التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٦٠
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لإِثبات المدعي أو لإِبطال ما يقابله، وأصل الحجة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربه متعلق بحاج، والضمير لإِبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت، وهذا الذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه هو الملك الذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.
وبالتأمل في سياق الآية، والذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما.
بيان ذلك: إن الإِنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثرة فيه، وهذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الأمم الخالية المتأمل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإِنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون والماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإِنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.
لكن الإِنسان الأولي الساذج لما كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمة تجتمع عند الصانع الذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه، فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كرب الأرض ورب البحار ورب النار ورب الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.
ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الأمم والأجيال لأن الآراء كانت مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيل صور أرباب الأنواع المحكية بأصنامها، وربما لحقت بذلك أميال وتهوسات أُخرى. وربما انجر الأمر تدريجاً إلى التشبث بالأصنام ونسيان أربابها حتى رب الأرباب لأن الحس والخيال كان يزين ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما ورائها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك إنما كان منهم لأنهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤون حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.
وربما كان يستفيد بعض أولي القوة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدعي الألوهية كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادىء الأمر على هذه الوتيرة، لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدمت الإِشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:
{ { أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24]، فقد كان يدعي انه أعلى الأرباب مع كونه ممن يتخذ الأرباب، كما قال تعالى: { { ويذرك وآلهتك } [الأعراف: 127]، وكذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: { أنا أحيي وأُميت }، في هذه الآية على ما سنبين.
وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين إبراهيم عليه السلام ونمرود، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه أُلوهية، ولولا ذلك لم يسلم لإِبراهيم عليه السلام قوله: { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْت بها من المغرب }، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه ان يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أن بعض الآلهة الأخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أن هناك آلهة أخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص إبراهيم عليه السلام كقصة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلاَّ كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى الوهية، وان معه آلهة أخرى لكنه كان يرى لنفسه الوهية، وانه أعلى الآلهة، ولذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج إبراهيم عليه السلام في ربه، ولم يذكر من أمر الآلهة الأخرى شيئاً.
ومن هنا يستنتج أن المحاجة التي وقعت بينه وبين إبراهيم عليه السلام هي، ان إبراهيم عليه السلام كان يدعي أن ربه الله لا غير ونمرود كان يدعي أنه رب إبراهيم وغيره، ولذلك لما احتج إبراهيم عليه السلام على دعواه بقوله: { ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أُحيي وأُميت }، فادعى أنه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا أُحيي وأُميت، لأن لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيته ولم يكن مطلوبه ذلك، بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.
ولم يعارض إبراهيم عليه السلام بالحق، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإن إبراهيم عليه السلام إنما أراد بقوله: { ربي الذي يحيي ويميت }، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة، فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع أن يوجدها إلاَّ من هو واجد لها، فلا يمكن أن يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشيء من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشيء لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشيء لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي والمجازي، فإن الاحياء كما يقال على جعل الحياة في شيء كالجنين إذا نفخت فيه الحياة، كذلك يقال على تخليص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الاماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا واطلق ذاك فقال: أنا أُحيي وأُميت، ولبس الأمر على الحاضرين فصدقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيم عليه السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وانه لم يرد بالاحياء والاماتة هذا المعنى المجازي، وان الحجة لا تعارض الحجة، ولو كان في وسعه عليه السلام ذلك لبينه، ولم يكن ذلك إلاَّ لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة أُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشيء فقال إبراهيم عليه السلام: { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْت بها من المغرب }، وذلك ان الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصته عليه السلام لكنها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الأرباب، والفاعل الإِرادي إذا اختار فعلاً بالإِرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه، فإن الأمر يدور مدار الإِرادة، وبالجملة لما قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إن هذا الأمر المستمر الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إني أنا الذي آتيها من المشرق، وإلاَّ طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى: { أن آتاه الله الملك }، ظاهر السياق أنه من قبيل قول القائل: أساء إلي فلان لأني أحسنت إليه، يريد ان احساني إليه كان يستدعي أن يحسن إليَّ، لكنه بدل الإِحسان من الإِساءة فأساء إليَّ؛ وقولهم: واتّق شر من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار

فالجملة أعني قوله: ان آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشيء موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه، فإن عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي أن يعلل بضد انعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه إلاَّ الإِحسان إليه وإيتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى: { { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [القصص: 8]، فهذه نكتة في ذكر ايتائه الملك.
وهناك نكته أخرى وهي: الدلالة على رداءة دعواه من رأس، وذلك انه إنما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه، وأما هو في نفسه فلم يكن إلاَّ واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر عنه بقوله: { الذي حاج إبراهيم في ربه }، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره.
وأما نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: انه لا محذور فيه، فإن الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الأمة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإِنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة؛ قال تعالى:
{ { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } [القصص: 77]، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة وبواراً، قال تعالى: { { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار } [إبراهيم: 28]، وقد مرّ بيان ان لكل شيء نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح والمساءة.
ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: ان الضمير في قوله أن آتاه الله الملك، يعود إلى إبراهيم عليه السلام، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:
{ { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } [النساء: 54]، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.
ففيه أولاً: ان القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:
{ { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } [غافر: 29]، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -: { { يا قوم أليس لي ملك مصر } [الزخرف: 51]، وقد قال تعالى: { له الملك } [التغابن: 1]، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك إلاَّ وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسى عليه السلام: { { ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة } [يونس: 88]، وقال تعالى في قارون: { { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } [القصص: 76]، وقال تعالى خطابا لنبيه: { ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً } - إلى أن قال -: { { ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد } [المدثر: 15]، إلى غير ذلك.
وثانياً: ان ذلك لا يلائم ظاهر الآية، فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا انه كان ينازعه ويحاجه في ملكه، فإن ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإِبراهيم ملكاً حتى يشاجره فيه.
وثالثاً: أن لكل شيء نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.
قوله تعالى: { قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت }، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسي، لكن مراده عليه السلام منهما إما خصوص الحياة والممات الحيوانيين أو الأعم الشامل له لإِطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا أُحيي وأُميت، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإن ذلك وأشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره من أفراد الإِنسان، وهذا يؤيد ما وردت به الروايات: انه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا أُحيي وأُميت.
وإنما أخذ عليه السلام في حجته الاحياء والاماتة لأنهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإِرادة، وهما أمران غير ماديين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقهم، لأن انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه عليه السلام في حقهم، فلم يفهموا من الاحياء والاماتة إلاَّ المعنى المجازي الشامل لمثل الإِطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا أُحيي وأُميت وصدقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يؤمئذٍ في المعارف والمعنويات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري والتقدم المدني الذي يدل عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإن المدنية المادية أمر والتقدم في معنويات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.
ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذه عليه السلام في حجته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادىء أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:
{ { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } [الأنعام: 79]، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتضح مراده عليه السلام، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: { ربي الذي يحيي ويميت }.
قوله تعالى: { قال أنا أُحيي وأُميت }، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي ويميت.
قوله تعالى: { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْت بها من المغرب فبهت الذي كفر }، لما آيس عليه السلام من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الاحياء والاماتة إلى حجة أُخرى، إلاَّ أنه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الأولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: { فإن الله } "الخ"، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنك ربي ومن شأن الرب أن يتصرف في تدبير أمر هذا النظام الكوني، فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف أنت بإتيانها من المغرب حتى يتضح انك رب كما ان الله رب كل شيء أو انك الرب فوق الأرباب فبهت الذي كفر، وإنما فرّع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت لنمرود وانتجت ما ادعاه، ولذلك أيضاً قال، فإن الله ولم يقل: فإن ربي لأن الخصم استفاد من قوله: ربي سوءاً وطبقة على نفسه بالمغالطة فأتى عليه السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أن نمرود ما كان يسعه أن يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون أن يبهت فيسكت.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }، ظاهر السياق أنه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة أخرى معناه أن الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجة لا انه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأن العناية في المقام متوجهة إلى محاجته إبراهيم عليه السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.
ومن هنا يظهر: ان في الوصف إشعاراً بالعلية أعني: ان السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:
{ { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإِسلام والله لا يهدى القوم الظالمين } [الصف: 7]، وقوله: { { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } [الجمعة: 5]، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى: { { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } [الصف: 5]. وبالجملة الظلم: وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤد إلى الخيبة والخسران بالآخرة، وهذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف وأكد القول فيها في آيات كثيرة.
(كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)
هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلية لا تقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة، وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:
{ { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، دلَّ على أن كل شيء بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلاَّ بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال، بالاجتماع والافتراق والاتصال والانفصال، والقرب والبعد، والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أن الأمور التكوينية لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعية لا تخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلاً وهي حارة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلاَّ عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى: { { إن ربي على صراط مستقيم } [هود: 56]، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود.
ولازم هاتين المقدمتين: أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين أن يكون لكل شيء روابط حقيقية مع غيره، وان يكون بين كل شيء وبين الآثار والغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية إنما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصة، وكذلك الشجرة إنما تثمر الثمرة التي من شأنها إثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى:
{ { والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلاَّ نكداً } [الأعراف: 58]، والعقل والحس يشهدان بذلك وإلاَّ اختل قانون العلية العام.
وإذا كان كذلك فالصنع والإِيجاد يهدي كل شيء إلى غاية خاصة، ولا يهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي أتقن كل شيء، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل أثرها لا محالة، هذا في الأمور التكوينية.
والأمور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشؤون الاجتماعية والمقامات التي فيه والأفعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولد منه إلاَّ تلك الآثار والغايات ولا تتولد هي إلاَّ منه، فالتربية الصالحة لا تتحقق إلاَّ من مرب صالح، والمربي الفاسد لا يترتب على تربيته إلاَّ الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطوي في نفسه بمائة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكل من تقلد منصباً اجتماعياً من غير طريقه المشروع، وكذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق وحل بذلك محل الفعل الحق، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الامانة، والإِساءة موضع الإِحسان، والمكر موضع النصح، والكذب موضع الصدق، فكل ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أياماً، وتلبس بلباس الصدق والحق أحياناً، سنة الله التي جرت في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فالحق لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على ادراك المدركين أويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:
{ { ليحق الحق ويبطل الباطل } [الأنفال: 8]، من تحقيق الحق تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه والتمويه، وقال تعالى: { { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [إبراهيم: 27]، وقد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلاَّ أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني: من طريق الباطل، كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق: { { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } [يوسف: 23]، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتقي بتقواه، قال تعالى: { { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: { { والعاقبة للتقوى } [طه: 132]. والآيات القرآنية في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى: { { أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } } [الرعد: 17]. وقد مرّت الإِشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية والمعلولية الجارية بين أجزاء العالم، وأن التجربة القطعية الحاصلة من تكرار الحس تشهد به، فما منا من أحد إلاَّ وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.
قوله تعالى: { أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها }، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خواءً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:
{ { جنات معروشات وغير معروشات } [الأنعام: 141]، ومن هنا أُطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقاً، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران، والعرش وهو السقف مع الأركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صح أن يقال في الديار أنها خالية على عروشها ولا يصح أن يقال: خالية على سقفها.
وقد ذكر المفسرون وجوهاً في توجيه العطف في قوله تعالى: { أو كالذي }، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج إبراهيم، والكاف اسمية، والمعنى أو هل رأيت مثل الذي مرّ على قرية "الخ"، وقد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مرّ على قرية "الخ"، وقيل: انه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، وقيل: إنه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم انه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيي فأحيي كإحياء الذي مرّ على قرية "الخ" فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.
وأظن - والله أعلم - أن العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلاَّ أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق ولا يهدي الكافر في كفره بل يضله أولياؤه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاثاً يبين بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتبة:
أولها: الهداية إلى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، ولم يهد الذي حاجه بل أبهته وأضله كفره، وإنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: { والله لا يهدي القوم الظالمين }.
والثانية: الهداية إلى الحق بالإِراءة والإِشهاد كما في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فإنه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الاحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإِراءة والإِشهاد.
الثالثة: الهداية إلى الحق وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه الحادثة، وبعبارة أخرى بإراءة السبب والمسبب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها، كما أن من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارة بإراءته قطعة من الجبن وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الأنفحة وخلط مقدار منها به حتى يجمد ثم إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق: ألم تر إلى قصة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مرّ على قرية، أولم تر إلى قصة إبراهيم والطير، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية، أو كالذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق وأُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، واذكر الذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.
فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه أخذ بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفاءً لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.
ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: { أو كالذي }، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، والتقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أن قوله في الآية التالية: { وإذ قال إبراهيم }، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصة المحاجة وقصة الذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب أرني "الخ".
وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم، كما يدل عليه قوله: { ولنجعلك آية للناس }، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإِشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
لكن الآية وهي الاحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمراً عظيماً، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين، كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم، ولذلك أُبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضاً أُبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأُبهم جهات القصة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.
وأما التصريح باسم إبراهيم عليه السلام فإن للقرآن عناية تشريف به عليه السلام، قال تعالى:
{ { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [الأنعام: 83]، وقال تعالى: { { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75]، ففي ذكره عليه السلام بالاسم عناية خاصة.
ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الاحياء والاماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى:
{ { وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } [الروم: 27]، وقال تعالى: { قال رب أنى يكون لي غلام } إلى قوله { { قال ربك هو عليَّ هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [مريم: 9]، قوله تعالى: { قال أنى يحيي هذه الله }، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: { { واسأل القرية } [يوسف: 82]. وإنما قال هذا القول استعظاماً للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الانكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: أعلم أن الله على كل شيء قدير ولم يقل الآن، كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: { { الآن حصحص الحق } [يوسف: 51]، وسيجيء توضيحه قريباً.
على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم عن الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.
قوله تعالى: { فأماته الله مائة عام ثم بعثه }، ظاهره توفيه بقبض روحه وإبقائه على هذا الحال مائة عام ثم إحيائه برد روحه إليه.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات، وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياماً أو شهوراً أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ورقودهم ثلثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.
قال: والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة، فسبات مائة سنة أمر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الإِنسان بالسبات زماناً كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مائة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلاَّ أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إليه ثانياً بعد سلبه مائة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم أُلوفاً من السنين، هذا ملخص ما ذكره.
وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الاماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات "على تقدير تسليمه" بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: { فأماته الله }، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ وهل هو إلاَّ قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مائة سنة مع كونه خرقاً للعادة فليجز له إماتته مائة سنة ثم إحيائه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلاَّ أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالاً من غير دليل يدل عليه، وقد تأوّل لذلك أيضاً قوله تعالى في ذيل الآية: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً }، وسيجيء التعرض له.
وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مائة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، وقوله بعده، { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك }، وقوله: { وانظر إلى العظام }، مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: { قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام }، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوماً وانتباهاً، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوماً (لو تخللت الليلة) أو بعض يوم (لو لم تتخلل) قال: بل لبثت مائة عام.
قوله تعالى: { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } إلى قوله { لحماً }، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها وأمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجيء بقوله: ولنجعلك متخللاً في الكلام وكان الظاهر أن يتأخر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية - وهو إحياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانياً بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحاً ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.
(القصة)
التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالماً بمقام ربه، مراقباً لأمره، بل نبياً مكلماً فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبيّن الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: { ثم بعثه قال كم لبثت }، أنه كان مأنوساً بالوحي والتكليم، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلاَّ كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال "الخ" أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى عليه السلام:
{ { فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك } [طه: 13]، وقوله تعالى فيه أيضاً: { { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن } } [القصص: 30]. وكيف كان فقد كان عليه السلام خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصداً نفس القرية، وإنما مرّ بها مروراً ثم وقف معتبراً بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أُبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منه عليه السلام، فإنه يشير إلى الموتى بقوله، { أنى يحيي هذه الله }، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإِشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: أنى يعمر هذه الله. على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، ولا أن عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.
ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، وتطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسياً منسياً، وعند ذلك قال: أنى يحيي هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: "إحداهما": استعظام طول المدة والاحياء مع ذلك، "والثانية": استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبيّن الله له الأمر من الجهتين جميعاً: أما من الجهة الأولى فإماتته ثم إحيائه وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئى منه.
فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد كان الإِماتة والاحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مرّ ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوماً أو بعض يوم نظراً إلى اختلاف الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوماً من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مائة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.
ثم استشهد تعالى على قوله: { بل لبثت مائة عام } بقوله: { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك }! وذلك: أن قوله: لبثت يوماً أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة وقصره، وإنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل ونحوهما، فلما أُجيب بقوله تعالى: بل لبثت مائة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شيء من هيئة بدنه، والإِنسان إذا مات ومضى عليه مائة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة والطراوة وكان تراباً وعظاماً رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن وإن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير شيء منهما عمّا كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاماً رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام والشراب يدل على إمكان أن يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير شيء من هيئته عمّا هي عليه.
ومن هنا يظهر أن الحمار أيضاً قد أُميت وكان رميماً وكأن السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.
وبالجملة تمّ عند ذلك البيان الإِلهي: ان استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث أخذ الله منه الاعتراف بأن مائة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبيّن له أن تخلل الزمان بين الاماتة والاحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى:
{ { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [المعارج: 7]، وقال تعالى: { { وما أمر الساعة إلاَّ كلمح البصر } [النحل: 77]. ثم قال تعالى: { ولنجعلك آية للناس }، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من الغايات، والمعنى أنا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الإِلهي لم يكن في ذلك منحصراً في بيان الأمر له نفسه بل هناك غاية أخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: { وانظر إلى العظام } "الخ" بيان الأمر له فقط، ومن إماتته وإحيائه بيان الأمر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: { ولنجعلك } "الخ" على قوله: وانظر إلى العظام "الخ".
ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.
وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى:
{ { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } [الروم: 56]. ثم بيّن الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: { أنى يحيي هذه الله } وهو أنه كيف تعود الأجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والانشاز الإِنماء، وظاهر الآية أن المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: { ولنجعلك آية } بل شاركه فيه الموتى الذين أحياهم الله تعالى!
ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الأبدان الحية فإنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الأرض الميتة التي يحييها الله بالإِنبات، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب.
وقد تبيّن من جميع ما مرّ أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: { فأماته الله } إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: { أنى يحيى هذه الله }.
قوله تعالى: { فلما تبيّن له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }، رجوع منه بعد التبيّن إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه عليه السلام لما خطر بباله الخاطر الذي ذكره بقوله: { أنى يحيي هذه الله } أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الأمر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس ما لا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلاً، بل علم يليق بالاعتماد عليه.
وهذا أمر كثير النظائر فكثيراً ما يكون للإِنسان علم بشيء ثم يخطر بباله ويهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل أخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه!.
وليس معنى الكلام: أنه لما تبيّن له الأمر حصل له العلم وقد كان شاكاً قبل ذلك فقال أعلم "الخ" كما مرّت الإِشارة إليه لأن الرجل كان نبياً مكلماً وساحة الأنبياء منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات أولاً: ولأن حق الكلام حينئذٍ أن يقال: علمت أو ما يؤدي معناه ثانياً، ولأن حصول العلم بتعلق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء وقد قال: أعلم أن الله بكل شيء قدير، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الاحياء في القدرة فإذا شاهد هاله ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الأمور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أُريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإِلهي مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة: فلما تبيّن له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، على أنه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياء ثالثاً.
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى }، قد مرّ أنه معطوف على مقدر والتقدير: واذكر إذ قال "الخ" وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: { قال أولم تؤمن }، وترتيب الكلام: أولم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني "الخ" وليس بشيء.
وفي قوله: { أرني كيف تحيي الموتى }، دلالة:
أولاً على أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الأنبياء وخاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل ارفع قدراً من أن يعتقد البعث ولا حجة له عليه، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناشىء عن اختلال فكري وشيء منهما لا ينطبق على إبراهيم عليه السلام، على أنه عليه السلام إنما سأل ما سأل بلفظ كيف، وإنما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشيء لا عن أصل وجوده فإنك إذا قلت: أرأيت زيداً كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيداً كان أصل الرؤية مفروغاً عنه وإنما السؤال عن خصوصيات الرؤية، فظهر أنه عليه السلام إنما سأل البيان بالإِراءة والإِشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.
وثانياً: على أن إبراهيم عليه السلام إنما سأل أن يشاهد كيفية الاحياء لا أصل الاحياء كما أنه ظاهر قوله: { كيف تحيي الموتى }، وهذا السؤال متصور على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون سؤالاً عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة، وتجمعها بعد التفرق والتبدد، وتصورها بصورة الحي، ويرجع محصله إلى تعلق القدرة بالاحياء بعد الموت والفناء.
الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة، ويرجع محصله إلى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره، وهذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل:
{ { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } [يس: 83]. وإنما سأل إبراهيم عليه السلام عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الأول: أما أولاً: فلأنه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الاحياء فسأل عن كيفية الاحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالاً عن كيفية تجمع الأجزاء وعودها إلى صورتها الأولى وقبولها الحياة، ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية، وأما ثانياً: فلأنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإِجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أي يريد الله إحياء شيء من الحيوان بعد موته، وأما ثالثاً: فلأنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: واعلم أن الله على كل شيء قدير لا بقوله: واعلم أن الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة والحكمة فإن العزة والحكمة - وهما وجدان الذات كل ما تفقده وتستحقه الأشياء وإحكامه في أمره - إنما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها، فافهم ذلك.
ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن إبراهيم عليه السلام إنما سأل بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الإِحياء دون مشاهدة كيفية الإِحياء، وأن الذي أُجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: انه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه أمره بالإِحياء، ولا أن إبراهيم عليه السلام فعل ما أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الإِنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبراً تريد أن هذه كيفيته، ولا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.
قال: وفي القرآن شيء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الأمر، والكلام ها هُنا مثل لإِحياء الموتى، ومعناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشد الحيوان استعداداً لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين.
قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن، فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها إليك وانسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإِمالة، وما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزاءً بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، وأما ما قيل: إن قوله: إليك متعلق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهن والمعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.
وثانياً: أن الظاهر: أن ضمائر فصرهن ومنهن وادعهن ويأتينك جميعاً راجعة إلى الطير، ويلزم على قولهم: ان المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن أن يفرق بين الضمائر فيعود الأولان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الأجزاء وهو خلاف الظاهر.
وأضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوهاً أُخرى نتبعها بها.
وثالثاً: ان إراءة كيفية الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع أجزائها وتغير صورها إلى الصورة الأولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء ومزجه إياها ووضعه على جبل بعيد، جزءاً منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الأجزاء من الحركات المختلفة والتغيرات المتنوعة، وإن كان المراد إراءة كيفية الإِحياء بمعنى الإِحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الإِرادة الإِلهية المتعلقة بوجود الشيء وحقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية.
ورابعاً: ان قوله: { ثم اجعل }، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله: { فصرهن } بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.
وخامساً: انه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه.
وأنت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله: { كيف تحيي } وإجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مرّ بيانه كل ذلك ينافي هذا المعنى، على أن الجزء في قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.
وأما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الأول: ان معنى صرهن قطعهن، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الامالة كما في قوله تعالى:
{ { الرفث إلى نسائكم } [البقرة: 187]، حيث ضمن معنى الإِفضاء.
وعن الثاني: ان جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع ضمير ادعهن ويأتينك إليها مع أنها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلاَّ بمادتها في قوله تعالى:
{ { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11]، وقوله تعالى: { { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن } [يس: 82]، وحقيقة الأمر: أن الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب، وأما الخطاب التكويني فالأمر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب فيه هو الإِيجاد ومن المعلوم أن الوجود فرع الإِيجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن يقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشيء المتفرع على قوله كن وهو خطاب الأمر.
وعن الثالث: انا نختار الشق الثاني وان السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفية قبول المادة وحياتها، وقوله: إن البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإِرادة الإِلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن وعليه المسلمون.
قلنا: إن الإِرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والاحياء ونحوهما، والذي لا سبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى:
{ { ولا يحيطون به علماً } [طه: 110]. فالإِرادة منتزعة من الفعل، وهو الإِيجاد المتحد مع وجود الشيء، وهو كلمة كن في قوله تعالى: ان نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية ان هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شيء إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء الآية، وقد ذكر الله تعالى انه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: { { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75]، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.
ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين أنهم يظنون أن دعوة إبراهيم عليه السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسى عليه السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها مما يشتمل عليه الكتاب والسنة إنما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفي عليهم أن ذلك إنما هو عن اتصال باطني بقوة إلهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.
وعن الرابع: أن التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الأجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر.
وعن الخامس: أن الأشكال مقلوب عليهم، فإن الذي ذكروه هو أن الله إنما بيّن كيفية الإِحياء لإِبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم أن المناسب حينئذٍ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة والحكمة، وقد عرفت مما قدمنا أن الأنسب على ما بيّناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.
ويظهر مما ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن اشهاد كيفيه الإِحياء بمعنى كيفية قبول الأجزاء صورة الحياة.
قال ما محصله: ان السؤال لم يكن في وأمر ديني - والعياذ بالله - ولكنه سؤال عن كيفية الإِحياء ليحيط علماً بها، وكيفية الاحياء لا يشترط في الإِيمان الإِحاطة بصورتها، فإبراهيم عليه السلام طلب علم لا يتوقف الإِيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلاً عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وإنما جاء التقرير أعني قوله: { أوَلَم تؤمن }، بعده لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية كما علمت إلاَّ أنها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنك عاجز عن حمله، والله سبحانه لما علم براءة إبراهيم عليه السلام عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى لكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذٍ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإِيمان بالقدرة على الاحياء على اكمل الوجوه، ورؤية الكيفية لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئاً، وإنما أفادت أمراً لا يجب الإِيمان به.
ثم قال بعد كلام له طويل: ان الآية تدل على فضل إبراهيم عليه السلام حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيراً ما أراه بعد ما أماته مائة عام.
وأنت بالتدبر في الآية والتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره، فإن السؤال إنما وقع عن كيفية إحيائه تعالى لا عن كيفية قبول الأجزاء الحياة ثانياً فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على أن إجراء الأمر على يد إبراهيم عليه السلام يدل على ذلك ولو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إراءة شيء من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً }، ولم تكن حاجة إلى إجراء الاحياء على يد إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفاً: انهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإِلهية ومصدريتهم للأمور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلاً: ان لا فرق بين تكون الحياة بيد إبراهيم وتكونه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، وهذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لإِهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحق. ألا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون والاشكال المتصورة مع أن هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له الى ساحة مثل إبراهيم عليه السلام، مع أن الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإن إبراهيم عليه السلام قال: كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الإِنسان أو الأعم منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه إلاَّ تكون الحياة في أربعة من الطير.
ثم ذكر فضل إبراهيم عليه السلام على عزير (يريد به صاحب القصة في الآية السابقة) بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعاً، مع أن الآيتين جميعاً - على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مرّ فيهما.
على أن المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة والحكمة كما في قوله تعالى:
{ { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } [فصلت: 39]، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى: { { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } [الأحقاف: 33]، ففيه أيضاً بيان الكيفية بإراءة الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.
قوله تعالى: { قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }، بلى كلمة يرد به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتاً كقوله تعالى:
{ { ألست بربكم قالوا بلى } [الأعراف: 172]، ولو قالوا نعم لكان كفراً، والطمأنينة والاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الأرض وأرض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.
وقد قال تعالى: { أولم تؤمن }، ولم يقل: ألم تؤمن للإِشعار بأن للسؤال والطلب محلاً لكنه لا ينبغي أن يقارن عدم الإِيمان بالإِحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دلَّ على أن المتكلم تلقى السؤال منبعثاً عن عدم الإِيمان، فكان عتاباً وردعاً عن مثل هذا السؤال، وذلك أن الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاماً عن أن هذا السؤال هل يقارنه عدم الإِيمان، لا استفهاماً عن وجه السؤال حتى ينتج عتاباً وردعاً.
والإِيمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على أن الإِيمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الاحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالاحياء لأن المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.
وكذا قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: { ليطمئن قلبي }، مطلق يدل على كون مطلوبه عليه السلام من هذا السؤال حصول الاطمئنان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي واعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية وأحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس، وكان جل أحكامها وتصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس، فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الاحكام الكلية العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها وإن سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاماً مناقضة لها، ثم تثير الأحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، وان كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرها إلاَّ أذى، كما أن من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم أن الميت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضر شيئاً، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة أن تصور للنفس صوراً هائلة موحشة من وأمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، وربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.
فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الإِيمان والتصديق دائماً، غير أنها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلاَّ بالحس أو المشاهدة، ولذلك قيل: إن للمعاينة أثراً لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم وشاهدهم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
وقد ظهر من هنا ومما مرّ سابقاً أن إبراهيم عليه السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وإن كان لا ينفك عن الأمر المحسوس الذي هو قبول الأجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي، فهو عليه السلام إنما كان يسأل حق اليقين.
قوله تعالى: { قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً }، صرهن بضم الصاد على إحدى القراءتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدل على تضمين معنى الإِمالة. فالمعنى: اقطعهن مميلاً إليك أو أملهن إليك قاطعاً إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.
وكيف كان فقوله تعالى: { خذ أربعة من الطير } "الخ"، جواب عن ما سأله إبراهيم عليه السلام بقوله: { رب أرني كيف تحيي الموتى }، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصة القرآن الذي هو خير كلام ألقاه خير متكلم إلى خير سامع واعٍ، وليست القصة على تلك البساطة التي تترائى منها في بادىء النظر، ولو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان، ولكان الزائد على ذلك لغواً مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد أُخذ فيها قيود وخصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أُريد إحيائه أن يكون طيراً، وأن يكون حياً، وأن يكون ذا عدد أربعة، وأن يقتل ويخلط ويمزج أجزاءها، وأن يفرق الأجزاء المختلطة أبعاضاً ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الإِحياء بيد إبراهيم عليه السلام (نفس السائل) بدعوته إياهن، وأن يجتمع الجميع عنده.
فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، وقد ذكروا لها وجوهاً من النكات لا تزيد الباحث إلاَّ عجباً (يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير).
وكيف كان فهذه الخصوصيات لا بد أن تكون مرتبطة بالسؤال، والذي يوجد في السؤال - وهو قوله: { رب أرني كيف تحيي الموتى } - أمران.
أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو أن المسؤول مشاهدة الإِحياء من حيث إنه وصف لله سبحانه لا من حيث إنه وصف لأجزاء المادة الحاملة للحياة.
وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.
أما الأول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الأمر ويقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعياً وهو الحياة مرتبطاً متفرعاً على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أُريد إحيائه، ولا إحياء إلاَّ بأمر الله، فدعوة إبراهيم إياهن بأمر الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الاحياء، وعند ذلك شاهده إبراهيم ورأى كيفية فيضان الأمر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير متصلة بأمر الله الذي هو أن يقول لشيء أرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلاَّ بالتخيل كان هو أيضاً كمثلنا إذ قلنا لشيء كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي في الوجود.
وأما الثاني: فقوله: { كيف تحيي الموتى } تدل على أن لكثرة الأموات وتعددها دخلاً في السؤال، وليس إلاَّ أن الأجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار، وتصير كالأحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا محاط في الواقع.
وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى عليه السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله:
{ { قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } [طه: 51]. وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعلَّ اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زماناً) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها، ويعرفها معرفة تامة أولاً، ثم يقتلها ويخلط أجزاءها خلطاً دقيقاً ثم يجعل ذلك ابعاضاً، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص، وتزول المعرفة، ثم يدعوهن يأتينه سعياً، فإنه يشاهد حينئذٍ أن التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس، فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإلى أي حال تحول الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد حياً من الاحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولاً ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علماً فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى: { ثم ادعهن يأتينك سعياً } أي مسرعات مستعجلات.
وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى:
{ { وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } [السجدة: 11]، وقد مرّ بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس، وسيأتي تفصيل الكلام في محله إن شاء الله.
فقوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير }، إنما أمر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعاده الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميز أولاً وزوالهما ثانياً، وقوله: { فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً }، أي اذبحهن وبدد أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء وهي غير متميزة، وهذا من الشواهد على أن القصة إنما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها، وقوله: { ثم ادعهن }، أي ادع الطيور يا طاووس ويا فلان ويا فلان، ويمكن أن يستفاد ذلك مضافاً إلى دلالة ضمير "هن" الراجعة إلى الطيور من قوله: "ادعهن"، فإن الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه عليه السلام واللفظ المستعمل في البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء، وقوله: { يأتينك سعياً }، أي يتجسدن واتصفن بالإِتيان والإِسراع إليك.
قوله تعالى: { واعلم أن الله عزيز حكيم }، أي عزيز لا يفقد شيئاً بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئاً إلاَّ من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح وإيجادها دون العكس.
وفي قوله تعالى: { واعلم أن } "الخ"، دون أن يقال ان الله "الخ"، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان إبراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعاً إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } الآية: أخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.
وفي تفسير البرهان: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الأصنام قبل القائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد القائه في النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، عن الصادق عليه السلام.
أقول: الآية وإن لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الإِلقاء في النار، فإن قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته أباه وقومه وكسره الأصنام تعطي أن أول ما لاقى إبراهيم عليه السلام نمرود وكان حين رفع أمره إليه في قضية كسر الأصنام مجرماً عندهم، فحكم عليه بالإِحراق، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلاً عن تكليمه في أمر ربه: أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجه نمرود حينئذٍ لحاجه في أمر الله وأمر الأصنام دون أمر الله وأمر نفسه!.
وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى: { أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها } الآية، إن صاحب القصة أرميا النبي، وفي عدة منها: أنه عزير، إلاَّ أنها آحاد غير واجبة القبول، وفي أسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصة غير مذكورة في التوراة، والتي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } الآية، في حديث قال عليه السلام: وهذه آية متشابهة، ومعناها أنه سأل عن الكيفية والكيفية من فعل الله عزّ وجل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض في توحيده نقص، الحديث.
أقول: وقد اتضح معنى الحديث مما مر.
وفي تفسير العياشي عن علي بن اسباط: ان أبا الحسن الرضا عليه السلام سئل عن قول الله: { قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي } أكان في قلبه شك؟ قال: لا ولكن أراد من الله الزيادة؛ الحديث.
أقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح عليهما السلام وقد مرّ بيانه.
وفي تفسير القمي عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أبي أيوب عن أبي بصير، عن الصادق عليه السلام، قال: إن إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فتعجب إبراهيم فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، فقال الله عز وجل: فصرهن إليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، وفرقهن على عشرة جبال، ثم دعاهن فقال: أحيي بإذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم كل واحد وعظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم ان الله عزيز حكيم.
أقول: وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام، وروي من طرق أهل السنة عن ابن عباس.
قوله: ان إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني "الخ"، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال وهى تفرق أجزاء الجسد بعد الموت تفرقاً يؤدي إلى تغيرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الأصل شيء.
فإن قلت: ظاهر الرواية: ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثم فرعت على ذلك تعجب إبراهيم وسؤاله.
قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما تأمين معاً لأن المفروض ان بعض بدن احدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد منهما أعيد تاماً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإِعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.
وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعية البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلاَّ أن الذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنما تشتمل على تفرق الأجزاء واختلاطها وتغير صورها وحالاتها، وهذه مادة الشبهة الأولى، فالآية إنما تتعرض لدفعها وان كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما أُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.
قوله عليه السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها انها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق عليه السلام وفي بعضها: أنها النعامة والطاووس والوزة والديك، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر عليه السلام ونقل عن ابن عباس، وروي من طرق أهل السنة عن ابن عباس أيضاً: أنها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.
قوله عليه السلام: وفرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت وقيل انها كانت أربعة، وقيل سبعة.
وفي العيون مسنداً عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يابن رسول الله أليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }، قال الرضا: إن الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة؛ الحديث.
أقول: وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه الرواية التي رواها عن الرضا عليه السلام فارجع.
واعلم: ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أن مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه، فإن الخلة هي الحاجة، والخليل إنما يسمى خليلاً لأن الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجه إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.