التفاسير

< >
عرض

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٧
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٨
وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
١٠
إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٣
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٤
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٦
-هود

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
جمل وفصول من أعمال المشركين وأقوالهم في الردّ على نبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما نزّل عليه من الكتاب تذكرها الآيات وتجيبَ عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله، وقولهم: ما يحبس العذاب عنا، وقولهم: لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقولهم: إنه افترى القرآن. وفيها بعض معارف أُخر.
قوله تعالى: { ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } إلى آخر الآية، ثنى الشيء يثناه ثنياً كفتح يفتح فتحاً أي عطفه وطواه وردَّ بعضه على بعض قال في المجمع: أصل الثني العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه الاستثناء لأنه عطف عليه بالإِخراج منه، انتهى. وقال أيضاً: الاستخفاء طلب خفاء الشيء يقال: استخفى وتخفى بمعنى، وكذلك استغشى وتغشّى، انتهى.
فالمراد بقوله: { يثنون صدورهم ليستخفوا منه } أنهم يميلون بصدورهم إلى خلف ويطأطئون رؤوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته وهو كناية عن استخفائهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة.
وقوله: { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم } الخ، كأنهم كانوا يسترون رؤوسهم ايضاً بثيابهم عند استخفائهم بثني الصدور فذكر الله سبحانه ذلك وأخبر أنه تعالى يعلم عند ذلك { ما يسرّون وما يعلنون } فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن والله يعلم سرّهم وعلانيتهم.
وقيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلاً عند أخذ المضاجع للنوم، وهو أخفى ما يكون فيه الإِنسان وأخلى أحواله، والمعنى: أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، والله يعلم سرّهم وعلانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال وهو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، ولا يخلو الوجه من ظهور.
هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، وربما ذكر لها معان أُخر بعيدة من السياق منها قولهم: إن الضمير في { ليستخفوا منه } راجع إليه تعالى أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها قول بعضهم: { يثنون صدورهم } أي يطوونها على الكفر، وقول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من المعاني المذكورة وهي جميعاً معان بعيدة.
قوله تعالى: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } إلى آخر الآية، الدابّة على ما في كتب اللغة كل ما يدبّ ويتحرّك، ويكثر استعماله في النوع الخاص منه، وقرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، ولذلك عقَّب به قوله: { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور }.
وهذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: { ويعلم مستقرّها ومستودعها } بمنزلة عطف التفسير لقوله: { على الله رزقها } فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الأرض على الله أن يرزقها - ولن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء وكالصدف فيما وقعت واستقرت فيه من الأرض رزقها هناك وإن كانت خارجة من مستقرها وهي في مستودع ستتركه إلى مستقرّها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك وبالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض وكيف لا وعليه تعالى رزقها ولا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق وخبرة منه بما حلَّ فيه من محل دائم أو معجّل ومستقر أو مستودع.
ومن هنا يظهر أن المراد بالمستقر والمستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الأرض وتعيش عيشة دنيوية والمحل الذي تحل فيه ثم تودعه وتفارقه، وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر والمستودع أماكنها في الحياة وبعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب والأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقارّ حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله: { ويعلم مستقرها ومستودعها } كلاماً مستأنفاً بحياله غير مفسر لما قبله.
وقد تقدم في قوله تعالى:
{ { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } [الأنعام: 98] ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.
وأما قوله: { على الله رزقها } فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى وقد تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به وأنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى:
{ { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } [الملك: 21]، وقال تعالى: { { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [الذاريات: 58] وقال تعالى: { { وفي السماء رزقكم وما توعدون فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } [الذاريات: 23]. ولا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال: { { كتب على نفسه الرحمة } [الأنعام: 12]، وقال: { { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47] إلى غير ذلك من الآيات.
والاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده وإذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق.
وقد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين فليراجع.
قوله تعالى: { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة ايام وكان عرشه على الماء } الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات والأرض على ما يظهر من كلامه تعالى ويفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة عليهم السلام موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
وإجمال القول الذي يظهر به معنى قوله: { ستة أيام } وقوله: { وكان عرشه على الماء } هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - ويقارنها بالأرض ويصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك وأظلك فهو سماء على ما قيل والعلو والسفل من المعاني الإِضافية.
فهي طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا وتحيط بها فإن الأرض كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى:
{ { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً } [الأعراف: 54]. والسماء الأولى هي التي تزيّنه مصابيح النجوم والكواكب فهى الطبقة التي تتضمنها أو هي فوقها وتتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل والمشاكي وأما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شيء من صفتها غير ما في قوله تعالى: { { سبع سماوات طباقاً } [نوح: 15]، وقوله: { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً } [نوح: 16] حيث يدل على مطابقة بعضها بعضاً.
وقد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها ومتفرقة متلاشية فجمعها وركمها وأنها كانت دخاناً فصيرها سماوات، قال تعالى:
{ أولم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } [الأنبياء: 30] وقال: { { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها } [فصلت: 11] فأفاد أن خلق السماوات إنما تمّ في يومين، واليوم مقدار معتد به من الزمان وليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف ووعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذي لهذه الأرض يعدل تسعة وعشرين يوماً ونصفاً تقريباً من أيام الأرض واستعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.
فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض: { خلق الأرض في يومين } إلى أن قال
{ { وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام } [فصلت: 10] فأنبأ عن خلقها في يومين وهما عهدان وطوران وجعل الأقوات في أربعة أيام وهي الفصول الأربعة.
فالمتحصّل من الآيات أولاً: أنَّ خلق السماوات والأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة والشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضاً في برهتين من الزمان وقد كانت السماء دخاناً ففصلت وقضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.
وثانياً: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة.
وبما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } المراد بخلقها جمع أجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، وقد تم أصل الخلق والرتق في السماوات في يومين وفي الأرض أيضاً في يومين ويبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك.
وأما قوله: { وكان عرشه على الماء } فهو حال والمعنى وكان عرشه يوم خلقهن على الماء وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقراً يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، واستقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما ان استواءه على العرش احتواءه على الملك وأخذه في تدبيره.
وقول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذاً من قوله تعالى:
{ { مما يعرشون } [النحل: 68] أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: { ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً } اللام للغاية والبلاء الامتحان والاختبار، وقوله: { أيّكم أحسن عملاً } بيان للاختبار والامتحان في صورة الاستفهام والمراد أنه تعالى خلق السماوات والأرض على ما خلق لغاية امتحانكم وتمييز المحسنين منكم من المسيئين.
ومن المعلوم أن البلاء والامتحان أمر مقصود لغيره وهو تمييز الجيد من الردي والحسن من السيء، وكذلك الحسنة والسيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما من الجزاء، وكذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق ولذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة:
{ { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [الكهف: 7]، وقال في معنى التمييز والتمحيص: { { ليميز الله الخبيث من الطيب } [الأنفال: 37]، وقال في خصوص الجزاء: { { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون } [الجاثية: 22] وقال في كون الإِعادة لإِنجاز الوعد: { { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } [الأنبياء: 104] إلى غير ذلك من الآيات، وقال في كون العبادة غرضاً في خلق الثقلين: { { وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]. وعد العمل الصالح أو الإِنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على غايات أُخرى بعد ما كان الإِنسان أحد تلك الغايات حقيقة لأن الوحدة والاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط ونتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات والأرض بما أنها تؤدي إليه.
على أن الإِنسان أكمل وأتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات والأرض وما فيهما صنعاً ولئن نمي في جانب العلم والعمل نماء حسناً كان أفضل ذاتاً مما سواه وأرفع مقاماً وأعلى درجة من غيره وإن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقاً كما ذكره الله تعالى ومن المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص ولذا كنا نعد مراحل وجود الإِنسان المختلفة من المنوية والجنينية والطفولية وغيرها مقدمة لوجود الإِنسان السوي الكامل وهكذا.
وبهذا البيان يظهر أن أفضل أفراد الإِنسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقاً - غاية لخلق السماوات والأرض، ولفظ الآية أيضاً لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإن قوله: { أيكم أحسن عملاً } يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملاً من غيره سواء كان ذلك الغير محسناً أو مسيئاً فمن كان عمله أحسن من سائر الأفراد سواء كانوا محسنين وأعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، وبذلك يستصح ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
"لولاك لما خلقت الأفلاك" فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق.
وفي المجمع: قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض والملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلّف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حيّ مكلّف، وقال علي بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإِخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو الذي اختاره المرتضى قدَّس الله روحه. انتهى.
أقول: وما ذكراه مبني على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض وتابعة للمصالح وجهات الحسن ولو كان ذلك بأن يخلق خلقاً ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به ويؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، وقد تقدَّم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه ولا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أي شيء آخر مفروض وأن غيره أي شيء فرض مخلوق له مدبّر بأمره إن كان أمراً ذا واقعية ووجود إن الحكم إلا لله والله خالق كل شيء.
فجهات الحسن والمصلحة وهي التي تحكم علينا وتبعثنا نحو أفعالنا أُمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، وأما هو سبحانه فإنه أجلّ من ذلك. وذلك أن جهات الحسن والمصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون والروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، ومن الضروري أن الكون وما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، ومن الممتنع جداً أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه ولا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له.
وأما ما في الآية من تعليل خلق السماوات والأرض بقوله: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } ونظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو وأمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة والمصالح المتفرعة وقد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال:
{ { الذي أحسن كل شيء خلقه } [طه: 50]، فهو سبحانه هو الخير لا شرّ فيه وهو الحسن لا قبح عنده وما كان كذلك لم يصدر عنه شرٌّ ولا قبيح البتة.
وليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذي أمر به وإن استقبحه العقل، ومعنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذي نهى عنه وإن استحسنه العقل واستصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى:
{ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [الأعراف: 28]. قوله تعالى: { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } لما كان قوله: { ليبلوكم } الخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره صلى الله عليه وآله وسلم للمعاد برميه بأنه سحر من القول.
فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمّون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة وبلاغة النظم سحراً، كذلك كانوا يسمّون ما يخبر به القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حقائق المعارف التي لا تصدّقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحراً، وعلى هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله والتعنت والعناد مع الحق الصريح حيث تعدّوا عن رمي اللفظ لفصاحته وبلاغته بالسحر إلى رمي المعنى لصحته واستقامته بالسحر.
ومن الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة والتمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد:
{ { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنّى تسحرون } [المؤمنون: 88-89]. قوله تعالى: { ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أُمة معدودة ليقولن ما يحبسه } إلى آخر الآية. اللام في صدر الآية للقسم ولذلك أكد الجواب أعني قوله: { ليقولن } باللام والنون والمعنى: وأُقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزئين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا ولماذا لا ينزل علينا ولا يحل بنا.
وفي هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه وأن الله أخر ذلك تأخيراً رحمة لهم فاستهزأوا به وسخروا منه بقولهم: { ما يحبسه } ويؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } الخ.
وبهذا يتأيد أن السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها: { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } إلى آخر الآيات.
وقوله: { إلى أُمة معدودة } الأُمة الحين والوقت كما في قوله تعالى:
{ { وقال الذي نجا منهما وادَّكر بعد أُمة } [يوسف: 45] أي بعد حين ووقت.
وربما أمكن أن يراد بالأُمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئاً ويمكّن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم قال:
{ { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } [المائدة: 54]، وقال: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } إلى أن قال { { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } [النور: 55]. وهذا وجه لا بأس به.
وقيل: إن المراد بالأُمة الجماعة وهم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرّون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرُّون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.
والوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزئين من الكفار وظاهر قوله تعالى: { ألا يوم يأتيهم } الخ، أن المعذبين هم المستهزئون بقولهم: { ما يحبسه }.
وقوله: { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } بمنزلة الجواب عن قولهم: { ما يحبسه } الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أُوعدوا به من العذاب، ومحصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لو كان حقاً لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر ولا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.
فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم ولا يصرفه يومئذ عنهم صارف ويحيق بهم هذا العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
وبما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم وينزل عليهم دون عذاب الآخرة، وعلى هذا فهذه الآية والتي قبلها يذكر كل منهما شيئاً من ما تهوّس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث وأُنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وهذه الآية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أُمة وأُخبروا بذلك قالوا مستهزئين: ما يحبسه.
قوله تعالى: { ولئن أذقنا الإِنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور } قال في المجمع: الذوق تناول الشيء بالفم لإِدراك الطعم، وسمى الله سبحانه إحلال اللذّات بالإِنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيهاً بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظل زائل والنزع قلع الشيء عن مكانه، واليؤس فعول من يئس - صيغة مبالغة - واليأس القطع بأن الشيء المتوقع لا يكون ونقيضه الرجاء. انتهى.
وقد وضعت الرحمة في الآية مكان النعمة للإِشعار بأن النعم التي يؤتيها الله الإِنسان عنوانها الرحمة وهي رفع حاجة الإِنسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق وإيجاب والمعنى: إنا إن آتينا الإِنسان شيئاً من النعم التي يتنعم بها ثم نزعناها يئس منها واشتد يأسه حتى كأنه لا يرى عودها إليه ثانياً ممكناً وكفر بنعمتنا كأنه يرى تلك النعمة من حقه الثابت علينا ويرانا غير مالكين لها فالإِنسان مطبوع على اليأس عما أُخذ منه والكفران، وقد أُخذ في الآية لفظ الإِنسان - وهو لفظ دال على نوعه - للدلالة على أن الذي يذكر من صفته من طبع نوعه.
قوله تعالى: { ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور } قال في المجمع: النعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه والضرّاء مضرّة يظهر الحال بها لأنهما أُخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء وعيناء مع ما فيهما من المبالغة، والفرح والسرور من النظائر وهو انفتاح القلب بما يلتذ به وضده الغمّ - إلى أن قال: - والفخور الذي يكثر فخره وهو التطاول بتعديد المناقب وهي صفة ذم إذا أُطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. انتهى.
والمراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب والبلايا التي يسوء الإِنسان نزولها عليه، والمعنى: ولئن أصبناه بالنعمة بعد الضرّاء ليقولنَّ ذهب الشدائد عني، وهو كناية عن الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد والنوازل لا تعود بعد زوالها ولا تنزل بعد ارتفاعها ثانياً.
وقوله: { إنه لفرح فخور } بمنزلة التعليل لقوله: { ذهب السيئات عني } فإنه يفرح ولا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضرّاء، ولو كان يرى أن ما عنده من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه ولا اعتماد على دوامه، وأن الأمور ليس إليه بل إلى غيره ومن الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحاً بذلك فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذى قرار.
وانه ليفخر بما أُوتي من النعماء على غيره، ولا فخر إلا بكرامة أو منقبة يملكها الإِنسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمراً بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه وينزعه منه ويعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات ولذلك يفخر ويكثر من الفخر.
قوله تعالى: { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } ذكر سبحانه ما الإِنسان مطبوع عليه عند الشدة والبلاء من اليأس والكفر وعند الرخاء والنعماء من الفرح والفخر، ومغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، ويذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه نعمة لم ير لها عودة وأنها كانت من عند الله سبحانه، وله تعالى أن يعيدها إليه إن شاء حتى يصبر على بلائه ويتعلق قلبه به بالرجاء والمسألة، وإن عادت إليه نعمة بعد زوالها رأى أنه يملكها ففرح وفخر ولم ير لله تعالى صنعاً في ذلك حتى يشكره عليها ويكف عن الفرح وعن التطاول على غيره بالفخر.
استثنى سبحانه طائفة من الإِنسان ووصفهم بقوله { الذين صبروا وعملوا الصالحات } ثم وعدهم وعداً حسناً بقوله: { أُولئك لهم مغفرة وأجر كبير } وذلك أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند الضرّاء فلا يحملهم الجزع على اليأس والكفر، ويعملون الصالحات من الشكر بثنائه تعالى على ما كشف الضراء وأعقب بالنعماء وصرف نعمه في ما يرضيه ويريح خلقه فلا يحملهم الاستغناء على الفرح والفخر.
وهؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم ووضع الخصال المحمودة موضعه ولهم عند ربهم مغفرة وأجر كبير.
وفي الآية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الإِيمان فإنها تعد هؤلاء الصابرين مغفرة وأجراً كبيراً، والمغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى:
{ { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 48]. وقد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الآية أعني المغفرة والأجر الكبير للمؤمنين في قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير } [فاطر: 7]، وقوله تعالى: { { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } [الملك: 12]. واتصال الآيات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الآيات السابقة مسوقاً في كفر الكافرين ورميهم الوعد بالبعث بالسحر ومقابلتهم الإِيعاد بنزول العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعي لا يرون لما عندهم من نعمة الله زوالاً بنزول العذاب ولا لما بهم من رث الحال تبدلاً إلى العيش الهنيء والمتاع الحسن الذي وعدهم الله به في صدر السورة.
قوله تعالى: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك } إلى آخر الآية، لما كانت رسالة النبي صلى الله عيله وآله وسلم بما أُيدت به من القرآن الكريم والآيات البينات والحجج والبراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها ولا لإِنسان صحيح المشاعر ردها والكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين وإنكار المشركين أمراً مستبعداً بحسب الطبع، وإذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعداً أخد الإِنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلباً للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.
ولما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم من الحق الصريح وما أُنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعاً بيّن تعالى لذلك وجهاً بعد وجه على سبيل الترجي فقال: { ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك } الخ، { أم يقولون افتراه } الخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبّهوك بالإِنكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض الوحي خوفاً من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله، وأن يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات "الخ".
ومما تقدم يظهر أن إيراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهي إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتاباً يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتاباً ثانياً يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي وإنما افتريته على افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وإن كان الثاني فإن الكتاب بخطي كتبته بيدي وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطي أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الإِبلاغ وزعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جداً أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جداً، وإنما ذكر الوجهان لداعي أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهو أن الرسول ليس له من الأمور شيء حتى يقترح عليه بما يقترح، وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك } الخ، ليس يفيد الترجي الجدى ولا مسوقاً لتوبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مراداً به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والأسى بكفرهم وجحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: { إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل }.
فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن وضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر والجحود، والنهي نهي تسلية وتطييب للنفس نظير ما في قوله:
{ { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } [النحل: 127]، وقوله: { { لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين } [الشعراء: 4] كلام ليس في محله.
ويظهر أيضاً أن قوله: { فلعلّك تارك } الخ، وقوله: { أم يقولون افتراه } الخ، كشقّي الترديد ويتصلان معاً بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.
وقوله: { تارك بعض ما يوحى إليك } إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبّهوك بما جبّهوك به من الرد والجحود، وذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضاً وشطراً منه يقرّب شطراً منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوي، وآيات الثواب والعقاب تقرّب الحق من القبول بالتطميع والتخويف، وآيات القصص والعبر تستميل النفوس وتليِّن القلوب.
وقوله: { وضائق به صدرك أن يقولوا } الخ، قال في المجمع: ضائق وضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق ها هنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض والآخر أنه أشكل بقوله تارك. انتهى.
والظاهر أن ضمير { به } راجع إلى قوله: { بعض ما يوحى } وإن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: { لولا أُنزل عليه كنز } الخ، أو إلى اقتراحهم وهذا أوفق بكون قوله { أن يقولوا } الخ، بدلاً من الضمير في { به } وما ذكرناه أوفق بكونه مفعولاً له لقوله: { تارك } والتقدير: لعلك تارك ذلك مخافة { أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك }.
وقوله: { إنما أنت نذير } جواب عن اقتراحهم بقولهم: لولا أُنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجيء الملك وزيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الإِتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة وأن يكون له جنَّة يأكل منها وأن ينزل من السماء كتاباً يقرأونه. وقد أجاب الله سبحانه عنها جميعاً بمثل ما أجاب به ها هنا وهو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده وهو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئاً ويأذن في إتيان آية كما قال:
{ { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } [الرعد: 38]. ثم عقب قوله: { إنما أنت نذير } بقوله: { والله على كل شيء وكيل } لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات ومحصّله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر مثلهم ولم يؤمر إلا بالإِنذار وهو الرسالة بإعلام الخطر، والقيام بالأمور كلها وتدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ليس إليه.
وذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها وفاطرها وهو القائم على كل شيء فيما يجري عليه من النظام فما من شيء إلا وهو تعالى المبدأ في أمره وشأنه والمنتهى سواء الأمور الجارية على العادة والخارقة لها فهو تعالى الذي يسلم إليه أمره ويدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذي يسلم إليه الأمور وينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شيء وكيل.
وبذلك يظهر أن قوله: { والله على كل شيء وكيل } بمعونة من قوله: { إنما أنت نذير } يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً ليس إليه وإنما هو إلى الله تعالى.
قوله تعالى: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور } قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ { أم } متصلة لكون قوله: { فلعلك تارك } الخ، في معنى الاستفهام، والتقدير: أفأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفاً من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرأ عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به وقيل: إن أم مقطعة والمعنى: بل يقولون افتراه.
وقوله: { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } في الكلام تحدّ ظاهر والضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن والفاء في { فأتوا } تفيد تفريع الأمر على قوله: { افتراه } وفي الكلام حذف وإيصال رعاية للإِيجاز، والتقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي وكان من الجائز أن يأتي بمثله غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم ومجدّين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات واستعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات وغيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب والوسائل ولا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته ويرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.
وقد بان بهذا البيان أن التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه وبلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم وغير آلهتهم وفيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه وصفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية والحجج والبراهين الساطعة والمواعظ الحسنة والأخلاق الكريمة والشرائع الإِلهية والأخبار الغيبية والفصاحة والبلاغة نظير ما في قوله تعالى:
{ { قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء: 88]، وقد تقدمت الإِشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب.
وبذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن إنما هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الإِعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الإِعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإِعجاز.
والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضاً كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس وعلقمة وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم. انتهى.
فإن فيه أولاً: أن لو كانت جهة الإِعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب وهي أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، ولم يرجع قوله: { وادعوا من استطعتم من دون الله } على ما فيه من العموم وكذا قوله: { لئن اجتمعت الإِنس والجن } الآية إلى معنى محصّل ولكان من الواجب أن يقال: (لئن اجتمعت العرب) وادعوا من استطعتم من آلهتكم ومن أهل لغتكم.
وثانياً: أنه لو كانت جهة الإِعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله:
{ { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً } [النساء: 82]، الظاهر في نفي مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات وهي التي يرجع إلى المعاني لا تضرّ بلاغة اللفظ.
وثالثاً: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله:
{ فليأتوا بحديث مثله } [الطور: 34]، وبقوله: { { فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله } [يونس: 38]، وقد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول ويؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله } ولو كان جهة الإِعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلَّف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.
وقد ذكر بعضهم في التقصّي عن هذا الإِشكال أن الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكيَّة موضوعة في سورة مدنية وبالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقاً ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، وآية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.
وفيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره وإلا فالإِشكال على حاله والحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة وفصاحة وما فيه من المعارف الحقيقية والأخلاق الكريمة والشرائع الإِلهية والقصص والعبر والأخبار بالمغيبات وما له من السلطان على القلوب والجمال الحاكم في النفوس.
وأما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة ومرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإِعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل ومرة بالأكثر. انتهى.
أقول: وهو يصلح وجهاً لأصل التحدي بالواحد والكثير وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ولا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.
وذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف والأخلاق والأحكام والقصص وغيرها وينعت به من الفصاحة والبلاغة وانتفاء الاختلاف، وإنما يظهر صحة المعارضة والإِتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف وخاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها.
وإنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشؤون المذكورة وتتضمن المعرفة والقصة والحجة وغير ذلك كسورتي الأعراف والأنعام.
والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف وسورة يونس وسورة مريم وسورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص وسورة القمر وسورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، وهذا هو الوجه في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا وقد أطنب في كلامه.
أقول: فيه أولاً: أن لا تعويل على الأثر الذي عوّل عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلو عن ضعف ولا ينبغي بناء البحث التفسيري على أمثالها.
وثانياً: أن ظاهر قوله: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } أن رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء على الله سبحانه قول تقوّلوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها وقصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، والتحدي بما يفي بذلك، وعجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر والعصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه واللفظ خال من ذلك.
وثالثاً: أن قوله: { بعشر سور مثله } إن كان ما فيه من الضمير راجعاً إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقاً سواء في ذلك الطوال والقصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة تقييد للفظ الآية من غير مقيّد وهو تحكم وأشد منه تحكماً القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التي عدها.
وإن كان الضمير راجعاً إلى سورة هود كان مستبشعاً من القول وكيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر والمعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود ويقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، ولم نسمع أحداً منهم تفوَّه بذلك.
ويمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله:
{ { فأتوا بسورة مثله } [البقرة: 23] الظاهر في التحدي بسورة واحدة وقوله: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد وقوله: { فليأتوا بحديث مثله } [الطور: 34] الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن وإن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضاً خاصاً في التحدي.
بيان ذلك: أن جهات القرآن وشؤونه التي تتقوّم به حقيقته وهو كتاب إلهي مضافاً إلى ما في لفظه من الفصاحة وفي نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه ومقاصده لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى والألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام وفي الهزل وفي الفحش والهجو والفرية إذا جرت على أُسلوب البلاغة وتوجد في الكلام الموروث من البلغاء نظماً ونثراً شيء كثير من هذه الأمور.
بل المراد من معنى القرآن ومقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، ونور مبين، وقرآن عظيم، وفرقان، وهاد يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وقول فصل وليس بالهزل، وكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر وأنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، وأنه تبيان لكل شيء ولا يمسه إلا المطهرون.
فمن البيّن أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن. وليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن الكريم لغواً من القول وإثماً وينهى الإِنسان عن تعاطيه والتفوّه به وإن كان بليغاً بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شيء من المقاصد الإِلهية التي تجري على الحق الذي لا يخالطه باطل، وتقع في صراط الهداية، ويكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته وغرض هذا شأنه هو الذي تتعلق العناية الإِلهية بتنزيله وجعله رحمة للمؤمنين وذكراً للعالمين.
وهذا هو الذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله: { فليأتوا بحديث مثله } فإنا لا نسمي الكلام حديثاً إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، وكذا قوله: { فأتوا بسورة مثله } فإن الله لا يسمي جماعة من آيات كتابه وإن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها.
ولولا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية وكان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عدداً ذا كثرة كقوله تعالى: { والضحى } { والعصر } { والطور } { في كتاب مكنون } { مدهامّتان } { الحاقة ما الحاقّة } { وما أدراك ماالحاقّة } { الرحمن } { ملك الناس } { إله الناس } { وخسف القمر } { كلا والقمر } { سندع الزبانية } إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلاّ منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض واشتمالها على غرض يجمعها ويخرجها في صورة الوحدة.
فالذي كلّف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافاً إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإِلهية المشتملة على أغراض منعوتة بالنعوت التي ذكرها الله سبحانه.
والكلام الإِلهي مع ما تحدّي به في آيات التحدّي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإِنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية وأخلاق كريمة وأحكام فرعية، والسورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإِلهية المتعلقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها الخارقة، وهذه خاصّة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، والعدة من السور كالعشر والعشرين منها تختص بخاصة أُخرى وهي بيان فنون من المقاصد والأغراض والتنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الإِتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الإِتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الإِتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات والأعمال الإِنسانية التي من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقاً لتصادف أسباب موجبة لذلك كفرد من الإِنسان موصوف بأنه أطول الأفراد أو أكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم.
وهذا الاحتمال وإن كان مدفوعاً عن السورة الواحدة من القرآن أيضاً التي يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، وما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق والصدفة من غير أن يكون مقصوداً في نفسه ذا غرض يتعلق به الإِرادة.
إلا أنه أعني ما مرّ من احتمال الاتفاق والصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة وبيان الغرض بعد الغرض والكشف عن خبيئ بعد خبيئ لا يدع مجالاً لاحتمال الاتفاق والصدفة وهو ظاهر.
إذا تبين ما ذكرنا ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله:
{ { قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء: 88] وارداً مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإِلهية ويختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة; وقوله: { قل فأتوا بسورة مثله } لما فيها من الخاصة الظاهرة وهي أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإِلهي بياناً فصلاً من غير هزل; وقوله: { قل فأتوا بعشر سور } تحدياً بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان والتنوع في الأغراض من جهة الكثرة، والعشرة من ألفاظ الكثرة كالمأة والألف قال تعالى: { { يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة } [البقرة: 96]. فالمراد بعشر سور - والله أعلم - السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعدة من سورها ولتكن عشراً ليظهر به أن تنوّع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
وأما قوله: { فليأتوا بحديث مثله } فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة والعشر سور والقرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية وهو ظاهر.
بقي هنا أمران أحدهما: أنه لم يقع في شيء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } بخلاف قوله: { فأتوا بسورة مثله } فلم يقل فيه: (فأتوا بسورة مثله مفتراة) وكذا في سائر آيات التحدي.
ولعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الإِتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإِنسان ولا يظهر عليها غيره تعالى وقد أُطلق القول فيها إطلاقاً.
وأما هذه الآية فلما عقبت بقوله: { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله } دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمناً لما يختص علمه بالله تعالى ولا سبيل لغيره إليه، وهذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإِلهي الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، وإن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، واستعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى. فافهم ذلك.
وثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: { بمثل هذا القرآن } { بحديث مثله } { بسورة مثله } { بعشر سور مثله } والوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة ولم يحتج إلى الإِتيان بما يترجح عليه في صفاته ويفضل عليه في خواصه..
وربما يورد عليه أن عدم قدرة غيره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التي توجد في النوع الإِنساني كالبلاغة والكتابة والشجاعة والسخاء وغيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، وإذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع وهو غاية ما يمكن أن ترتقي إليه النفس الإِنسانية البتة.
فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الأفراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا والغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره ولا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإِنسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة وأكبرهم جثة، ولم لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس جميعاً وأبلغهم والقرآن من كلامه الذي لا يسع لأحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفاً ليس لغيره فيه موضع قدم؟ فلا يكون عندئذ عجز غيره عن الإِتيان دليلاً على كونه كلاماً إلهياً غير بشري لجواز كونه كلاماً بشرياً مختصاً به صلى الله عليه وآله وسلم مضنوناً عن غيره. هذا.
ويدفعه أن الصفات الإِنسانية التي يقع فيها التفاضل وإن كانت على ما ذكر لكنها أياً ما كانت فهي مما تسمح بها الطبيعة الإِنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق ومن غير سبب يمكّن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.
وإذا كان كذلك وفرض فرد من الإِنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره ولا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل ويتعود بالتمرن والتدرب والارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال ويقلده في نبذة من أعماله وإن لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع ويماثله في الكل، ويبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة والسبقة والتقدم في ذلك فالحاتم مثلاً وإن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه وجوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه ويسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن ويتدرب فيه فيأتي بشيء من نوع سخائه وجوده وإن لم يقدر على مزاحمته في الجميع وفي أصل مقامه، والكمالات الإِنسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعاً هذا السبيل، ويتمكن الإِنسان بالتمرن والتدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها والإِتيان بشيء من أعمالهم وإن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.
فلو كان القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فرض أنه أبلغ إنسان وأفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شيء من الكلام وإتيان شيء من القول بسورة مثله وإن لم يقدر على تقليد القرآن كله والإِتيان بجميعه.
ولم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشري أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الإِتيان بذلك على كونه كلاماً لغير البشر، بل إنما قال: { فليأتوا بحديث مثله } { قل فأتوا بسورة مثله } وهكذا وفي وسع البشر الإِتيان بمثل كلام غيره من البشر وإن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى { مثله }.
قوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } إجابة الدعوة واستجابتها بمعنى.
والظاهر من السياق أن الخطاب في الآية للمشركين، وأنه من تمام كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أُمر بقوله تعالى: { قل } أن يلقيه إليهم، وعلى هذا فضمير الجمع في قوله: { لم يستجيبوا } راجع إلى الآلهة وكل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: { وادعوا من استطعتم من دون الله }.
والمعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من آلهتكم ومن بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام وعلماء أهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية وأخبار الأنبياء والأُمم والكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، وجهابذة العلم والفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإِنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أُنزل هذا القرآن بعلم الله ولم يختلق عن علمي أنا ولا غيري ممن تزعمون أنه يعلمني ويملي علي، واعلموا أيضاً أن ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لأمره؟
فقوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لكم } في معنى قولنا: فإن لم تقدرو على المعارضة بعد الاستعانة والاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، وذلك أن الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان وقريحة البلاغة وهم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله وكذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، ولهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، وأيضاً ما عند غير آلهتهم من المدد، وإذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم وارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية.
وقوله: { فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله } الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به وهو الغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى:
{ { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } [النساء: 166]، وقال: { { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [آل عمران: 44]، وقال: { { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [الجن: 26-27]، وقال: { { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين } [الواقعة: 77-79]. فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي وأنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى فهو الذي أنزله علي وكلمني به وأراد تفهيمي وتفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة وذخائر الهداية.
وذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أُنزل على علم من الله بنزوله وشهادة منه له، وذكر آخرون أن المراد أنه إنما أُنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه وترتيبه ولا يعلم غيره ذلك، وهذه معان واهية بعيدة عن الفهم.
والجملة أعني قوله: { إنما أُنزل بعلم الله } إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم. والنتيجة الأخرى قوله: { وأن لا إله إلا هو } ولزوم هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الإِله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه وخاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإِله المدعو فإن القرآن الذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقطع دابرهم ويميت ذكرهم ويصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على نفي ألوهيتهم.
وثانيهما: أنه إذا صح أن القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، ومما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.
وقوله: { فهل أنتم مسلمون } أي لما علمتم واتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله وعجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلّمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه وكون هذا القرآن كتاباً نازلاً بعلمه؟ وهو أمر بالإِسلام في صورة الاستفهام. هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.
وقيل: إن الخطاب في قوله: { فإن لم يستجيبوا لكم } الخ، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له وتفخيماً لشأنه وضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله وأن الله واحد فهل أنت مسلم لأمره.
وفيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع والكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم وأما الخطاب والغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
مضافاً إلى أن استناد الوحي الإِلهي والتكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دلالته على كونه كلاماً من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن وعجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الإِنسان والجن والملك وأي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أو عقل، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، وسيجيء البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى.
على أن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل قوله: { وأنه لا إله إلا هو }، وقوله: { فهل أنتم مسلمون } لا يخلو عن بشاعة. على أن نفس الاستدلال أيضاً غير تامّ كما سنبين.
وقيل: إن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين جميعاً أو للمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة الدينية والتحدّي بالقرآن الذي هو كتاب ربهم المنزل عليهم والمعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟
ولما تفطَّن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين وهم مؤمنون بالله وحده وبكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله وبأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أُنزل بعلم الله وازدادوا به إيماناً ويقيناً وأنه لا إله إلا هو ولا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإِخلاص فيه؟
وفيه أنه تقييد للآية من غير مقيّد والحجة غير تامة وذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة واستعانوا عليها بدعوة آلهتهم وسائر من يطمعون فيه من الجن والإِنس ثم عجزوا كان ذلك دليلاً واضحاً يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر وتمَّت بذلك الحجة عليهم، وأما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لأنهم لم يأتمروا بما أُمروا به بقوله: { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق وإنما كان قولهم: { افتراه } قولاً ناشئاً عن العناد واللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لأنهم كانوا آئسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لأنهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذراً.
وبالجملة عدم استجابة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للمؤمنين أو لهم جميعاً لا يدلّ بنفسه على كون القرآن نازلاً من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة وعدم استجابتهم لهم، ولم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، ومجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئاً، ولا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم ولم يستجب المشركون لكم أيها النبي ومعاشر المؤمنين فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله الخ، وهذا هو الذي أومأنا إليه آنفاً أنه تقييد للآية من غير مقيّد.
على أن فيه أمراً للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم ويقينهم بأمر فرضيّ غير واقع وكلامه تعالى يجلّ عن ذلك، ولو أُريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك وإن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم ولن يستجيبوا فاعلموا الخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى:
{ { وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين } [البقرة: 23-24]. قوله تعالى: { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } التوفية إيصال الحق إلى صاحبه وإعطاؤه له بكماله، والبخس نقص الأجر.
وفي الآية تهديد لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لما جاءهم ولا يسلمون له إيثاراً للحياة الدنيا ونسياناً للآخرة، وبيان لشيء من سنّة الأسباب القاضية عليهم باليأس من نعيم الحياة الآخرة.
وذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للإِنسان بالغاية التي أرادها به وعمله لأجلها، فإن كانت غاية دنيوية تصلح شؤون الحياة الدنيا من مال وجمال وحسن حال ساقه العمل - إن أعانته سائر الأسباب العاملة - إلى ما يرجوه بالعمل وأما الغايات الأخروية فلا خبر عنها لأنها لم تقصد حتى تقع، ومجرد صلاحية العمل لأن يقع في طريق الآخرة وينفع في الفوز بنعيمها كالبر والإِحسان وحسن الخلق لا يوجب الثواب وارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله ودار ثوابه.
ولذلك عقبه بقوله تعالى: { أُولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب وتبير وتهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، وتحبط جميع ما صنعوا فيها وتبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، ولذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى:
{ { ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها } [إبراهيم: 28-29]، وبذلك يظهر أن كلاً من قوله: { وحبط ما صنعوا فيها } وقوله: { وباطل ما كانوا يعملون } يفسر قوله: { أُولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } نوعاً ما من التفسير.
وبما تقدم يظهر أولاً: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها وإيصال الآثار التي لها بحسب نظام الأسباب والمسببات لا ما يقصده الفاعل بفعله ويرجوه بمسعاه فإن الذي يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التي تعينه سائر الأسباب العاملة عليها لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان فما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وقد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله:
{ { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } [الشورى: 20] فقال تعالى: { نؤته منها } ولم يقل: نؤته إياها، وقال في موضع آخر: { من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } [الإسراء: 18] فذكر ما يريده الإِنسان من الدنيا ويناله منها وزاد بياناً أنه ليس كل من يريد أمراً يناله ولا كل ما يراد ينال بل الأمر إلى الله سبحانه يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء ويقدم من يريد ويؤخر من يريد على ما تجري عليه سنّة الأسباب.
وثانياً: أن الآيتين أعني قوله: { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم } إلى آخر الآيتين تبينان حقيقة من الحقائق الإِلهية.
(بحث روائي)
في الكافي في قوله تعالى: { ألا إنهم يثنون صدورهم } الآية بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبي جعفر عليه السلام قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول البيت طأطأ أحدهم رأسه وظهره هكذا وغطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: { ألا إنهم يثنون } الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رزين قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه.
وفي المجمع روي عن علي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد عليهم السلام يثنوني على يفعوعل.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين وبنات وإخوة وأخوات وبني بنين وبني بنات وبني إخوة وبني أخوات والمعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا.
قال: وبكى فرق له المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"{ ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبّاً كالماء المنهمر إن قليل فقليلاً وإن كثير فكثيراً" ]. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمن له المسلمون.
قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن حاله فقال: من أحسن من خوّله حلالاً وأكثرهم مالاً.
وفي الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أُتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني.
أقول: والرواية غير ظاهرة في تفسير الآية.
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع:
"ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسَّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً فمن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حلّه، ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حلّه قصَّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه"
]. أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة والخاصة بطرق كثيرة.
وفي تفسير العياشي عن أبي الهذيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله قسَّم الأرزاق بين عباده وأفضل فضلاً كبيراً لم يقسّمه بين أحد قال الله: { واسألوا الله من فضله }.
أقول: والرواية مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدمت بعض ما في هذا المعنى من الأخبار في ذيل قوله تعالى:
{ { وترزق من تشاء بغير حساب } [آل عمران: 27] وقوله تعالى: { { واسألوا الله من فضله } [النساء: 32]. وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيراً ما يقول: اعلموا علماً يقيناً أن الله جل وعز لم يجعل للعبد وإن اشتدَّ جهده، وعظمت حيلته وكثرت مكايده أن يسبق ما سمّي له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ نقيراً بحذقه، ولن ينقص امرؤ نقيراً لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته والعالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلاً في مضرَّته، ورب منعم عليه مستدرج بالإِحسان إليه ورب مغرور في الناس مصنوع له.
فاتّق الله أيها الساعي عن سعيك، وقصّر من عجلتك، وانتبه من سنَّة غفلتك وتفكَّر فيما جاء عن الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. الحديث.
وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن علي بن الحسين يدع خلقاً أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إني لأعظنه.
فدنوت منه وسلَّمت عليه فردَّ عليَّ بنهر وهو ينصاب عرقاً فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عز وجل أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف إن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.
وفيه بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز وجل وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني به عن مثلك.
أقول: ولا منافاه بين القضاء بالرزق وبين الأمر بطلبه. وهو ظاهر.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد والترمذيّ وحسَّنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقيّ في الأسماء والصفات عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله اين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء.
أقول: العماء الغيم الذي يمنع نفوذ البصر فيه، و { ما } في قوله: (ما تحته هواء وما فوقه هواء) موصولة والمراد بالهواء هو الخالي من كل شيء كما في قوله تعالى: { وأفئدتهم هواء } أو أنها نافية والمراد بالهواء معناه المعروف، والمراد به أنه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات.
والرواية من أخبار التجسم ولذا وجه بأن قوله: في عماء "الخ" كناية عن غيب الذات الذي تكل عنه الأبصار وتتحير فيه الألباب.
وفيه أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء، وخلق السماوات الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يابن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني تركتها.
أقول: وروى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة وقال بريدة في آخرها: (ثم أتاني آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت والسراب ينقطع دونها فلوددت أني كنت تركتها) وهذا مما يوهن الحديثين.
وفيه في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } أخرج داود بن المحبّر في كتاب العقل وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال:
"ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً" ]. ثم قال: "وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله وأعلمكم بطاعة الله"
]. وفي الكافي مسنداً عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } قال: قال: ليس أكثر [كم ظ] عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإِصابة خشية الله والنية الصادقة.
ثم قال: الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل ألا إن النية هي العمل ثم تلا قوله عز وجل: { قل كل يعمل على شاكلته } يعني على نيته.
أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعني ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية.
وفي تفسير النعماني بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أُمة معدودة } قال: العذاب خروج القائم عليه السلام والأُمة المعدودة أهل بدر وأصحابه.
أقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي والقمي والعياشي في تفسيريهما عن علي والباقر والصادق عليهم السلام.
وفي المجمع قيل: إن الأُمة المعدودة هم أصحاب المهدي ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمي في قوله: { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } قال: قال: صبروا في الشدة وعملوا الصالحات في الرخاء.
وفي الدر المنثور في قوله: { من كان يريد الحياة الدنيا } أخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان يوم القيامة صارت أُمتي ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياء، وفرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، ويقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء فيقول: إنما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إليّ منها شيء ولا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار.
ويقول للذي كان يعبد الله خالصاً: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزتك وجلالك لأنت أعلم به مني كنت أعبدك لوجهك ولدارك قال: صدق عبدي انطلقوا به إلى الجنة"
].