التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ
٣٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ
٣٤
فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
٣٥
إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ
٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
٣٧
هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم
٣٨
-محمد

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم في أمر القتال وحال من ارتدَّ منهم بعد، رجع يحذِّر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، وفي الآيات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف، وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } الآية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدلَّ الفقهاء بقوله فيها: { ولا تبطلوا أعمالكم } على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال، وكذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله: { إن الذين كفروا } الخ، من التعليل وما في قوله: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } الخ، من التفريع، وبالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدلّ على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرَّع من الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلَّغ عن الله سبحانه، وفيما يُصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الإِيمان المائلون إلى النفاق الذين انجرَّ أمر بعضهم أن ارتدّوا بعد ما تبين لهم الهدى.
فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرّع وأنزل من حكم القتال، ومن طاعة الرسول طاعته فيما بلَّغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه وبإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردَّة.
وقيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنّهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: { يمنّون عليك أن أسلموا }, وقيل: إبطالها بالرياء والسمعة، وقيل: بالعجب، وقيل: بالكفر والنفاق، وقيل: المراد إبطال الصدقات بالمنّ والأذى كما قال:
{ { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى } [البقرة: 264]، وقيل: إبطالها بالمعاصي، وقيل: بخصوص الكبائر.
ويرد على هذه الأقوال جميعاً أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغضّ من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإِشارة إليه، وأما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مرّ.
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أدَّاكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر والصد ولا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبداً.
والمراد بالصد عن سبيل الله الإِعراض عن الإِيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.
قوله تعالى: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } تفريع على ما تقدم، وقوله: { فلا تهنوا } من الوهن بمعنى الضعف والفتور، وقوله: { وتدعوا إلى السلم } معطوف على { تهنوا } واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا إلى السلم، والسلم - بفتح السين - الصلح، وقوله: { وأنتم الأعلون } جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، وقوله: { وأنتم الأعلون } جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم الغالبون، والمراد بالعلوّ الغلبة وهي استعارة مشهورة.
وقوله: { والله معكم } معطوف على { وأنتم الأعلون } يبين سبب علوِّهم ويعلله فالمراد بمعيِّته تعالى لهم معيَّة النصر دون المعيَّة القيُّومية التي يشير إليها قوله تعالى:
{ { وهو معكم أينما كنتم } [الحديد: 4]. وقوله: { ولن يتركم أعمالكم } قال في المجمع: يقال: وتره يتره وتراً إذا نقصه ومنه الحديث فكأنه وتر أهله وماله، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى.
فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفّي أجرها تاماً كاملاً، وقيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، وقيل: لن يظلمكم، والمعاني متقاربة.
ومعنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه السبيل وكان مؤدِّياً إلى الحرمان من مغفرة الله أبداً فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم ولن ينقصكم شيئاً من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.
وفي الآية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله:
{ { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139]. قوله تعالى: { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم } ترغيب لهم في الآخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي أنها لعب ولهو - وقد مر معنا كونها لعباً ولهواً -.
وقوله: { وإن تؤمنوا } الخ، أي إن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله يؤتكم أُجوركم ولا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالأموال جميع أموالهم ويؤيده أيضاً الآية التالية.
قوله تعالى: { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويُخرج أضغانكم } الإِحفاء الإِجهاد وتحميل المشقة، والمراد بالبخل - كما قيل - الكفّ عن الإِعطاء، والأضغان الأحقاد.
والمعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الإِعطاء لحبكم لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.
قوله تعالى: { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل } إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - وهو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.
وقوله: { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، وإليه يشير قوله بعده: { والله الغني وأنتم الفقراء } والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله.
وقوله: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } قيل: عطف على قوله: { وإن تؤمنوا وتتقوا } والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم اجوركم وإن تتولوا وتعرضوا يستبدل قوماً غيركم بأن يوفقهم للإِيمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.
(بحث روائي)
في ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة"
]. فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: "نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم }"
]. وفي تفسير القمي { وإن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها } قال: هي منسوخة بقوله: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم }.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإِيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس.
أقول: وروي بطرق أُخر عن أبي هريرة مثله. وكذا عن ابن مردويه عن جابر مثله.
وفي المجمع وروى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: { إن تتولوا } يا معشر العرب { يستبدل قوماً غيركم } يعني الموالي.
وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قد والله أبدل خيراً منهم الموالي.