التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
١٨٢
ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٨٣
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ
١٨٤
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ
١٨٥
لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٨٦
وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
١٨٧
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨٨
وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٨٩
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات مرتبطة بما قبلها, فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس وترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم, وتحذيرهم عن الوهن والفشل والبخل, فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء, وتقليبهم الأمر على المسلمين, وتكذيبهم آيات الرسالة, وكتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه, وهذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة والصبر والثبات, والتحريص على الإنفاق في سبيل الله.
قوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء وغير ذلك.
وإنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى:
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة: 215] الآية، ويشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: { ولا يحسبن الذين يبخلون }, الآية.
أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم, فقالوا ذلك تعريضاً بأن ربهم لو كان غنياً لغار لهم وأغناهم فليس إلا فقيراً ونحن أغنياء.
قوله تعالى: { سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } الآية، المراد بالكتابة الحفظ والتثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم, والمآل واحد, والمراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان والعمد دون السهو والخطأ والجهالة, وقد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولاً عظيماً, وقوله: { عذاب الحريق }, الحريق النار أو اللهب وقيل: هو بمعنى المحرق.
قوله تعالى: { ذلك بما قدمت أيديكم } الآية، أي بما قدمتم أمامكم من العمل ونسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالباً, وقوله: { وأن الله ليس بظلام للعبيد }, عطف على قوله: { ما قدمت }, وتعليل للكتابة والعذاب, فلو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء لكان إهمالاً لأمر نظام الأعمال, وفي ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال, فيكون ظلاماً لعباده تعالى عن ذلك.
قوله تعالى: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } الآية، نعت للذين قبله, والعهد هو الأمر, والقربان ما يتقرب به من النعم وغيره, وأكل النار كناية عن إحراقها, والمراد بقوله: { قد جاءكم رسل من قبلي }, أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.
قوله تعالى: { فإن كذبوك فقد كذبت } الآية، تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيبهم له؛ والزبر جمع زبور وهو كتاب الحكم والمواعظ, وقد أريد بالزبر والكتاب المنير مثل كتاب نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل.
قوله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت }، الآية تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب, وقد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس, والتوفية هو الإعطاء الكامل, وقد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء وأن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل, وهو استدلال حسن, والزحزحة هو الإبعاد, وأصله تكرار الجذب بعجلة, والفوز الظفر بالبغية, والغرور مصدر غر أو هو جمع غار.
قوله تعالى: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } الآية، الإبلاء الاختبار, بعدما ذكر سبحانه جريان البلاء والإبلاء على المؤمنين, ثم ذكر قول اليهود وهو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين, أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي والأقاويل المؤذية من أهل الكتاب والمشركين ستتكرر على المؤمنين, ويكثر استقبالها إياهم وقرعها سمعهم, فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل والفشل, ويكونوا أرباب عزم وإرادة, وهذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم, ويوطنوا عليه أنفسهم.
وقد وضع في قوله: { ولتسمعن }, إلى قوله: { أذى كثيراً }, الأذى الكثير موضع القول وهو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازاً.
قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق }، النبذ الطرح, ونبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك وعدم الاعتناء, كما أن قولهم: جعله نصب عينيه, كالمثل يراد به الأخذ واللزوم.
قوله تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا }، إلى آخر الآيتين, أي بما أنعم عليهم من المال ولازمه حب المال والبخل به, والمفازة النجاة, وإنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم.
ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات والأرض, وقدرته على كل شيء, وهذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: { لقد سمع الله } الآية, قال: ذكر لنا أنها نزلت في حييّ بن أخطب لما نزل: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة }, قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.
وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام قال: والله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير, ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنياً لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.
وفي المناقب عن الباقر عليه السلام: هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.
أقول: أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية, وأما الثالثة فهي من الجري.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: كان بين القائلين والقاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.
أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود, فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت } الآية, أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته, كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة, إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك, ودركاً من كل ما فات فبالله فثقوا, وإياه فارجوا, فإن المصاب من حرم الثواب؛ فقال علي: هذا الخضر.
وفيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها, ثم تلا هذه الآية: { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز }"
]. أقول: ورواه فيه ببعض طرق أُخر عن غيره, واعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري.