التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ
٦١
قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
٦٢
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
٦٣
وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ
٦٤
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
٦٥
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ
٦٦
وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٦٧
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ
٦٨
-هود

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي عليه السلام وقومه وهم ثمود، وهو عليه السلام ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية. دعا ثمود إلى التوحيد وتحمّل الأذى والمحنة في جنب الله حتى قضى بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.
قوله تعالى: { وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.
قوله تعالى: { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } إلى آخر الآية. قال الراغب الإِنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال: { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار }. انتهى، وقال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: { وعمارة المسجد الحرام } يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال: { وعمروها أكثر مما عمروها } { والبيت المعمور } وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوَّضت إليه العمارة قال: { واستعمركم فيها } انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدار للسكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها والاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإِنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.
وعلى ما مرّ يكون معنى قوله: { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } - والكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على الموادّ الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإِنسان ثم كمّلها بالتربية شيئاً فشيئاً وأفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، ويرفع بها ما يتنبّه له من الحاجة والنقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم وبقائكم إلا إليه تعالى وتقدّس.
فقول صالح: { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } في مقام التعليل وحجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ولذلك جيء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.
وذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان ويتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون - على مزعمتهم - إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع وأبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، ولا بدّ للإِنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوّض إليه أمر هذا العالم الأرضي وتدبير النظام الجاري فيه ونتقرّب بالتضرُّع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور، وهذا الإِله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة ورب الأرباب، وإليه يرجع الأمر كله.
فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه وبين الإِنسان واستقرارها بينه وبين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، وشفاعتها عند الله.
ولما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإِنسان من الأرض واستعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإِنسان قريب منه، ولا استقلال لشيء من هذه الأسباب التي نظمها وأجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإِرضاء أو يترقب شر بالإِسخاط.
فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، ويتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإِنسان ولكل شيء المدبّر أمره وأمر كل شيء فقوله: { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } مسوق لتعليل سابقه والاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى وبين الإِنسان ونفي الاستقلال من الأسباب.
ولذلك عقّبه بقوله: { فاستغفروه ثم توبوا إليه } على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه وتتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، وارجعوا إليه بالإِيمان به وعبادته. إنه قريب مجيب.
وقد علَّل قوله: { فاستغفروه } الخ، بقوله: { إن ربي قريب مجيب } لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإِنسان وتربيته وتدبير أمر حياته، وأنه لا استقلال لشيء من الأسباب العمَّالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، ويصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإِنسان وبين حوائجه وجميع الأسباب العمّالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم ولا يناله عبادة وقربان، وإذا كان قريباً فهو مجيب، وإذا كان قريباً مجيباً وهو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.
قوله تعالى: { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } الخ، الرجاء إنما يتعلق بالإِنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله وآثاره، ولا يرجى منها إلا الخير والنفع فكونه مرجواً هو أن يوجد ذا رشد وكمال في شخصه وبيته فيستهل منه الخير ويترقب منه النفع، وقوله: { قد كنت فينا } دليل على كونه مرجواً لعامتهم وجمهورهم.
فقولهم: { يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم وتحمل الأُمة على صراط الترفي والتعالي لما كانت تشاهد فيك من إمارات الرشد والكمال لكنهم يئسوا منك ومن رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول وأقمت من الدعوة.
وقولهم: { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } استفهام إنكاري بداعي المذمة والملامة، والاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإِرادة.
والدليل على ما ذكرنا قوله: { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء ولم يقل: أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ والفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.
ومن هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار وغيره قوله: { أن نعبد ما يعبد آباؤنا } بقولهم: { أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا } من الخطأ.
وقوله: { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح عليه السلام، وحجتهم الأُولى ما يتضمنه صدر الآية ومحصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة وتهدم بنيان مليتهم، وتميت ذكرهم فعلينا أن نرده، والثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين وتميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه وليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.
والإِرابة الاتهام وإساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك وأرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه وسوء الظن به.
قوله تعالى: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة } إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة وبالرحمة النبوة، وقد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح عليه السلام في السورة.
وقوله: { فمن ينصرني من الله إن عصيته } جواب الشرط، وحاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيداً بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي وأعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله ويدفع عنى إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني وهو ترك الدعوة.
ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم واعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.
وقوله: { فما تزيدونني غير تخسير } تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين والاعتذار عن مخالفتهم والقيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة والرجوع إليكم واللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.
وقيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة. وقيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم والوجه الأول أوجه.
قوله تعالى: { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله وكتاب الله. وكانت الناقة آية معجزة له عليه السلام تؤيد نبوته، وقد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، وقال لهم: إنها تأكل في أرض الله محررة، وحذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، وهذا معنى الآية.
قوله تعالى: { فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } عقر الناقة نحرها، والدار هي المكان الذي يبنيه الإِنسان فيسكن فيه ويأوي إليه هو وأهله، والمراد بها في الآية المدينة سميت داراً لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، وقيل المراد بالدار الدنيا، وهو بعيد.
والمراد بتمتعهم في مدينتهم العيش والتنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيؤوها فيها من مناظر ذات بهجة والأثاث والمأكول والمشروب والاسترسال في أهواء أنفسهم.
وقوله: { ذلك وعد غير مكذوب } الإِشارة إلى قوله: { تمتعوا } الخ، و { وعد غير مكذوب } بيان له.
قوله تعالى: { فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً } إلى آخر الآية. أما قوله: { فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا } فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود.
وأما قوله: { ومن خزي يومئذ } فمعطوف على حذوف والتقدير نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ، والخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من إظهاره أو أن التقدير: نجيناهم من القوم ومن خزي يومئذ على حد قوله: { ونجّني من القوم الظالمين }.
وقوله: { إن ربك هو القوي العزيز } في موضع التعليل لمضمون صدر الآية وفيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، وقد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله: { ألا إن عاداً كفروا ربهم } والوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية وكفرهم بالربوبية وكفرانهم نعم ربهم.
قوله تعالى: { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } يقال: جثم جثوماً إذا وقع على وجهه، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { كأن لم يغنوا فيها } غني بالمكان أي أقام فيه، والضمير راجع إلى الديار.
قوله تعالى: { ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأُولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود ودعوة صالح عليه السلام، والثانية تلخيص ما جازاهم الله به، وقد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.
(بحث روائي)
في الكافي مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: { كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر } قال: هذا فيما كذبوا صالحاً، وما أهلك الله عز وجل قوماً قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم.
فبعث الله إليهم صالحاً فلم يجيبوه وعتوا عليه، وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبياً رسولاً فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه.
ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم ولكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير وكبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله.
ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلاً ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يُقال له: قدار شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فجعلوا له جعلاً.
فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت وأقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئاً فضربها ضربة أُخرى فقتلها وخرّت على الأرض على جنبها، وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، وأقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته، واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها.
فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أعصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح عليه السلام: إن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم ولم يكن لهم فيها ضرر وكان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث.
فأتاهم صالح وقال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم؛ فلما قال لهم ذلك [قالوا ظ] كانوا أعتى ما قالوا وأخبث وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال: يا قوم إنكم تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني وجوهكم محمرة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيماً. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعاً ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ولم يتوبوا ولم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودّة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح.
فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعاً في طرفة عين: صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا راعية ولا شيء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، وكانت هذه قصتهم.
أقول: واشتمال الحديث على أُمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعاً من لبن الناقة وكذا تغير ألوان وجوههم يوماً فيوماً لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، وقد نص القرآن الكريم بذلك، وبأنها كانت لها شرب يوم ولأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم.
وأما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم أماتتهم بصوتها وأحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت والحياة والرزق وغيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.
وقوله عليه السلام: إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت.
وقد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل وهو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال ولا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه ولم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعاً، ومع ذلك لا يخلو قوله تعالى: { لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم } من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جداً.
(كلام في قصة صالح في فصول)
1- ثمود قوم صالح عليه السلام: ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئاً يسيراً من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.
والذي يقصّه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أُمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيّهم وقد كان منهم نشأوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنية يعمرون الأرض ويتخذون من سهولها قصوراً وينحتون من الجبال بيوتاً آمنين ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنَّات والنخيل والحرث.
كانت ثمود تعيش على سنّة الشعوب والقبائل يحكم فيهم سادتهم وشيوخهم وقد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فطغوا في الأرض وعبدوا الأصنام وأفرطوا عتوّاً وظلماً.
2- بعثة صالح عليه السلام: لما نسيت ثمود ربها وأسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحاً النبي عليه السلام وكان من بيت الشرف والفخار معروفاً بالعقل والكفاية فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الأصنام وأن يسيروا في مجتمعهم بالعدل والإِحسان، ولا يعلوا في الأرض ولا يسرفوا ولا يطغوا وأنذرهم بالعذاب (هود - الشعراء - الشمس وغيرها).
فقام عليه السلام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم وأما الطغاة المستكبرون وعامة من تبعهم فأصروا على كفرهم واستذلوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر.
وطلبوا منه البينة على مقاله، وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، وقال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوماً وتكفّوا عنها يوماً فتشربها الناقة فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب.
وكان الأمر على ذلك حيناً ثم إنهم طغوا ومكروا وبعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، وقالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح عليه السلام: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح وتقاسموا بينهم لنبيّتنّه وأهله ثم نقولنَّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، ومكروا مكراً ومكر الله مكراً وهم لا يشعرون فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون والرجفة والصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين وأنجى الله الذين آمنوا وكانوا يتقون ونادى بعدهم المنادي الإِلهي: ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود.
3- شخصية صالح عليه السلام: لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر. كان عليه السلام من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح وهود، ويحمده ويثني عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله، وقد اختاره وفضّله كسائرهم على العالمين عليه وعليهم السلام.