا" الشاعر التشخيصي العظيم ومؤلف "ساكنتالا" ومنقح مؤلفات "قلميكي".
ثم إن برهما ظهر في ثلاث أحوال، ففي الحال الأولى كان الواحد الصمد والكل الأعظم العليّ، وفي الحال الثانية ظهر منبثقاً من الأول أي شارعاً في العمل وفي الحال الثالثة ظهر متجسداً بصورة إنسان وحكيم.
وليس لبرهما عبادة عامة في الهند، وله هناك هيكل واحد فقط غير أن البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، ويدعونه مساء وصباحاً، وهم يرمون الماء ثلاث مرات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس، ويجددون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، وفي تقديس النار يقدمون له سمناً مصفّى كما يقدمون لإِله النار، وهذا التقديس أهم وأقدس من كل ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب.
ويمثل برهما بصورة رجل ذي لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات وبالأُخرى الإِناء الذي فيه ماء الحياة السماوي راكباً الهمسا وهو الطير الإِلهي الذي يشبه اللقلق والنسر.
وأما برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدم، وجعل نصيبه أربعة الكتب المقدسة المسماة "فيداس" كناية عن الكلمات الأربع التي نطق بها بأفواهه الأربعة.
فلما أراد برهمان أن يتزوج نظير إخوته قال له برهما: إنك ولدت للدرس والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسدية فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما وزوّجه بواحدة من جنيات الشرّ المسماة أسورة، ومن هذا ولد البراهمة وهم الكهنة المقدسون الذين خصّوا بتفسير الفيداس، وكانوا يتولون أمر كل التقدمات التي يقدمها الهنود للآلهة.
وولد كشتريا صنف الحربيين من البراهمة، وقايسيا صنف أهل الزراعة منهم، وسودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعة أصناف، انتهى ملخصاً من دائرة المعارف للبستاني.
وذكر غيره أن البرهمية منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب) والحربيون والزرّاع والتجار، ولا يعبؤا بغيرهم كالنساء والعبيد، وقد نقلنا في ذيل قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } [المائدة: 105] الآية، في الجزء السادس من الكتاب في بحث علمي عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيروني شيئاً من وظائف البراهمة وعباداتهم، وكذا عن الملل والنحل للشهرستاني شطراً من شرائع الصابئين.
والمذاهب الوثنية الهندية وكان الصابئين مثلهم أيضاً مطبقون على القول بالتناسخ وهو أن العوالم غير متناهية من ناحيتي الأزل والأبد ولكل منها حظاً من البقاء مؤجّلاً فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولّد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث وهكذا، والنفوس الإِنسانية المتعلقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدأ حياة جديدة لها فإنها تتعلق بأبدان أُخر تعيش فيها عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانية وعملت عملاً صالحاً، وعيشة شقية إن تلبست بالرذائل واقترفت السيئات إلا الكاملون في معرفة البرهم (الله سبحانه) فإنهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.
7- الوثنية البوذية:
وقد أُصلحت الوثنية البرهمية بالبوذية منسوبة إلى بوذا "سقياموني" المتوفى سنة خمسمائة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلاني وقيل غير ذلك حتى إن الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفي سنة، ولذلك ربما ظن أنه شخص خرافي لا حقيقة له لكن الحفريات الأخيرة التي وقعت في غايا الحديثة وآثاراً أُخرى في بطنة دلت على صحة وجوده، وقد انكشفت بها آثار أُخرى من تاريخ حياته وتعاليمه التي ألقاها إلى تلامذته وأتباعه.
وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى "سودودانا" فعزفت نفسه الدنيا وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكباً على التزهد والارتياض حتى تنورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن ست وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة الكبرى والحياة السماوية الأبدية السرمدية، ووعظهم وحثهم على التمسك بذيل شريعته بالتخلق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل.
وكان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهمية: "أنا متسول، ولا توجد إلا شريعة واحدة للجميع وهي العقاب الشديد للمجرمين والثواب العظيم للصالحين، وشريعتي شريعة نعمة للجميع، وفيها كالسماء مكان للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها".
وكان تعليمه على ما عند البوذيين: أن الطبيعة ذات فراغ وأنها وهمية خداعة وأن العدم يوجد في كل مكان وكل زمان، وهو مملوء من الغش، ونفس هذا العدم يزيل كل الحواجز بين أصناف الناس وجنسياتهم وأحوالهم الدنيوية، ويجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيين.
وهم يعتقدون أن آخر عبارة نطق بها سقياموني هي "كل مركب فان" والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كل ألم وغرور، وأن دور التناسخ الذي لا نهاية له ينتهي أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، ويتوصل إلى ذلك بتطهيرها حتى من رغبة الوجود.
فهذه القواعد الأساسية للبوذية موجودة صريحاً في أقدم تعليمها المدرج في "الأرياني ستيانس" وهي أربع حقائق سامية تنسب إلى سقياموني ذكرها في عظته الأُولى التي قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.
وتلك الحقائق الأربع تتعلق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة والسن والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز عما يرام، وأسباب الألم الشهوات النفسانية والجسدية والأهواء، وملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، ولطريقة الملاشاة أيضاً ثمانية أقسام وهي: نظر صحيح وحس صحيح، ونطق صحيح، وفعل صحيح، ومركز صحيح، وجد صحيح، وذكر صحيح، وتأمل صحيح، فهذه صورة الإِيمان عندهم وقد وجدت محفورة على أبنية كثيرة ومدوّنة في عدة كتب.
وأما خلاصة الأدب البوذي فهي اجتناب كل شيء ردي، وعمل كل شيء صالح وتهذيب العقل.
فهذا هو الذي سلموه من تعليم بوذا، وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار أُمور أُضيفت إليه بكرور الأيام ومرور الدهور، وهي تشتمل على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك.
ومما يُقال إن بوذا لم يتكلم عن الإِله قط، غير أن ذلك لم يكن لإِعراض منه عن مبدأ الوجود ولا لإِنكار بل لأن الرجل كان يبذل كل جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارة.
8- وثنية العرب: وهم أول من عارضهم الإِسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهلية بدويين وأهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند، ومنها السنن الدينية.
وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين الوثنية كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين وعن أهل سبأ في قصة سليمان والهدهد، حتى أن جاء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأُمه هاجر إلى أرض مكة وهي واد غير ذي زرع وبها قبيلة جرهم، وأسكنهما هناك فنشأ إسماعيل عليه السلام وبنيت بلدة مكة، وبنى إبراهيم عليه السلام الكعبة البيت الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الإِسلام فاستجيب له في الحجاز وما والاها وشرع لهم الحج كما يدل على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن:
{ { وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } [الحج: 27]. ثم تهود بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز، وتسربت النصرانية إلى بعض أقطار الجزيرة، والمجوسية إلى بعضها الآخر.
ثم وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكة حتى آل إلى غلبة آل إسماعيل وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لحي على مكة وما والاها.
ثم إنه مرض مرضاً شديداً فقيل له: إن البلقاء من أرض الشام حمة لو استحممت بها برئت فقصدها واستحم بها فبرئ، ورأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية نستنصر بها فننصر ونستسقي بها فنسقى فأعجبه ذلك فطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة، وكان معه إساف ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل والنحل - أو شابين - كما في غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم وقد كانوا يسمون حنفاء لاتباعهم ملّة إبراهيم عليه السلام فبقي عليهم الاسم وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسماً للوثنيين منهم.
وكان مما يقربهم إلى الوثنية أن الكعبة المشرفة كان يعظمها اليهود والنصارى والمجوس والوثنية جميعاً فكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه شيئاً من حجارة الحرم تبركاً وصبابة، وحيثما حلوا وضعوه وطافوا به تيمناً وحباً للكعبة والحرم.
وعن هذه الأسباب شاعت الوثنية بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من أهل التوحيد بينهم إلا آحاد لا يذكرون، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل وإساف ونائلة، وهي التي أتى بها عمرو بن لحي ودعا إليها الناس، واللات والعزى ومناة وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.
وروى في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمن بن الأشل بياع الأنماط عن الصادق عليه السلام أن يغوث كان موضوعاً قبالة باب الكعبة، وكان يعوق عن يمين الكعبة ونسر عن يسارها.
وفي الرواية أيضاً أن هبل كان على سطح الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة.
وفي تفسير القمي قال: كانت ود لكلب، وكانت سواع لهذيل ويغوث لمراد، وكانت يعوق لهمدان، وكانت نسر لحصين.
وكانت في الوثنية التي عندهم آثار من وثنية الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره.
وفيها آثار من البرهمية كالقول بالأنواء والقول بالدهر كما تقدم عن وثنية بوذه قال تعالى:
{ { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [الجاثية: 24] وإن ذكر بعضهم أنه قول المادّيين المنكرين لوجود الصانع.
وفيها شيء من الدين الحنيف وهو إسلام إبراهيم عليه السلام كالختنة والحج إلا أنهم خلطوه بسنن وثنية كالتمسح بالأصنام التي حول الكعبة والطواف عرياناً، والتلبية بقولهم: لبّيك لبّيك اللهم لبّيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وعندهم أُمور أُخر اختلقوها من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والقول بالصدى والهام والأنصاب والأزلام وأُمور أُخر مذكورة في التواريخ وقد تقدم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية 103 وكذا ذكر الأزلام والأنصاب في ذيل آية 3 وآية 90.
9- دفاع الإِسلام عن التوحيد ومنازلته الوثنية: لم تزل الدعوة الإِلهية تخاصم الوثنية وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصه من دعوة الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام، وأُشير إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونس عليهم السلام.
وقد أُجمل القول في ذلك في قوله تعالى:
{ { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25]. وقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته العامة بدعاء الوثنيين من قومه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن فلم يجيبوه إلا بالاستهزاء والأذى وفتنة من آمن به منهم وتعذيبه أشد العذاب حتى اضطر جمع من المسلمين إلى ترك مكة والهجرة إلى الحبشة، ثم مكروا لقتله صلى الله عليه وآله وسلم فهاجر إلى المدينة ثم هاجر إليها بعده عدة من المؤمنين.
ولم يلبثوا حتى تعلقوا به بالقتال، وقاتلوه ببدر وأُحد والخندق وفي غزوات أُخرى كثيرة حتى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكة فظهر صلى الله عليه وآله وسلم البيت والحرم من أوثانهم، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، وكان هبل منصوباً على سطح الكعبة فأصعد علياً عليه السلام إليه فرماه إلى الأرض وكان - على ما يقال - أعظم أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد.
والإِسلام شديد العناية بحسم مادة الوثنية وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها وصرف النفوس حتى عن الحومان حولها والإِشراف عليها، وذلك مشهود مما ندب إليه من المعارف الأصلية والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعية فتراه بعد الاعتقاد الحق أنه لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى يملك كل شيء، له الوجود الأصيل الذي يستقل بذاته وهو الغني عن العالمين، وكل ما هو غيره منه يبتدئ وإليه يعود، وإليه يفتقر في جميع شؤون ذاته حدوثاً وبقاء فمن أسند إلى شيء شيئاً من الاستقلال بالقياس إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شيء من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.
وتراه يأمر بالتوكل على الله، والثقة بالله، والدخول تحت ولاية الله، والحب في الله، والبغض في الله، وإخلاص العمل لله، وينهى عن الاعتماد بغير الله، والركون إلى غيره، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه، والعجب والكبر إلى غير ذلك مما يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به.
وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، وينهى عن اتخاذ التماثيل ذوات الأظلال وعن تصوير ذوي الأرواح، وينهى عن طاعة غير الله والإِصغاء إليه فيما يأمر وينهى إلا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمة الدين، وينهى عن البدعة واتباعها وعن اتباع خطوات الشيطان.
والأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام متظافرة في أن الشرك ينقسم إلى جلي وخفي، وأن الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلا المخلصون، وأنه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وقد روى في الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى:
{ { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88-89]، القلب السليم الذي يلقى ربه ليس فيه أحد سواه. قال: وكل قلب فيه شرك أو شكٌّ فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.
وورد أيضاً أن عبادته تعالى طمعاً في الجنة عبادة الأجراء، وعبادته خوفاً من النار عبادة العبيد، وحق العبادة أن يعبد تعالى حباً له وتلك عبادة الكرام، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون وقد تقدمت عدة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.
10- بناء سيرة النبي على التوحيد ونفي الشركاء: أجمل تعالى سيرته صلى الله عليه وآله وسلم التي أمره باتخاذها والسير بها في المجتمع البشري في قوله:
{ { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [المائدة: 77]، وقال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنية: { { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } [المائدة: 77]. وقال أيضاً يذم أهل الكتاب: { { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } [التوبة: 31]. وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام والحدود وقارب بين طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، والخادم والمخدوم، والغنى والفقير، والرجل والمرأة، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكم لأحد على أحد إلا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بالسوية، وينهى عن تظاهر القوي بقوته بما يتأثر وينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، والحكام والرؤساء بشوكتهم على الرّعية.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشيئة أو غير ذلك، وقد تقدم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.
(كلام آخر ملحق بالكلام السابق)
نزل فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، وأوستا، والتوراة، والإِنجيل على نحو الإِجمال والكلية في فصول وهذا بحث تحليلي شريف.
1- التناسخ عند الوثنيين:
من الأُصول الأولية التي تبتني عليها البرهمية ومثلها البوذية والصابئية هو التناسخ وهو أن العالم محكوم بالكون والفساد دائماً فهذا العالم المشهود لنا وكذا ما فيه من الأجزاء مكوّن عن عالم مثله سابق عليه وهكذا إلى غير النهاية، وسيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه ويتكوّن منه عالم آخر وهكذا إلى غير النهاية، والإِنسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحاً واكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد ويعيش على السعادة، وهو ثوابه، ومن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقي ويقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم واتحد به فإنه ينجو من الولادة الثانية ويعود ذاتاً أزلية أبدية هي عين البهاء والسرور والحياة والقدرة والعلم لا سبيل للفناء والبطلان إليها.
ولذلك كان من الواجب الديني على الإِنسان أن يؤمن بالبرهم (وهو الله أصل كل شيء) ويتقرب إليه بالقرابين والعبادات، ويتحلى بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا وتخلق بكرائم الأخلاق وتحلى بصوالح الأعمال وعرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا واتحد بالبرهم وصار هو هو، وهو السعادة الكبرى والحياة البحتة، وإلا فليؤمن بالبرهم وليعمل صالحاً حتى يسعد في حياته التالية وهي آخرته
لكن البرهم لما كان ذاتاً مطلقة محيطاً بكل شيء غير محاط لشيء كان أعلى وأجل من أن يعرفه الإِنسان إلا بنوع من نفي النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا عنده، وهؤلاء هم الآلهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، وهم على كثرتهم إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة، وإنما يعبد الجن خوفاً من شرهم، وغيرهم طمعاً في رحمتهم وخوفاً من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون والبنات لله تعالى.
فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية ويعلمه علماء المذهب من البراهمة.
لكن الذي يتحصل من "أُوبانيشاد" وهو القسم الرابع من كتاب "ويدا" المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم وإن أوله علماء المذهب من البراهمة.
فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل "أُوبانيشاد" المعلمة للمعارف الإِلهية وإن كانت تصف العالم الألوهي والشؤون المتعلقة به من الأسماء والصفات والأفعال من إبداء وإعادة وخلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية كالانقسام والتبعض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتحاد والعظم والصغر وسائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرّح في مواضع منها أن برهم ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حدّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم وقدرة، منزّه عن نعوت النقص وأعراض المادة، والجسم ليس كمثله شيء.
وتصرّح بأنه تعالى أحديّ الذات لم يولد من شيء ولم يلد شيئاً وليس له كفو ومثل البتة.
وتصرّح بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرّب إلى غيره بقربان بل الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له.
وتصرّح كثيراً بالقيامة وأنه الأجل الذي ينتهي إليه الخلقة، وتصف ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين حمله على التناسخ.
ولا خبر في هذه الأبحاث الإِلهية الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه العبادات وتقديم القرابين إليها.
وهذه التي نقلناها من "أًوبانيشاد" - وما تركناه أكثر - حقائق سامية ومعارف حقة تطمئن إليها الفطرة الإِنسانية السليمة، وهي - كما ترى - تنفي جميع أُصول الوثنية الموردة في أول البحث.
والذي يهدي إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالباً بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.
ثم جعل ما أُخذ من هؤلاء أساساً تبتني عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع عليه عامة الناس، وهي معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحس والخيال اللذين هما حظ العامة من الإِدراك وكمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة.
واختصاص نيلها بالأقلين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهي دين إنساني أول المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الإِنساني مغروزة على الاجتماع المدني، وانفصال بعضهم عن بعض في سنَّة الحياة وهي الدين إلغاء لسنَّة الفطرة وطريقة الخلقة.
على أن في ذلك تركاً لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث: الوحي والكشف والعقل، وأعمها وأهمها بالنظر إلى حياة الإِنسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، والكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الإِخلاص واليقين، الناس حتى أهل الوحي والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطي الحجة العقلية في جميع شؤون الحياة الدنيوية ولا غنى لها عن ذلك، وفي إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإِجباري على جميع شؤون المجتمع الحيوية من اعتقادات وأخلاق وأعمال، وفي ذلك سقوط الإِنسانية.
على أن في ذلك إنفاذاً لسنَّة الاستعباد في المجتمع الإِنساني ويشهد بذلك التجارب التاريخي المديد في الأُمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.
2- سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:
الأديان العامة الأخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي أهمها الثلاثة المتقدمة.
أما البوذية والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك، وقد تقدَّم شيء مما يتعلق بعقائدهم وأعمالهم.
وأما المجوس فهم يوحّدون "أهورامزدا" بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس ليزدان وأهريمن والملائكة الموكلين بشؤون الربوبية وللشمس والنار وغير ذلك، والتاريخ يقصّ ما كانت تجري فيهم من سنّة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبّر والاعتبار يقضي أنه إنما تسرّب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم:
"أنه كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب فأحرقوه" .
وأما اليهود فالقرآن يقصّ كثيراً من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتخاذهم العلماء أرباباً من دون الله، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.
وأما النصارى فقد فصّلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبِّق مفتتح إنجيل يوحنا ورسائل بولس على سائر الأناجيل وتممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.
فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية في العالم الإِنسانيِّ من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإِلهية والحقائق العالية الحقّة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية، وحملتها على الأفهام العامة التي لا تأنس إلا بالحسّ والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.
3- إصلاح الإِسلام لهذه المفاسد:
أما الإِسلام فإنه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الذي يصلح لهضم الأفهام الساذجة والعقول العادية فصارت تلامسها من وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة، وهذا هو الذي يصلح به حال العامة وأما الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنين وهم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقاً، قال الله تعالى:
{ { والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وإنه في أُم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم } [الزخرف: 2-4]، وقال: { { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسّه إلا المطهَّرون } [الواقعة: 77-79]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم"
]. وعالج غائلة الشرك والوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات والصفات عن كل شيء إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شيء، وركّز الأفهام في معرفة الألوهية بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن لا كحياتنا، وعلماً لا كعلمنا، وقدرة لا كقدرتنا وسمعاً لا كسمعنا، وبصراً لا كبصرنا، وبالجملة ليس كمثله شيء وأنه أكبر من أن يوصف، وأمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولاً إلا عن علم، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة عقلية تهضمها عقولهم وأفهامهم.
فوفق بذلك أولاً لعرض الدين على العامة والخاصة شرعاً سواء، وثانياً أن استعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإِلهية سدى لا ينتفع بها، وثالثاً أن قرّب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإِنساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدّم واحداً ويؤخر آخر قال تعالى:
{ { إن هذه أُمتكم أُمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } [الأنبياء: 92] وقال: { { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13]. وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرقة تقدمت في هذا الكتاب والله المستعان.
4- ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي وآله المعصومين صلوات الله عليهم ومسألته تعالى بحقهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم وتعظيم آثارهم من الشرك المنهي عنه وهو الشرك الوثني محتجاً بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبياً أو ولياً أو جباراً من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهي عنه.
وقد فاتهم أولاً: أن ثبوت التأثير سواء كان مادياً أو غير مادي في غيره تعالى ضروري لا سبيل إلى إنكاره، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره، ونفي التأثير عن غيره تعالى مطلقاً يستلزم إبطال قانون العلية والمعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإِنسانية.
ومن يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله:
{ { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86] وقوله: { { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28]، أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقاً: { { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171-173] وقوله: { { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } [غافر: 51] أو يعظمهم ويظهر حبهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم بما أنهم آيات الله وشعائره تمسكاً بمثل قوله تعالى: { { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [الحج: 32]، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنَّة.
فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } [المائدة: 35] فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معنى لإِيجاب حب شيء وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتة.
وثانياً: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب إلى الله، وبين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع والتقرب بهم إليه ففي الصورة الأُولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبودية والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى ويختص العبادة به وحده لا شريك له.
وإنما ذم تعالى المشركين لقولهم: { إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى } حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، ولو قالوا: إنما نعبد الله وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسل إلى الله بتعظيم شعائره وحب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإِسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنما يعبد بالتوجه إليها الله.
وليت شعري ماذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإِسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصاً ولا استثناء، أو أن ذلك من عبادة الله محضاً وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر الله وتعزير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحبه ومودّته وحب أهل بيته ومودَّتهم وغير ذلك في محلها.