التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
٦
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
٧
وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
٨
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
٩
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
١٠
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
١٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ
١٣
وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
١٤
وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
١٥
مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ
١٦
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
١٧
مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
-إبراهيم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله ونقمه في أيامه، وظاهر سياق الآيات أنها من كلام موسى عليه السلام غير قوله تعالى: { وإذ تأذن ربكم } الآية فهي حكاية قول موسى يذكّر فيها قومه ببعض أيام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته المطلقة من إنزال النعم والنقم، ووضع كل في موضعه الذي يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة.
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم } إلى آخر الآية، السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشيء فهو لفظ لمعنى يتركب من الذهاب والابتغاء فكأنه في الآية بمعنى إذاقة العذاب، والاستحياء استبقاء الحياة.
والمعنى واذكر أيها الرسول لزيادة التثّبت في أن الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه وهم بنو إسرائيل: { اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون وخاصة من القبط والحال أنهم مستمرون على إذاقتكم سوء العذاب ويكثرون ذبح الذكور من أولادكم وعلى استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق، وفي ذلكم بلاء ومحنة من ربكم عظيم }.
قوله تعالى: { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } قال في المجمع: التأذّن الإِعلام يقال: آذن وتأذّن ومثله أوعد وتوعّد. انتهى.
وقوله: { وإذ تأذن ربكم } الخ معطوف على قوله: { وإذ قال موسى لقومه } وموقع الآية التالية: { وقال موسى } الخ، من هذه الآية كموقع قوله: { ولقد أرسلنا موسى } الخ، من قوله: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } الخ، فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.
وذكر بعضهم أنه داخل في مقول موسى وليس بكلام مبتدء وعليه فهو معطوف على قوله: { نعمة الله عليكم } والتقدير: اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا إذ تأذّن ربكم الخ، وفيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم وإذ تأذّن ربكم الخ، لما فيه من رعاية حكم الترتيب.
وقيل: إنه معطوف على قوله: { إذ أنجاكم } والمعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذَّن ربكم، فإن هذا التأذّن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا والآخرة.
وفيه أن هذا التأذن ليس إلا نعمة للشاكرين منهم خاصة وأما غيرهم فهو نقمة عليهم وخسارة فنظمه في سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.
فالظاهر أنه كلام مبتدأ وقد بيّن تعالى هذه الحقيقة أعني كون الشكر - الذي حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكِّر إنعام المنعم ويظهر إحسانه ويؤول في مورده تعالى إلى الإِيمان به والتقوى - موجباً لمزيد النعمة والكفر لشديد العذاب، في مواضع من كلامه، وقد حكى عن نوح فيما ناجى ربه ودعا على قومه:
{ { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين } [نوح: 10ـ12] الخ. ومن لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية - كما ذكره بعضهم - اشتمالها على التصريح بالوعد والتعريض في الوعيد حيث قال: { لأزيدنَّكم } وقال: { إن عذابي لشديد } ولم يقل: لاعذبنكم وذلك من دأب الكرام في وعدهم ووعيدهم غالباً.
والآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد والوعيد بالدنيا ولا بالآخرة، وتأثير الإِيمان والكفر والتقوى والفسق في شؤون الحياة الدنيا والآخرة معاً معلوم من القرآن.
وقد استدلّ بالآية على وجوب شكر المنعم، والحق أن الآية لا تدلّ على أزيد من أن الكافر على خطر من كفره فإن الله سبحانه لم يصرّح بفعلية العذاب على كل كفر إذ قال: { ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } ولم يقل: لاعذبنكم.
قوله تعالى: { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من الزيادة على الشكر والعذاب على الكفر على ما تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسى عليه السلام ما يجري مجرى التنظير فقال: { وقال موسى } والكلام جارٍ على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.
وأما أن الله غني وإن كفر من في الأرض جميعاً فإنه غني عن كل شيء، فلا ينتفع بشكر ولا يتضرر بكفر، وإنما يعود النفع والضرر إلى الإِنسان فيما أتى به، وأما أنه حميد فلأن الحمد هو إظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال والحسن وفعله تعالى حسن جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه وإخفاؤه، فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.
على أن كل شيء يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال تعالى:
{ { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [الإسراء: 44]، فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه، وله كل الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.
قوله تعالى: { ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود } إلى آخر الآية. من كلام موسى عليه السلام يذكّر قومه من أيام الله في الأمم الماضين ممن فنيت أشخاصهم وخمدت أنفاسهم وعفت آثارهم وانقطعت أخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلاً إلا الله كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم.
ومن هنا يعلم أولاً: أن المراد بالنبأ، في قوله: { ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم } خبر هلاكهم وانقراضهم، فإن النبأ هو الخبر الذي يعتنى بأمره فلا ينافي ما يتعقبه من قوله: { لا يعلمهم إلا الله }.
وثانياً: أن قوله: { قوم نوح وعاد وثمود }، من قبيل ذكر الأمثلة، وأن قوله: { لا يعلمهم إلا الله } بيان لقوله: { من قبلكم } والمراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل بحقيقة حالهم وعدم الإِحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم.
ومن الممكن أن يكون قوله: { لا يعلمهم إلا الله } اعتراضاً وإن كان ما ذكرناه أنسب للسياق، وأما احتمال أن يكون خبرا لقوله: { والذين من بعدهم } كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة، وأسخف منه تجويز بعضهم أن يكون حالاً من ضمير من بعدهم وكون قوله: { جاءتهم رُسلهم } خبراً لقوله: { والذين من بعدهم }.
وقوله: { جاءتهم رُسلهم بالبينات فردُّوا أيديهم في أفواههم } الظاهر أن المراد به أن رُسلهم جاؤوهم بحجج بيّنة تبين الحق وتجليه من غير أي إبهام وريب فمنعوهم أن يتفوَّهوا بالحق وسدُّوا عليهم طريق التكلم.
فالضميران في { أيديهم } و{ أفواههم } للرسل، وردّ أيديهم في أفواههم كناية عن إجبارهم على أن يسكتوا ويكفُّوا عن التكلم بالحق كأنهم أخذوا بأيدي رسلهم وردُّوها في أفواههم إيذاناً بأن من الواجب عليكم أن تكفوا عن الكلام، ويؤيده قوله بعد: { وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } فإن دعوى الشك والريب قبال الحجة البيِّنة والحق الصريح الذي لا يبقي مجالاً للشك لا تتحقق إلا من جاحد مكابر متحكم مجازف لا يستطيع أن يسمع كلمة الحق فيجبر قائلها على السكوت والصمت.
وللقوم في معنى الآية أقوال أُخر:
منها: قول بعضهم المعنى أن الكفار ردُّوا أيديهم في أفواه الرسل تكذيباً لهم وردّاً لما جاؤوا به، فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل، وفيه أنه مستلزم لاختلاف مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة.
ومنها: أن المراد أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم مومين به إلى الرسل أن اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا أراد إسكاته، فالضميران معاً للكفار.
ومنها: أن المعنى عضُّوا أصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل، فالضميران للكفار كما في الوجه السابق وفيه أنه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ.
ومنها: أن المراد بالأيدي الحجج وهي إما جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجة بمنزلة اليد التي بها البطش والدفع، وإما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعماً منهم على الناس والمعنى أنهم ردُّوا حجج الرسل إلى أفواههم التي خرجت منها.
وقريب من هذا الوجه قول بعضهم: إن المراد بالأيدي نعم الرسل وهي أوامرهم ونواهيهم والضميران أيضاً للرسل، والمعنى أنهم كذبوا الرسل في أوامرهم ونواهيهم.
وقريب منه أيضاً قول آخرين: إن المراد بالأيدي النعم، وضمير "أيديهم" للرسل، و"في" في قوله { في أفواههم } بمعنى الباء والضمير للكفار والمعنى كذَّب الكفار بأفواههم نعم الرسل وهي حججهم.
وأنت خبير بأن هذه معان بعيدة عن الفهم يجلّ كلامه تعالى أن يحمل عليها وعلى أمثالها.
وأما قوله: { وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } فهو نحو بيان لقوله: { فردُّوا أيديهم في أفواههم } والجملة الأولى أعني قولهم: { إنا كفرنا بما أُرسلتم به } إنكار للشريعة الإِلهية التي هي متن الرسالة، والجملة الثانية أعني قولهم: { وإنا لفي شك } الخ... إنكار لما جاؤوا به من الحجج والبيِّنات وإظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه وهو توحيد الربوبية.
قوله تعالى: { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمّى } أصل الفطر على ما ذكره الراغب الشقّ طولاً يقال: فطرت الشيء فطراً أي شققته طولاً، وأفطر الشيء فطوراً وانفطر انفطاراً أي قبل الفطر، واستعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الإِيجاد بنوع من العناية كأنه تعالى شق العدم شقاً فأظهر من بطنه الأشياء فهي ظاهرة ما أمسك هو تعالى على شقي العدم موجودة ما كان ممسكاً لها ولو ترك الإِمساك لانعدمت وزالت كما قال تعالى:
{ { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أَمسكهما من أحد من بعده } } [فاطر: 41]. وعلى هذا فتفسير الفطر بالخلق الذي هو جمع الأجزاء والأبعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما ينبغي، ويؤيد ذلك أن الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان الذي أُشير إليه بقوله: { فاطر السماوات والأرض } مسوقاً لإِثبات وجود الخالق فكان أجنبياً عن المقام لأن الوثنية لا تنكر وجود خالق للعالم وأنه هو الله عزّ اسمه لا غير، وإنما ينكرون توحيد الربوبية والعبادة وهو أن يكون الله سبحانه هو الربّ المعبود لا غير، والبرهان على كونه تعالى خالقاً للسماوات والأرض لا ينفع فيه شيئاً.
وكيف كان فقوله: { قالت رسلهم أفي الله شك } الخ، كلام قوبل به قولهم: { قالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } وقد عرفت أن قولهم هذا يتضمن إنكارين: إنكارهم للرسالة وتشككهم في توحيد الربوبيّة فكلام الرسل المورد جواباً منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين.
فقولهم: { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } برهان على توحيد الربوبية إذ لو سيق لمجرد الإِنكار على الكفار من غير إشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى ذكر الوصف { فاطر السماوات والأرض }، ففي ذكره دلالة على أنه مزيل كل شك وريب عنه تعالى.
وذلك أنا نرى في أول ما نعقل أن لهذا العالم المشهود الذي هو مؤلف من أشياء كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من غيره وجوداً، وليس وجوده ولا وجود شيء من أجزائه من نفسه وقائماً بذاته وإلا لم يتغير ولم ينعدم فوجوده ووجود أجزائه وكذا كل ما يرجع إلى الوجود من الصفات والآثار من غيرها ولغيرها وهذا الغير هو الذي نسمّيه "الله" عز اسمه.
فهو تعالى الذي يوجد العالم وكل جزء من أجزائه ويحده ويميزه من غيره فهو في نفسه موجود غير محدود وإلا لاحتاج إلى آخر يحدده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة لأن ما لا يحد بحد لا يقبل الكثرة.
وهو بوحدته يدبّر كل أمر كما أنه يوجده لأنه هو المالك لوجودها والكل أمر يرجع إلى وجودها، ولا يشاركه غيره في شيء لأن شيئاً من الموجودات غيره لا يملك لنفسه ولا لغيره فهو تعالى ربّ كل شيء لا ربّ غيره، كما أنه موجد كل شيء لا موجد غيره.
وهذا برهان تام سهل التناول حتى للأفهام البسيطة يناله الإِنسان الذي يذعن بفطرته أن للعالم المشهود حقيقة وواقعية من غير أن يكون وهماً مجرداً كما يبديه السفسطة والشك، ويثبت به توحد الالوهية والربوبية، ولذلك تمسك به في هذا المقام الذي هو مقام خصام الوثنية.
ومن هنا يظهر فساد زعم من زعم أن قوله: { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } حجة مسوقة لإِثبات خالق للعالم، وكذا قول من قال: إنه دليل اتصال التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان عليه تعالى من جهة قيام وجود كل شيء وآثار وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية ويزول به ما أيدوه من الشك بقولهم:
{ { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } } [إبراهيم: 9]. ثم قولهم: { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى }، إشارة إلى برهان النبوَّة التي أنكروها بقولهم: { إنا كفرنا بما أُرسلتم به } يريدون به دين الرسل والشريعة السماوية بالوحي.
وبيانه أن من سنته تعالى الجارية هداية كل شيء إلى كماله وسعادته النوعية، والإِنسان أحد هذه الأنواع المشمولة للهداية الإِلهية فمن الواجب في العناية الإِلهية أن يهتدي إلى سعادة حياته. ولكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا ولا منقطعة بالموت، وسعادته في الحياة أن يعيش في الدنيا عيشة مطمئنة على أساس تعديل قواه في التمتع من أمتعة الحياة من مأكول ومشروب ولباس ونكاح وغير ذلك وهي الأعمال الصالحة، وفي الآخرة أن يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحق والعمل الصالح.
وهو وإن كان مجهزاً بفطرة تذكّره حقّ الاعتقاد وصالح العمل لكنه مجبول من جهة أخرى على العيشة الاجتماعية التي تدعوه إلى اتباع الأهواء والظلم والفسق، فمجرد ذكرى الفطرة لا يكفي في حمله على سنّة حقّة عادلة تحصل له الاستقامة في الاعتقاد والعمل، وإلا لم يفسد المجتمع الإِنساني ولا واحد من أجزائه قطّ وهم مجهزون بالفطرة.
فمن الواجب في العناية أن يمد النوع الإِنساني مع ما له من الفطرة الداعية إلى الصلاح والسعادة بأمر آخر تتلقى به الهداية الإِلهية وهو النبوَّة التي هي موقف إنساني طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحق والعمل الصالح بوحي إلهي وتكليم غيبيّ يضمن اتباعه سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
أما سعادة الدنيا فلما تقدم كراراً أن بين المعاصي والمظالم وبين النكال والعقوبة الإِلهية التي تنتهي إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع وداموا على الصلاح الفطري لم يختر منهم الهلاك ولم يفاجئهم النكال وعاشوا ما قدر لهم من الآجال الطبيعية. والعيشة المغبوطة.
وأما سعادة الآخرة فلأن اتباع الدعوة الإِلهية وبعبارة أخرى الإِيمان والتقوى يحليان النفس بالهيئة الصالحة ويذهبان بدرن النفس الذي هو الذنوب بمقدار الاتباع.
فربوبيته تعالى لكل شيء المستوجبة لتدبيرها أحسن تدبير وهدايته كل نوع إلى غايته السعيدة تستدعي أن تعني بالناس بإرسال رسل منهم إليهم ودعوته الناس بلسان رسله إلى الإِيمان والعمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالتخلص عن النكال والعقوبة القاضية عليهم، وأما في الآخرة فبالمغفرة الإِلهية بمقدار ما تلبَّسوا به من الإِيمان والعمل الصالح.
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن قوله تعالى حاكياً عن الرسل: { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمّى } إشارة منهم عليهم السلام إلى حجة النبوَّة العامة، وأن قول: { ليغفر لكم } الخ، إشارة إلى غاية الدعوة الاخروية وقوله: { ويؤخركم } الخ إشارة إلى غايتها الدنيوية، وقدم ما للآخرة على ما للدنيا لأن الآخرة هي المقصودة بالذات وهي دار القرار.
وقد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحق تجاه قول الكفار { تدعوننا إليه } حيث نسبوها إلى الرسل، وقوله: { من ذنوبكم } ظاهر في التبعيض، ولعله للدلالة على أن المغفرة على قدر الطاعة، والمجتمع الإِنساني لا يخلو عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتة، فالمغفور على أي حال بعض ذنوب المجتمع لا جميعها فافهم ذلك.
وربما ذكر بعضهم أن المراد به أنه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس، ورد بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الإِسلام يجبّ ما قبله.
وربما قيل: إن "من" زائدة وأيد بقوله تعالى في موضع آخر: { يغفر لكم ذنوبكم } بدون من. وفيه أن من إنما يزاد في النفي دون الإِثبات كقولهم: ما جاءني من رجل وتدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل. على أن مورد الآيتين مختلف فإن قوله: { يغفر لكم ذنوبكم } الظاهر في مغفرة الجميع إنما هو في مورد الإِيمان والجهاد وهو قوله: { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } إلى أن قال
{ { يغفر لكم ذنوبكم } [الصف: 12] والذي حكاه الله عن نوح عليه السلام في مثل المقام وهو أول هؤلاء الرسل المذكورين في الآية قوله: { { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } [نوح: 3ـ4]، وهو يوافق الآية التي نحن فيها فالتبعيض لا مفرّ منه ظاهراً.
ومما قيل في توجيه الآية أن المراد بالبعض الكل توسّعاً، ومن ذلك أن المراد مغفرة ما قبل الإِيمان من الذنوب وأما ما بعد ذلك فمسكوت عنه، ومن ذلك أن المراد مغفرة الكبائر وهي بعض الذنوب إلى غير ذلك، وهذه وجوه ضعيفة لا يعبؤ بها.
وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: { من ذنوبكم }؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين بقوله: { واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم } { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم }، وقال في خطاب المؤمنين: { هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } إلى أن قال { يغفر لكم ذنوبكم } وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوّى بين الفريقين في الميعاد. انتهى.
وكأن مراده أن المغفور من الذنوب في الفريقين واحد وهو جميع الذنوب، إلا أن تشريف مقام الإِيمان أوجب أن يصرّح في المؤمنين بمغفرة الجميع، ويقتصر في وعد الكفار على مغفرة البعض والسكوت عن الباقي، ومغفرة بعضها لا تنافي مغفرة البعض الآخر، فليكن هذا مراده وإلا فمجرد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة الواقع بتاتاً.
وقوله: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي لا يعاجلكم بالعقوبة والهلاك ويؤخركم إلى الأجل الذي لا يؤخر وقد سمّاه لكم ولا يبدّل القول لديه، وقد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل أجلان: أجل موقوف معلّق، وأجل مسمى لا يؤخر.
ومن الدليل على هذا الذي ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله سبحانه
{ { ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } } [نوح: 4]. قوله تعالى: { قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدُّونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } قد تقدم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب أن الآية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي لا حجة عامية وخاصة الوحي والنبوة التي هي نوع اتصال بالغيب أمر خارق للعادة الجارية بين أفراد الإِنسان لا يجدونها من أنفسهم فعلى من يدَّعيها الإِثبات، ولا طريق إلى إثباتها الا بالإِتيان بخارق عادة آخر يدلُّ على صحة هذا الاتصال الغيبي لأن حكم الأمثال واحد، وإذا جاز أن تخترق العادة بشيء جاز أن تخترق بما يماثله.
والرسل عليهم السلام لما احتجوا على كفار أُممهم في النبوة العامة بقولهم: { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } عادت الكفار إليهم بطلب الدليل منهم على ما يدَّعونه من النبوة لأنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم: { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ثم صرّحوا بما يطلبونه من الدليل وهو الآية المعجزة بقولهم: { فأتونا بسلطان مبين }.
فالمعنى سلَّمنا أن من مقتضى العناية الإِلهية أن يدعونا إلى المغفرة والرحمة، لكنّا لا نسلّم لكم أن هذه الدعوة قائمة بكم كما تدَّعون فإنكم بشر مثلنا لا تزيدون علينا بشيء، ولو كان مجرد البشرية يوجب ذلك لكنّا وجدناه من أنفسنا ونحن بشر، فان كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع يتسلط على عقولنا ويضطّرنا إلى الإِذعان بنبوَّتكم وهو آية معجزة غيبية تخرق العادة كما أن ما تدَّعونه خارق مثلها.
وبهذا البيان يظهر أولاً: أن كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى، وقولهم: { إن أنتم إلا بشر مثلنا } سند المنع، وقولهم: { فأتونا بسلطان مبين } تصريح بطلب الدليل.
وثانياً أن قولهم: { تريدون أن تصدُّونا عما كان يعبد آباؤنا } من قبيل الاعتراض الواقع بين المنع وسنده ومعناه أنكم لما كنتم بشراً مثلنا لا فضل لكم علينا بشيء فلا وجه لأن نقبل منكم ما لا نجده من أنفسنا ولا نعهده من أمثالنا، والذي نعهده من أمثال هذه الأمور أنها إنما تظهر عن أغراض ومطامع دنيوية مادية فليس إلا أنكم تريدون أن تصرفونا عن سنّتنا القومية وطريقتنا المثلى.
قوله تعالى: { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء } إلى آخر الآية جواب الرسل عمَّا أوردوه على رسالتهم بأنكم بشر مثلنا فلستم ذوى هوية ملكوتية حتى تتصلوا بالغيب فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة الغيبية فأتونا بسلطان مبين.
ومحصل الجواب أن كوننا بشراً مثلكم مسلم لكنه يوجب خلاف ما استوجبتموه أما قولكم إن كونكم بشراً مثلنا يوجب أن لا تختصوا بخصيصة لا نجدها من أنفسنا وهي الوحي والرسالة فجوابه: أن المماثلة في البشرية لا توجب المماثلة في جميع الكمالات الصورية والمعنوية الإِنسانية كما أن اعتدال الخلقة وجمال الهيئة وكذا رزانة العقل وإصابة الرأي والفهم والذكاء كمالات صورية ومعنوية توجد في بعض أفراد الإِنسان دون بعض، فمن الجائز أن ينعم الله بالوحي والرسالة على بعض عباده دون بعض فإنَّ الله يمن على من يشاء منهم.
وأما قولكم، { فأتونا بسلطان مبين } فإنه مبني على كون النبي ذا شخصية ملكوتية وقدرة غيبية فعالة لما تشاء، وليس كذلك فما النبي إلا بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة وليس له من الأمر شيء، وما كان له أن يأتي بآية من عنده إلا أن يشاء الله ذلك ويأذن فيه.
فقوله: { إن نحن إلا بشر مثلكم } تسليم من الرسل لقولهم: { إن أنتم إلا بشر مثلنا } لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه، وقوله: { ولكن الله يمن على من يشاء } إشارة إلى مقدمة بانضمامها يستنتج المطلوب، وقوله: { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } جواب منهم استنتجوه من كونهم بشراً مثلهم.
وتذييل هذا الكلام بقولهم: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } للإِشارة إلى ما يجري مجرى حجة ثانية على إرجاع الأمر كله - ومنه أمر الآية المعجزة - إلى الله وهي حجة خاصة بالمؤمنين، وملخصها أن الإِيمان بالله سبحانه يقتضي منهم أن يذعنوا بأن الإِتيان بالآية إنما هو إلى الله لأن الحول والقوة له خاصة لا يملك غيره من ذلك شيئاً إلا بإذنه.
وذلك لأنه هو الله عز شأنه، فهو الذي يبدأ منه وينتهي إليه ويقوم به كل شيء فهو رب كل شيء المالك لتدبير أمره لا يملك شيء أمراً إلا بإذنه فهو وكيل كل شيء القائم بما يرجع إليه من الأمر، فعلى المؤمن أن يتخذ ربه وكيلاً في جميع ما يرجع إليه حتى في أعماله التي تنسب إليه لما أن القوة كلها له سبحانه وعلى الرسول أن يذعن بأن ليس له الإِتيان بآية معجزة إلا بإذن الله.
والآية ظاهرة في أن الرسل عليهم السلام لم يدّعوا امتناع إتيانهم بالآية المعجزة المسماة سلطاناً مبيناً، وإنما ادّعوا امتناع أن يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى إذن الله سبحانه، واحتجوا على ذلك أولاً، وثانياً.
قوله تعالى: { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } ما استفهامية والاستفهام للإِنكار، وقوله: { وقد هدانا سبلنا } حال من الضمير في { لنا } وسبل الأنبياء والرسل الشرائع التي كانوا يدعون إليها، قال تعالى:
{ { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة } [يوسف: 108] والمعنى ما الذي نملكه من العذر في أن لا نتوكل على الله والحال أنه تعالى هدانا سبلنا ولم يكن لنا صنع في هذه النعمة والسعادة التي منّ بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا هذا الفعل الذي هو كل الخير، فمن الواجب أن نتوكل عليه في سائر الأمور.
وهذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل عليه وإلقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الآثار الدالة على وجوب التوكل عليه كما أن الحجة السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثر، وتقرير الحجة أن هدايته تعالى إيانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكل عليه لأنه لا يخون عباده ولا يريد بهم إلا الخير ومع وجود الدليل على التوكل لا معنى لوجود دليل على عدم التوكل يكون عذراً لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكل عليه تعالى.
فقوله تعالى: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يجري مجرى اللمّ، وقوله: { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } مجرى الإِن فتدبر في هذا البيان العذب والاحتجاج السهل الممتنع الذي قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في أوجز لفظ.
وقوله: { ولنصبرنّ على ما آذيتمونا } من تفريع الصبر على ما بيّن من وجوب التوكل عليه أي إذا كان من الواجب أن نتوكل عليه ونحن مؤمنون به وقد هدانا سبلنا فلنصبرن على إيذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه متوكلين عليه حتى يحكم بما يريد ويفعل ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول والقوة.
وقوله: { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } كلام مبني على الترقي أي كل من تلبّس بالتوكل فعليه أن يتوكل على الله سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير أن المتوكل بحقيقة التوكل لا يكون إلا مؤمناً فإنه مذعن أن الأمر كله لله فلا يسعه إلا أن يطيعه فيما يأمر وينتهى عما ينهى ويرضى بما رضى به ويسخط عما سخط عنه وهذا هو الإِيمان.
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا } هذا تهديد منهم بعدما عجزوا في مناظرتهم وخسروا في محاجتهم، والخطاب في قولهم: { لنخرجنكم } الخ.... للرسل والذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا أن يعود الرسل في ملتهم ويبقى أتباعهم على دين التوحيد. على أن الله سبحانه صرّح بذلك في قصص بعضهم كقوله في شعيب:
{ { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } } [الأعراف: 88]. وقوله: { أو لتعودن في ملتنا } { عاد } من الأفعال الناقصة بمعنى الصيرورة وهي الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقاً أو لا ومن الدليل عليه - كما قيل - قوله: { في ملتنا } ولو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعيّن أن يقال: إلى ملتنا.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: إن ظاهر الآية أن الرسل كانوا قبل الرسالة في ملتهم فكلفهم الكفار أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.
على أن خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم ولمن آمن بهم ممن كان على ملة الكفار من قبل فالخطاب لهم ولرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون العود بمعنى الرجوع، إنما هو من باب التغليب.
ومن لطيف الصناعة في الآية دخول لام القسم ونون التأكيد على طرفي الترديد: { لنخرجنكم } { أو لتعودن } مع أن أو للاستدراك وتفيد معنى الاستثناء ولا معنى لأن يقال: إلا أن تعودوا والله في ملتنا، إلا أن عودهم لما كان بإجبار من الكفار كان في معنى الإِعادة وعاد قوله: { لتعودن } طرف الترديد وصح دخول اللام والنون وآل المعنى إلى قولنا: والله لنخرجنكم من أرضنا أو نعيدنكم في ملتنا.
قوله تعالى: { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } إلى آخر الآية، ضمير الجميع الأول والثاني للرسل والثالث للذين كفروا بدلالة السياق، والتعبير عنهم بالظالمين للإِشارة إلى سببية ظلمهم للإِهلاك فإن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعليّة كما أن قوله: { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } مشعر بعليّة الخوف للإِسكان.
وقوله: { مقامي } مصدر ميمي أُريد به قيامه تعالى على الأمر كله أو اسم مكان أُريد به مرتبة قيمومته تعالى للأمر كله، والمراد من وعيده تعالى ما أوعد به المخالفين عن أمره من العذاب.
فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما أنه الله القائم بأمر عباده والمراد بالخوف من وعيده تقواه بما أنه الله الذي حذّر عباده من مخالفة أمره بلسان أنبيائه ورسله فيعود على أي حال إلى التقوى وينطبق على قول موسى لقومه:
{ { استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } [الأعراف: 128] كما شار إليه في الكشاف.
والمعنى فأوحى رب الرسل إليهم - وقد أُخذت صفة الربوبية الخاصة بهم لمكان توكلهم الجالب للرحمة والعناية - وأُقسم لنهلكن هؤلاء المهددين لكم بظلمهم ولنسكننكم هذه الأرض التي هددوكم بالإِخراج منها ونورثكم إياها لصفة مخافتكم مني ومن وعيدي وكذلك نفعل فنورث الأرض عبادنا المتقين.
قوله تعالى: { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } الاستفتاح طلب الفتح والنصر. والخيبة انقطاع الرجاء والخسران والهلاك، والعنيد هو اللجوج ومنه المعاند.
والضمير في { واستفتحوا } للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم الأسباب من كل جانب وبلغ بهم ظلم الظالمين وتكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله:
{ { أني مغلوب فانتصر } [القمر: 10]، ويمكن رجوع الضمير إلى الرسل والكفار جميعاً فان الكفار أيضاً كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما يقضي بينهم كقولهم { { متى هذا الفتح } [السجدة: 28] { { متى هذا الوعد } [النمل: 71] وعلى هذا التقدير يكون المعنى: واستفتح الرسل والكفار جميعاً، وكانت الخيبة للجبارين وهو عذاب الاستئصال.
قوله تعالى: { من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد } إلى آخر الآيتين. الصديد القيح السائل من الجرح، وهو بيان للماء الذي يسقونه في جهنم. والتجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، والإِساغة إجراء الشراب في الحلق يقال: ساغ الشراب وأسغته أنا كذا في المجمع والباقى ظاهر.
قوله تعالى: { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } إلى آخر الآية، يوم عاصف شديد الريح تمثيل لأعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها وبيان انها حبط باطلة لا اثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى:
{ { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [الفرقان: 23] فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته ولم يبقَ منه شيئاً هذا مثلهم من جهة أعمالهم.
ومن هنا يظهر أن لا حاجة إلى تقدير شيء في الكلام وإرجاعه إلى مثل قولنا: مثل أعمال الذين كفروا "الخ"، والظاهر أن الآية ليست من تمام كلام موسى بل هي كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة يقول الله عز وجل: { لئن شكرتم لأزيدنكم }.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما أُعطي أحد أربعة فمنع أربعة: ما أُعطي أحد الشكر فمنع الزيادة لأن الله يقول: { لئن شكرتم لأزيدنكم }، وما أُعطي أحد الدعاء فمنع الإِجابة لأن الله يقول: { ادعوني استجب لكم } وما أُعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأن الله يقول: { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } وما أُعطي أحد التوبة فمنع التقبل لأن الله يقول: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }"
]. وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني قال جعفر: أما إني أُحدثك وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها فإن الله تعالى قال في كتابه: { لئن شكرتم لأزيدنكم } وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه: { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين } يعني في الدنيا والآخرة { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً }.
يا سفيان إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين.
وفي الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد الله.
وفيه بإسناده عن حمّاد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد وقد ضاعت دابته فقال: لئن ردها الله عليَّ لأشكرن الله حق شكره فما لبث أن أُتي بها فقال: الحمد لله. فقال قائل له: جعلت فداك ألست قلت: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ألم تسمعني قلت الحمد لله؟
وفيه بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم، قلت: وما هو؟ قال: الحمد لله، على كل نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أدَّاه، ومنه قوله عز وجل: { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين } ومنه قوله: { أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين }، وقوله: { رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً }.
وفي تفسير العياشي عن أبي ولاّد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أرأيت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أليس إن شكرناه عليها وحمدناه زادنا كما قال الله في كتابه: { لئن شكرتم لأزيدنكم }؟ فقال: نعم من حمد الله على نعمه وشكره وعلم أن ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه.
أقول: والروايتان الأخيرتان تفسران الشكر أحسن تفسير، وينطبق عليهما ما قدمناه في البيان أن الشكر إظهار النعمة اعتقاداً وقولاً وفعلاً، ويؤيده إطلاق قوله تعالى:
{ { وأما بنعمة ربك فحدّث } } [الضحى: 11]. وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي رفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من آذى جاره طمعاً في مسكنه ورثه الله داره" وهو قوله: { وقال الذين كفروا لرسلهم } إلى قوله { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم }.
وفي التفسيرين المجمع وروح المعاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"من آذى جاره أورثه الله داره"
]. وفي الدر المنثور أخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب الناس. قال: إنك لا تنسب الناس. قال: بلى. فقال له علي: أرأيت قوله تعالى: { وعاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً }؟ قال: أنا أنسب ذلك الكثير. قال: أرأيت قوله: { ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } فسكت.
وفي المجمع عن أبي عبد الله عليه السلام: الصديد هو الدم والقيح من فروج الزواني في النار.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا في صفة النار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي أمامة
"عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { ويسقى من ماء صديد يتجرعه } قال:يقرّب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى: { فسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } وقال: { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه }"
]. وفي تفسير القمي في الآية قال: قال: يقرَّب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطعت أمعاؤه ومزقت تحت قدميه وإنه ليخرج من أحدهم مثل الوادي صديد وقيح. الحديث.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: العنيد المعرض عن الحق.