التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٧٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٧
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٧٨
مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٩
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٨٠
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أُحد, فكأنها وخاصة الآيات الأربع الاول منها تتمة لها, لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء والامتحان الإلهي لعباده, وعلى ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أُحد يبين الله سبحانه فيها, أن سنة الابتلاء والامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر ولا مؤمن, فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور, فيتمحض الكافر للنار ويتميز الخبيث من الطيب في المؤمن.
قوله تعالى: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إلى آخر الآية تسلية ورفع للحزن ببيان حقيقة الأمر, فإن مسارعتهم في الكفر وتظاهرهم على إطفاء نور الله وغلبتهم الظاهرة أحياناً, ربما أوجبت أن يحزن المؤمن, كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق, لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام, استيقن أن الله هو الغالب, وأنهم جميعاً واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية والتشريعية إلى غايات أمرهم, فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية والنعمة والقدرة - وهو الاستدراج والمكر الإِلهي - إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان والمعصية, والمؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره, فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت وأئمة الكفر.
فمعنى الآية: لا يحزنك الذين يسرعون ولا يزال يشتد سرعتهم في الكفر, فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك, وليس كذلك, فهم لا يضرون الله شيئاً لأنهم مسخرون لله, يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة, (وهو آخر حدهم في الكفر) ولهم عذاب أليم فقوله: لا يحزنك, أمر إرشادي, وقوله: إنهم "الخ" تعليل للنهي, وقوله: يريد الله "الخ" تعليل وبيان لعدم ضررهم.
ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر وغيرهم, وهو كالبيان الكلي بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهي (لا يحزنك) وأن يعلل به علته (إنهم لن يضروا) "الخ" لأنه أعم يعلل به الأخص, والمعنى: وإنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئاً لأن الكافرين جميعاً لا يضرونه شيئاً.
قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا }، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم, أن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم, لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة, عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم, فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء والإمهال الإلهي, فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم, ووراء ذلك عذاب مهين ليس معه إلا الهوان, كل ذلك بمقتضى سنة التكميل.
قوله تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين } "الخ"، ثم عطف الكلام إلى المؤمنين, فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضاً, فيخلص المؤمن الخالص من غيره, ويتميز الخبيث من الطيب.
ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقاً آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب, وهو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم, فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم, فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه, فلا يطلع عليه أحداً إلاَّ من اجتبى من رسله, فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي, وذلك قوله تعالى: { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء }.
ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء, غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة, حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله ويحفظ طيبه, ولذلك قال أولاً: { فآمنوا بالله ورسله }, ثم تممه ثانياً بقوله: { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم }.
وقد ظهر من الآية أولاً: أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه.
وثانياً: أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران مدار الإِيمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم, وهذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد, ويدل عليها قوله تعالى:
{ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات } [البقرة: 148]، إذا انضم إلى قوله: { { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات } [المائدة: 48]، وسيجيء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى: { ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض } [الأنفال: 37] الآية.
وثالثاً: أن الايمان بالله ورسله مادة لطيب الحياة وهو طيب الذات, وأما الأجر فيتوقف على التقوى والعمل الصالح, ولذلك ذكر تعالى أولاً حديث الميز بين الطيب والخبيث, ثم فرع عليه قوله: { فآمنوا بالله ورسله }, ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإِيمان فقال: { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم }.
وبذلك يتبين في قوله تعالى:
{ { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97]، أن الإِحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه, والجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح, فالإيمان روح الحياة الطيبة, وأما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح, كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها وتحققها إلى روح حيواني, وبقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى والأعضاء, ولو سكنت الجميع بطلت وأبطلت الحياة.
وقد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية, والثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر وليس إلا للدلالة على مصدر الجلال والجمال في امور لا يتصف بها إلا هو بالوهيته وهو الامتحان, والإطلاع على الغيب, واجتباء الرسل, وأهلية الإيمان به.
قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } الآية، لما بين حال إملاء الكافرين, وكان الحال في البخل بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله مثله, فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال, عطف تعالى الكلام إليهم وبين أنه شر لهم, وفي التعبير عن المال بقوله: { بما آتاهم الله من فضله } إشعار بوجه لومهم وذمهم, وقوله: { سيطوقون } "الخ" في مقام التعليل لكون البخل شراً لهم, وقوله: { ولله ميراث السماوات }, الظاهر أنه حال من يوم القيامة, وكذا قوله: { والله بما تعملون خبير }.
ويحتمل على بعد أن يكون قوله: { ولله ميراث }, حالاً من فاعل قوله: { يبخلون }, وقوله: { والله بما تعملون خبير }, حالاً منه أيضاً أو جملة مستأنفة.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال: الموت خير للمؤمن والكافر لأن الله يقول: { وما عند الله خير للأبرار }, ويقول: { لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير } الآية.
أقول: الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة, فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال: إن المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شيء من البر, وروى هذا المعنى في الدر المنثور: عن ابن مسعود.