التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السورة تتعرض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقاً ومع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدأت به فقيل: { سبحان الذي أسرى بعبده } الآية، وكرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: { سبحانه وتعالى عما يقولون } الآية 43 وقولة: { قل سبحان ربي } الآية 93، وقوله: { ويقولون سبحان ربنا } الآية 108 حتى أن الآية الخاتمة للسورة: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيراً } تحمد الله على تنزهه عن الشريك والولي واتخاذ الولد.
والسورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك، وعن بعضهم كما في روح المعاني استثناء آيتين منها وهما قوله: { وان كادوا ليفتنونك } الآية وقوله: { وان كادوا ليستفزونك } الآية، وعن بعضهم إلا أربع آيات وهي الآيتان المذكورتان وقوله: { واذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } الآية، وقوله: { وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية.
وعن الحسن أنها مكية إلا خمس آيات منها وهي قوله: { ولا تقتلوا النفس } الآية { ولا تقربوا الزنا } الآية { أولئك الذين يدعون } { أقم الصلاة } { وآت ذا القربى } الآية.
وعن مقاتل: مكية إلا خمس: { وان كادوا ليفتنونك } الآية { وان كادوا ليستفزونك } الآية { وإذ قلنا لك } الآية { وقل رب أدخلني } الآية { إن الذين أوتوا العلم من قبله } الآية.
وعن قتادة والمعدل عن ابن عباس مكيه إلا ثماني آيات وهي قوله: { وإن كادوا ليفتنونك } الآية إلى قوله: { وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية.
ولا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنية ولا الأحكام المذكورة فيها مما يختص نزولاً بالمدينة وقد نزلت نظائرها في السور المكية كالأنعام والأعراف.
وقد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإِشارة إلى معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر اسراؤه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس والهيكل الذي بناه داود وسليمان عليهما السلام وقدسه الله لبني إسرائيل.
ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقي والانحطاط والعزة والذلة فكلما أطاعوا رفعهم الله وكلما عصوا خفضهم الله، وقد أنزل عليهم الكتاب وأمرهم بالتوحيد ونفي الشريك.
ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الأُمة وما أُنزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بني إسرائيل وأنهم إن أطاعوا أُثيبوا وإن عصوا عوقبوا فإنما هي الأعمال يعامل الإِنسان بما عمل منها وعلى ذلك جرت السنة الإِلهية في الأمم الماضين.
ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدأ والمعاد والشرائع العامة من الأوامر والنواهي وغير ذلك.
ومن غرر الآيات فيها قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } الآية 110 من السورة، وقوله: { وكلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } الآية 20 منها، وقوله: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها } الآية 58 منها وغير ذلك.
قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } إلى آخر الآية. سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه ويستعمل مضافاً وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير { سبحان الله } سبحت الله تسبيحاً أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه وكثيراً ما يستعمل للتعجب لكن سياق الآيات إنما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان وأن أصر بعضهم على كونه للتعجب.
والإِسراء والسرى السير بالليل يقال: سرى وأسرى أي سار ليلاً وسرى وأسرى به أي سار به ليلاً، والسير يختص بالنهار أو يعمه والليل.
وقوله: { ليلاً } مفعول فيه ويفيد من الفائدة أن هذا الإِسراء تم له بالليل فكان الرواح والمجيء في ليلة واحدة قبل ان يطلع فجرها.
وقوله: { إلى المسجد الأقصى } هو بيت المقدس بقرينة قوله: { الذي باركنا حوله } والقصى البعد وقد سمي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبه إلى مكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المخاطبين وهو مكة التي فيها المسجد الحرام.
وقوله: { لنريه من آياتنا } بيان غاية الإِسراء وهي إراءه بعض الآيات الإِلهية - لمكان من - وفي السياق دلاله على عظمة هذه الآيات التي أراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله:
{ { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18]. وقوله: { إنه هو السميع البصير } تعليل لإِسرائه به لإِراءة آياته أي إنه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم وقد سمع من مقال عبده ورأى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإِكرام فيسري به ليلاً ويريه من آياتة الكبرى.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: { باركنا حوله لنريه من آياتنا } ثم رجوع إلى الغيبة السابقة والوجه فيه الإِشارة إلى أن الإِسراء وما ترتب عليه من إراءه الآيات انما صدر عن ساحة العظمة والكبرياء وموطن العزة والجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى وتجلى الله له بآياته الكبرى، ولو قيل: ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة.
والمعنى: لينزه تنزيهاً من أسرى بعظمته وكبريائه وبالغ قدرته وسلطانه بعبده محمد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس الذي بارك حوله ليريه بعظمتة وكبريائه آياتة الكبرى، وإنما فعل به ذلك لأنه سميع بصير علم بما سمع من مقاله ورأى من حاله أنه خليق أن يكرم هذه التكرمة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ واحد باللجام وواحد بالركاب وسوى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبي قبله ولا يركبك بعده مثله.
قال: فرفَّت به ورفعته ارتفاعاً ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه ثم نادى مناد عن يساري: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه ثم استقبلتني امرأة كاشفه عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى أكلمك فلم التفت إليها ثم سرت فسمعت صوتاً أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صل فصليت فقال: تدري أين صليت؟ قلت: لا، فقال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليماً ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لي: انزل فصل فنزلت وصليت فقال لي: تدري أين صليت؟ فقلت: لا، قال: صليت في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.
ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله عليهم السلام فقد جمعوا إليّ وأُقيمت الصلاة ولا أشك إلا وجبرئيل سيتقدمنا فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدمني وأممتهم ولا فخر.
ثم أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن وإناء فيه ماء وإناء فيه خمر، وسمعت قائلاً يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أُمته، وإن أخذ الخمر غوى وغويت أُمته وإن أخذ اللبن هدى وهديت أُمته قال: فأخذت اللبن وشربت منه فقال لي جبرئيل هديت وهديت أُمتك.
ثم قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني فقال: أو أجبته فقلت: لا ولم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود لو أجبته لتهودت أُمتك من بعدك ثم قال ماذا رأيت؟ فقلت ناداني مناد عن يساري فقال لي: أوأجبته؟ فقلت: لا ولم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أُمتك من بعدك. ثم قال: ماذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى أُكلمك. فقال: أوكلمتها؟ فقلت: لم أكلمها ولم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت أُمتك الدنيا على الآخرة.
ثم سمعت صوتاً أفزعني، فقال لي جبرئيل: اتسمع يا محمد؟ قلت: نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاماً فهذا حين استقرت قالوا: فما ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبض.
قال: فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له: إسماعيل وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل: { إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } وتحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.
فقال: يا جبرئيل! من هذا الذي معك؟ فقال محمد رسول الله قال: وقد بعث؟ قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وتلقتني الملائكه حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً حتى لقيني ملك من الملائكه لم أرّ أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك ولم أرَ فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فإني قد فزعت منه؟ فقال: يجوز أن يفزع منه فكلنا نفزع منه إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، ولم يزل منذ أن ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله وأهل معصيته فينتقم الله به منهم، ولو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك فسلمت عليه فرد السلام عليّ وبشرني بالجنة.
فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذي وصفه الله { مطاع ثم أمين }: ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أرِ محمداً النار فكشف عنها غطاءها وفتح باباً منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولنى مما رايت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.
ثم مضيت فرايت رجلاً آدماً جسيماً فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة وريح طيبة من جسد طيب ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المطففين على رأس سبع عشره آية { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } إلى آخرها قال: فسلمت على أبي آدم وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح المبعوث في الزمن الصالح.
قال: ثم مررت بملك من الملائكه جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئه الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل أدنني منه حتى أكلمه فأدناني منه فسلمت عليه، وقال له جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمه الذي أرسله الله إلى العباد فرحب بي وحياني بالسلام وقال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أُمتك فقلت: الحمد لله المنان ذى النعم على عباده ذلك من فضل ربي ورحمته عليّ فقال جبرئيل: هو أشد الملائكه عملاً فقلت: أكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا. تقبض روحه؟ فقال: نعم. قلت: وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لي ومكنني عليها إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، وما من دار إلا وأنا أتصفحه كل يوم خمس مرات، وأقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فإن لي فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالموت طامه يا جبرئيل فقال جبرئيل: إن ما بعد الموت أطم وأطم من الموت.
قال: ثم مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث ويدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويدعون الحلال وهم من أُمتك يا محمد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رأيت ملكاً من الملائكة جعل الله أمره عجيباً نصف جسده النار والنصف الآخر ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج تطفئ النار وهو ينادى بصوت رفيع ويقول: سبحان الذي كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكله الله بأكناف السماء وأطراف الأرضين وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق.
ورأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهم اعط كل منفق خلفاً والآخر يقول: اللهم اعط كل ممسك تلفاً.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإِبل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقي في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤوسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً يقولون ربنا متى تقوم الساعه؟.
قال: ثم مضيت فإذا أنا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم وأكل خزائنهم.
ثم قال: مررنا بملائكة من ملائكة الله عز وجل خلقهم الله كيف شاء ووضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله فسألت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا إن الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتها خوفاً من الله وخشوعاً فسلمت عليهم فردوا عليّ إيماء برؤوسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً ونبياً. وهو خاتم النبيين وسيدهم أفلا تكلمونه؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل اقبلوا عليّ بالسلام وأكرموني وبشروني بالخير لي ولأُمتي.
قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام فسلمت عليهما وسلما عليّ واستغفرت لهما واستغفرا لي وقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح وإذا فيها من الملائكة وعليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلا يسبح الله بحمده بأصوات مختلفة.
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح والمبعوث في الزمن الصالح، وإذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الأولى والثانية، وقال لهم جبرئيل في أمري ما قال للآخرين وصنعوا في مثل ما صنع الآخرون.
ثم صعدنا إلى السماء الرابعة وإذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا إدريس رفعه الله مكاناً علياً فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السموات التي عبرناها فبشّروني بالخير لي ولأُمتي، ثم رأيت ملكاً جالساً على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.
ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم اركهلاً أعظم منه حوله ثلة من أُمته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات.
ثم صعدنا إلى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم طويل كأنه من شنوة ولو أن له قميصين لنفذ شعره فيهما وسمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم ولد آدم على الله وهذا رجل أكرم على الله مني فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران فسلمت عليه وسلم عليّ واستغفرت له واستغفر لي، وإذا فيها من الملائكه الخشوع مثل ما في السماوات.
قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلا قالوا: يا محمد احتجم وأْمر أُمتك بالحجامة، وإذا فيها رجل أشمط الرأس واللحية جالس على كرسي فقلت: يا جبرئيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم وهذا محلك ومحل من اتقى من أُمتك ثم قرأ رسول الله: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } فسلمت عليه وسلم علي وقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح والمبعوث في الزمن الصالح وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني بالخير لي ولأُمتي.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ورأيت في السماء السابعة بحاراً من نور تتلألأ تلألؤها يخطف بالأبصار، وفيها بحار من ظلمة وبحار من ثلج ترعد فكلما فزعت ورأيت هولاً سألت جبرئيل فقال: أبشر يا محمد واشكر كرامة ربك واشكر الله بما صنع إليك قال: فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولي لجبرئيل وتعجبي.
فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى؟ إنما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى وما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربك إن بين الله وبين خلقه سبعين ألف حجاب وأقرب الخلق إلى الله أنا وإسرافيل وبيننا وبينه أربعة حجب حجاب من نور وحجاب من الظلمه وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء.
قال: ورأيت من العجائب التي خلق الله وسخر على ما أراده ديكاً رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ورأسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثم أقبل مصعداً حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة وانتهى فيها مصعداً حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول: سبحان ربي حيثما كنت لا تدري أين ربك من عظم شأنه، وله جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلا الله الحي القيوم وإذا قال ذلك سبحت ديوك الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلها، ولذلك الديك زغب أخضر وريش أبيض كأشد بياض ما رأيته قط، وله زغب أخضر أيضاً تحت ريشه الأبيض كأشد خضرة ما رأيتها قط.
قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين ومعي أناس من أصحابي عليهم ثياب جدد وآخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد وجلس أصحاب الخلقان.
ثم خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمى الكوثر ونهر يسمى الرحمة فشربت من الكوثر واغتسلت من الرحمة ثم انقادا لي جميعاً حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها بيوتي وبيوت أهلي وإذا ترابها كالمسك، وإذا جاريه تنغمس في أنهار الجنة فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين أصبحت، وإذا بطيرها كالبخت، وإذا رمانها مثل الدلي العظام، وإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة، وليس في الجنة منزل إلا وفيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله { طوبى لهم وحسن مآب }.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلما دخلت الجنة رجعت إليّ نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار وهولها وأعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك وتعالى بها ولولا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شيء فيه.
وانتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل أُمة من الأُمم فكنت منها كما قال الله تعالى { قاب قوسين أو أدنى } فناداني { آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه } فقلت أنا مجيباً عني وعن أُمتي: { والمؤمنون كل آمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فقال الله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فقلت: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فقال الله لا اؤاخذك، فقلت { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } فقال الله: لا أحملك فقلت: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } فقال الله تبارك وتعالى: قد أعطيتك ذلك لك ولأُمتك، فقال الصادق عليه السلام ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سأل لأُمته هذه الخصال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رب أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني فقال الله: قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجا منك إلا إليك.
قال: وعلمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إن ظلمي أصبح مستجيراً بعفوك، وذنبي أصبح مستجيراً بمغفرتك وذلي أصبح مستجيراً بعزتك، وفقري أصبح مستجيراً بغناك ووجهي الفاني أصبح مستجيراً بوجهك الباقي الذي لا يفنى، وأقول ذلك إذا أمسيت.
ثم سمعت الأذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله أكبر الله أكبر فقال الله: صدق عبدي أنا أكبر من كل شيء فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله" فقال الله: صدق عبدي أنا الله لا إله إلا أنا ولا إله غيري فقال: "أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله" فقال الله: صدق عبدي إن محمداً عبدي ورسولي أنا بعثته وانتجبته فقال: "حي على الصلاة حي على الصلاة" فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغباً فيها محتسباً كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه فقال: "حي على الفلاح حي على الفلاح" فقال الله: هي الصلاح والنجاح والفلاح. ثم أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.
قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجداً فناداني ربي أني قد فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى أُمتك فقم بها أنت في أُمتك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فانحدرت حتى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شيء حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت: قال ربي: فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة وفرضتها عليك وعلى أُمتك: فقال موسى: يا محمد إن أُمتك آخر الأُمم وأضعفها وإن ربك لا يزيده شيء وإن أُمتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأُمتك.
فرجعت إلى ربي حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجداً ثم قلت: فرضت عليّ وعلى أُمتي خمسين صلاة ولا أُطيق ذلك ولا أُمتي فخفف عني فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع وفي كل رجعة أرجع إليه أخر ساجداً حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى وأخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني خمساً فرجعت إلى موسى وأخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربي ولكن اصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة بعشر، ومن هم من أُمتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشراً وإن لم يعمل كتبت له واحدة، ومن هم من أُمتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة وإن لم يعملها لم أكتب عليه.
فقال الصادق عليه السلام: جزى الله موسى عن هذه الأُمة خيراً فهذا تفسير قول الله: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }.
أقول: وقد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جداً من طرق الشيعة وأهل السنة، وقوله في الرواية "رجلاً آدماً" يقال: رجل آدم أي أسمر اللون، والطامة هي الأمر الشديد الذي يغلب ما سواه، ولذلك سميت القيامة بالطامة، والأكتاف جمع كتف والمراد الأطراف والنواحي، وقوله: "فوقع في نفس رسول الله أنه هو" أي أنه الملك الذي يدبر أمر العالم وينتهي إليه كل أمر.
وقوله: شنوة بالشين والنون والواو وربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة، وقوله: "أشمط الرأس واللحية" الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، والزغب أول ما يبدو من الشعر والريش وصغارهما، والبخت الإِبل الخراساني والدلي بضم الدال وكسر اللام وتشديد الياء جمع دلو على فعول، والصبابه بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة الشوق والهوى الرقيق وبالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.
وفي أمالي الصدوق عن أبيه عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: لمّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعه بعير لقريش وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الماء وأهرق باقيه.
فلمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش: إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي الى بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلّوا بعيراً لهم فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل: قد امكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمَّد إن ها هنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلما أخبرهم، قالو: حتى يجيء العير ونسألهم عما قلت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.
فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق فسألوهم عما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء فأصبحنا وقد أُهريق الماء فلم يزدهم ذلك إلا عتوّاً.
أقول: وفي معناها روايات أخرى من طرق الفريقين.
وفيه بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أُسري به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور وهو قوله عز وجل: { جعل الظلمات والنور } فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نوّر الله لك بصرك ومر لك أمامك فإن هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل غير أن لي في كل يوم اغتماسة فيه ثم أخرج منه فأنفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكاً مقرباً له عشرون ألف وجه وأربعون ألف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الآخر.
فعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى الحجب والحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل ولم لا تكون معي؟ قال: ليس لي أن أجوز هذا المكان فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله ان يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك وتعالى: أنا المحمود وأنت محمد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته ومن قطعك بتكته انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إياك وأني لم أبعث نبياً إلا جعلت له وزيراً وإنك رسولي وإن علياً وزيرك.
وفي المناقب عن ابن عباس في خبر: وسمع يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوتاً "آمنا برب العالمين" قال يعني جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، وسمع لبيك اللهم لبيك قال: هؤلاء الحجاج، وسمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، وسمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.
فلما بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت.
وفي الاحتجاج عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما احتج على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤوف الرحيم فرأيته بقلبي وما رأيته بعيني. الخبر.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر عليه السلام في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه من مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي أو ابن نبي. قال: فاذهب إليه واسأله لعلك تخجله.
فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام وقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي. قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه وقال: سل عما بدا لك.
فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد من سنة؟ قال: أُخبرك بقولي أو بقولك قال: أخبرني بالقولين جميعاً قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة، قال فأخبرني عن قول الله عزوجل: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } من الذي سأله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبين عيسى عليه السلام خمسمائة سنة؟.
قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حيث أسرى به إلى البيت المقدس أن حشر الله الأولين والآخرين من النبيين المرسلين ثم أمر جبرئيل فأذَّن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه حي على خير العمل ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالقوم.
فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا. فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر.
وفي العلل بإسناده عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك. قلت: فلمَ أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.
قلت: فقول الله عز وجل: { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.
وفي تفسير القمي بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً وأبو جعفر عليه السلام في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة وإلى الكعبة مرة ثم قال: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إليّ فقال: أي شيء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسرى به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما يقولون ولكنه أسري به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السماء وقال: ما بينهما حرم.
قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل أفي مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربي وحال بيني وبينه السبحة قلت: وما السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض وأومأ بيده إلى السماء وهو يقول: جلال ربي جلال ربي، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.
قال فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى ولا عما بقي إلا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدرجات والكفارات والحسنات فقال: يا محمد إنه قد انقضت نبوتك وانقطع أكلك فمن وصيك؟ فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحد أطوع لي من علي فقال: ولي يا محمد فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أشد حباً لي من علي بن أبي طالب قال: ولي يا محمد فبشره بأنه آية الهدى وإمام أوليائي ونور لمن أطاعني والكلمة الباقية التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني معما أني أخصه بما لم أخص به أحداً فقلت: يا رب أخي وصاحبي ووزيري ووارثي فقال: إنه أمر قد سبق إنه مبتلى ومبتلى به معما أني قد نحلته ونحلته ونحلته ونحلته أربعة أشياء عقدها بيده ولا يفصح بما عقدها.
أقول: قوله عليه السلام: "ولكنه أُسري به من هذه إلى هذه" أي من الكعبة إلى البيت المعمور، وليس المراد به نفي الإِسراء إلى بيت المقدس ولا تفسير المسجد الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفي أن ينتهي الإِسراء إلى بيت المقدس ولا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم: "فرأيت ربي" أي شاهدته بعين قلبي كما تقدم في بعض الروايات السابقة ويؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات أُخر.
وقوله: "وحالت بيني وبينه السبحة" أي بلغت من القرب والزلفى مبلغاً لم يبق بيني وبينه إلا جلاله وقوله: فوضع يده بين ثديي "الخ" كناية عن الرحمة الإِلهية، ومحصله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب وشك.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن مردويه من طريق ثابت عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقه التي يربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين.
ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أُعطى شطرالحسن فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى إليّ ما أوحى وفرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربّك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف فإن أُمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم.
فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أُمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمساً فقال: إن أُمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي وموسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات لكل يوم وليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنه فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئه فلم يعملها لم يكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه.
اقول: وقد روي الخبر عن أنس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس قال: ليلة أُسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا ينام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب محشواً إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحواً مما تقدم.
والذي وقع فيه من شق بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغسله وإنقائه ثم حشوه إيماناً وحكمة حال مثالية شاهدها وليس بالأمر المادي كما ربما يزعم، ويشهد به حشوه إيماناً وحكمة وأخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية والتمثلات الروحية، وقد ورد هذا المعنى في عدة من أخبار المعراج المروية من طرق القوم ولا ضير فيه كما لا يخفى.
وظاهر الرواية أن معراجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة وأنه كان في المنام أما كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الإِسراء وهي أكثر من أن تحصى وقد اتفق على ذلك علماء هذا الشأن.
على أن الحديث نفسه يدفع كون الإِسراء قبل البعثة وقد اشتمل على فرض الصلوات وكونها أولاً خمسين ثم سؤال التخفيف بإشارة من موسى عليه السلام ولا معنى للفرض قبل النبوة فمن الحر] أن يحمل صدر الحديث على أن الملائكة أتوه أولاً قبل أن يوحى إليه ثم تركوه ثم جاؤه ليلة أخرى بعد بعثته وقد ورد في بعض رواياتنا أن الذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة أُسري به هم حمزة بن عبد المطلب وجعفر وعلي ابنا أبي طالب.
وأما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - أن يكون ناظراً إلى ما ذكر فيه من حديث الشق والغسل لكن الأظهر أن المراد به وقوع الإِسراء بجملته في المنام كما يدل عليه ما يأتي من الروايات.
وفي الدر المنثور أيضاً أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
أقول: وظاهر الآية الكريمة { سبحان الذي أسرى بعبده } إلى قوله { لنريه من آياتنا } يرده، وكذا آيات صدر سورة النجم وفيها مثل قوله: { ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى } على أن الآيات في سياق الامتنان وفيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته وعجيب قدرته، ومن الضروري أن ذلك لا يتم برؤيا يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرؤيا يراها الصالح والطالح وربما يرى الفاسق الفاجر ما هو أبدع مما يراه المؤمن المتقي والرؤيا لا تعد عند عامة الناس إلا نوعاً من التخيل لا يستدل به على شيء من القدرة والسلطنة بل غاية ما فيها أن يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها فيخاف شرها.
وفيه أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة قالت: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله أسرى بروحه.
أقول: ويرد عليه ما ورد على سابقه على أنه يكفي في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة وأرباب السير على أن الإِسراء كان قبل الهجرة بزمان وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان والآية أيضاً صريحة في إسرائه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام.
وفيه أخرج الترمذي وحسّنه والطبرانيّ وابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي فقال: يا محمد أقرئ أُمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله"
]. وفيه أخرج الطبرانيّ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا أُسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعت على شجرة من أشجار الجنة لم أرَ في الجنة أحسن منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة"
]. وفي تفسير القميّ عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت ذلك عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عائشة إني لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها"
]. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أُسري به إلى السماء أُوحي إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبريل.
وفيه أخرج ابن مردويه عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم الأذان ليلة أُسري به وفرضت عليه الصلاة.
وفي العلل بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين؟ وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل جلاله.
وذلك أنه لما أُسري به وصار عند عرشه تبارك وتعالى قال: يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث أمره الله تبارك وتعالى فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك وتعالى قائماً فأمره بافتتاح الصلاة ففعل.
فقال: يا محمد اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثم أمره أن يقرأ نسبة ربه تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد الله الصمد ثم أمسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل هو الله أحد الله الصمد فقال: قل: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فأمسك عنه القول فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذلك الله ربي كذلك الله ربي.
فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له وهو راكع: قل سبحان ربي العظيم وبحمده ففعل ذلك ثلاثاً ثم قال: ارفع رأسك يا محمد ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام منتصباً بين يدي الله فقال: اسجد يا محمد لربك فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجداً فقال: قل: سبحان ربي الأعلى وبحمده ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً فقال: استو جالساً يا محمد ففعل فلما استوى جالساً ذكر جلال ربه جل جلاله فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجداً من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز وجل فسبح أيضاً ثلاثاً فقال: انتصب قائماً ففعل فلم يَرَى ما كان رأى من عظمة ربه جل جلاله.
فقال له: اقرأ يا محمد وافعل كما فعلت في الركعة الأولى ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع رأسه ذكر جلال ربه تبارك وتعالى فخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجداً من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز وجل فسبح أيضاً ثم قال له: ارفع راسك ثبتك الله واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في أُمته وارفع درجته ففعل.
فقال: يا محمد واستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى وجهه مطرقاً فقال: السلام عليك فأجابه الجبار جل جلاله فقال: وعليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك على طاعتي وبعصمتي اتخذتك نبياً وحبيباً.
ثم قال أبو الحسن عليه السلام: وإنما كانت الصلاة التي أمر بها ركعتين وسجدتين وهو صلى الله عليه وآله وسلم إنما سجد سجدتين في كل ركعة كما أخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك وتعالى فجعله الله عز وجل فرضاً.
قلت: جعلت فداك وما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة وهو ما قال الله عز وجل: { ص والقرآن ذي الذكر } إنما أمره أن يتوضأ و يقرأ ويصلي.
أقول: وفي معناها روايات أُخر.
وفي الكافي بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قط ولا نبي إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي؟ فقال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي فقال: اللهم عفوك عفوك.
قال: وكان كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك وما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها فقال: بينهما حجاب يتلألأ ولا أعلمه إلا وقد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الإِبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة. الحديث.
أقول: وآيات صدر سورة النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فإن الأصل في معنى الصلاة الميل والانعطاف، وهو من الله سبحانه الرحمة ومن العبد الدعاء كما قيل، واشتمال ما أخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: "سبقت رحمتي غضبي" يؤيد ما ذكرناه ولذلك أيضاً أوقفه جبرئيل في الموقف الذي أوقفه وذكر له أنه موطأ ما وطئه أحد قبله وذلك أن لازم ما وصفه بهذا الوصف أن يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق والخالق وآخر ما ينتهى إليه الإِنسان من الكمال فهو الحد الذي يظهر فيه الرحمة الإِلهية وتفاض على ما دونه ولهذا أوقف صلى الله عليه وآله وسلم لمشاهدته.
وفي المجمع - وهو ملخص من الروايات - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتاني جبرائيل وأنا بمكه فقال: قم يا محمد فقمت معه وخرجت إلى الباب فإذا جبرائيل ومعه ميكائيل وإسرافيل فأتى جبرائيل بالبراق وكان فوق الحمار ودون البغل خده كخد الإِنسان وذنبه كذنب البقر وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإِبل عليه رحل من الجنة وله جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس.
ثم ساق الحديث إلى أن قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة وصليت في بيت المقدس، وفي بعضها - بشر لي إبراهيم - في رهط من الأنبياء ثم وصف موسى وعيسى ثم أخذ جبرائيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسناً وجمالاً.
فصعدت إلى السماء الدنيا ورأيت عجائبها وملكوتها وملائكتها يسلمون عليّ ثم صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكروبيون ثم صعد بي إلى السماء السابعة فأبصرت فيها خلقاً وملائكة - وفي حديث أبي هريره رأيت في السماء السادسة موسى، ورأيت في السماء السابعة إبراهيم.
قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين - ووصف ذلك إلى أن قال - ثم كلمني ربي وكلمته، ورأيت الجنة والنار، ورأيت العرش وسدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل والمشركون وقال مطعم بن عدي: أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب.
قالوا: ثم قالت قريش: أخبرنا عما رأيت فقال: مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا: هذه آية واحدة.
قال: ومررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم وبين لهم أحمالها وهيآتها وقال: يقدمها جمل أورق عليه فزارتان محيطتان وتطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية أخرى.
ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بيناً، وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه؟ فقال قائل: والله إن الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله هذه الإِبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فبهتوا ولم يؤمنوا.
وفي تفسير العياشي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الآخرة وصلى الفجر في الليلة التي أُسري به بمكة.
أقول: وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم أُسري به ولا منافاة بين الروايتين وكذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الآخرة والفجر بمكة وبين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الإِسراء فان فرض أصل الصلاة كان قبل ذلك، وأما أنها كم ركعة كانت فغير معلوم غير أن الآثار تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبياً وفي سورة العلق:
{ { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } [العلق: 9-10] وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلى بعلي وخديجة عليه السلام بالمسجد الحرام قبل أن يعلن دعوتة بمدة.
وفي الكافي عن العامري عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن والحسين عليه السلام زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ركعات شكراً لله فأجاز الله له ذلك وترك الفجر لم يزد فيها لأنه يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار فلما أمر الله بالتقصير في السفر وضع عن أُمته ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منه شيئاً، وإنما يجب السهو فيما زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأوليين استقبل صلاته.
وروى الصدوق في الفقيه بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه سأل علي بن الحسين عليه السلام فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإِسلام وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفي المغرب ركعة وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت بمكة. الحديث.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والنسائي والبزاز والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لما أُسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: ماشطة بيت فرعون وأولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: بلى ربي وربك ورب أبيك قالت: أوَلَكَ رب غير أبي؟ قالت: نعم قالت: فأخبر بذلك أبى؟ قالت: نعم.
فأخبرته فدعاها فقال: ألك رب غيرى؟ قالت: نعم ربي وربك الله الذي في السماء فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها وأولادها. قالت: إن لي إليك حاجة قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنه جميعاً. قال: ذلك لك لما لك علينا من حق فألقوا واحداً واحداً حتى بلغ رضيعاً فيهم قال: نعي يا أمه ولا تقاعسي فإنك على الحق فألقيت هي وولدها"
.
قال ابن عباس: وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم.
أقول: وروي من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"ليلة أُسري بي مررت بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أُمتك الذين يقولون ما لا يفعلون" .
أقول: وهذا النوع من التمثلات البرزخية التي تصور الأعمال بنتائجها والعذابات المعدة لها كثيرة الورود في أخبار الإِسراء وقد تقدم شطر منها في ضمن الروايات.
واعلم أن ما أوردناه من أخبار الإِسراء نبذة يسيرة منها وهي كثيرة بالغة حد التواتر رواها جم غفير من الصحابة كأنس بن مالك وشداد بن الأوس وعلي بن أبي طالب عليه السلام وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأُبي بن كعب وسمرة بن جندب وبريدة وصهيب بن سنان وحذيفة بن اليمان وسهل بن سعد وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأبو الحمراء وأبو الدرداء وعروة وأم هاني وأم سلمة وعائشة وأسماء بنت أبي بكر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وقد اتفقت أقوال من يعتني بقوله من علماء الإِسلام على أن الإِسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام } الآية، ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بذلك صبيحة ليلته وإنكارهم ذلك عليه وإخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى وما لقيه في الطريق من العير وغير ذلك.
ثم اختلفوا في السنة التي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن علي عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: قبلها بستة أشهر.
ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذي وقع فيه الإِسراء ولا مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغي أن يتنبه أن من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السلام ما يصرح بوقوع الإِسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه:
{ { ولقد رآه نزلة أخرى } [النجم: 13] الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره.
وعلى هذا فمن الجائز أن يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعاً إلى ما شاهده في الإِسراء الأول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعاً إلى الإِسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الإِسراءين معاً.
ثم اختلفوا في المكان الذي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: أُسري به من شعب أبي طالب وقيل: أسري به من بيت أم هاني وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد أولوا قوله تعالى: { أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام } إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازاً فيشمل مكة، وقيل: أُسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه ولا دليل على التأويل.
ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الإِسراء مرتين أن يكون أحد الإِسراءين من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني، وأما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات أن أبا طالب كان يطلبه طول ليلته وأنه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشاً إن لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم وإخباره قريشاً بما رأى كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم جميعاً عليه من الشدة والبلية أيام كانوا في الشعب.
وعلى أي حال فالإِسراء الذي تعطيه الآية: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وهو الإِسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه المسجد الحرام لكمال ظهور الآية ولا موجب للتأويل.
ثم اختلفوا في كيفية الإِسراء فقيل: كان إسراؤه عليه السلام بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات وعليه الأكثر وقيل: كان بروحه وجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات وعليه جمع، وقيل: كان بروحه عليه السلام وهو رؤيا صادقة أراها الله نبيه ونسب إلى بعضهم.
قال في المناقب: اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، وقالت الجهميه: عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، وقالت الإِمامية والزيدية والمعتزلة: بل عرج بروحه وبجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: { إلى المسجد الأقصى } وقال آخرون: بل عرج بروحه وبجسمه إلى السماوات روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وحذيفة وأنس وعائشة وأم هاني.
ونحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة وقد جعل الله معراج موسى إلى الطور { وما كنت بجانب الطور } ولإبراهيم إلى السماء الدنيا { وكذلك نري إبراهيم } ولعيسى إلى الرابعة { بل رفعه الله إليه } ولإِدريس إلى الجنة { ورفعناه مكاناً علياً } ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم { فكان قاب قوسين } وذلك لعلو همته. انتهى.
والذي ينبغي أن يقال إن أصل الإِسراء مما لا سبيل إلى إنكاره فقد نص عليه القرآن وتواترت عليه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمه من أهل بيته عليهم السلام.
وأما كيفية الإِسراء فظاهر الآية والروايات بما يحتف بها من القرائن ظهوراً لا يقبل الدفع أنه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه وجسده جميعاً، وأما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها وصريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، ولا سبيل إلى إنكاره من أصله غير أنه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام ومن نوع ما يراه النائم من الرؤى، ولو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة والكرامة معنى، ولا لذاك الإِنكار الشديد الذي أظهرته قريش عند ما قص عليه السلام لهم القصة وجه، ولا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.
بل ذلك - إن كان - بعروجه صلى الله عليه وآله وسلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون وينتهي إليه الأعمال ويصدر منه الأقدار ورأى عند ذلك من آيات ربه الكبرى وتمثلت له حقائق الأشياء ونتائج الأعمال وشاهد أرواح الأنبياء العظام وفاوضهم ولقى الملائكة الكرام وسامرهم، ورأى من الآيات الإِلهية ما لا يوصف إلا بالأمثال كالعرش والحجب والسرادقات.
والقوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي وقصر الوجود غير المادي فيه تعالى لما وجدوا الكتاب والسنة يصفان أموراً غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام المحسوسة كالملائكة الكرام والعرش والكرسي واللوح والقلم والحجب والسرادقات حملوا ذلك على كونها أجساماً مادية لا يتعلق بها الحس ولا يجري فيها أحكام المادة، وحملوا أيضاً ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين ومعارج القرب وبواطن صور المعاصي ونتائج الأعمال وما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه والاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس وإثبات الروابط الجزافية بين الأعمال ونتائجها وغبر ذلك من المحاذير.
ولذلك أيضاً لما نفى النافون منهم كون عروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات بجسمه المادي اضطروا إلى القول بكونه في المنام وهو عندهم خاصة مادية للروح المادى واضطروا لذلك إلى تأويل الآيات والروايات بما لا تلائمه ولا واحدة منها.
بحث آخر:
قال في مجمع البيان: فأما الموضع الذي أُسري إليه أين كان؟ فإن الإِسراء إلى بيت المقدس، وقد نص به القرآن ولا يدفعه مسلم، وما قاله بعضهم: ان ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان.
وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ورواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وأنس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وأم هاني وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها إلى أربعه أوجه:
أحدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته.
وثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول ولا يأباه الأصول فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه.
وثالثها: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الأصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى تأويله على وجه يوافق الحق والدليل.
ورابعها: ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد فالأولى أن لا نقبله.
فأما الأول المقطوع به فهو أنه أُسري به على الجملة، وأما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنة والنار ونحو ذلك. وأما الثالث فنحو ما روي أنه رأى قوماً في الجنة يتنعمون فيها وقوماً في النار يعذبون فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسمائهم، وأما الرابع فنحو ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كلم الله جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، والله سبحانه متقدس عن ذلك، وكذلك ما روي أنه شق بطنه وغسله لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان طاهراً مطهراً من كل سوء وعيب وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى.
وما ذكره من التقسيم في محله غير أن غالب ما أورده من الأمثلة للأقسام منظور فيه فما ذكره من الطواف ورؤية الأنبياء ونحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية وكذا ما ذكره من حديث شق البطن والغسل تمثل برزخي لا ضير فيه وأحاديث الإِسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة امرأة عليها من كل زينة الدنيا، وتمثل دعوة اليهودية والنصرانية وما شاهده من أنواع النعيم والعذاب لأهل الجنة والنار وغير ذلك.
ومما يؤيد هذا الذي ذكرناه ما في ألسنة هذه الأخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعوده صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بالبراق وفي آخر على جناح جبريل وفي آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات.
فهذه وأمثالها ترشد إلى أن هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي، ووقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب والسنة مما لا سبيل إلى إنكاره البتة.