التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٨٣
وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
٨٤
قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ
٨٥
قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٦
يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٧
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
٩١
قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
-يوسف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر وإخبارهم إياه خبر أخي يوسف وأمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر وتحسسهم من يوسف وأخيه إلى أن عرفهم يوسف عليه السلام نفسه.
قوله تعالى: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم } في المقام حذف كثير يدل عليه قوله: { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا } إلى آخر الآيتين والتقدير ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمراً "الخ".
وقوله: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً } حكاية ما أجابهم به يعقوب عليه السلام ولم يقل عليه السلام هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به وحاشاه أن يكذب خبراً يحتف بقرائن الصدق وتصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، ولا رماهم بقوله: { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } رمياً بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط وتتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالاً وكذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف وكانت واقعته من تسويل نفساني منهم.
ومن هنا يظهر أنه عليه السلام لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر ولم يرجع إليه، ويشهد لذلك قوله: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً } فجمع في ذلك بين يوسف وأخيه وكبير الإِخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده ولا يوسف وأخاه معاً، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمراً.
فالمعنى - والله أعلم - أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.
ومن هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمراً فيما أظن، ليس في محله.
وقوله: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم } ترج مجرد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإِشارة إلى أن يوسف حى لم يمت - على ما يراه - وليس مشرباً معنى الدعاء، ولو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله: { إنه هو العليم الحكيم } بل بمثل قولنا: إنه هو السميع العليم أو الرؤوف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.
بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة وهذه الواقعة التي أخذت منى ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبراً وأرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً ويتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنه هو العليم بمورد الاجتباء وإتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الامور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإِنسان أن يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع ولا أن ييأس من روحه ورحمته.
والإِسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف عليهما السلام لأول مرة أول رؤياه فقال: { إن ربك عليم حكيم } ثم ذكرهما يوسف ليعقوب عليهما السلام ثانياً حيث رفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً فقال: { يا أبت هذا تأويل رؤياي } إلى أن قال { وهو العليم الحكيم }.
قوله تعالى: { وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن والغضب معاً، وقد يقال لكل واحد منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً - إلى أن قال - وقوله تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } أي أغضبونا قال أبو عبد الله الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا ولكن له أولياء يأسفون ويرضون فجعل رضاهم رضاه وغضبهم غضبه. قال وعلى ذلك قال: من أهان لى ولياً فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.
وقال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، والكظوم احتباس النفس ويعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، وكظم فلان حبس نفسه قال تعالى: { إذ نادى وهو مكظوم } وكظم الغيظ حبسه قال تعالى: { والكاظمين الغيظ }، ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وكظم السقاء شدة بعد ملئه مانعا لنفسه. انتهى.
وقوله: { وابيضت عيناه من الحزن } ابيضاض العين أي سوادها هو العمى وبطلان الإِبصار وربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي: { إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } الآية: 93 من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.
ومعنى الآية: { ثم تولى } وأعرض يعقوب عليه السلام { عنهم } أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمراً { وقال يا أسفي } ويا حزني { على يوسف وابيضت عيناه } وذهب بصره { من الحزن } على يوسف { فهو كظيم } حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشيء.
قوله تعالى: { قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين } الحرض والحارض المشرف على الهلاك وقيل: هو الذي لا ميت فينسى ولا حي فيرجى، والمعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، والحرض لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر.
والمعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف وتديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك، وظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله ورأفة به، ولعلهم إنما تفوهوا به تبرّماً ببكائه وسأمة من طول نياحه ليوسف، وخاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، وكان ظاهر بكائه وتأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: { إنما أشكو } الخ.
قوله تعالى: { قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } قال في المجمع: البث الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، وكل شيء فرقته فقد بثثته ومنه قوله: { وبث فيها من كل دابة } انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.
والحصر الذي في قوله: { إنما أشكوا } الخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكو بثي وحزني إليكم معاشر ولدي وأهلي، ولو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم وحزنهم عند المصائب، وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله سبحانه، ولا يأخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده ويبرمه أرباب الحوائج ويلحون عليه وأعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه ولا أقنط من رحمته.
وفي قوله: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.
قوله تعالى: { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } قال في المجمع: التحسس - بالحاء - طلب الشيء بالحاسة والتجسس - بالجيم - نظيره وفي الحديث:
"لا تحسسوا ولا تجسسوا" وقيل أن معناهما واحد ونسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر

"متى أدن منه ينأ عنه ويبعد"

. وقيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، وبالحاء الاستماع لحديث قوم وسئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير والتجسس في الشر. انتهى.
وقوله: { ولا تيأسوا من روح الله } الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب ويكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب وهى الراحة وذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصور اختناقاً وكظماً للإِنسان وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفساً وروحاً لقولهم يفرج الهمّ وينفس الكرب، فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله ومشيته، وعلى من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا قاهر لمشيئته ولا معقب لحكمه، وليس له أن ييأس من روح الله ويقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته وفي معنى الكفر بإحاطته وسعة رحمته كما قال تعالى حاكياً عن لسان يعقوب عليه السلام { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } وقال حاكياً عن لسان إبراهيم عليه السلام
{ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } } [الحجر: 56]، وقد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.
ومعنى الآية - ثم قال يعقوب لبنيه آمراً لهم - { يا بني اذهبوا فتحسسوا } من يوسف وأخيه الذي أُخذ بمصر وابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما { ولا تيأسوا من روح الله } والفرج الذي يرزقه الله بعد الشدة { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة وينفس عن كل كربة.
قوله تعالى: { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة } الخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، وفي الكلام حذف والتقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر ولما دخلوا على يوسف قالوا "الخ".
كانت لهم - على ما يدل عليه السياق - حاجتان إلى العزيز ولا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما واستجابته عليهم فيهما.
إحداهما: أن يبيع منهم الطعام ولا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم عرفوا بالكذب وسجل عليهم السرقة من قبل وهان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.
وثانيتهما: أن يخلي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، وقد استيأسوا منه بعدما كانوا ألحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.
ولذلك لما حضروا عند يوسف العزيز وكلموه وهم يريدون أخذ الطعام وإعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل والخضوع وبالغوا في رقة الكلام استرحاماً واستعطافاً فذكروا أولاً ما مسهم وأهلهم من الضر وسوء الحال ثم ذكروا قلة ما أتوا به من البضاعة ثم سألوه إيفاء الكيل، وأما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدق عليهم وإنما يتصدق بالمال والطعام مال وأخوهم المسترق مال العزيز ظاهراً ثم حرضوه بقولهم: { إن الله يجزي المتصدقين } وهو في معنى الدعاء.
فمعنى الآية: { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } وأحاط بنا جميعاً المضيقة وسوء الحال { وجئنا } إليك { ببضاعة مزجاة } ومتاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه نهاية ما في وسعنا { فأوف لنا الكيل وتصدق علينا } وكأنهم يريدون به أخاهم أو إياه والطعام { إن الله يجزي المتصدقين } خيراً.
وقد بدأوا القول بخطاب { يا أيها العزيز } وختموه بما في معنى الدعاء، وأتوا خلاله بذكر سوء حالهم والاعتراف بقلة بضاعتهم وسؤاله أن يتصدق عليهم وهو من أمر السؤال والموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته، وهم عصبة قد اصطفوا أمام عزيز مصر.
وعند ذلك تمت الكلمة الإِلهية أنه سيرفع يوسف وأخاه ويضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، ولذلك لم يلبث يوسف عليه السلام دون أن أجابهم بقوله: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } وعرفهم نفسه، وقد كان يمكنه عليه السلام أن يخبر أباه وأخوته مكانه وأنه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه ومعه أخوه المحسود موقف المذلة والمسكنة وهو مُتَّكٍ على أريكة العزة.
قوله تعالى: { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } إنما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت وأتدري وأرأيت ونحوها وهو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله ووبال ذنبه لكنه عليه السلام أعقب استفهامه بقوله: { إذ أنتم جاهلون } وفيه تلقين عذر.
فقوله: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ ومؤاخذة ليعرفهم من الله عليه وعلى أخيه وهذا من عجيب فتوة يوسف عليه السلام، ويا لها من فتوة.
قوله تعالى: { قالوا ءإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا } إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد قامت على تحقق مضمونها وإنما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب.
وقد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف ولذلك سألوه بقولهم: { ءإنك لأنت يوسف } مؤكداً بإن واللام وضمير الفصل فأجابهم بقوله: { أنا يوسف وهذا أخي } وإنما ألحق أخاه بنفسه ولم يسألوا عنه وما كانوا يجهلونه ليخبر عن مَنّ الله عليهما، وهما معاً المحسودان ولذا قال: { قد منّ الله علينا }.
ثم أخبر عن سبب المن الإِلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال: { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وفيه دعوتهم إلى الإِحسان وبيان أنه يتحقق بالتقوى والصبر.
قوله تعالى: { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } الإِيثار هو الاختيار والتفضيل، والخطأ ضد الصواب والخاطئ والمخطئ من خطأ خطأ وأخطأ إخطاء بمعنى واحد، ومعنى الآية ظاهر وفيها اعترافهم بالخطأ وتفضيل الله يوسف عليهم.
قوله تعالى: { قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } التثريب التوبيخ والمبالغة في اللوم وتعديد الذنوب، وإنما قيّد نفي التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحه وإغماضه عن الانتقام منهم والظرف هذا الظرف هو عزيز مصر أوتى النبوة والحكم وعلم الأحاديث ومعه أخوه وهم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة وأن الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أول يوم: { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين }.
ثم دعا لهم واستغفر بقوله: { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } وهذا دعاء واستغفار منه لإِخوته الذين ظلموه جميعاً وإن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتى: { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم } وسيجيء إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يحدّث قال: لما فقد يعقوب ويوسف عليهما السلام اشتد حزنه عليه وبكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن واحتاج حاجة شديدة وتغيرت حالته، وكان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين: للشتاء والصيف، وإنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت.
فلما دخلوا على يوسف وذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف ولم يعرفه إخوته لهيبة الملك وعزته فقال لهم: هلموا بضاعتكم قبل الرفاق، وقال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل واوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم ولا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف: قد بلغني أنه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا أما الكبير منهما فإن الذئب أكله، وأما الصغير فخلفناه عند أبيه وهو به ضنين وعليه شفيق. قال: فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون.
فلما رجعوا إلى أبيهم وفتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا وكيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.
فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب وبعث معهم بضاعة يسيرة وبعث معهم ابن يامين وأخذ عنهم بذلك موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا: نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به وهو في دار الملك قد خلا وحده فادخلوه عليه فضمه إليه وبكى وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل واكتم ما أخبرتك به ولا تحزن ولا تخف.
ثم أخرجه إليهم وأمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم ويعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك وارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف وفتيته فنادوا فيهم قال: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا وأقبلوا عليهم: ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك ولمن جاء به حميل بعير وأنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه.
قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٍ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً وقد أخذ علينا موثقاً من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين إن فعلت، قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إني لست أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي.
ومضى إخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية والعير حتى يخبروك بذلك فاسترجع واستعبر واشتد حزنه حتى تقوس ظهره.
وفيه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذي يشرب فيه.
أقول: وفي بعض الروايات أنه كان قدحاً من ذهب وكان يكتال به يوسف عليه السلام.
وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام وفي نسخة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قيل له وأنا عنده إن سالم بن حفصة روى عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج. قال ما يريد سالم مني؟ أيريد أن أجيء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون، ولقد قال إبراهيم: إني سقيم ووالله ما كان سقيما وما كذب، ولقد قال إبراهيم: بل فعله كبيرهم وما فعله كبيرهم وما كذب، ولقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون والله ما كانوا سرقوا وما كذب.
وفيه عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول الله في يوسف: { أيتها العير إنكم لسارقون } قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا وأقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى أنكم سرقتم يوسف من أبيه.
وفي الكافي بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا قد روينا عن أبي جعفر عليه السلام في قول يوسف { أيتها العير إنكم لسارقون } فقال: والله ما سرقوا وما كذب، وقال إبراهيم: { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } فقال: والله ما فعل وما كذب.
قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم قال: فقال: إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطو في الطرقات وأبغض الكذب في غير الإِصلاح، أن إبراهيم إنما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإِصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون، وقال يوسف إرادة الإِصلاح.
أقول: قوله عليه السلام إنه أراد الاصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنه أراد به سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريداً به معنى صحيحاً في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، والدليل على ذلك قوله عليه السلام إنه أراد الإِصلاح ودل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين وللفظ بحسب أحدهما - وهو الثاني - مطابق دون الآخر فافهمه وارجع إلى ما قدمناه في البيان.
وفي معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار أُخر مروية في الكافي والمعاني وتفسيري العياشي والقمي.
وفي تفسير العياشي عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا عليه السلام: في قول الله تعالى: { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } قال: كان لإِسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء والأكابر، وكانت عند عمة يوسف، وكان يوسف عندها وكانت تحبه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إلي وأرده اليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمه ثم أُرسله إليك غدوة فلما أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه وألبسته قميصاً فبعثت به إليه وقالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، وكان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس
"عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: في قوله: { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } قال: سرق يوسف عليه السلام صنماً لجده أبي أُمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته" .
أقول: والرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، وقد رويت بطرق اخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، ويؤيدها ما روى بغير واحد من طرق أهل البيت وطرق غيرهم: إن السجان قال ليوسف: إني لأحبك فقال: لا تحبني فإن عمتى أحبتني فنسبت إلى السرقة وأبي أحبني فحسدني إخوتي وألقوني في الجب، وامرأة العزيز أحبتني فألقوني في السجن.
وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { إنا نراك من المحسنين } قال: كان يوسف يوسع المجلس ويستقرض المحتاج ويعين الضعيف.
وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من الناس إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثم قال: مرحباً بخليل الرحمان فقال له يعقوب: لست بخليل الرحمان ولكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهمُّ والحزن والسقم.
قال: فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجداً عند عتبة الباب يقول: رب لا أعود فأوحى الله إليه إني قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئاً مما أصابه من نوائب الدنيا إلا أنه قال يوماً: { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون }.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من بث لم يصبر ثم قرأ { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله }"
]. أقول: ورواه أيضاً عن ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول يعقوب لبنيه: { اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } أنه كان يعلم أنه حىٌّ وقد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنه دعا في السحر وقد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال وهو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال: بل أقبضها متفرقة روحاً روحاً، قال: فمر بك روح يوسف؟ قال لا، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده: { اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه }.
أقول: ورواه في المعاني بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه عليه السلام وفيه: قال يعني يعقوب لملك الموت: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرقة وتعرض علي مجتمعة قال: فاسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال لا، فعند ذلك علم أنه حي.
وفي الدر المنثور أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره وابن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أنس
"عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: أتى جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرؤك السلام ويقول لك: أبشر وليفرح قلبك فوعزّتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاماً للمساكين فإن أحب عبادي الي الأنبياء والمساكين. وتدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين وهو صائم فلم تطعموه منه شيئاً" .
فكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء أمر منادياً ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب وإذا كان صائماً أمر منادياً فنادى ألا من كان صائماً من المساكين فليفطر مع يعقوب.
وفي المجمع في قوله تعالى: { فالله خير حافظاً } الآية: ورد في الخبر: إن الله سبحانه قال: فبعزَّتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.