التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧٥
يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
٢٧٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٧٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٢٧٨
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٩
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٨٠
وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٨١
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف ولسانها غير لسان التشريع: وإنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران:
{ { يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتّقوا الله لعلَّكم تفلحون } [آل عمران: 130]، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، وسياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، ومن هنا يظهر معنى قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، الآية على ما سيجيء بيانه.
وقد تقدّم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم وهي مكية:
{ { وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون } [الروم: 39]، ومن هنا يظهر أن الربا كان أمراً مرغوباً عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تمّ أمر النهي عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها، ومن هنا يظهر: أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.
على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله:
{ { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } [النساء: 161]، ويشعر به قوله: - حكاية عنهم - { { ليس علينا في الأميين سبيل } [آل عمران: 75]، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإِسلام.
والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإِنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }، وقوله: { وإن تصدقوا خير لكم }، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران مقارناً لذكر الإِنفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه.
على أن الاعتبار أيضاً يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلّف واستثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة، وإقامة اصلاب المساكين والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الأمر واستقرار النظام والأمن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا.
وقد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلاَّ في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، وأما سائر الكبائر فإن القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولي أعداء الدين.
وليس ذلك إلاَّ لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤومة، ولا تسري إلاَّ إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلاَّ في الأعمال والأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الإِنسانية ويسقط حكمها فيصير نسياً منسياً على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح.
وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمائل إلى أعداء الدين الأمم الإِسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم، لا يملكون مالاً ولا عرضاً ولا نفساً، ولا يستحقون موتاً ولا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامة الفضائل.
وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدد الإِنسانية بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى.
وسيظهر لك إن شاء الله تعالى ان ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، وللإِنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الإِنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح، والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لأمور وينقبض عن أخرى في معاشرته، ويريد كل مقدمة عند ارادة ذيها، وإذا طلب مسبباً مال إلى جهة سببه.
وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته.
وإنما اهتدى الإِنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير والشر، والنافع والضار، والحسن والقبيح، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.
وأما الإِنسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، والخير والشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالآخرة إنسان ذو إرادة، ومن المحال أن يصدر عن الإِنسان غير الأفعال الإِنسانية بل لأنه يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً والخير والنافع شراً وضاراً وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد.
وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عادياً دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلاَّ مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة، فافهم ذلك.
وهذا حال المرابي في أخذه الربا (إعطاء الشيء وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل) فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإِنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، وأما إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلاَّ من مال الغير، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.
وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإِنساني الذي هدته إليه الفطرة الإِلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب أن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنما البيع مثل الربا.
ومن هذا البيان يظهر: أولاً: ان المراد بالقيام في قوله تعالى: { لا يقوم إلاَّ كما يقوم }، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى:
{ { ليقوم الناس بالقسط } [الحديد: 25]، وقال تعالى: { { أن تقوم السماء والأرض بأمره } [الروم: 25]، وقال تعالى: { { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } [النساء: 127]، وأما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية.
وثانياً: أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا، وبناء عمله عليه، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.
وثالثاً: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }، ولم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجيء توضيحه.
ورابعاً: أن التشبيه أعني قوله: { الذي يتخبطه الشيطان من المس } لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية وإن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجن وشرار الإِنس، وإبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.
وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأما كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
ففيه: أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاَّ مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه:
{ { كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [فصلت: 42]، وقال تعالى: { { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [الطارق: 14]. وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإِشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضاً مستنده بالآخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إيّاه إشكال. لأن التكليف يرتفع حينئذٍ بارتفاع الموضوع، وإنما الاشكال في أن ينحرف الإِدراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كأن يشاهد الإِنسان العاقل الحسن قبيحاً وبالعكس، أو يرى الحق باطلاً وبالعكس جزافاً بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعاً لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أُسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب عليه السلام إذ قال:
{ { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41]، وإذ قال: { { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83]، والضر هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث ان أصحاب المادة لما سمعوا الإِلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرّت الإِشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مراراً.
وخامساً: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون. ووجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بيّنا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهوراً فيما ليست بظاهرة فيه، وإنما تبيّن حال آكل الربا يوم القيامة.
قال في تفسير المنار: وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.
أقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وإن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعاً "إيّاك والذنوب التي لا تغفر: الغلول، فمن غل شيئاً أُتي به يوم القيامة، والربا، فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط".
ثم قال: والمتبادر إلى جميع الافهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسراً للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلاَّ من لم يظهر له صحته في الواقع.
ثم قال: وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، وقلما يصح في التفسير شيء، انتهى ما ذكره.
ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أُولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصوداً لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، انتهى.
فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحاً لكن لا هو معلول أكل الربا محضاً، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أما الأولى فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته.
وأما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا }، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال كان واقفاً في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - أن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، ولو قال: إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلاً غير مختل الإِدراك فإن معنى هذا القول: انه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، ولو أنه قال: إن الربا مثل البيع لكان راداً على الله جاحداً للشريعة لا خابطاً كالممسوس.
والظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك وإن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: إنما البيع مثل الربا نظمهما في سلك واحد، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلاً وشبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله:

ومهمــه مغبرة أرجائه كأن لون أرضه سمائه

وكذا فساد ما ذكره آخرون: أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناءً على ما فهموه: أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.
قوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرَّم الربا }، جملة مستأنفة بناءً على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالاً لوجب تصديرها بقد. يقال: جاءني زيد وقد ضرب عمراً، ولا يلائم كونها حالاً ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه، فلو كانت حالاً لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع وحرَّم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية وإنما هي مستأنفة.
وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدّم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران:
{ { يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون } [آل عمران: 130]، فالجملة أعني قوله: وأحل الله "الخ" لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإِخبار عن حكم سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها: { فمن جاءه موعظة من ربه } الخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.
وقد قيل: إن قوله: { وأحل الله البيع وحرَّم الربا } مسوق لإِبطال قولهم: إنما البيع مثل الربا، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل احدهما وحرَّم الآخر.
وفيه أنه وإن كان استدلالاً صحيحاً في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة، وأحل الله "الخ"، حالية وليست بحال.
وأضعف منه ما ذكره آخرون: أن معنى قوله: وأحل الله "الخ" انه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني احللت البيع وحرّمت الربا، والأمر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، واستعبدهم بما أُريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي.
وفيه: أنه أيضاً مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية، وبعبارة أخرى على نفي العلية والمعلولية بين الأشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، والضرورة تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه وشرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: { وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } الآية، وقوله: { لا تظلمون } الآية، وقوله: { إن الذين يأكلون الربا } إلى قوله: { مثل الربا }، تدل على نوع تعليل لإِحلال البيع بكونه جارياً على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجاً عن سنن الاستقامة في الحياة، وكونه منافياً غير ملائم للإِيمان بالله تعالى، وكونه ظلماً.
قوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }، تفريع على قوله: { وأحل الله البيع } "الخ"، والكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقاً من مصاديقه يلحقه حكمه، والمعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم ومن جاءه موعظة "الخ" فإن انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله.
ومن هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرّعه الله تعالى، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهاءً عن نهيه تعالى، ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه، ومن قوله: { فله ما سلف وأمره إلى الله }، انه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: { ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، ويبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، وربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.
واعلم: أن أمر الآية عجيب، فإن قوله: { فمن جاءه موعظة } إلى آخر الآية، مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عمّا سلف منه، ورجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.
إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: { فله ما سلف وأمره إلى الله } لا يفيد إلاَّ معنى مبهماً يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته، فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضاً كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصباً أو رباً وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وإن شاء عفا عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك، فإن قوله: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى }، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في أول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل الأعصار اللاحقة.
وأما قوله: { ومن عاد فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، ويلازم ذلك الإِصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردة باطناً ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقاً ولا يفلح أبداً. فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الإِصرار الذي لا يخلو غالباً عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.
ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب. فإن الآية وإن دلَّت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه.
وقد ذكر في قوله تعالى: { فله ما سلف }، وفي قوله: { وأمره إلى الله }، وقوله: { ومن عاد } "الخ" وجوه من المعاني والاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدّم، لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ.
قوله تعالى: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } "الخ"، المحق نقصان الشيء حالاً بعد حال، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجاً، والإِرباء الإِنماء، والأثيم الحامل للإِثم، وقد مرّ معنى الاثم.
وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا، وقد تقدم ان إرباء الصدقات وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضاً كذلك لا محالة.
فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماءً يلزمها ذلك لزوماً قهرياً لا ينفك عنها من حيث انها تنشر الرحمة، وتورث المحبة، وحسن التفاهم، وتألف القلوب، وتبسط الأمن والحفظ، وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والإِفساد والسرقة، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال، ويعيّن جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافاً مضاعفة.
كذلك الربا من خاصته انه يمحق المال ويفنيه تدريجاً من حيث انه ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الأمن والحفظ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيباً، وتدعو إلى التفرق والاختلاف، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال، وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمّه.
وكل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، واستعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، وهموا بالمقابلة بالغاً ما بلغت، فإن أُحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض - والحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإِحسان وحسن النية وأثرت الأثر الجميل، وإن أُسيء إليهم بأعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة، وقلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم.
ويجب عليك: أن تعلم أولاً: أن العلل والأسباب التي تبنى عليها الأمور والحوادث الاجتماعية أُمور أغلبية الوجود والتأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحققها، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم، وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.
والتدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال والأعمال ومفاسدها مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال وبناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.
وثانياً: أن المجتمع كالفرد والأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما أن للفرد حياة وعمراً وموتاً مؤجلاً وأفعالاً وآثاراً فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره. وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى:
{ { وما أهلكنا من قرية إلاَّ ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } [الحجر: 5]. وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه وزواله وأثره. فالعفة والخلاعة الفردية حال كونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلاً يوجب نفرة الناس عن الإِنسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمراً فردياً والمجتمع على خلافه، وأما إذا صار اجتماعياً معروفاً عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإِنكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع، لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والأمراض التناسلية والمفاسد الاخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الانساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فردياً مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعياً من حيث السرعة والبطء.
إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلاً انفرادياً كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالباً، وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء والمذلة، وبين ما كان فعلاً اجتماعياً كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول بالرسمية، ووضعت عليها القوانين، وأُسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين: الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السيء المشؤوم، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، وربما لم نعتن به لإِلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهراً في نظر الفرد. قال تعالى:
{ { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140]، وهذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناس على ناس، وطائفة على طائفة، وحكومة على حكومة، وأُمة على أُمة، وظاهر أن سعادة الإِنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.
والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيماً على سعاده الإِنسان: نوعه وفرده، ومهيمناً على سعادة الدنيا: حاضرها وغابرها.
فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبين حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الارباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق وإن سمي رباً، والصدقة رباً رابية وإن لم تسم رباً، وإلى ذلك يشير تعالى: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق.
وبما مرّ من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أن محق الربا ليس بمعنى ابطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة والعيان يكذبه، وإنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءً، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له، ووجه ضعفه ظاهر.
وكذا ما ذكره آخرون: ان المراد به محق الآخرة وثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.
وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: { ومن عاد } "الخ"، وقد مرّ ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعاً.
قوله تعالى: { إن الله لا يحب كل كفار أثيم }، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، والمعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإِنسانية، وهي طرق المعاملات الفطرية، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات والمعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيراً من عباداته بفقدان شرائط مأخوذه فيها، وباستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيراً من معاملاته، ويضمن غيره، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة، وباستعمال الطمع والحرص في أموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقاً يفسد كثيراً من أُصول الأخلاق والفضائل وفروعها، وهو أثيم مستقر في نفسه الإِثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } "الخ"، تعليل يبيّن به ثواب المتصدقين والمنتهين عمّا نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقاً.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله وذروا ما بقي من الربا، وهو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله: { فإن لم تفعلوا فأْذنوا بحرب من الله ورسوله } الآية.
وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.
وفي تقييد الكلام بقوله: { إن كنتم مؤمنين } إشارة إلى أن تركه من لوازم الإِيمان، وتأكيد لما تقدم من قوله: { ومن عاد } "الخ"، وقوله: { إن الله لا يحب كل كفار } "الخ".
قوله تعالى: { وإن لم تفعلوا فأْذنوا بحرب من الله ورسوله }، الإِذن كالعلم وزناً ومعنى، وقرىء فآذنوا بالأمر من الإِيذان، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه، والمعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله، وتنكير الحرب لإِفادة التعظيم أو التنويع، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطاً بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ، ولو كان لله وحده لكان أمراً تكوينياً، وأما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى:
{ { ليس لك من الأمر شيء } [آل عمران: 128]. والحرب من الله ورسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: { { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } [الحجرات: 9]، على أن لله تعالى صنعاً آخر في الدفاع عن حكمه وهو محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، وهي التي تقطع أنفاسهم، وتخرب ديارهم، وتعفي آثارهم، قال تعالى: { { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً } [الإسراء: 16]. قوله تعالى: { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون }، كلمة وإن تبتم، تؤيد ما مرّ أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه، وقوله: { فلكم رؤوس أموالكم } أي أُصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى رؤوس أموالكم، وفي الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولاً؛ وعلى كون أخذ الربا ظلماً كما تقدم ثانياً، وعلى إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رؤوس أموالكم والمال إنما يكون رأساً إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب ثالثاً.
قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، والنظرة المهلة، والميسرة اليسار، والتمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وامهلوه حتى يكون متمكناً ذا يسار فيؤدي دينه.
والآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حلَّ أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالانظار.
قوله تعالى: { وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذٍ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقاً.
قوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } "الخ"، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، ويهيئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكىء عليه الحياة، وهو أن أمامكم يوماً ترجعون فيه إلى الله فتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
وأما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، ومعنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
وقد قيل: إن هذه الآية: واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثمّ توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { الذين يأكلون الربا } الآية، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويقولون ربنا متى تقوم الساعة"
]. أقول: وهو مثال برزخي وتصديق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون.
وفي الدر المنثور: أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه" ، ثم قرأ: لا يقومون إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
أقول: وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة، وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أُمه.
وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام، فقال: وهل رأيت أحداً اشترى غنياً أو فقيراً إلاَّ من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع وحرَّم الربا، فاربح ولا تربِ. قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة مثلين بمثل.
وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يكون الربا إلاَّ فيما يكال أو يوزن.
أقول: وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والذي هو مذهب أهل البيت عليهم السلام: أنه إنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن، والمسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلاَّ بهذا المقدار.
وفي الكافي عن أحدهما وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } الآية، قال: الموعظة التوبة.
وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيء حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر عليه السلام فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر عليه السلام مخرجك من كتاب الله عز وجل، { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }. قال: الموعظة التوبة.
وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام: كل رباً أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: وقال لو أن رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف ان في ذلك المال رباً ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله وان عرف منه شيئاً معروفاً فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة.
وفي الفقيه والعيون عن الرضا عليه السلام: هي كبيرة بعد البيان. قال: والاستخفاف بذلك دخول في الكفر.
وفي الكافي: انه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمداً، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزلة التي قال الله عز وجل.
وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام وقد سأل عن قوله تعالى: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } الآية، وقيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر.
أقول: والرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه، وهي لا تنافي ما مرّ من عموم المحق.
وفي المجمع عن علي عليه السلام: انه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه؟.
أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام قال: قال الله تعالى: أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري إلاَّ الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل والمرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد.
وفيه عن علي بن الحسين عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل أحد"
]. أقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريره، وعائشة، وابن عمر، وأبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي: انه لما أنزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: { يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } الآية.
أقول: وروي قريباً منه في المجمع عن الباقر عليه السلام.
وفي المجمع أيضاً عن السدي وعكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي:
"ألا إن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكل دم في الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعاً في بني ليث فقتله هذيل"
]. أقول: ورواه في الدر المنثور: عن ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي إلاَّ أن فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة.
وفي الدر المنثور: أخرج أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إلاَّ ان كل رباً في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة أن الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، وكانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإِسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإِسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية.
وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان: أن الربا كان محرماً في الإِسلام قبل نزول هذه الآيات ومبيناً للناس، وان هذه إنما تؤكد التحريم وتقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه قبض ولم يبيّن للناس أمر الربا، كما في الدر المنثور: عن ابن جرير، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
على أن من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم وبين ذلك للناس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور: بطرق عديدة عن ابن عباس، والسدي، وعطيه العوفي، وأبي صالح، وسعيد بن جبير: أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه } إلى آخر الآية.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضاً أو رفداً.
وفي المجمع أيضاً عن علي عليه السلام إذا أراد الله بقرية هلاكاً ظهر فيهم الربا.
أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يتبيّن به معنى هذه الروايات.
وفيه: في قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } الآية، قال: واختلف في حد الإِعسار، فروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد.
وفيه: انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفيه قال الباقر عليه السلام: إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإِمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسراً كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنه معسر فتصدقوا عليه بما لكم فهو خير لكم.
أقول: والرواية تشتمل على تفسير قوله: { إن كنتم تعلمون }، وقد مرّ له معنى آخر، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه.
(بحث علمي)
تقدم مراراً في المباحث السابقة: أن لا هم للإِنسان في حياته إلاَّ أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة أُخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملاً متعلقاً بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعده ملكاً جائز التصرف لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك؛ فافهم.
لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، واستقر ذلك بأن يعمل الإِنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.
غير أن التباين التام بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلاً لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.
فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الأصل في وضعه: انهم جعلوا شيئاً من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلاً يرجع إليه بقية الأمتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياساً لبقية أفراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.
ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للأشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه، وعند ذلك تعيّنت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلاً أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبيّن بذلك ان القيراط من الالماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلاً وعلى هذا القياس.
ثم توسعوا في وضع نقود أُخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.
ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعيّن البعض من الأفراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.
فهذه أعمال قدمها الإِنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، واستقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الإِنسان لأنه الذي يقدر الإِنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، وربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والأمتعة وهو الصرف.
وقد ظهر بما مرّ: أن أصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، وهذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلاً، فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلاً فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ماذا نتيجة الربا؟
الربا - ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل وأخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل وما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإِعسار والإِعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه أن له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زماناً طويلاً حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد (20 - 0 = المال) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.
وأما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض، وذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال، وليس إلاَّ لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدي ذلك إلى تأمّر المثرين من المرابين، وتحكمهم في أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الإِنسان من قريحة التعالي والاستخدام، والى دفاع أُولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الإِنسانية وفناء المدنية.
هذا مع ما يتفق عليه كثيراً من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.
هذا في الربا المتداول بين الأغنياء وأهل العسرة، وأما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجاً إلى المال الموضوع للربا من جانب، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجاره واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول بينها وأكل بعضها بعضاً، وانهضام بعضها في بعض، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفاً.
ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدمهم البارز في مزايا الحياة، وحرمان آخرين وهم الأكثرون من أوجب واجباتهم، وقد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في حقوق الإِنسانية، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكم المطلق بما شاؤوا، وانها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة، لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وكان عاقبة الذين أساؤا السوآى، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإِنسانية في مستقبل أيامها، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، وحبس الألوف والملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى، وجلوس قوم على أريكة البطالة والاتراف، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو اتكاء الإِنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإِترافهم، ولا يعيش به آخرون لحرمانهم.
(بحث آخر علمي)
قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عمّا يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه، ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المراتب، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوى مائة، فهما من حيث إنهما متساويان لشيء واحد متساويان، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.
ولحكمة أُخرى وهي: التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلاَّ الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء، والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلد إلى كل غرض، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية. وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها.
ثم قال ما محصله: انهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.
وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم وإبطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس وإلقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.
وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال وهما مقصودان لغيرهما، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس.
وفرع عليه أيضاً حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنه كفر بالنعمة وظلم، فإنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض يتعلق بأعيانهما.
وقد اشتبه عليه الأمر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك:
أما أولاً: فإنه ذكر أن لا غرض يتعلق بهما في أنفسهما، ولو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الأمتعة والحوائج، وكيف يجوز أن يقدر شيء شيئاً بما ليس فيه؟ وهل يمكن أن يقدر الذراع طول شيء إلاَّ بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل شيء إلاَّ بثقله الذي فيه؟
على أن اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم إلاَّ بكونهما مقصودين لأنفسهما، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبية.
على أنهما لو لم يكونا إلاَّ مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم أعني الذهب والفضة في الاعتبار، والواقع يكذب ذلك، ولكان جميع أنواع النقود متساوية القيم، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد والملح وغيرهما.
وأما ثانياً: فلأن الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى:
{ { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } [التوبة: 34] الآية، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل والمبادلة دائماً كما سيجيء بيان ذلك في تفسير الآية.
وأما ثالثاً: فلأن ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه ظلماً وكفراً موجود في اتخاذ الحلي منهما، وكذا في بيع الصرف، ولم يعدا في الشرع ظلماً وكفراً ولا حراماً.
وأما رابعاً: فلأن ما ذكر من المفسدة لو كان موجباً لما ذكره من الظلم والكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض، ولم يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع أن الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعاً ومنعاً.
والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض. قال تعالى:
{ { وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون } [الروم: 39]، فجعل الربا رابياً في أموال الناس وذلك انه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أن البذر من النبات ينمو بالتغذي من الأرض وضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، وهذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم، وبذلك يظهر أن المراد بقوله تعالى: { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.