التفاسير

< >
عرض

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
١٢
تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٣
وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٤
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الإيصاء والتوصية هو العهد والأمر, وقال الراغب في مفردات القرآن: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ, انتهى.
وفي العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة, وأما أولاد الأولاد فنازلاً فحكمهم حكم من يتصلون به, فلبنت الابن سهمان, ولابن البنت سهم واحد, إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم, كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به, وأما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد.
وأما قوله تعالى في ذيل الآية: { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.
وأما قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء, فكأنه جعل إرث الأنثى مقرراً معروفاً وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولاً عليه يعرف بالإضافة إليه, ولولا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء ولا بأس به, وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلاً إلا لسهام النساء وإن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية والآية التي في آخر السورة.
وبالجملة قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } في محل التفسير لقوله: { يوصيكم الله في أولادكم }, واللام في الذكر والانثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أُنثيين, وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وأنثى معاً فللذكر ضعفا الأنثى سهماً ولم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيء.
وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.
قوله تعالى: { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } أنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل: هذا إذا كانوا نساءً ورجالاً فإن كن نساءً "إلخ" وهو شائع في الاستعمال ومنه قوله تعالى:
{ { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } [البقرة: 196]، وقوله: { { أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر } [البقرة: 184]. والضمير في "كن" راجع إلى الأولاد في قوله: { في أولادكم } وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر, والضمير في قوله: ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.
قوله تعالى: { وإن كانت واحدة فلها النصف } الضمير إلى الولد المفهوم من السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك, فاللام عوض عن المضاف إليه.
ولم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } فإن ذكراً وأنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الأنثيين, فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً وليس في نفسه متعيناً للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلاً, لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذي في قوله: { فإن كنَّ نساء فوق اثنتين }, فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين.
على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجرى العمل عليه منذ عهده صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا بين علماء الأُمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.
وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين, قال الكلينيرحمه الله في الكافي: إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين }, وذلك أنه إذا ترك الرجل بنتاً وابناً, فللذكر مثل حظ الأنثيين, وهو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان, واكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين, انتهى, ونقل مثله عن أبي مسلم المفسر: أنه يستفاد من قوله تعالى: { للذكر مثل حظ الأنثيين } وذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين, انتهى, وإن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفاً فليتأمل فيه.
وهناك وجوه أُخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله تعالى: { فإن كن نساء فوق اثنتين } الاثنتان وما فوقهما, فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين, والنساء فوق اثنتين جميعاً, ومثل قول بعضهم: إن حكم البنتين ها هنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك, مما يجلّ عن أمثالها كلامه تعالى.
قوله تعالى: { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } إلى قوله: { فلأُمه السدس } في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم, وقوله: { وورثه أبواه }, أي انحصر الوارث فيهما, وفي قوله: { فإن كان له إخوة } "الخ" بعد قوله: { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه }, دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث.
قوله تعالى: { من بعد وصية يوصي بها أو دين } أما الوصية: فهي التي تندب إليها قوله:
{ { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } [البقرة: 180] الآية، ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية, لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم, لأن الأهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد, ومنه التقديم, وعلى هذا فقوله: أو دين في مقام الاضراب والترقى طبعاً.
وبذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله: { يوصي بها }, ففيه دلالة على التأكيد, ولا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به, كما قال تعالى:
{ { فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه } [البقرة: 181] الآية.
قوله تعالى: { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم, وهو كلام ملقى للإيماء إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والأبناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان "لا تدرون" وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان.
على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة - أعني للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله: { أقرب لكم نفعاً } فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.
وتقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعاً من الأبناء, كما في قوله تعالى:
{ إن الصفا والمروة من شعائر الله } [البقرة: 185]، وقد مرت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أبدأ بما بدأ الله" الحديث.
والأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الإنسانية, فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاءً لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطاً وأمس وجوداً به من أبنائه, وإذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلاً بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلاً وإن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس.
وهذه الآية أعني قوله: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإِرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإِسلامية.
على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضاً كقوله:
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [الروم: 30]، تدل على ذلك, وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة.
وربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله: { آباؤكم وأبناؤكم } الخ, تقدم أولاد الأولاد على الأجداد والجدات, فإن الأجداد والجدات لا يرثون مع وجود الأولاد وأولاد الأولاد.
قوله تعالى: { فريضة من الله } الخ، الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا أو ألزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة معينة لا تتغير عما وضعت عليه.
وهذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى وهي الأولاد والأب والأم على جميع تقاديرها إما تصريحاً كسهم الأب والأم وهو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد, والثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف, وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان, وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الأنثيين, ويحلق بها سهم البنتين وهو الثلثان كما تقدم.
وإما تلويحاً كسهم الابن الواحد, فإنه يرث جميع المال لقوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } وقوله في البنت: { وإن كانت واحدة فلها النصف }, وكذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله: الذكر مثل حظ الأنثيين, أن الأبناء متساوون في السهام؛ وأمر الآية في إيجازها عجيب.
واعلم أيضاً أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وإمتاع الورثة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب } الآية, وما ربما قيل: إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجريانها على لسانه, فهو مما لا ينبغي أن يصغى إليه.
نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة ومنشأه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب, ولذلك نرى التعرض له ها هنا فضلاً فليراجع محله المناسب له.
قوله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } إلى قوله: { توصون بها أو دين } المعنى ظاهر، وقد استعمل النصف بالإضافة, فقيل: نصف ما ترك, والربع بالقطع, فقيل: ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهرة أو مقدرة, ومن هذه تفيد معنى الأخذ والشروع من الشيء, وهذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشيء المبتدء منه وكالمستهلك فيه, وهذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدء منه كالسدس والربع والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين, ولذا قال تعالى: { السدس مما ترك }؛ وقال: { فلأمه الثلث }؛ وقال: { ولكم الربع }؛ بالقطع عن الإِضافة في جميع ذلك؛ وقال: { ولكم نصف ما ترك }؛ وقال: { فلهن ثلثا ما ترك } بالإِضافة؛ وقال: { فلها النصف }, أي نصف ما ترك, فاللام عوض عن المضاف إليه.
قوله تعالى: { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة, ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل - بضم الكاف - لإحاطته بالأجزاء, ومنه الكل - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كلٌّ عليه قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة, قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الكلالة فقال: من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسماً للميت, وكلا القولين صحيح, فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعاً, انتهى.
أقول: وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفاً للرجل وكلالة خبرها والمعنى: وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أباً له ولا ابناً. ويمكن أن يكون كان تامة ورجل يورث فاعله, وكلالة مصدراً وضع موضع الحال, ويؤول المعنى أيضاً إلى كون الميت كلالة للورثة, وقال الزجاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول, ومن قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.
وقوله: غير مضار منصوب على الحال, والمضارة هو الإضرار وظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كأن يعتمل بالدين للإضرار بالورثة وتحريمهم الإرث, أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.
قوله تعالى: { تلك حدود الله } إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان, والمراد بها أحكام الإِرث والفرائض المبنية, وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية.
(كلام في الارث على وجه كلي)
هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم }, إلى آخر الآيتين, والآية التي في آخر السورة: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة }, إلى آخر الآية، مع قوله تعالى: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان } الآية، ومع قوله تعالى:
{ { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [الأنفال: 75]، خمس آيات أو ستة هي الأصل القرآني للإرث في الإسلام والسنة تفسرها أوضح تفسير وتفصيل.
والكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الأحكام أمور: منها: ما تقدم في قوله: { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً }, ويظهر منها أن للقرب والبعد من الميت تأثيراً في باب الإرث, وإذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم وقلته وعظمه وصغره, وإذا ضمت إلى قوله تعالى: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }, أفادت أن الأقرب نسباً في باب الإرث يمنع الأبعد.
فأقرب الأقارب إلى الميت الأب والأم والابن والبنت إذ لا واسطة بينهم وبين الميت, والابن والبنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنهم يتصلون به بواسطتهم, فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.
وتتلوها المرتبة الثانية وهم إخوة الميت وأخواته وجدّه وجدته, فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة وهي الأب أو الأم, وأولاد الأخ والأخت يقومون مقام أبيهم وأمهم, وكل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر.
وتتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت وأخواله وعماته وخالاته فإن بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجد أو الجدة, والأب أو الأم, والأمر على قيام ما مر.
ويظهر من مسألة القرب والبعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذى السبب الواحد, ومن ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها, وأما كلالة الأم فلا تزاحمها كلالة الأبوين.
ومنها: أنه قد اعتبر في الوراث تقدم وتأخر من جهة أُخرى, فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة, فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف, فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه ومثله الزوجة في ربعها وثمنها وكالأم تذهب بالثلث, فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس والأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد؛ ومنهم من عين له سهم, ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه, ولم يذكر له سهم بعينه كالبنت والبنات والأخت والأخوات يذهبن بالنصف والثلثين, وقد سكت عن سهامهن عند الزحام, ويستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون ولا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل, وإنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.
ومنها: أن السهام قد تزيد على المال, كما إذا فرض زوج وأخوات من كلالة الأبوين, فهناك نصف وثلثان وهو زائد على مخرج المال, وكذا لو فرض أبوان وبنتان وزوج فتزيد السهام على أصل التركة, فإنها سدسان وثلثان وربع.
وكذلك قد تزيد التركة على الفريضة, كما إذا كانت هناك بنت واحد أو بنتان فقط وهكذا, والسنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد وهم البنات والأخوات دون غيرهم وهو الأم والزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض, وكذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة, كما في بنت وأب, فللأب السدس وللبنت نصف المال بالفريضة والباقي بالرد.
وقد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول وعمل الناس في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب وسيجيء الكلام فيهما في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن التأمل في سهام الرجال والنساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين, فإن سهم الأم قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة, ولعل تغليب جانب الأم على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمس رحماً بولدها ومقاساتها كل شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته, قال تعالى:
{ ووصينا الإِنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [الأحقاف: 15]، وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعاً.
وأما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة, فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلاً, وكون الإنفاق اللازم على عهدته, قال تعالى:
{ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } [النساء: 34]، والقوام من القيام وهو إدارة المعاش, والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقل, فإن حياته حياة تعقلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية, وإعطاء زمام المال يداً عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يداً ذات إحساس عاطفي وهذا الإعطاء والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء, فيغلب تدبير التعقل على تدبير الإحساس والعواطف, فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة.
وقد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها, الموجب لاشتراكها مع الرجل, فيما بيده من الثلثين, فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف, وعندها الثلث الذي تتملكها وبيدها أمر ملكه ومصرفه.
وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أن الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف, فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها, وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها؛ وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الإحساس والعواطف في الرجل, والتدبير المالي بالحفظ والتبديل والإنتاج والاسترباح أنسب وأمس بروح التعقل, وغلبة العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة, وذلك بالمصرف أمس وألصق, فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث والنفقات بين الرجال والنساء.
وينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل, ومزيته على المرأة في هذا الشأن, هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } الآية, دون الزيادة في البأس والشدة والصلابة, فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال, وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة, وتترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والأعمال الشاقة, وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والأهوال, وهذه شؤون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.
لكن النساء أيضاً مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته, ولها آثار هامة في أبواب الأنس, والمحبة, والسكن, والرحمة, والرأفة, وتحمل أثقال التناسل, والحمل, والوضع, والحضانة, والتربية, والتمريض, وخدمة البيوت, ولا يصلح شأن الإنسان بالخشونة والغلظة لولا اللين والرقة, ولا بالغضب لولا الشهوة, ولا أمر الدنيا بالدفع لولا الجذب.
وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين, وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه
{ { أم يخافون أن يحيف الله عليهم } } [النور: 50]، { { ولا يظلم ربك أحداً } [الكهف: 49]، وهو القائل: { بعضكم من بعض } [النساء: 25]، وقد أشار إلى هذا الالتئام والبعضية بقوله في الآية: { بما فضل الله بعضهم على بعض }.
وقال أيضاً:
{ { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [الروم: 20 -21]، فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإِنسان (وهو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش, وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة والشدة حتى ما في المغالبات والغزوات والغارات, ولو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر وآخر يفر.
لكن الله سبحانه خلق النساء وجهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال, وجعل بينهم مودة ورحمة, فاجتذبن الرجال بالجمال, والدلال, والمودة, والرحمة, فالنساء هن الركن الأول والعامل الجوهري للاجتماع الإنساني.
ومن هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي وهو الازدواج هو الأصل في هذا الباب, قال تعالى:
{ { يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13]، فبدأ بأمر ازدواج الذكر والأنثى وظهور التناسل بذلك, ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب والقبائل.
ومن ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله: { الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } الآية, إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية - أعني المعاش أحسن تنظيم, ويصلح به حال المجتمع إصلاحاً جيداً, وليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الاسلام, وهي القربى والزلفى من الله سبحانه, فإن الاسلام لا يعبأ بشيء من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة المادية, وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.
فقد تحصل من جميع ما قدمناه أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي أوجب تفاوتاً في أمر الإرث وما يشبهه, لكنها فضيلة بمعنى الزيادة, وأما الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد, والبخاري, ومسلم, وأبو داود, والترمذي, والنسائي, وابن ماجه, وابن جرير, وابن المنذر, وابن أبي حاتم, والبيهقي - في سننه من طرق جابر بن عبد الله - قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }.
أقول: قد تقدم مراراً أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد وتجتمع عدة منها في آية, ولا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها, ولا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية, فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت "الخ"؛ مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية, وأعجب منه ما رواه أيضاً عن عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني وأنا مريض فقلت: كيف اقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئاً ونزلت: { يوصيكم الله في أولادكم }.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري, ولا الضعفاء من الغلمان, لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر, وترك امرأة له يقال لها: أُم كحة وترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أُم كحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية: { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف } ثم قال في أُم كحة: { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد, فإن كان لكم ولد فلهن الثمن }.
وفيه أيضاً عنهما عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن, وتعطى الابنة النصف, ويعطى الغلام الصغير, وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم, ولا يحوز الغنيمة, وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم, ويعطونه الأكبر فالأكبر.
أقول: وكان منه التعصيب, وهو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت ابناً كبيراً يطيق القتال, وقد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة, وربما وجد شيء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام بنفي التعصيب, وأن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص وهم الأولاد والإِخوة من الأبوين أو الأب؛ وإلى الأب في بعض الصور والذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر.
وفيه أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر؟ وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص! ثم قال ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة؛ فقيل له: وأيها قدم الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله, وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي, فتلك التي أخر الله, فالذي قدم كالزوجين والأم, والذي أخر كالأخوات والبنات, فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم, فأعطي حقه كاملاً, فإن بقي شيء كان لهن, وإن لم يبق شيء فلا شيء لهن.
وفيه أيضاً أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: أترون الذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في المال نصفاً وثلثاً وربعاً؟ إنما هو نصفان وثلاث أثلاث وأربعة أرباع.
وفيه أيضاً عنه عن عطاء قال: قلت لابن عباس: إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثاً على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.
أقول: وهذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضاً كما يأتي.
في الكافي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم, أترون الذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً؟ فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض فقال: عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض ودفع بعضها بعضاً قال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر؟ وما أجد شيئاً أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص وأدخل على كل ذي حق حقه فأدخل عليه من عول الفرائض.
وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت الفريضة, فقال له زفر بن أوس: وأيها قدم وأيها أخر؟ فقال: وأما ما أخر الله فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر, فأما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء, والزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء, والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شيء فهذه الفرائض التي قدم الله عز وجل, وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي, فتلك التي أخر الله, فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدئ بما قدم الله فأعطي حقه كاملاً فإن بقي شيء كان لمن أخر وإن لم يبق شيء فلا شيء له؛ فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.
أقول: وهذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي عليه السلام بنفي العول, وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام كما يأتي.
في الكافي عن الباقر عليه السلام في حديث قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة.
أقول: في الصحاح: إن عالج موضع بالبادية به رمل, وقوله عليه السلام: إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها, والستة هي السهام المصرحة بها في الكتاب وهي: النصف والثلث والثلثان والربع والسدس والثمن.
وفيه عن الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذي لا مقدم لما أخر, ولا مؤخر لما قدم, ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى, ثم قال: يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله, وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله, ولا عال سهم من فرائض الله, ولا اختلف اثنان في حكم الله, ولا تنازعت الأمة في شيء من أمر الله إلاَّ وعند علي علمه من كتاب الله, فذوقوا وبال أمركم وما فرطتم فيما قدمت أيديكم, وما الله بظلاَّم للعبيد, وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
أقول: وتوضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست: النصف, والثلثان, والثلث, والسدس, والربع, والثمن, وهذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف والسدسان والربع في الطبقة الأولى كبنت وأب وأم وزوج فتزيد السهام على الأصل, وكذا الثلثان والسدسان والربع كبنتين وأبوين وزوج فتتزاحم, وكذلك يجتمع النصف والثلث والربع والسدس في الطبقة الثانية كأخت وجدين للأب والأم وزوجته, وكذا الثلثان والثلث والربع والسدس كأختين وجدين وزوج.
فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول, وإن حفظنا فريضة الأبوين والزوجين وكلالة الأم وهي الثلث, والسدس, والنصف, والربع, والثمن عن ورود النقص عليها - لأن الله عين هذه السهام ولم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت, والأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت وبخلاف سهام الذكر والأنثى عند الوحدة والكثرة - ورد النقص دائماً على الأولاد والإخوة والأخوات لما مر.
وأما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث وكتب الفقه.
وفي الدر المنثور: أخرج الحاكم والبيهقي في سفنه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله يقول: فإن كان له إخوة وأنت تحجبها بأخوين؟! فقال: إن العرب تسمى الأخوين إخوة.
أقول: وهو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإن كان المعروف أن الإخوة جمع الأخ ولا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: لا يحجب الأم عن الثلث إلا أخوان أو أربع أخوات لأب وأم أو لأب.
أقول: والأخبار في ذلك كثيرة وأما الإخوة لأم فإنهم يتقربون بالأم وهي بوجودها تمنعهم, وفي أخبار الفريقين أن الإخوة يحجبون الأم ولا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث وهو الأبوان فحجب الإخوة الأم مع إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه, ومنه يعلم وجه عدم حجب الإخوة للأم فإنهم ليسوا عالة للأب.
وفي المجمع في قوله تعالى: { من بعد وصية يوصي بها أو دين }، عن أمير المؤمنين عليه السلام: إنكم تقرأون في هذه الآية الوصية قبل الدين, وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
أقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع والتفاسير وفي الكافي في معنى الكلالة عن الصادق عليه السلام: من ليس بوالد ولا ولد.
وفيه عنه عليه السلام في قوله تعالى: { وإن كان رجل يورث كلالة } الآية, إنما عنى بذلك الإِخوة والأخوات من الأم خاصة.
أقول: والأخبار في ذلك كثيرة وقد رواها أهل السُنّة, وقد استفاضت الروايات بذلك وأن حكم كلالة الأب والأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } الآية.
ومن الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد, ومن المستفاد من سياق الآيات وذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن, والكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الأم والأب أو أحدهما, فالتفاوت المراعى في جانب الأب والأم يسري إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الأم ويكشف بذلك أن القليل لكلالة الأم والكثير لغيره.
وفي المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يعطي فلذلك وفر على الرجال, وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت, وعليه أن يعولها وعليه نفقتها, وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك, وذلك قول الله عز وجل: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }.
وفي الكافي بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجال سهمين؟ فذكر بعض أصحابنا لأبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد, ولا نفقة, ولا معقلة, فإنما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً, وللرجل سهمين.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة وقد مر دلالة الكتاب أيضاً على ذلك.
(بحث علمي في فصول)
1ـ ظهور الإرث: كأن الإرث أعني تملك بعض الأحياء المال الذي تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإِنساني, وقد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الأمم والملل الحصول على مبدأ حصوله, ومن طبيعة الأمر أيضاً ذلك, فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الإنسان الاجتماعية أن المال وخاصة لو كان مما لا يد عليه يحن إليه الإنسان ويتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه, وحيازته, وخاصة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الأولية القديمة, والإنسان في ما كونه من مجتمعه همجياً أو مدنياً لا يستغني عن اعتبار القرب والولاية (المنتجين للأقربين والأولوية) بين أفراد المجتمع الاعتبار الذي عليه المدار في تشكل البيت والبطن والعشيرة والقبيلة ونحو ذلك, فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه والرحم برحمه, والصديق بصديقه, والمولى بعبده, وأحد الزوجين بالآخر, والرئيس بمرؤوسه حتى القوي بالضعيف, وإن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافاً شديداً يكاد لا تناله يد الضبط.
ولازم هذين الأمرين كون الإرث دائراً بينهم من أقدم العهود الاجتماعية.
2ـ تحول الإرث تدريجياً: لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية تتحول من حال إلى حال وتلعب به يد التطور والتكامل منذ أول ظهورها غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولاً يفيد وثوقاً به.
والقدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء والضعفاء الإِرث, وإنما كان يختص بالأقوياء وليس إلا لأنهم كانوا يعاملون مع النساء والضعفاء من العبيد والصغار معاملة الحيوان المسخر والسلع والأمتعة التي ليس لها إلا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان وما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التي لا تتجاوز النوع الإنساني.
ومع ذلك كان يختلف مصداق القوي في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة, وتارة رئيس البيت, وتارة أخرى أشجع القوم وأشدهم بأساً, وكان ذلك يوجب طبعاً تغير سنة الإِرث تغيراً جوهرياً.
ولكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير والتبدل حتى أن الملل المتمدنة التي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم واليونان, وما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الإِرث الإِسلامية, فقد حكمت في الأمم الإِسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرناً.
3ـ الوراثة بين الأمم المتمدنة: من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالاً مدنياً يفصله عن المجتمع العام ويصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية, فكان يستقل في الأمر والنهي والجزاء والسياسة ونحو ذلك.
وكان رب البيت هو معبوداً لأهله من زوجة وأولاد وعبيد, وكان هو المالك من بينهم ولا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت, وكان هو الولي عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم, وكان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه.
وإذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتساباً أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقاً وأذن لها رب البيت أو بعض الأقارب, فإنما كان يرثه رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته وملكه المطلق للبيت وأهله.
وإذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك وورثه الأبناء, فإن انفصلوا وأسسوا بيوتاً جديدة كانوا أربابها, وإن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد (أخيهم مثلاً) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته وولايته المطلقة.
وكذا كان يرثه الأدعياء لأن الادعاء والتبني كان دائراً عندهم كما بين العرب في الجاهلية.
وأما النساء كالزوجة والبنت والأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت أخرى بالازدواج, فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر, وهذا هو الذي ربما ذكره بعضهم فقال: إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية, وأظن أن مأخذه شيء آخر غير الملك الاشتراكي, فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضاً من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعي والأراضي الخصبة وحموه لأنفسهم, وكانوا يحاربون عليه ويدفعون عن محمياتهم وهذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذي مالكه هيئة المجتمع الإنساني دون أفراده, وهو مع ذلك لا ينفي أن يملك كل فرد من المجتمع شيئاً من هذا الملك العام اختصاصاً.
وهذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره والاستدرار منه, وقد احترمه الإِسلام كما ذكرناه فيما تقدم, قال الله تعالى:
{ { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة: 29] فالمجتمع الإِنساني وهو المجتمع الإِسلامي ومن هو تحت ذمته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى, ثم المجتمع الإسلامي هو المالك لما في يده من الثروة, ولذلك لا يرى الإِسلام إرث الكافر من المسلم.
ولهذا النظر آثار ونماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الأجانب شيئاً من الأراضي والأموال غير المنقولة من أوطانهم ونحو ذلك.
ولما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال وتمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف والممالك المستقلة.
وكان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعية وهي الاشتراك في الدم, وكان لازمها منع الازدواج في المحارم وجوازه في غيرهم, والثاني القرابة الرسمية وهي القانونية ولازمها الإرث وعدمه والنفقة والولاية وغير ذلك, فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعية ورسمية معاً بالنسبة إلى رب البيت ورئيسه وفي ما بينهم أنفسهم, وكانت النساء جميعاً ذوات قرابة طبيعية لا رسمية, فكانت المرأة لا ترث والدها ولا ولدها ولا أخاها ولا بعلها ولا غيرهم. هذه سنة الروم القديم.
وأما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريباً من وضع الروم القديم, وكان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور, ويحرم النساء جميعاً من زوجة وبنت وأخت, ويحرم صغار الأولاد وغيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لإِيراث الصغار من أبنائهم ومن أحبوها وأشفقوا عليها من زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم بحيل متفرقة تسهل الطريق لإمتاعهن بشيء من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها, وسيجيء الكلام في أمر الوصية.
وأما الهند ومصر والصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقاً وحرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريباً مما تقدم من سنة الروم واليونان.
وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني, وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات, والبنت المزوجة لا ترث حذراً من انتقال المال إلى خارج البيت, والتي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن, فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات, وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعيُّ والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقاً والصغار من البنين ويمتعون أرشد الأولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة, فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث, ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها. وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة, وعلى حرمان الصغار والأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة.
4ـ ماذا صنع الإِسلام والظرف هذا الظرف؟: قد تقدم مراراً أن الإِسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام والقوانين الإِنسانية هو الفطرة التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله, وقد بنى الإِرث على أساس الرَّحم التي هي من الفطرة والخلقة الثابتة, وقد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى:
{ { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله, فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } [الأحزاب: 4 - 5]. ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث وأفردها عنواناً مستقلاً يعطى به ويؤخذ, وإن كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثاً, وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية فإن لكل من الوصية والإِرث ملاكاً آخر وأصلاً فطرياً مستقلاً, فملاك الإرث هو الرحم ولا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلاً, وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته (وإن شئت قل: حين ما يوصي) في ما يملكه في حياته واحترام مشيئته, فلو ادخلت الوصية في الإِرث لم يكن ذلك إلاَّ مجرد تسمية.
وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلاً إرثاً فلم يكن لاعتبارهم في سنة الإرث أحد الأمرين, إما الرحم وإما احترام إرادة الميت, بل حقيقة الأمر أنهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذي كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه, فكان الإرث على أي حال يبتني على احترام الإرادة, ولو كان مبتنياً على أصل الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه, وحرم كثير من المرزوقين.
ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث وعنده في ذلك أصلان جوهريان:
أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الإنسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور والإناث والكبار والصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الأثر في التقدم والتأخر, ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الإنسان والبعد منه, وانتفاء الوسائط وتحققها قليلاً أو كثيراً كالولد والأخ والعم, وهذا الأصل يقضي باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة.
وأصل اختلاف الذكر والأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزها بالتعقل والإحساسات, فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل, كما أن المرأة مظهر العواطف والإحساسات اللطيفة الرقيقة, وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك, وصرفه في الحوائج, وهذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت, والأخ والأخت في الجملة على ما سنبينه.
واستنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان الوسائط وقلتها وكثرتها, فالطبقة الأولى هي التي تتقرب من الميت بلا واسطة وهي الابن والبنت والأب والأم, والثانية الأخ والأخت والجد والجدة وهي تتقرب من الميت بواسطة واحدة وهي الأب أو الأم أو هما معاً, والثالثة العم والعمة والخال والخالة, وهي تتقرب إلى الميت بواسطتين وهما أب الميت أو أمه وجده أو جدته, وعلى هذا القياس, والأولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة.
ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر والأنثى في غير الأم والكلالة المتقربة بالأم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين.
والسهام الستة المفروضة في الإسلام (النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن) وإن اختلفت, وكذا المال الذي ينتهي إلى أحد الوراث وإن تخلف عن فريضته غالباً بالرد أو النقص الوارد وكذا الأب, والأم, وكلالة الأم, وإن تخلفت فرائضهم عن قاعدة { للذكر مثل حظ الأنثيين } ولذلك يعسر البحث الكلي الجامع في باب الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاّحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر, واستخلاف الطبقة المولدة, وهم الآباء والأمهات للطبقة المتولدة وهم الأولاد, والفريضة الإسلامية في كل من القبيلين أعني الأزواج والأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
وينتج هذا النظر الكلي أن الإِسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين, فللأنثى ثلث, وللذكر ثلثان, هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا في الصرف للحاجة, فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف, ويعطى للمرأة استقلال الإرادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه, وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثي ثروة الدنيا (الثلث الذي تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل) وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.
5ـ علام استقر حال النساء واليتامى في الإسلام: أما اليتامى, فهم يرثون كالرجال الأقوياء, ويربون, وينمى أموالهم تحت ولاية الأولياء: كالأب, والجد, أو عامة المؤمنين, أو الحكومة الإسلامية, حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة, وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان, وهن حرات مستقلات فيما يملكن, لا يدخلن تحت قيمومة دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
فالمرأة في الإسلام ذات شخصية تساوي شخصية الرجل في حرية الإرادة والعمل من جميع الجهات, ولا يفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية, وهي أن لها حياة إحساسية, وحياة الرجل تعقلية, فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الإحساس والعاطفة, وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف, وشرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق, وحرمت القضاء والحكومة والمباشرة للتقال لكونها أموراً يجب بناؤها على التعقل دون الإحساس, وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال, ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والإنفاق عليها وعلى الأولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الأولاد من غير إيجاب, وقد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى دعين إليها كالتحجب, وقلة مخالطة الرجال, وتدبير المنزل, وتربية الأولاد.
وقد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والإحساس ووضع زمامها في يدها, النتائج المرة التي يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الإحساس على التعقل في عصرنا الحاضر, وأنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التي هي من هدايا المدنية الحاضرة, وفي الأوضاع العامة الحاكمة على الدنيا, وعرض هذه الحوادث على العقل والإحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الإغراء وما إليه النصح والله الهادي.
على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهداً ولم يقصروا حرصاً منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد, وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل, وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوادها (وهي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة, القضاء, القتال) لم تجد فيه شيئاً يعتد به من أسماء النساء ولا عدداً يقبل المقايسة إلى المئات والألوف من الرجال, وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد والنماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل, وكلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة وخسراناً.
وهذا وأمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الإنساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الإنسانية, ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الإحساسات والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال.
وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب, فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء, وتقدم من يزيد عليهن في ذلك وهم الرجال, فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب, ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها, وأن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطب, والتصوير, والموسيقى, والنسج, والطبخ, وتربية الأطفال, وتمريض المرضى, وأبواب الزينة ونحو ذلك, ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.
على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستنداً إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الإنساني وقد خمنوها بملايين من السنين, كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء, كذلك ولو صح لنا أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت أموراً داخلية في البنية الإنسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الإنسانية العامة, كميل طباعه إلى المدنية والحضارة, وحبه للعلم, وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك, فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة وتأخرهن في الأمور التعقلية والأمور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن, وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك.
فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل الى الرجال, وكمال الإحساس والتعطف إليهن, وليس في محله, فإن التعقل والإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيتان في بنية الإنسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لإحداهما على الأخرى ولا كرامة إلا للتقوى, وأما الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه, وإلاَّ لم تعد إلاَّ أوزاراً سيئة.
6ـ قوانين الإِرث الحديثة: هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الإِرث الإِسلامي كماً وكيفاً على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسنة الإسلامية في الإِرث, فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهن من الفرق.
فقد كان الاسلام يظهر أمراً ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله, ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الأولين, وأما هذه القوانين فإنها أُبديت وكلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الاسلام في الإِرث بين الأمم الإِسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون, ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الأمور في الخارج, ثم ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة, بل الأولى هي المادة المتحولة إلى الثانية, فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإِرث بما تقدمها من الإِرث الإِسلامي وتحوله إليها تحولاً عادلاً أو جائراً.
ومن أغرب الكلام ما ربما يقال - قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى -: إن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة, وأنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث, وما قدمته السنة الاسلامية إلى المجتمع البشري وأن السنة الاسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين من النفوس الانسانية قروناً متوالية متطاولة, ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين.
وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الإسلامي مأخوذ من الإرث الرومي القديم!.
وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض الخصوصيات, غير أنها كالمطبقة على تساوي الرجال والنساء في سهم الإرث, فالبنات والبنون سواء, والأمهات والآباء سواء في السهام وهكذا.
وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو:
1ـ البنون والبنات.
2ـ الآباء والامهات والإخوة والأخوات.
3ـ الأجداد والجدات.
4- الأعمام والعمات والأخوال والخالات.
وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها.
والذي يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية, وهي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذي تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالي في شيء من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها, وعاد بذلك المال منصفاً بين الرجل والمرأة ملكاً, وتحت ولاية الرجل تدبيراً وإدارة! وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف.
7ـ مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض: ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الأمم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الإنساني وضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة, ثم قياس ما سنه شارع الإسلام إليها والقضاء بما يجب أن يقضى به.
والفرق الجوهري بين السنة الإسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض, فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها, وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها, وعلى هذين الأصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى:
{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [البقرة: 216]، وقال تعالى: { { وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } [النساء: 19]. 8ـ الوصية: قد تقدم أن الإسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها عنواناً مستقلاً لما فيها من الملاك المستقل, وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته, وقد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه, كالأب, ورئيس البيت, ولذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدي إلى إبطال حكم الإرث ولا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم.
وقد حدها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال, فهي غير نافذة في الزائد عليه, وقد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة, كقانون فرنسا, غير أن النظرين مختلفان, ولذلك كان الإسلام يحث عليها, والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة.
والذي يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الإنفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع, ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم, وتقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين, ولتفصيل هذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى.