التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧
وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٨
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين, فإنهما قد اختتمتا بذكر التوبة, فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك, وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه, وهو إحدى الحقائق العالية الإسلامية والتعاليم الراقية القرآنية, وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها.
قوله تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } التوبة هي الرجوع, وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الإعراض عن العبودية, ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه, وقد مر مراراً أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم.
وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله, والقوة لله جميعاً, فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه, ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث, وزوال هذه القذارات, والورود والاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى:
{ ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118] وهذه هي التوبة الأولى, وقال تعالى: { فأولئك أتوب عليهم } [البقرة: 160] وهذه هي التوبة الثانية, وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
وأما قوله: { على الله للذين }, لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو, وكان السباق لفلان على فلان, ووجه إفادة "على واللام" معنى الضرر والنفع أن "على" تفيد معنى الاستعلاء, واللام معنى الملك والاستحقاق, ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها, فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء, وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر, ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له, والواعد والموعود له وهكذا, فظهر أن كون "على واللام" لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ها هنا: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة }, فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئاً أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئاً آخر, تعالى عن ذلك وتقدس, بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد, فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب, وهو أيضاً معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل.
وظاهر الآية أولاً أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم, فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد, وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
وثانياً: أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين جميعاً بالتوبة قال تعالى:
{ { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } } [غافر: 7] يريد للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الإِيمان توبة, وقال تعالى: { { ثم تاب عليهم } [التوبة: 118].
والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: وليست التوبة "إلخ" فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معاً, وعلى هذا فالمراد بقوله: { يعملون السوء } ما يعم حال المؤمن والكافر معاً, فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب, والعمل أعم من عمل القلب والجوارح, أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح, فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر والمعصية.
وأما قوله تعالى: { بجهالة } فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلاً من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة, وأن الإرادة إنما تكون عن حب ما, وشوق ما, سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع, أو مما لا ينبغي أن يفعل, لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء, فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم, وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم, وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته "جهالة" في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم, لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة أُلحق بالعدم, فكان هو جاهلاً عندهم حتى أنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلاً لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات النيئة على نفسه, ولذلك أيضاً تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة, بل يسمونها عناداً وعمداً وغير ذلك.
فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق, ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة, وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك, فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمراً يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعاً أو بطيئاً, بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق, فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة, وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان, وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى: { ثم يتوبون من قريب }, أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح, كما يدوم عليه المعاند اللجوج, بل يرجع عن عمله من قريب, فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت.
وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤوه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندمة والتبري من فعله, لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته, بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل, والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً ما كان عليه من سيئات الأعمال, قال تعالى:
{ { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } [الأنعام: 28].
والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية: { وليست التوبة } إلى قوله: { قال إني تبت الآن }.
وعلى هذا يكون قوله: { ثم يتوبون من قريب }, كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
ويتبين مما مر أن القيدين جميعاً أعني قوله: { بجهالة }, وقوله: { ثم يتوبون من قريب } احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله, وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإِنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً وتوانياً ومماطلة, إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية, فيكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع, ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية, ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية, قال تعالى:
{ { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [الأنعام: 158]، وقال تعالى: { { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } [غافر: 84 - 85]، إلى غير ذلك من الآيات.
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله, ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
ويمكن أن يكون قوله: { بجهالة }, قيداً توضيحياً, ويكون المعنى: { للذين يعملون السوء }, ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم, فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم, أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور, ولازمه كون قوله: { ثم يتوبون من قريب }, إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة, فإن من يأتي بالمعصية استكباراً ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله: { ثم يتوبون من قريب }, لا بقوله: { بجهالة } وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله: { ثم يتوبون } عن التكاهل والتواني فافهم ذلك, ولعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.
وقد ذكر بعضهم: أن المراد بقوله: { ثم يتوبون من قريب } أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفاً كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفاً متصلاً به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.
وهو فاسد لإفساده معنى الآية التالية, فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه - أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله: { إنما التوبة على الله للذين } إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة, ولم يذكر في الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت, والتوبة للكافر بعد الموت, ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفاً قريباً متصلاً بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أُخر لم تذكر في الآية.
قوله تعالى: { فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } الإتيان بإسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله: يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية: وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ.
وقد اختير لختم الكلام قوله: { وكان الله عليماً حكيماً } دون أن يقال: وكان الله غفوراً رحيماً, للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم, ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الأمور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب, ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة.
قوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } الخ، في عدم إعادة قوله: { على الله } مع كونه مقصوداً ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الإلهية عنهم, كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم, كما تقدمت الإشارة إليه.
وتقييد قوله: { يعملون السيئات } بقوله: { حتى إذا جاء أحدهم الموت } المفيد لاستمرار الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة, أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل, أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالباً عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.
وفي قوله: { حتى إذا حضر أحدهم الموت } دون أن يقال: حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالأمر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هيناً هذا الهوان سهلاً هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاؤونه ولا يبالون, وكلما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة مخالفة الأمر الإِلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.
ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله: { قال إني تبت } بقوله: الآن فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول "تبت" سواء ذكره أو لم يذكره, فالمعنى: إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق, وقد قال تعالى في نظيره حاكياً عن المجرمين يوم القيامة:
{ { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون } [السجدة: 12].
فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية.
قوله تعالى: { ولا الذين يموتون وهم كفار } هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر, فإن الله لا يتوب عليه, فان إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ, وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت؛ وأنهم لا يجابون وإن سألوا، قال تعالى:
{ { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } [البقرة: 160 - 162]، وقال تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } [آل عمران: 91]، ونفي الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.
وتقييد الجملة بقوله { وهم كفار } يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية, وإن ارتفع موضوعها بالموت, كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة, يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين, وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.
قوله تعالى: { أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف, والإِعتاد: الإِعداد أو الوعد.
(كلام في التوبة)
التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي, فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر وشرك, وإن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى وعيسى عليهما السلام, لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة, وتسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.
حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الإنسان, كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء, وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها, وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به, فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيراً كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى:
{ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني } [فاطر: 15]، وقال: { { ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً } [الفرقان: 3].
فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى:
{ لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [التين: 4]، وقوله: { وإن منكم إلاَّ واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } [مريم: 71 - 72]، وقوله: { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } [طه: 117]. وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه, وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الإيمان, وفي كل سعادة فرعية, وهي كل عمل صالح أعني التوبة والرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه, وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الأعمال بعد الشرك, فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان, والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات, وبعبارة أخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية, قال تعالى { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } [النور: 31]، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعاً بل تعمهما وغيرهما على ما سيجيء إن شاء الله.
ثم إن الإنسان لما كان فقيراً في نفسه لا يملك لنفسه خيراً ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجاً في هذا الرجوع أيضاً إلى عناية من ربه بأمره, وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة, وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه, كما قال تعالى:
{ ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118]، وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد, وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه, كما قال تعالى: { فأولئك يتوب الله عليهم } الآية.
وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد, وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة, ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعاً إليه قبلها وبعدها, وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله: { ولا الذين يموتون وهم كفار }, وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى:
{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً } [النساء: 27].
وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض, ويصدق حينئذٍ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه, كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى:
{ { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } } [البقرة: 37]، وقوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } [البقرة: 127] إلى قوله: { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } [البقرة: 128]، وقوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: { { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } [الأعراف: 143]، وقوله تعالى خطاباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبّح بحمد ربك بالعشي والإِبكار } [غافر: 55]، وقوله تعالى: { { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } [التوبة: 117].
وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى:
{ غافر الذنب وقابل التوب } [غافر: 3]، وقوله تعالى { يقبل التوبة عن عباده } [الشورى: 25]، إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر أولاً أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه, وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك وما دونه - توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك وغيره - توبة منه إلى ربه.
ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي, كما تعتني بأصل الشرك, وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.
وثانياً: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره, وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلاً إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى:
{ { وقابل التوب } [غافر: 3]، وقوله: { { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون } [النور: 31]، وقوله: { إن الله يحب التوابين } [البقرة: 222] وقوله: { فأولئك يتوب الله عليهم } الآية، من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة, والنادبة إلى التوبة, الداعية إلى الاستغفار والإنابة وغيرها, المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام, والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء, يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد, ويرد ما يرد منها, كما هو ظاهر قوله تعالى:
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } [آل عمران: 90]، ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: { { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } [النساء: 137].
ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته:
{ { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلاَّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } [يونس: 90]. قال ما محصله: إن الآية لا تدل على رد توبته, وليس في القرآن أيضاً ما يدل على هلاكه الأبدي, وانه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى, أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللاً مستكيناً بالخيبة واليأس, والواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال, فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وغياث المستغيثين؟.
وهو مدفوع بقوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إني تبت الآن } الآية، وقد تقدم أن الندامة حينئذٍ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء.
ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة:
{ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } [يونس: 54] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً, والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
وإياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق, وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك, فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الإنسان وجدناه خالياً في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلاً للأمرين جميعاً, ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح, ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الذي فيه, وذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية, ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والإهمال, وهو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه, ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح, فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معاً, وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه, وكذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام والآثار جرياً على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وثالثاً: أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه وآخرته, وبعبارة أخرى التوبة إنما تنفع - إذا نفعت - في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والأخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة, وأما الأحكام الشرعية والقوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.
نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل, وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى:
{ { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً } [النساء: 16]، وقال تعالى: { { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم* إلاَّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [المائدة: 33 - 34] إلى غير ذلك.
ورابعاً: أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة, كما يشير إليه قوله تعالى:
{ { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلَّكم تفلحون } [النور: 31]، ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظاً لروح الرجاء من الانخماد والركود, فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه, ولولا ذلك لهلك, قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم } [الزمر: 53 - 54]، ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة, وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله, وربما انصرف بوجهه عن مسيره آيساً من النجاح خائباً من الفوز والفلاح, والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه, ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى.
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية, وتحريصاً على ترك الطاعة, فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثراً, دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب, فيدق باب كل معصية قاصداً أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافاً إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره, وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب, فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة, فإنها انقلاع عن المعصية, ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به, والدليل عليه أنه كان عازماً على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية, ولا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلاً واحداً مقصود بقصد واحد مكراً وخديعة يخدع بها رب العالمين, ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
وخامساً: أن المعصية وهي الموقف السوء من الإِنسان ذو أثر سيء في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلاَّ مع العلم والإِيقان بمساءتها, ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولاً, والندم تأثر خاص باطني من فعل السيء, ويتوقف على استقرار هذا, الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانياً.
وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعاً من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح, والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار, وتعرض له كتب الأخلاق.
وسادساً: أن التوبة وهي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار, وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار, وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه, وقد تقدم ما يتضح به ذلك.
ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس, فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه, وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم, وعدّ التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلماً وعدواناً, وحاشاه أن يسلبهم شيئاً مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم, فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك, وقد قال عز من قائل:
{ إن الله لا يظلم الناس شيئاً } [يونس: 44].
إلا أن الإسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الإسلام يجب ما قبله, وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعاً كقوله تعالى:
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } [الزمر: 53 - 54].
ومن هذا الباب أيضاً توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق, وقد وردت الأخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق, فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثاً له آثار يبقى ببقائها, ولا يتمكن من إزالتها, كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه.
وسابعاً: أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى:
{ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } [البقرة: 275]، على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب, بل ظاهر قوله تعالى: { { إلاَّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاَ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل عملاً صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً } [الفرقان: 70 - 71]، وخاصة بملاحظة الآية الثانية: أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات, إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها, ثم إمحائها بالتوبة, فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء, ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم, قال تعالى: { { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين* إلاَّ عبادك منهم المخلصين* قال هذا صراط عليَّ مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [الحجر: 39 - 42] الآيات، وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضاً في القصة: { { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [الأعراف: 17].
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصاً لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.
(بحث روائي)
في الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر خطبة خطبها:
"من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه, ثم قال: إن السنة لكثيرة ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه, ثم قال: وإن الشهر لكثير ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه, ثم قال: وإن اليوم لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه, ثم قال: وإن الساعة لكثيرة من تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه"
]. وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.
أقول: الرواية الاولى رواها في الكافي مسنداً عن الصادق عليه السلام وهي مروية من طرق أهل السنة وفي معناها روايات أُخر.
والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت, بأن المراد من حضور الموت العلم به, ومشاهدة آيات الآخرة ولا توبة عندئذ, وأما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته, ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات.
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة, وكانت للجاهل توبة.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب, قيل وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة"
]. وفيه: أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح, فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه"
]. وفي الكافي عن علي الأحمسي عن أبي جعفر عليه السلام قال: والله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها, قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: كفى بالندم توبة.
وفيه بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً, أحبه الله تعالى فستر عليه, فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه, ثم يوحي الله إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه, فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب.
وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السلام قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له, فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة, أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مراراً يذنب ثم يتوب ويستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة, وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة, ويعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.
وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى }, قال: لهذه الآية تفسير, يدل على ذلك التفسير أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير, وما اشترط فيه على المؤمنين, وقال: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة }, يعني كل ذنب عمله العبد وإن كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه, وقد قال في ذلك يحكي قول يوسف لأخويه: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.
أقول: والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن, والظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفى به العبد ولم ينقضه, فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية عن الذنب ولو حيناً. وقوله: وقال: { إنما التوبة } "إلخ" كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله: { بجهالة } قيد توضيحي, وأن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم, وقد روى هذا الذيل في المجمع أيضاً عنه عليه السلام.