التفاسير

< >
عرض

الۤمۤ
١
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ
٢
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٣
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٥
هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

بيان
غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين, والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداء كاليهود والنصارى والمشركين, وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.
ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة, فإن آياتها - وهي مئتا آية - ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها, متناسبة آياتها, مرتبطة أغراضها.
ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد استقر له الأمر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره, فإن فيها ذكر غزوة أُحد, وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران, وذكراً من أمر اليهود, وحثاً على المشركين, ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة, وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم, فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور اللذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنة اليهود والنصارى, ويحاجونهم ويجاوبونهم, ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين, ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن, فقد كان الإِسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب, ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.
والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم, ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم, ويبيّن لهم: أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه, ولم يعجزه خلقه, وإنما اختار دينه وهدى جمعاً من عباده إليه على طريقة العادة الجارية, والسُنّة الدائمة, وهي سُنّة العلل والأسباب, فالمؤمن والكافر جاريان على سُنّة الأسباب, فيوم للكافر ويوم للمؤمن, فالدار دار الامتحان, واليوم يوم العمل, والجزاء غداً.
قوله تعالى: { الله لا إله إلاَّ هو الحي القيوم }، قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسي, وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الإِيجاد والتدبير, فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور, بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة؛ فالعلم الإِلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها, والقدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلاَّ ما شاء وقوعه وأذن فيه, ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }.
ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل - وقد مرّ ذكر غرض السورة - كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض, كما أن الآيتين الأخيرتين أعني قوله: { إن الله لا يخفى عليه } الخ. بمنزلة التعليل بعد البيان, وعلى هذا فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله: { نزل عليك الكتاب } إلى قوله: { عزيز ذو انتقام }. وعلى هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في أُلوهيَته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة, لا يغلب في ملكه ولا يكون إلاَّ ما شاء وأذن فيه. فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق, والفرقان المميز بين الحق والباطل, وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب, وظرف الاختيار, فمن آمن فله أجره, ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام، وذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات, ولا يخفى عليه أمرهم، ولا يخرج عن إرادته ومشيئته فعالهم وكفرهم.
قوله تعالى: { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه }، قد مرّ أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإِنزال يدل على الدفعة.
وربما ينقض ذلك بقوله:
{ لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [الزخرف: 31]، وبقوله تعالى: { أن ينزل علينا مائدة } [المائدة: 112]، وقوله تعالى: { لولا نزل عليه } [الأنعام: 37] الآية، وقوله تعالى: { قل إن الله قادر على أن ينزل } [الأنعام: 37]، الآية ولذلك ذكر بعض المفسرين: أن الأولى أن يقال: إن معنى: { نزل عليك الكتاب }: أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض.
والجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من أجزاء الشيء وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء وبذلك يصير الشيء أمراً واحداً غير منقسم, والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى:
{ أنزل من السماء ماءً } [الرعد: 17]، وهو الغيث. ونسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج, والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى: { وهو الذي ينزّل الغيث } [الشورى: 28]. ومن هنا يظهر: أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة, فإن المراد بقوله: { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [الزخرف: 31] الآية: أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة, وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.
وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة, لا يدفع شيئاً من النقض بالآيات المذكورة, بل هي بحالها وهو ظاهر.
وقد جرى كلامه تعالى أن يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزيل والنزول, والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيء نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقر فيه, وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده, قال تعالى:
{ إنه عليٌ حكيم } [الشورى: 51]، وقال تعالى: { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم } [البقرة: 89]، فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجاً ثابتاً كما أن الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج, وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية والأمور الواقعية, كما يطلق على الله سبحانه أنه حق, وعلى الحقائق الخارجية أنها حقة, إنما هو من جهة أن كلاً منها حق من جهة الخبر عنها, وكيف كان فالمراد بالحق في الآية, الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.
والظاهر أن الباء في قوله: بالحق للمصاحبة والمعنى: نزل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحق ولا يفارقه, فيوجب مصاحبة الحق أن لا يطرأ عليه ولا يخالطه باطل, فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه, ففي قوله: { نزل عليك الكتاب بالحق } استعارة بالكناية, وقد قيل في معنى الباء وجوه أُخر لا يخلو عن سقم.
والتصديق من الصدق يقال: صدقت مقالاً كذا, أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً, أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.
والمراد مما بين يديه التوراة والإِنجيل كما قال تعالى:
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } [المائدة: 44] إلى أن قال: { وآتيناه الإِنجيل فيه هدى } إلى أن قال: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } [المائدة: 48] الآية، والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإِنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى عليهما السلام, وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف, فإن الدائر بينهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو التوراة الموجودة اليوم والأناجيل الأربعة المشهورة, فالقرآن يصدق التوراة والإِنجيل الموجودين, لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف والسقط فيهما, قال تعالى: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } [المائدة: 12] إلى أن قال: { وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به } [المائدة: 13] إلى أن قال: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به } [المائدة: 14] الآية.
قوله تعالى: { وأنزل التوراة والإِنجيل من قبل هدى للناس }، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة, والإِنجيل لفظ يوناني, وقيل فارسي الأصل معناه البشارة, وسيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى:
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [المائدة: 44] الآيات.
ومما أصر عليه القرآن تسمية كتاب عيسى عليه السلام بالإِنجيل بصيغة الإِفراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه, مع أن الأناجيل كثيرة, والمعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن وفي عهده, وهي التي ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا, ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والإِسقاط, وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والإِنجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه.
قوله تعالى: { وأنزل الفرقان }، الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح, واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك, وهو كل ما يفرق به بين شيء وشيء. قال تعالى:
{ يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [الأنفال: 41]، وقال تعالى: { يجعل لكم فرقاناً } [الأنفال: 29]، وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي, أعم من الكتاب وغيره. قال تعالى: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } [الأنبياء: 48]، وقال تعالى: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } [البقرة: 53]، وقال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً } [الفرقان: 1]. وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله: { لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } [الحديد: 25]، وهو في وزان قوله: { كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213]، فالميزان كالفرقان هو الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية, والله أعلم.
وقيل: المراد بالفرقان القرآن, وقيل: الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل. وقيل: الحجة القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من حاجه في أمر عيسى. وقيل: النصر. وقيل: العقل. والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: { إن الذين كفروا بآيات الله } إلى قوله: { ذو انتقام } الانتقام على ما قيل مجازاة المسيء على إساءته, وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي, فإن ذلك من لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة وضرراً في جانبنا, فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفي قلوبنا, وأما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده, لكنه وعد - وله الوعد الحق - أن سيقضي بين عباده بالحق إن خيراً فخير, وإن شراً فشر. قال تعالى:
{ والله يقضي بالحق } [غافر: 20]، وقال تعالى: { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } [النجم: 31]، كيف وهو عزيز على الإِطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه. وقد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد }، من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة. وهذا من الحقائق القرآنية التى ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه, وليس ذلك إلاَّ لكوننا لا نعد شيئاً عذاباً إلاَّ إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية, أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان, مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.
كلام في معنى العذاب في القرآن
القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكاً وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع. قال تعالى:
{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً } [طه: 124]، ويعد الأموال والأولاد عذاباً وإن كنا نعدها نعمة هنيئة. قال تعالى: { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } [التوبة: 85]. وحقيقة الأمر كما مرّ إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى: { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنه } [البقرة: 35]، أن سرور الإِنسان وغمّه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة, هذا أولاً. وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه, فللروح سعادة وشقاوة, وللجسم سعادة وشقاوة, وكذا للحيوان منهما شيء, وللإنسان منهما شيء وهكذا, وهذا ثانياً. والإِنسان المادى الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى, ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح, وهي السعادة المعنوية. فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلاَّ الخالص من التنعم واللذه على ما صورته له خياله, وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفاً بالألوف من الألم. فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها, ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة, فكان أيضاً حسرة. فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره, وفيما لم يجده متقلباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده, وذاك حاله فيما فقده.
وأما القرآن فإنه يرى أن الإِنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادي متحول متغير, وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال, فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته, وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله, وموجبة للإِخلاد إلى الأرض فهو أيضاً من سعادته ونعمت السعادة. وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد, كالقتل في سبيل الله, وذهاب المال واليسار لله تعالى, فهو أيضاً من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهراً.
وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإِنسان وعذاب له والقرآن يسمى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به, قال تعالى:
{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنَّم وبئس المهاد } [آل عمران: 196ـ197]. وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعده القرآن عذاباً كما يعدونه عذاباً لكن وجه النظر مختلف, فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم, وذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة, قال تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد } [الفجر: 6ـ14]. والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والإِدراك, فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء, ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة, والإِنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإِنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة, والشقاوة الحقيقية شقاوة, وهو كذلك, فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله, ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلاَّ به, ولا يقصد شيء إلاَّ له.
وهذا الإِنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلاَّ السعادة: بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه, وما كان فيه سعادة روحه محضاً, وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذاباً ونكالاً, وأما الإِنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه, وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه, قال تعالى:
{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } [المعارج: 42]، وقال تعالى: { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]، وقال تعالى: { فأعرض عمّن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلاَّ الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم } [النجم: 29ـ30]، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلاَّ وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.
ومن هنا يظهر: أن الإِدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإِنسان, وبين الفريقين وسائط من أهل الإِيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإِلهيين.
فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب, وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذاباً لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح, قال تعالى حكاية عن أيوب عليه السلام:
{ أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41]، وقال تعالى: { وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [الأعراف: 141]، فسمى ما يصنعون بهم بلاءً وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.
قوله تعالى: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } الخ، قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام, لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفى عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام, فعقب لذلك الكلام بقوله: { إن الله لا يخفى عليه }, فبيّن أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس ولا غائب عنها, ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهره القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى:
{ لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [البقرة: 284] الآية.
قوله تعالى: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }، التصوير إلقاء الصورة على الشيء, والصورة تعمّ ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له. والأرحام جمع رحم, وهو مستقر الجنين من الإِناث.
وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين, فإن محصل الآيتين: أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب. ومحصل هذه الآية, أن الأمر أعظم من ذلك, ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك, فيغلب هو على أمره تعالى, ويبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه, بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك, بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإِنسان, وهو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الإِيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية, ليتم بذلك أمر الفتنة والامتحان،
{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [الكهف: 29]، { وما تشاءون إلاَّ أن يشاء الله رب العالمين } [التكوير: 29]. فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلاَّ عن تقدير, وهو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التى سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه, فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه, يظن الإِنسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد, ويقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير, وهذا بعينه من القدر.
وهذا هو المراد بقوله: { يصوركم في الأرحام كيف يشاء }, أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشيئة اذن لا مشيئة حتم.
وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإِنسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد, ولما مرّ أن في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح عليه السلام والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره, فإن النصارى لا ينكرون كينونته عليه السلام في الرحم وأنه لم يكوّن نفسه.
والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله: { يصوركم } بعد قوله: { نزل عليك }, للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضاً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر, فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإِلهية في حق أنفسهم, ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
قوله تعالى: { لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم }، فيه عود إلى ما بدأ به الكلام في الآيات من التوحيد, وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.
فإن هذه الأمور المذكورة أعني: هداية الخلق بعد إيجادهم, وإنزال الكتاب والفرقان, وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين أُمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها, وإذ لا إله إِلاَّ الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان, وهو يعذب الكافرين بآياته, وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإِنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته.
(بحث روائي)
في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستين راكباً, قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاَّ عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم, واسمه الأيهم, وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم, وكانت ملوك الروم قد شرَّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ودخلوا مسجده حين صلَّى العصر, عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب, يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما رأينا وفداً مثلهم, وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس, وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوهم, فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسلما, قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإِسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى, فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلاَّ ويشبه أباه؟ قالوا: بلى, قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى, قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم عل كل شيء ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى, قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا, قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى, قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلاَّ ما علم؟ قالوا: لا, قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء, وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث, قالوا: بلى, قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أُمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها, ثم غذي كما يغذى الصبي, ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
أقول: وروى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن أبي إسحق وابن جرير وابن المنذر, عن محمد بن جعفر بن الزبير, وعن ابن إسحق, عن محمد بن سهل بن أبي أمامة, أما القصة فسيجيء نقلها, وأما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم وقد تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"الشقي من شقى في بطن أُمه، والسعيد من سعد في بطن أُمه"
]. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أُخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرّك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري, فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقة أربعين يوماً, ثم تصير مضغة أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله, يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة, فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لى البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا رب ما نكتب؟ فيوحي الله عز وجل إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أُمه، فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أُمه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه, فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان, ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه, ثم يقيمانه قائماً في بطن أُمه، قال: فربما عتا فانقلب, ولا يكون ذلك إلاَّ في كل عات أو مارد, وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، فبعث الله عز وجل إليه ملكاً يقال له: زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة أُخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة.
أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشراً تاماً سوياً, وتقييدها بقوله: التي هي مما أخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجيء بيانه: ان الإِنسان الذي في هذه النشأة الدنيوية وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة أخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك, وهي المسماة في لسان الأخبار بعالم الذر والميثاق, فما أخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية, وما يخلق في هذه النشأة هو مما أخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم. ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتمّ ويعود سقطاً, فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا. وقوله ويجعلها في الرحم، عطف على قوله: يخلق النطفة.
قوله عليه السلام: يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة, يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر. وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإِمام عليه السلام هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلاَّ العروق, ومنها العرق الذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم, وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر.
قوله عليه السلام: وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء, كأنها الروح النباتية التي هي المبدأ للتغذي والتنمي.
قوله عليه السلام: فينفخان فيها روح الحياة والبقاء, ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة, فروح الحياة والبقاء منفوخة في الروح النباتية, ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلاً كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها, وعلى أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الإِنساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد (على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية).
وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء, فالروح متحدة الوجود مع البدن بوجه, وهي النطفة وما يمدها من دم الحيض, وهي المتحدة مع بدني الأبوين, وهما مع النطفة وهلمَّ جراً, فما يجري على الإِنسان متعيّن في الجملة في وجود آبائه وأُمهاته, مشهود في صور أشخاصهم, وهو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.
وبه يظهر معنى قوله عليه السلام: فيوحي الله عزّ وجلّ إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أُمه, وذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة, فما بقي متصلاً به إلاَّ أُمه, وهو قوله عليه السلام: فإذا اللوح يقرع جبهة أُمه والجبهة مجتمع حواس الإِنسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه, فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة بنسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.
قوله عليه السلام: ويشترطان البداء فيما يكتبان, وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة, فإن الصورة وإن كانت مبدئاً لجميع ما يجري على الإِنسان من أحواله, والحوادث المختصة به, لكن ليست بالمبدأ كله بل للأمور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك, ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع, فكانت مظنة للبداء.
واعلم: أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل, ووحيه إلى الرحم, وإرسال الملكين الخلاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث, ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعية, فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني الأسباب المعنوية والأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر, أو يتدافعا فيبطلا معاً، أو يعود الأمر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين, بل كل منهما علّة تامّة لكن في مرتبته.
فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية وسلوكهم إلى مرضاته وهم الأنبياء عليهم السلام - والطريق طريق الباطن - فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته, وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم, ونسبة السعادة إلى تأييدهم, ونسبة الشقاء بخصوصياته إلى الشياطين وتسويلهم, ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيته, ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران, وبالجملة جميع شؤون الحياة الآخرة, وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية ولم يضيعوا حقها, فإنها أحد ركني حياة الإِنسان والأساس الذي تستند إليه الحياة الدنيا، ولا بد للإِنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه.