التفاسير

< >
عرض

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
١١٣
يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١١٤
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ
١١٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١٦
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
١١٨
هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١١٩
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
١٢٠
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات الكريمة - كما ترى - تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب وخاصة اليهود في كفرهم بآيات الله وإغوائهم أنفسهم, وصدهم المؤمنين عن سبيل الله, وإنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام, فاتصال الآيات على حاله.
قوله تعالى: { لن يضروكم إلاَّ أذى } "الخ"، الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيوياً كان أو أخروياً على ما ذكره الراغب في مفردات القرآن.
قوله تعالى: { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلاَّ بحبل من الله وحبل من الناس }، الذلة بناء نوع من الذل, والذل بالضم ما كان عن قهر, وبالكسر ما كان عن تصعب وشماس على ما ذكره الراغب, ومعناه العام, حال الانكسار والمطاوعة, ويقابله العز وهو الامتناع.
وقوله: { ثقفوا }، أي وجدوا, والحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة؛ وقد استعير لكل ما يوجب نوعاً من الأمن والعصمة والوقاية كالعهد والذمة والأمان, والمراد (والله أعلم): أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب الخيمة على الإِنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلاَّ بحبل وسبب من الله, وحبل وسبب من الناس.
وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإِضافة, فإنه من الله القضاء والحكم تكويناً أو تشريعاً, ومن الناس البناء والعمل.
والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم, والدليل على ذلك قوله: { أينما ثقفوا }, فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم, وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية.
فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإِسلامي إلاَّ أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
وظاهر بعض المفسرين أن قوله: { ضربت عليهم الذلة }, ليس في مقام تشريع الحكم بل اخبار عمّا جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر, فإن الإِسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس, وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى.
وهذا المعنى لا بأس به, وربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية, فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة والمسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله, وقتل الأنبياء, والاعتداء المستمر, إلاَّ أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود ولا مخصص ظاهراً, وسيجيء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى:
{ { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } } [المائدة: 64]. قوله تعالى: { وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة }، باؤوا, أي اتخذوا مباءةً ومكاناً, أو رجعوا, والمسكنة أشد الفقر, والظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإِنسان سبيلاً إلى النجاة والخلاص عمّا يهدده من فقر أو أي عُدم, وعلى هذا فيتلاءم معنى الآية صدراً وذيلاً.
قوله تعالى: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }؛ والمعنى أنهم عصوا وكانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء.
قوله تعالى: { ليسوا سواء } إلى قوله: { بالمتقين }، السواء مصدر أريد به معنى الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف والحكم, فإن منهم { أُمةٌ قائمةٌ يتلون آيات الله } "الخ", ومن هنا يظهر أن قوله: { من أهل الكتاب } "الخ" في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.
وقد اختلف في قوله: { قائمة }, فقيل: أي ثابتة على أمر الله, وقيل: أي عادلة, وقيل: أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة, والحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب وذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإِيمان والطاعة.
والآناء جمع إنى بكسر الهمزة أو فتحها، وقيل: إنو وهو الوقت.
والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة من السرعة قال في المجمع: والفرق بين السرعة والعجلة: أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه, وهي محمودة, وضدها الإِبطاء, وهو مذموم, والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه, وهي مذمومة, وضدها الأناة وهي محمودة, انتهى, والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة, والعجلة وصف للمتحرك.
والخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة, وهو جمع محلى باللام؛ ومعناه الاستغراق, ويكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.
وقد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات, وهي الإِيمان, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والمسارعة في كل خير, ثم وصفهم بأنهم صالحون, فهم أهل الصراط المستقيم وزملاء النبيين والصديقين والشهداء. لقوله تعالى:
{ { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين } [الفاتحة: 6ـ7]، وقوله تعالى: { { فأُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } [النساء: 69] الآية، قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.
قوله تعالى: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه }، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة, كما قال تعالى:
{ { ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم } [البقرة: 158]، وقال: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } [البقرة: 272]. إلى أن قال: { { وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } } [البقرة: 272] قوله تعالى: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم }، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء, الذين كفروا هم الطائفة الأخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة, وكانوا يوطؤون على الإِسلام, ولا يألون جهداً في إطفاء نوره.
وربما قيل: إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون كالتوطئة لما سيشير إليه من قصة أُحد, لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله: وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا "الخ" فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين, ومن هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد.
وربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين وحمل تلك على اليهود, وهو خطأ.
قوله تعالى: { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } الآية، الصر البرد الشديد, وإنما قيد الممثل بقوله: في هذه الحياة الدنيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلاَّ بهذه الحياة, وقيد حرث القوم بقوله: ظلموا أنفسهم ليحسن ارتباطه بقوله بعده: { وما ظلمهم الله }.
ومحصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحياة وهم يريدون به إصلاح شأنهم ونيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلاَّ الشقاء, وفساد ما يريدونه ويحسبونه سعادةً لأنفسهم كالريح التي فيها صرٌ تهلك حرث الظالمين, وليس ذلك إلاَّ ظلماً منهم لأنفسهم, فإن العمل الفاسد لا يأتي إلاَّ بالأثر الفاسد.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإِنسان وما يضمره ويستسره, وقوله: { لا يألونكم }, أي لا يقصرون فيكم, وقوله: { خبالاً }, أي شراً وفساداً, ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل, وقوله: { ودّوا ما عنتّم }, ما مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم, وقوله: { قد بدت البغضاء من أفواههم }, أُريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم, ففيه استعارة لطيفة وكناية, ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله: { وما تخفي صدورهم أكبر }, للإِيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله: { أكبر }.
قوله تعالى: { ها أنتم أولاء تحبونهم } الآية، الظاهر أن أولاء اسم إشارة ولفظة (ها) للتنبيه, وقد تخلل لفظة أنتم بين "ها" و "أولاء", والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.
وقوله: { وتؤمنون بالكتاب كله }، اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله: كتابهم وكتابكم, وهم لا يؤمنون بكتابكم, وقوله: { وإذا لقوكم قالوا آمنا }, أي إنهم منافقون, وقوله: { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط, والأنامل جمع أنملة وهي طرف الإِصبع. والغيظ هو الحنق, وعض الأنامل على شيء مثل يضرب للتحسر والتأسف غضباً وحنقاً.
وقوله: { قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم في صورة الأمر, وبذلك تتصل الجملة بقوله: { إن الله عليم بذات الصدور }, أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.
قوله تعالى: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم }، المساءة خلاف السرور, وفي الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى.