التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
٦٣
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٦٤
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
٦٥
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
٦٦
وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٦٧
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٦٨
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٦٩
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
٧٠
قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ
٧١
قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
٧٢
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ
٧٣
قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ
٧٤
قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٧٥
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
٧٦
قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ
٧٧
قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٧٨
قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ
٧٩
فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
٨١
وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٨٢
-يوسف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تقتص رجوع إخوة يوسف عليه السلام من عنده إلى أبيهم وإرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من أُمه للاكتيال ثم مجيئهم ثانياً إلى يوسف وأخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.
قوله تعالى: { فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون } الاكتيال أخذ الطعام كيلاً إن كان مما يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا توليت له ذلك، وكلته الطعام إذا أعطيته كيلاً، واكتلت عليه إذا أخذت منه كيلاً، قال تعالى: { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس } يستوفون { وإذا كالوهم }.
وقوله: { قالوا يا أبانا منع منا الكيل } أي لو لم نذهب بأخينا ولم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله: { فأرسل معنا أخانا } فهو إجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل إن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصونه لأبيهم ويسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا ولا يحرموا.
وقولهم: { أخانا } إظهار رأفة وإشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم: { وإنا له لحافظون } بما فيه من التأكيد البالغ.
قوله تعالى: { قال هل آمنكم عليه إلا كما أمّنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } قال في المجمع: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمناً انتهى فقوله: { هل آمنكم عليه } الخ، أي هل أطمئن إليكم في ابني هذا إلا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.
ومحصله أنكم تتوقعون مني أن أثق فيه بكم وتطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم واطمأننت إليكم في أخيه من قبل وتعدونني بقولكم: { وإنا له لحافظون } أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم: { وإنا له لحافظون } وقد أمنتكم بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عني شيئاً وجئتم بقميصه الملطخ بالدم وقلتم: إن الذئب أكله وأمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغنى أمنه والاطمئنان إليه شيئاً ولا بيده حفظ ما سلم إليه وائتمن له.
وقوله: { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } تفريع على سابق كلامه: { هل آمنكم عليه } الخ، وتفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لغياً لا أثر له ولا يغني شيئاً فخير الاطمئنان والاتكال ما كان اطمئناناً إلى الله سبحانه من حيث حفظه، وإذا تردد الأمر بين التوكل عليه والتفويض إليه وبين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين.
وقوله: { وهو أرحم الراحمين } في موضع التعليل لقوله: { فالله خير حافظاً } أي إن غيره تعالى ربما أُمن في أمر وائتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن وضيع الأمانة لكنه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة ويترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه أمراً وتوكل عليه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن هنا يظهر أن مراده عليه السلام ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنه سبب مستقل في سببيّته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب وإن كان الأمر كذلك قال تعالى:
{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره } } [الطلاق: 3] كيف والاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء، وقد نص تعالى على أن يعقوب عليه السلام من المخلصين أهل الاجتباء وأنه من الأئمة الهداة المهديين، وهو عليه السلام يعترف في قوله: { إلا كما أمّنتكم على أخيه من قبل } أنه أمنهم على يوسف ولو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة. على أنه أمنهم على أخي يوسف أيضاً بعدما أعطوه موثقاً من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.
بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنه تعالى متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغشّ عباده المتوكلين عليه المسلمين له أُمورهم فإنه رؤوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم ويجمع الجميع أنه أرحم الراحمين على أنه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيئته، وأما الناس إذا آمنوا على أمر واطمئن إليهم في شيء فإنهم أسراء الأهواء وملاعب الهوسات النفسانية ربما أخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه ولا يخونوه وربما خانوا ولم يحفظوا. على أنهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وإرادة.
وبالجملة مراده عليه السلام أن الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه واطمأن فيه إليه بخلاف الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة ولم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه، ولذلك لما كلف بنيه ثانياً أن يؤتوه موثقاً من الله قال: { أن تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ وهو حفظه إذا أُحيط بهم فإنه فوق استطاعتهم ومقدرتهم وليسوا بمسؤولين عنه، وإنما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل والنفي ونحو ذلك فافهم ذلك.
ومما تقدم يظهر أن في قوله عليه السلام: { وهو أرحم الراحمين } نوع تعريض لهم وتلويح إلى أنهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلاً - في أمر يوسف حين أمّنهم عليه، والآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.
قوله تعالى: { ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم } إلى آخر الآية. أي لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وكان ذلك دليلاً على إكرام العزيز لهم وأنه غير قاصد بهم سوءاً وقد سلم إليهم الطعام ورد إليهم الثمن فكان ذهابهم الى مصر للامتيار خير سفر نفعاً ودراً راجعوا أباهم وقالوا: يا أبانا ما الذي نطلب من سفرنا الى مصر وراء هذا؟ فقد أُوفي لنا الكيل ورد إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمناً.
وقوله: { يا أبانا ما نبغي } البغي هو الطلب ويستعمل كثيراً في الشر ومنه البغي بمعنى الظلم والبغي بمعنى الزنا، وقال في المجمع: الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد ويقال: مرتهم أميرهم ميراً: إذا أتيتهم بالميرة، ومثله: امترتهم امتياراً. انتهى.
فقولهم: { يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا } أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في أمن من العزيز وهم يحفظونه كما وعدوه ولذلك عقبوه بقولهم { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير } أي سهل.
وربما قيل: إن { ما } في قوله { ما نبغي } للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز وإكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا، وكذا قيل: إن اليسير بمعنى القليل أي إن الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.
قوله تعالى: { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } الموثق بكسر الثاء ما يوثق به ويعتمد عليه، والموثق من الله هو أمر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله وإيتاء موثق إلهي وإعطاؤه هو أن يسلط الإِنسان على أمر إلهي يوثق به كالعهد واليمين بمنزلة الرهينة، والمعاهد والمقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله وحرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، ولو لم يف بما قال خسر في رهينته وهو مسؤل عند الله لا محالة.
والإِحاطة من حاط بمعنى حفظ ومنه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان ليحفظه والله سبحانه محيط بكل شيء أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج ولا شيء من أجزائه من قدرته، وأحاط به البلاء والمصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، ومنه قولهم: أُحيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة والخلاص قال تعالى:
{ { وأُحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } } [الكهف: 43]، وقال: { { وظنوا أنهم أُحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين } } [يونس: 22] ومنه قوله في الآية: { إلا أن يحاط بكم } أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة وقدرة فلا يسعكم الإتيان به إلي.
والوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، وتوكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، والتوكل عليه اعتماده والاطمئنان إليه في أمر، وتوكيله تعالى والتوكل عليه في الأُمور ليس بعناية أنه خالق كل شيء ومالكه ومدبره بل بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها والأفعال إلى فواعلها وملكها إياها بنحو من التمليك وهى فاقدة للأصالة والاستقلال في التأثير والله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإِنسان أمراً وتوصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر وينفى الاستقلال والأصالة عن نفسه وعن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه. فليس التوكل هو قطع الإِنسان أو نفيه نسبة الامور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه وعن الأسباب وإرجاع الاستقلال والأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه وإلى الأسباب.
ولذلك نرى أن يعقوب عليه السلام فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يبلغ الأسباب ولم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولاً بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقاً من الله ثم توكل على الله وكذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى.
فالله سبحانه على كل شيء وكيل من جهة الأُمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها وهى عاجزة عن القيام بها بحول وقوة، وأنه رب كل شيء من جهة أنه المالك المدبر لها.
ومعنى الآية: { قال } يعقوب لبنيه: { لن أرسله } أي أخاكم من أم يوسف { معكم حتى تؤتون } وتعطوني { موثقاً من الله } أثق به وأعتمد عليه من عهد أو يمين { لتأتنني به } واللام للقسم ولما كان إيتاؤهم موثقاً من الله إنما كان يمضي ويفيد فيما كان راجعاً إلى استطاعتهم وقدرتهم استثنى فقال { إلا أن يحاط بكم } وتسلبوا الاستطاعة والقدرة { فلما آتوه موثقهم } من الله { قال } يعقوب { الله على ما نقول وكيل } أي إنا قاولنا جميعاً فقلت وقلتم وتوسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلاً على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشيء فليأت به كما التزم وإن تخلف فليجازه الله وينتصف منه.
قوله تعالى: { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب عليه السلام إلى بنيه حين آتوه موثقاً من الله وتجهزوا واستعدوا للرحيل، ومن المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه وهم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفاً واحداً لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفاً واحداً وهم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.
وقوله بعده: { وما أُغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله } لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنه كان يخاف ذلك جداً فكأنه عليه السلام والله أعلم - أحس حينما تجهزوا للسفر واصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم وهم على هذه الهيئة الحسنة سيفرّق وينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإِجماع كذلك وحذّرهم عن الدخول من باب واحد وعزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم والنقص في عددهم.
ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سبباً أصيلاً مستقلاً - ولا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه - فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطباً لهم: { وما أغني عنكم من الله من شيء } ثم علله بقوله { إن الحكم إلا لله } أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة وتتوسلون به إلى السلامة والعافية ولا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً ولا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقاً إلا لله بل هذه أسباب ظاهرية إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر.
ولذلك عقب كلامه هذا بقوله: { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء وتوكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب وفي سائر الأسباب التي أخذتها في أُموري، وعلى هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإِدارة أموره ولا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه ان يلتجئ في أموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شيء الغالب الذي لا يغلبه شيء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وقد تبين بالآية أولاً معنى التوكل وأنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل والموكل.
وثانياً: إن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير ويكون ذلك منه جرياً في سبيل الرشد والصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي والجهل.
وثالثاً: إن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الامور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شيء وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله: { وعلى الله فليتوكل المتوكلون }.
قوله تعالى: { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } إلى آخر الآية. الذي يعطيه سياق الآيات السابقة واللاحقة والتدبر فيها - والله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، وإنما اتخذ يعقوب عليه السلام هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرَّسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم وتنقص من عددهم كما أُشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة وهى الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء وكان قضاء الله سبحانه ماضياً فيهم وأخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقت الصواع وانفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر وأدى ذلك إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شيء.
لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب عليه السلام فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره وأدى إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم بعينه سبباً لوصول يعقوب إلى يوسف عليهما السلام فإن يوسف أخذ أخاه إليه ورجع سائر الإِخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه ويتذللون لعزته فعرفهم نفسه وأشخص أباه وأهله إلى مصر فاتصلوا به.
فقوله: { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة ان يغني عنهم من الله شيئاً البتة ويدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أُخذ منهم واحد وفارقهم ولزم أرض مصر آخر وهو كبيرهم.
وقوله: { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } قيل: إن { إلا } بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده وهو يوسف.
ولا يبعد أن يكون { إلا } استثنائية فإن قوله: { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئا ولم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب وقوله: { قضاها } استئناف وجواب سؤال كأن سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاجيب بقوله: { قضاها }.
وقوله: { وإنه لذو علم لما علمناه } الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه وظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي وقد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإِلهية، ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إذ لو كان من العلم الاكتسابى الذي يحكم بالأسباب الظاهرية ويتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس واهتدوا إليه.
والجملة: { وإنه لذو علم لما علمناه } الخ، ثناء على يعقوب عليه السلام والعلم الموهبى لا يضل في هدايته ولا يخطئ في إصابته والكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب عليه السلام من البلاء وتوسل به من الوسيلة وحاجته في يوسف في نفسه لا ينساها ولا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: { وإنه لذو علم لما علمناه } الخ، تصديقاً ليعقوب عليه السلام فيما قاله لبنيه وتصويباً لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر وتوكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات وللمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله: { ما كان يغني عنهم } إلى قوله { قضاها } أنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو إصابة عين وكان يعقوب عليه السلام عالماً بأن الحذر لا يدفع القدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه واذهب به القلق عن نفسه.
وقول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.
وقول بعضهم: إن معنى قوله: { وإنه لذو علم لما علمناه } الخ أنه لذو يقين ومعرفة بالله لأجل تعليمنا إياه ولكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.
وقول بعضهم: إن اللام في { لما علمناه } للتقوية والمعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئاً وهو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.
قوله تعالى: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون } الإِيواء إليه ضمه وتقريبه منه في مجلسه ونحوه، والابتئاس اجتلاب البؤس والاغتمام والحزن، وضمير الجمع للإِخوة.
ومعنى الآية: { ولما دخلوا على يوسف } بعد دخولهم مصر { آوى } وقرب { إليه أخاه } الذي أمرهم أن يأتوا به إليه وكان أخاً له من أبيه وأمه { قال } له { إني أنا أخوك } أي يوسف الذي فقدته منذ سنين - والجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر { فلا تبتئس } ولا تغتم { بما كانوا } أي الإِخوة { يعملون } من أنواع الأذى والمظالم التي حملهم عليها حسدهم لي ولك ونحن أخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد لحبسك عندي.
وظاهر السياق أنه عرفه نفسه بإسرار القول إليه وسلاه على ما عمله الإِخوة وطيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أن معنى قوله: إني أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - وقد كان أخبره أنه كان له أخ من أُمه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من أمه - ولم يعترف يوسف له بالنسب ولكنه أراد أن يطيب نفسه.
وذلك أنه ينافيه ما في قوله: { إني أنا أخوك } من وجوه التأكيد وذلك إنما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنه هو يوسف. على أنه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإِخوته عند تعريفهم نفسه: { أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا } فإنه إنما يناسب ما إذا علم أخوه أنه أخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى.
قوله تعالى: { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } السقاية الظرف الذي يشرب فيه، والرحل ما يوضع على البعير للركوب، والعير القوم الذين معهم أحمال الميرة وذلك اسم للرجال والجمال الحاملة للميرة وإن كان قد يستعمل في كل واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.
ومعنى الآية ظاهر وهذه حيلة احتالها يوسف عليه السلام لياخذ بها أخاه إليه كما قصه وفصله الله تعالى وجعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه وهما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.
وقوله: { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } الخطاب لإِخوة يوسف وفيهم أخوه لأُمه، ومن الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، وفي القرآن منه شيء كثير، وهذا الأمر الذي سمي سرقه وهو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم وهو أخو يوسف لأمه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزاً لخطابهم جميعاً بأنكم سارقون فإن معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أن السقاية مفقودة وهى عند بعضكم ممن لا يتعين إلا بعد الفحص والتفتيش.
ومن المعلوم من السياق أن أخا يوسف لأمه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه ولذلك لم يتكلم من أول الأمر إلى آخره ولا بكلمة ولا نفى عن نفسه السرقة ولا اضطرب كيف؟ وقد عرَّفه يوسف أنه أخاه وسلاه وطيب نفسه فليس إلا أن يوسف عليه السلام كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، وأنه إنما يريد بتسميته سارقاً وإخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه ويأخذه إليه فتسميته سارقاً إنما كان اتهاماً في نظر الإِخوة وأما بالنسبة إليه وفي نظره فلم يكن تسمية جدية وتهمة حقيقية بل توصيفاً صورياً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.
فنسبة السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلاً المحرم شرعاً، على أن القائل هو المؤذن الذي أذن بذلك.
وذكر بعض المفسرين: إن القائل: إنكم لسارقون. بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره ولم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.
وقال بعضهم: إن يوسف عليه السلام أمر المنادي أن ينادي به ولم يرد به سرقة الصاع، وإنما عنى به أنكم سرقتم يوسف من أبيه وألقيتموه في الجب، ونسب ذلك إلى أبي مسلم المفسر.
وقال بعضهم: إن الجملة استفهامية، والتقدير: أإنكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، ولا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.
قوله تعالى: { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } الفقد - كما قيل - غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، والضمير في قوله: { قالوا } للإِخوة وهم العير، وقوله: { ماذا تفقدون } مقول القول والضمير في قوله: { عليهم } ليوسف وفتيانه كما يدل عليه السياق.
والمعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف وفتيانه: ماذا تفقدون؟ وفي السياق دلالة على أن المنادي إنما ناداهم من ورائهم وقد أخذوا في السير.
قوله تعالى: { قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } الصواع بالضم السقاية وقيل: إن الصواع هو الصاع الذي يكال به، وكان صواع الملك إناء يشرب فيه ويكال به ولذلك سمى تارة سقاية وأُخرى صواعاً، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، ولذلك قال: { ولمن جاء به } وقال: { ثم استخرجها }.
والحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، وقد ذكر الراغب أن الأثقال المحمولة في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء، والأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء.
وقال في المجمع: الزعيم والكفيل والضمين نظائر والزعيم أيضاً القائم بأمر القوم وهو الرئيس.
ولعل القائل: { نفقد صواع الملك } هو فتيان يوسف والقائل: { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } يوسف عليه السلام نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإِعطاء والمنع والضمانة والكفالة والحكم، ويعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف وفتيانه أما فتيانه فقالوا: نفقد صواع الملك، وأما يوسف فقال: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم، وهذه جعالة.
وظاهر بعض المفسرين: أن قوله: { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } تتمة قول المؤذن: { أيتها العير إنكم لسارقون } وعلى هذا فقوله: { قالوا وأقبلوا عليهم } إلى قوله { صواع الملك } معترض.
قوله تعالى: { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين } المراد بالأرض أرض مصر وهى التي جاؤوها ومعنى الآية ظاهر.
وفي قولهم: { لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } دلالة على أنهم فتشوا وحقق في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف عليه السلام بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس وعيوناً أو نازلين بها لأغراض فاسدة اخرى فسئلوا عن شأنهم ومحلهم ونسبهم وأمثال ذلك، وبه يتأيد ما ورد في بعض الروايات أن يوسف أظهر لهم أنه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم ومكانهم وأهلهم وعند ذلك ذكروا أن لهم أباً شائخاً وأخًا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، وسيأتي في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى.
وقولهم: { وما كنا سارقين } نفي أن يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.
قوله تعالى: { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أي قال فتيان يوسف أو هو وفتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.
والكلام في قولهم: { إن كنتم كاذبين } في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم: { إنكم لسارقون } وقد تقدم.
قوله تعالى: { قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين } مرادهم أن جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أن من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ما له وهكذا كان حكمه في سنة يعقوب عليه السلام كما يدل عليه قولهم: { كذلك نجزي الظالمين } أي هؤلاء الظالمين وهم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: { جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } للدلالة على أن السرقة إنما يجازى بها نفس السارق لا رفقته وصحبه وهم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة إلا السارق بعينه من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين ورحالهم ثم للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.
قوله تعالى: { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه } فيه تفريع على ما تقدم أي أخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبهوا ويتفطنوا أنه هو الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه وعند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله.
قوله تعالى: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } إلى آخر الآية: الإِشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأمه من عصبة إخوته، وقد كان كيداً لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا ويتفطنوا به ولو علموا لما رضوا به ولا مكنوه منه، وهذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى أخذ أخيه. ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال: { كذلك كدنا ليوسف }.
وليس كل كيد بمنفي عنه تعالى، وإنما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم ونظيره المكر والإِضلال والاستدراج وغيرها.
وقوله: { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للسبب الداعي إلى الكيد، وهو أنه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، ولم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في أرض مصر طريق يؤدى إلى أخذه، ولا أن السرقة حكمها استعباد السارق ولذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثم إعلام أنهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أن جزاء السرق عندهم أخذ السارق واستعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.
وعلى هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا في حال يشاء الله ذلك وهو هذا الحال الذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.
ومن هنا يظهر أن الاستثناء يفيد أنه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء وهو أشق، وكان ذلك متداولاً في كثير من السنن القومية وسياسات الملوك.
وقوله: { نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم } امتنان على يوسف عليه السلام بما رفعه الله على إخوته، وبيان لقوله: { كذلك كدنا ليوسف } وكان امتناناً عليه.
وفي قوله: { وفوق كل ذي علم عليم } بيان أن العلم من الأمور التي لا يقف على حد ينتهي إليه بل كل ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.
وينبغي أن يعلم أن ظاهر قوله: { ذي علم } هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظه { ذي } من الدلالة على المصاحبة والمقارنة فالله سبحانه وعلمه الذي هو صفة ذاته عين ذاته، وهو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.
على أن الجملة { وفوق كل ذي علم عليم } إنما تصدق فيما أمكن هناك فرض { فوق } والله سبحانه لا فوق له ولا تحت له ولا وراء لوجوده ولا حد لذاته ولا نهاية.
ولا يبعد أن يكون قوله: { وفوق كل ذي علم عليم } إشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه أُورد في هيئة النكرة صوناً للسان عن تعريفه للتعظيم.
قوله تعالى: { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف عليه السلام لأبيه، ولذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا من أُم واحدة، والمعنى أنهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه كان له أخ وقد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما ونحن مفارقوهما في الأم.
وفي هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً: { وما كنا سارقين } لأنهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعاً وإلا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم: { فقد سرق أخ له من قبل } يناقضه وهو ظاهر. على أنهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف وأخيه - ولعلهم لم يشعروا به - وهذا يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم.
وبهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف: { أنتم شر مكاناً } كما أن الظاهر أن قوله: { أنتم شر مكاناً } إلى آخر الآية كالبيان لقوله: { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } وكما أن قوله: { ولم يبدها لهم } عطف تفسير لقوله: { فأسرّها يوسف في نفسه }.
والمعنى - والله أعلم - { فأسرها } أي أخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة ولم ينفه ولم يبين حقيقة الحال بل { أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } وكأن هناك قائلاً يقول: كيف أسرها في نفسه فأجيب أنه { قال أنتم شر مكانا } وأسوأ حالاً لما في أقوالكم من التناقض وفي نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة واجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإِكرام والإِحسان كله { والله أعلم بما تصفون } إنه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم ولم ينفه.
وذكر بعض المفسرين أن معنى قوله: { أنتم شر مكاناً } الخ: أنكم أسوأ حالاً منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم والله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.
وفيه: إن من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله: { أنتم شر مكاناً } لكن الكلام فيما تلقاه إخوته من قوله هذا والظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف عليه السلام وهو لا يريد أن يعرفهم نفسه، ولا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلا بما تقدم.
وربما ذكر بعضهم أن التي أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم هي كلمته: { أنتم شر مكاناً } فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله: { والله أعلم بما تصفون } وهذا بعيد غير مستفاد من السياق.
قوله تعالى: { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } سياق الآيات يدل على انهم إنما قالوا هذا القول لما شاهدوا أنه استحق الأخذ والاستعباد، وذكروا أنهم أعطوا أباهم موثقاً من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم ولا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، وكلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم، ويخلي عن سبيل أخيهم المتهم ليرجعوه إلى أبيه.
ومعنى الآية ظاهر، وفي اللفظ ترقيق واسترحام وإثارة لصفة الفتوة والإِحسان من العزيز.
قوله تعالى: { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون } رد منه عليه السلام لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً } إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس وأيس يأيس لغة، واستفعل مثل استيأس واستأيس. قال ويئس واستيأس بمعنى مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب.
والنجي القوم يتناجون الواحد والجمع فيه سواء قال سبحانه: { وقربناه نجياً } وإنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به، والمناجاة المسارة وأصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية، والنجوى يكون اسماً ومصدراً قال سبحانه: { واذ هم نجوى } أي يتناجون، وقال في المصدر: { إنما النجوى من الشيطان } وجمع النجي أنجية قال: وبرح الرجل براحاً إذا تنحى عن موضعه. انتهى.
والضمير في قوله: { فلما استيأسوا منه } ليوسف ويمكن أن يكون لأخيه والمعنى { فلما استيأسوا } أي إخوة يوسف { منه } أي من يوسف أن يخلي عن سبيل أخيه ولو بأخذ أحدهم بدلاً منه { خلصوا } وخرجوا من بين الناس إلى فراغ { نجياً } يتناجون في أمرهم أيرجعون إلى أبيهم وقد أخذ منهم موثقاً من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك ولا فائدة في إقامتهم؟ ماذا يصنعون؟.
{ قال كبيرهم } مخاطباً لسائرهم { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله } ألا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلا بأخيكم، { ومن قبل } هذه الواقعة { ما فرطتم } أي تفريطكم وتقصيركم { في } أمر { يوسف } عهدتم أباكم أن تحفظوه وتردوه إليه سالماً فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم أباكم أنه أكله الذئب.
{ فلن أبرح الأرض } أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى ولن أُفارق أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به { أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } فيجعل لي طريقاً إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لى كل باب وذلك إما بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.
أما أنا فأختار البقاء ههنا وأما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.
قوله تعالى: { ارجعوا إلى أبيكم وقولوا يا أبانا إن إبنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين } قيل المراد بقوله: { وما شهدنا إلا بما علمنا } أنا لم نشهد في شهادتنا هذه: { إن إبنك سرق } إلا بما علمنا من سرقته، وقيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته ويسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل وإنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته ويسترق؟ وإنما علم ذلك بقولكم، وأقرب المعنيين إلى السياق أولهما.
وقوله: { وما كنا للغيب حافظين } قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ ويسترق وإنما كنا نعتمد على ظاهر الحال ولو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا ولا أقدمنا على الميثاق.
والحق أن المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها ومعنى الآية إن ابنك سرق وما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا وما كنا نعلم أنه سرق السقاية وأنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك.
قوله تعالى: { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون } أي واسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل إنه سرق فاسترق.
فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - وبالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها وكان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر والرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، ولذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم: { وإنا لصادقون } أي فيما نخبرك من سرقته واسترقاقه لذلك، ونكلفك السؤال لإِزالة الريب من نفسك.