التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرف مجازاً، والمصحح لهذا الإطلاق المجازي كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إلى فعلها وأقدمها، فالإنسان أول ما ينشأ وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرف والأخذ، وخاصة في مورد الأموال، أكلاً لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.
والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل إليه القلب، والبين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، والباطل يقابل الحق الذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.
وفي تقييد الحكم، أعني قوله: { ولا تأكلوا أموالكم }، بقوله: بينكم، دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيماً حقاً بوضع قوانين عادلة تعدّل الملك تعديلاً حقاً يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلاً، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وفي إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الإنساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مائة مورد ولا حاجه إلى إيرادها في هذا الموضع، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى:
{ { وأحل الله البيع } [البقرة: 27]، وقوله تعالى: { { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض } [النساء: 29]، وقوله تعالى: { { تجارة تخشون كسادها } [التوبة: 24]، وغيرها، والسنة المتواترة تؤيده.
قوله تعالى: { وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً }، الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء، والجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، ويمكن أن يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوباً بأن المقدرة، والتقدير مع أن تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه وأخذ الراشي فريقاً آخر منها بالإثم وهما يعلمان أن ذلك باطل غير حق.
(بحث روائي)
في الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية: كان يقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك.
وفي الكافي أيضاً عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام }، قال يا أبا بصير إن الله عزَّ وجلَّ قد علم أن في الأمة حكاماً يجورون، أما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عزَّ وجلَّ: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت }.
وفي المجمع قال: روي عن أبي جعفر عليه السلام: يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.
أقول: وهذه مصاديق والآية مطلقة.
(بحث علمي اجتماعي)
كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، ومنها النبات والحيوان والإنسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقاءه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها، وكذلك أقسام الحيوان والإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعاً خيالياً أو عقلياً، فهذا مما لا شبهة فيه.
وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، والحيوان والإنسان بالشعور الغريزي أن التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى أن الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الأمر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الإنسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه، وهذا أصل الاختصاص الذي لا يتوقف في اعتباره إنسان، وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي أن أفعل كذا ولك أن تفعل كذا.
ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عشّ أو كنّ أو وكر أو ما أصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالاً، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولاً وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي المذكور أنواعاً متفرقه ذوات أسام مختلفة فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك.
وهم وإن أمكن أن يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالإنسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض، لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى أن المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، وفي بطلان الفطرة فناء الإنسان.
وسنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والإرث والغنيمة والحيازة، ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك إن شاء الله العزيز.