التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
١١٢
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ
١١٣
قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١٤
قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تذكر قصة نزول المائدة على المسيح عليه السلام وأصحابه، وهي وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الآية الأخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
وقول بعضهم: (إنهم استقالوا عيسى عليه السلام بعدما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.
وقد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، وممن يذكر منهم: مجاهد والحسن، ولا حجة في قولهما ولا قول غيرهما ولو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التي لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الآحاد التي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.
وربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها وكتبهم المقدسة خالية عن حديثها، ولو كانت نازلة لتوفرت الدواعي على ذكره في كتبهم وحفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الرباني لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية وظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى عليه السلام، ولا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يداً بيد، أو فيما لا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها.
نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه وجماعة من الناس بالخبز والسمك القليلين على طريق الإِعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصه القرآن في شيء من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الإِصحاح السادس ما هذا نصه:
"(1) بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية(2) وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى، (3) صعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه، (4) وكان الفصح عند اليهود قريباً، (5) فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء، (6) وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل، (7) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً، (8) قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس، (9) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء، (10) فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف، (11) وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا (12) فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكى لا يضيع شيء، (13) فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين، (14) فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم، (15) وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده".
ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة أُخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الأدب والواجب حفظه في جنب الله سبحانه، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيداً لا يوجد له نظير في شيء من الآيات التي اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أُممهم عليهم كاقتراح أُمم نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل كان ذلك لكون الحواريين وهم السائلون أساءوا الأدب في سؤالهم؟ لأن لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه؛ ففي اقتراحات الأُمم السابقة عليهم من الإِهانة بمقام ربهم والسخرية والهزء بأنبيائهم وكذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك وأشنع!.
أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال والنزول لو كفروا بعد النزول ومشاهدة الآية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة وإن كان عتواً وطغياناً كبيراً لكنه لا يختص بهم، ففي سائر الأُمم أمثال لهم في ذلك ولم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب والتحقق بآيات الله سبحانه كالذي يذكره الله سبحانه في قوله:
{ { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } } [الأعراف: 175]. والذي يمكن أن يُقال في المقام أن هذه القصة بما صدّر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الأنبياء التي أتوا بها لاقتراح من أُممهم أو لضرورات أُخر تدعو إلى ذلك.
وذلك أن الآيات المعجزة التي يقصها الكلام الإِلهي إما آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أُوتي موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، وأُوتي عيسى عليه السلام إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص، وأُوتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وهذه آيات أُوتيت لحاجة الدعوة إلى الإِيمان وإتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
وإما آيات معجزة أتى بها الأنبياء والرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، ويلحق بها المخوفات والمعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى عليه السلام على قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك في سبع آيات، وطوفان نوح، ورجفة ثمود وصرصر عاد وغير ذلك، وهذه أيضاً آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين.
وإما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، وضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل في التيه، ورفع الطور فوق رؤسهم وشق البحر لنجاتهم من فرعون وعمله، فهذه آيات واقعة لإِرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.
ومن هذا الباب المواعيد التي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كوعد فتح مكة ومقت المشركين من كفار قريش وغلبة الروم إلى غير ذلك.
فهذه أنواع الآيات المقتصة في القرآن والمذكورة في التعليم الإِلهي، وأما اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوس يعده التعليم الإِلهي من الهجر الذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كتاباً من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } إلى أن قال
{ { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً } } [النساء: 166]. وكما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى وتقدس قال تعالى: { { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً } [الفرقان: 21] وقال تعالى: { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } [الفرقان: 7ـ9] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وليس ذلك كله إلا لأن عنوان نزول الآية هو ظهور الحق وتمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق وتمت الحجة فلو اعيد سؤال نزول الآية وقد نزلت وحصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله واللعب بالمقام الربوبي والتذبذب في القبول، وفيه أعظم العتو والاستكبار.
وهذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف والإِثم فيه أعظم فماذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماوية وهو مؤمن وخاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ وهل هو إلا أشبه شيء بما يقترحه أرباب الهوى والمترفون في مجالس الأنس وحفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة والأعمال الغريبة؟.
والذي يفيده ظاهر قوله تعالى: { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة } أنهم اقترحوا على المسيح عليه السلام أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الآيات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه عليه السلام لم يرسل إلى قومه إلا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى:
{ { ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } } [آل عمران: 49] الخ.
وكيف يتصور في من آمن بالمسيح عليه السلام أن لا يعثر منه على آية وهو عليه السلام بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلاً ولم يزل مكرماً بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية.
فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية وقد ركبوا أمراً عظيماً ولذلك وبخهم عيسى عليه السلام بقوله: { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }.
ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانياً بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا: { نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } فضموا إلى غرض الأكل أغراضاً أُخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأُمور العجيبة والعبث بآيات الإِلهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها.
لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا: { نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا } الخ، لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: { نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا } الخ، فإن الكلام الأول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني.
ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها، وهي معجزة مختصة في نوعها بأُمته لأنها الآية الوحيدة التي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهراً وهو أكل المؤمنين منها، ولذلك عنونها عليه السلام عنواناً يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال: { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } فعنونها بعنوان العيدية، والعيد عند قوم هو اليوم الذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، وكان نزول المائدة عليهم منعوتاً بهذا النعت.
ولما سأل عيسى ربه ما سأل - وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه، وحاشا ربه أن يرده خائباً في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذاباً يختص به من بين جميع الناس كما أن الآية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الأُمم فقال الله سبحانه { إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين }، هذا.
قوله تعالى: { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } { إذ } ظرف متعلق بمقدر والتقدير: اذكر إذ قال الخ، أو ما يقرب منه، وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الآية السابقة: { قالوا آمنا }، أي قال الحواريون: آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } والمراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، ولا على جد في إشهادهم عيسى عليه السلام على إسلامهم له.
وفيه أنه مخالف لظاهر السياق، وكيف يكون إيمانهم غير خالص؟ وقد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي وبرسولي، وهو تعالى يمتن بذلك على عيسى عليه السلام؛ عى أنه لا وجه حينئذ للإِظهار في قوله: { إذ قال الحواريون } الخ.
و"المائدة" الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: والمائدة الطبق الذي عليه الطعام، ويقال لكل واحدة منهما مائدة، ويقال: ما دنى يميدني أي أطعمني، انتهى.
ومتن السؤال الذي حكي عنهم في الآية وهو قولهم: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين وهم أصحاب المسيح وتلامذته وأخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه ومعارفه المتبعون آدابه وآثاره، والإِيمان بأدنى مراتبه ينبه الإِنسان على أن الله سبحانه على كل شيء قدير، لا يجوز عليه العجز ولا يغلبه العجز؛ فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء.
ولذلك قرأ الكسائي من السبعة: "هل تستطيع ربك" بتاء المضارعة ونصب { ربك } على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول واقيم { تستطيع } مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط.
وقد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.
وأوجه ما يمكن أن يُقال هو أن الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة ووقوع الإِذن كما أن الإِمكان والقدرة والقوة يكنى بها عن ذلك كما يُقال: "لا يقدر الملك أن يصغي إلى كل ذي حاجة" بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك وإلا فمطلق الإِصغاء مقدور له، ويُقال: "لا يستطيع الغني أن يعطي كل سائل" أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، ويقال: "لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه" أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس والنظام الدائر بينهم، ويقول أحدنا لصاحبه: "هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان؟" وإنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة والمصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا.
وهناك وجوه أُخرى ذكروها:
منها: أن هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم عليه السلام فيما حكى الله عنه: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }.
وفيه: أن مجرد صحة أن تسأل الآية لزيادة الإِيمان واطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه ولم تثبت عصمتهم كإبراهيم عليه السلام حتى تكون دليلاً منفصلاً يوجب حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم عليه السلام: { بلى ولكن ليطمئن قلبي } بل قالوا: { نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا } فعدوا الأكل بحيال نفسه غرضاً.
على أن هذا الوجه إنما يستدعي تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه وأما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.
على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260] الآية أن مراده عليه السلام لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه ولو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان وهو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الإِحياء بالمعنى الذي تقدم بيانه.
ومنها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه.
وفيه: أنه لا دليل عليه، ولو سلم فإنه إنما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإِلهية وأما منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبودي فعلى حالها.
منها: أن في الكلام حذفاً تقديره: هل تستطيع سؤال ربك؟ ويدل عليه قراءة "هل تستطيع ربك" والمعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
وفيه: أن الحذف والتقدير لا يعيد لفظة { هل يستطيع ربك } إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأي وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة والحضور، والتقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، وإن كان ولا بد فليقل: إنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى عليه السلام إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له عليه السلام فهو لله سبحانه، وهذا الوجه مع كونه فاسداً من جهة أن الأنبياء والرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص والقصور في ساحته تعالى كالهداية والعلم ونحوهما، وأما لوازم عبوديتهم وبشريتهم كالعجز والفقر والأكل والشرب ونحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.
ومنها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الإِطاعة والمعنى: هل يطيعك ربك ويجيب دعاءك إذا سألته ذلك، وفيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله وانقياده له أشنع وأفظع من الاستفهام عن استطاعته.
وقد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: إن الاستطاعة والإِطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى واختيار، والاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإِجابة فإذا كان معنى استجابه: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعه: أطاعه أي انه انقاد له وصار في طوعه أو طوعاً له، والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، ومعنى استطاع الشيء: طلب وحاول أن يكون ذلك الشيء طوعاً له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب: سئل شيئاً وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن { يستطيع } هنا بمعنى يطيع وإن معنى يطيع: يفعل مختاراً راضياً غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى.
وفيه أولاً: أنه لم يأت بشيء دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا معنى ذاك وهو قياس في اللغة ممنوع.
وثانياً: أن كون الاستطاعة والإِطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الأصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الأصلي في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب وأضرب وقبل وأقبل وقبّل وقابل واستقبل بحسب التبادر الاستعمالي.
واعتبار المادة الأصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لايراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الأصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى وتبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات ويحفظ المعنى الأصلي ما جرى اللسان، فافهم ذلك.
فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحي لا بما تفيده المادة اللغوية وقد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعاً، وهو في الجميع بمعنى القدرة، واستعمل لفظ الإِطاعة فيما يقرب من سبعين موضعاً وهو في الجميع بمعنى الانقياد، واستعمل لفظ الطوع فيما استعمل وهو مقابل الكره؛ فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الآية بمعنى يرضى؟.
وأما حديث أجاب واستجاب فقد استعملا معاً في كلامه تعالى بمعنى واحد وورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإِجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعاً، ولا تجد الإِجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع واستطاع؟.
وكونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أن الجواب تجاوز عن المسؤول إلى السائل، ومعنى استجاب أن المسؤول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل.
ومن هنا يظهر أن الذي فسر به الاستجابة وهو قوله: "ومعنى استجاب سئل شيئاً وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب" ليس على ما ينبغي فإن باب الاستفعال هو طلب "فعل" لا طلب "أفعل" وهو ظاهر.
وثالثاً: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } أنه هل يرضى ربك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء، وكان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيماناً ويطمئنوا قلباً فما وجه توبيخ عيسى عليه السلام لهم بقوله: { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }؟ وما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه أحداً من العالمين، وهم لم يقولوا إلا حقاً ولم يسألوا إلا مسألة مشروعة، وقد قال تعالى:
{ واسألوا الله من فضله } } [النساء: 32]. قوله تعالى: { قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } توبيخ منه عليه السلام لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال.
وأما على ما قدمناه من أن الأصل في مؤاخذتهم الذي يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها واقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه عليه السلام لهم بقوله: { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أظهر.
قوله تعالى: { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه عليه السلام وما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم: { هل يستطيع ربك أن ينزل }، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، وهذا أيضاً أحد الشواهد على أن ملاك المؤاخذة في المقام هو أنهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها.
وأما قولهم: { نريد أن نأكل منها } الخ، فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الآية أموراً أربعة:
أحدها: الأكل وكأن مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها، وهو غرض عقلائي، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.
وذكر بعضهم: أن المراد بذكر الأكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد: نريد أن نتبرك بأكله. وأنت تعلم أن المعنى الذي قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الأكل، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، وحيث لم يذكر شيء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مراداً فليس المراد بالأكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.
الثاني: اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور.
والثالث: العلم بأنه عليه السلام قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإِيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى عليه السلام ومسألته، وبالجملة بإعجاز منه عليه السلام وقد كانوا رأوا منه عليه السلام آيات كثيرة فإنه عليه السلام لم يزل في حياته قريناً لآيات إلهية كبرى، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائه عليه السلام، وإن كان المراد الثمرة التي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى عليه السلام.
الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، والشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذي حكاه الله تعالى إذ قال:
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } } [آل عمران: 53]. فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا أُموراً جميلة مرضية إلى غرضهم الآخر الذي هو الأكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسى عليه السلام إلى مسألتهم بعد الإِصرار.
قوله تعالى: { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } خلط عليه السلام نفسه بهم في سؤال المائدة، وبدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: { اللهم ربنا } وقد كانوا قالوا له: { هل يستطيع ربك } ليوافق النداء الدعاء.
وقد توحد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية والمسائل المحكية في القرآن عن الأنبياء عليهم السلام بأن صدر { باللهم ربنا } وغيره من أدعيتهم مصدر بلفظ { رب } أو { ربنا } وليس إلا لدقة المورد وهول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله:
{ { قل الحمد لله } [العنبكوت: 63] وقوله: { قل اللهم مالك الملك } [آل عمران: 26] وقوله: { قل اللهم فاطر السماوات والأرض } } [الزمر: 46]. ثم ذكر عليه السلام عنواناً لهذه المائدة النازلة هو الغرض له ولأصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيداً له ولجميع أُمته، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيداً يخصون به لكنه عليه السلام عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالاً للآية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم، ويكون سؤالاً مرضياً عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، ويجدد حياة الملة، وينشط نفوس العائدين، ويعلن كلما عاد عظمة الدين.
ولذلك قال: { عيداً لأولنا وآخرنا } أي أول جماعتنا من الأُمة وآخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود ولا يكون عيداً إلا إذا عاد حيناً بعد حين، وفي الخلف بعد السلف من غير تحديد.
وهذا العيد مما اختص به قوم عيسى عليه السلام كما اختصوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدم بيانه.
وقوله: { وآية منك } لما قدم مسألة العيد وهي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الأصلي غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، وإلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخلُ مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كل يوم منه عليه السلام للحواريين وغيرهم.
وقوله: { وارزقنا وأنت خير الرازقين } وهذه فائدة أُخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوباً بالذات حيث قالوا: { نريد أن نأكل منها } فذكروه مطلوباً لذاته وقدموه على غيره، لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله: { وأنت خير الرازقين }.
والدليل على ما ذكرنا أنه عليه السلام جعل ما أخذوه أصلاً فائدة مترتبة أنه سأل أولاً لجميع أُمته ونفسه، وهو سؤال العيد الذي أضافه إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله ورزقاً وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة.
فانظر إلى أدبه عليه السلام البارع الجميل مع ربه، وقس كلامه إلى كلامهم - وكلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجباً فقد أخذ عليه السلام لفظ سؤالهم فأضاف وحذف، وقدم وأخر، وبدل وحفظ حتى عاد الكلام الذي ما كان ينبغي أن يوجه به إلى حضرة العزة وساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه عليه السلام تر عجباً.
وقوله تعالى: { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } قرأ أهل المدينة والشام وعاصم { منزلها } بالتشديد والباقون { منزلها } بالتخفيف - على ما في المجمع - والتخفيف أوفق لأن الإِنزال هو الدال على النزول الدفعي، وكذلك نزلت المائدة، وأما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كراراً.
وقوله تعالى: { إني منزلها عليكم } وعد صريح بالإِنزال وخاصة بالنظر إلى الإِتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، ولازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم.
وذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روي ذلك في الدر المنثور ومجمع البيان وغيرهما عن الحسن ومجاهد: قالا: إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
والحق أن الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول وحاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح وهو يعلم أنهم سيستعفون عنها فلا تنزل، والوعد الذي في الآية صريح والشرط الذي في الآية يتضمن تفرع العذاب وترتبه على الكفر بعد النزول، وبعبارة اخرى: الآية تتضمن الوعد المطلق بالإِنزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا إنها تشتمل على الوعد بالإِنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم.
وكيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس رداً لدعاء عيسى عليه السلام وإنما هو استجابة له غير أنه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - ان هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم وأولهم، قيد تعالى هذا الإِطلاق بالشرط الذي شرط عليهم، ومحصله أن هذا العيد الذي خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الإِيمان منهم، وأما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر.
فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه وتقييد الاستجابة كقوله تعالى:
{ { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } } [البقرة: 124] وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } } [الأعراف: 155ـ 156]. وقد عرفت فيما تقدم أن السبب الأصلي في هذا العذاب الموعود الذي يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأُمم فإذا أجيبوا إلى ذلك اوعدوا على الكفر عذاباً لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك.
ومن هنا يظهر أن المراد بالعالمين عالمو جميع الأُمم لا عالمو زمانهم فإن ذلك مرتبطاً بمن يمتازون عنهم من الناس وهم جميع الأُمم لا أهل زمان عيسى عليه السلام خاصة من أُمم الأرض.
ومن هناك يظهر أيضاً أن قوله: { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } وإن كان وعيداً شديداً بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات والعقوبات في الشدة والألم، وإنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، واختصاصهم من بين الأُمم به.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { هل يستطيع ربك } عن أبي عبد الله عليه السلام قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربك.
أقول: وروي هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير، وهو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الآية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى عليه السلام إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة والمصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة.
وفي تفسير العياشي عن عيسى العلوي عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: المائدة التي نزلت بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة وتسعة أرغفة.
أقول: وفي لفظ آخر تسعة أنوان وتسعة أرغفة "والأنوان" جمع نون وهو الحوت.
وفي المجمع عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"نزلت المائدة خبزاً، ولحماً، وذلك لأنهم سألوا عيسى طعاماً لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا"
]. أقول: ورواه في الدر المنثورعن الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي آخره فمسخوا قردة وخنازير.
قال في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفاً مثله، قال الترمذي: والوقف أصح! انتهى.
والذي ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاماً لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الآية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: { ونكون عليها من الشاهدين } فإن الطعام الذي لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة.
والذي ذكر فيه من مسخهم قردة وخنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، وهذا مما يفتح باباً آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى { فإني أُعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } اختصاص هذا العذاب بهم، وقد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى:
{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } [البقرة: 65]، والمروي في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنهم مسخوا خنازير.
وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن عليه السلام قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.
وفيه: عن عبد الصمد بن بندار قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: كانت الخنازير قوماً من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير.
أقول: وفيما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: الفيل مسخ كان ملكاً زنّاءً، والذئب مسخ كان أعرابياً ديوثاً، والأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، والجرّيث والضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى ابن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر، والفارة فهي الفويسقة، والعقرب كان نماماً، والدب والوزغ والزنبور كانت لحاماً يسرق في الميزان.
والرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لإِمكان أن يمسخ بعضهم خنزيراً وبعضهم جرّيثاً وضباً غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شيء آخر وهو ما تضمنه من مسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، والآية الشريفة المذكورة ونظيرتها ما في سورة الأعراف إنما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، والله أعلم.