التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١١٧
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١١٨
قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٢٠
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
مشافهة الله رسوله عيسى ابن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف به عليه السلام وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التي لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أُمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدّقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية.
وبهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذي عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق؛ فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغداً حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله } { إذ } ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقول عيسى عليه السلام فيها: { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم }.
وقد عبرت الآية عن مريم بالامومة فقيل: { اتخذوني وأُمي إلهين } دون أن يُقال: { اتخذوني ومريم إلهين } للدلالة على عمدة حجتهم في الألوهية وهو ولادته منها بغير أب، فالبنوة والأُمومة الكذائيتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به وبأُمه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم.
و { دون } كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يُقال للقاصر عن الشيء "دون" قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والأدون الدني، وقوله تعالى: { لا تتخذوا بطانة من دونكم } أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: { ويغفر ما دون ذلك } أي ما كان أقل من ذلك، وقيل ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: { ءأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله } أي غير الله، انتهى.
وقد استعمل لفظ { من دون الله } كثيراً في القرآن في معنى الإِشراك دون الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكاً لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلهاً وتنفي الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذي لا يرجع إلى محصل فإن الذي أثبته حينئذ يكون هو الإِله سبحانه وينفي غيره، ويعود النزاع إلى بعض الأوصاف التي أثبتها فمثلاً لو قال قائل: إن الإِله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإِله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلهاً فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد.
ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعاً وهو الله عز اسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والإِمكان.
ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلاً ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالماً موجوداً ثابتاً لا يقبل النفي والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطروّ الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله.
فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفي أصلاً إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.
والملاك في ذلك كله أن الإِنسان إنما يثبت الإِله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شيء لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلهاً غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته وألحد في اسمائه، أو يثبت له شريكاً أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له.
فظهر أن معنى قوله: { إلهين من دون الله } شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدي معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارناً لنفي الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون ألوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وأُمه إلهين من دون الله سبحانه.
وربما استشكل بعضهم الآية بأن النصارى غير قائلين بالوهية مريم العذراء عليها السلام، وذكروا في توجيهها وجوهاً.
لكن الذي يجب أن يتنبه عليه أن الآية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، واتخاذ الإِله غير القول بالالوهية إلا من باب الالتزام واتخاذ الإِله بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى:
{ { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23] وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.
قال الآلوسي في روح المعاني: إن أبا جعفر الإِمامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يُقال لهم: "المريمية" يعتقدون في مريم أنها إله.
وقال في تفسير المنار: أما اتخاذهم المسيح إلهاً فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما أُمه فعبادتها كانت متفقاً عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإِسلام بعدة قرون.
إن هذه العبادة التي توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح عليه السلام منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة "إله" عليها بل يسمونها "والدة الإِله" ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
والقرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها وامها إلهين، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعاً، وبين في آية أُخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، وذلك معنى آخر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أرباباً.
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب "السواعي" من كتب الروم الأرثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى "دير التلميد" وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به.
وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم "المشرق" بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكاراً لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول "حبل بها بلا دنس الخطية" وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية.
ومنه قول الأب "لويس شيخو" في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: "إن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أُم الله لأمر مشهور" وقوله "قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتول المغبوطة أم الله" انتهى كلامه.
ونقل أيضاً بعض مقالة للأب "إنستاس الكرملي" نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان "قدم التعبد للعذراء" بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء: "ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئاً ينوه بالعذراء تنويهاً جلياً إلى أن جاء ذلك النبي العظيم "إيليا" الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والإِبهام إلى عالم الصراحة والتبيان".
ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر.
قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب)قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلي، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، وهو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضاً بالإِله يسوع بعد الرسل والتلامذة، وأول من أقام للعذراء معبداً بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد، انتهى.
قوله تعالى: { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى آخر الآية هذه الآية والتي تتلوها جواب المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام عما سئل عنه وقد أتىعليه السلام فيه بأدب عجيب:
فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، وعليه جرى التأديب الإِلهي في كلامه كقوله:
{ { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه } [الأنبياء: 26] وقوله: { ويجعلون لله البنات سبحانه } [النحل: 57]. ثم عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله، ولم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: "لم أقل ذلك أو لم أفعل" لكان فيه إيمان إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال: { ما يكون لي أن أقول ما ليس ليس لي بحق } كان ذلك نفياً لما يتوقف عليه ذلك القول، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقاً فنفي هذا الحق نفي ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذا قال المولى لعبده: لمَ فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله: "لم أفعل" كان نفياً لما هو في مظنة الوقوع، وإن قال: "إنا أعجز من ذلك" كان نفياً بنفي السبب وهو القدرة، وإنكاراً لأصل إمكانه فضلاً عن الوقوع.
وقوله: { ما يكون لي إن أقول ما ليس لي بحق } إن كان لفظ { يكون } ناقصة فاسمها قوله: { أن أقول } وخبرها قوله: { لي } واللام للملك، والمعنى: ما أملك ما لم أُملكه وليس من حقي القول بغير حق، وإن كانت تامة فلفظ { لي } متعلق بها وقوله: { أن أقول } الخ، فاعلها، والمعنى: ما يقع لي القول بغير حق، والأول من الوجهين أقرب، وعلى أي حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه.
وقوله عليه السلام: { إن كنت قلته فقد علمته } نفي آخرللقول المستفهم عنه لا نفياً لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شيء.
وهذا الكلام منه عليه السلام يتضمن أولاً فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجردة، وثانياً الإِشعار بأن الذي كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم.
وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعاً في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفي الجهل وإفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر، أو لغيره إذا كان السائل عالماً وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، وقوله عليه السلام في الجواب في مثل المقام: { إن كنت قلته فقد علمته } إرجاع للأمر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئاً في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى.
ثم أشار بقوله: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } ليكون تنزيهاً لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه، وهو وإن كان ثناء أيضاً في نفسه لكنه غير مقصود لأن المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبري عن انتساب ما نسب إليه.
فقوله عليه السلام: { تعلم ما في نفسي } توضيح لنفوذ العلم الذي ذكره في قوله: { إن كنت قلته فقد علمته } وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشيء ويجهل بشيء، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير بكل شيء ومنها نفس عيسى ابن مريم بخصوصه.
ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شيء، لا كعلم أحدنا بحال الآخر وعلم الآخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالإِحاطة به من غير أن يحيط به شيء ولا يحيطون به علماً فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، ولذلك ضم عليه السلام إلى الجملة جملة أُخرى فقال: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك }.
أما قوله: { إنك أنت علام الغيوب } ففيه بيان العلة لقوله: { تعلم ما في نفسي } الخ، وفيه استيفاء حق البيان من جهة أُخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شيء فبين بقوله: { إنك أنت علام الغيوب } أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شيء من الأشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به.
ولازم ذلك أن لا يعلم شيء من الأشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذي هو تعالى عالم به لأنه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، ولا يعلم شيء غيره تعالى بشيء من الغيوب لا الكل ولا البعض.
على أنه لو أُحيط من غيبه تعالى بشيء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطاً حقيقة بل محاطاً له تعالى ملّكه الله بمشيئته أن يحيط بشيء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى:
{ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } } [البقرة: 255]. وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروباً بحد فكان مخلوقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
قوله تعالى: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } لما نفى عليه السلام القول المسؤول عنه عن نفسه بنفي سببه أولاً نفاه ببيان وظيفته التي لم يتعدها ثانياً فقال: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } الخ، وأتى فيه بالحصر بطريق النفي والإِثبات ليدل على الجواب بنفي ما سئل عنه وهو القول: { أن اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله }.
وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله: { أن اعبدوا الله } ثم وصف الله سبحانه بقوله: { ربي وربكم } لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له.
وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى ابن مريم عليه السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه:
{ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } [الزخرف: 64] وقال: { { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } } [مريم: 36]. قوله تعالى: { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } ثم ذكر عليه السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: { { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } } [النساء: 159]. يقول عليه السلام ما كان لي من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، ولم أتعد ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون القي إليهم أن اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله.
وقوله: { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } الرقوب والرقابة هو الحفظ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال، وكأنه أُبدل الشهيد من الرقيب احترازاً عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: { وأنت على كل شيء شهيد }، ولا نكتة تستدعي الإِتيان بلفظ "الشهيد" ثانياً بالخصوص.
واللفظ أعني قوله: { كنت أنت الرقيب عليهم } يدل على الحصر، ولازمه أنه تعالى كان شهيداً ما دام عيسى عليه السلام شهيداً وشهيداً بعده، فشهادته عليه السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الإِلهية التي وكل عليها بعض عباده ثم هو على كل شيء وكيل كالرزق والإِحياء والإِماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها، والآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.
ولذلك عقب عليه السلام قوله:
{ { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } [المائدة: 117] بقوله: { وأنت على كل شيء شهيد } ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال أُمته التي كان يتصداها ما دام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة التي هي شهادة الله سبحانه على شيء فإنه تعالى شهيد على أعيان الأشياء وعلى أفعالها التي منها أعمال عباده التي منها أعمال أُمة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم.
ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه عليه السلام حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو عليه السلام يعلم ذلك.
ومن الدليل على ذلك بشارته عليه السلام بمجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما يحكيه القرآن - بقوله:
{ يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [الصف: 6] وقد نص القرآن على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء قال تعالى: { { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } } [النساء: 41]. على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } ولم يرده بالإِبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه.
فبان بما أورده من بيان حاله المحكي عنه في الآيتين أنه بريء مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه، ولذلك ختم عليه السلام كلامه بقوله: { إن تعذبهم فإنهم عبادك } إلى آخر الآية.
قوله تعالى: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } لما اتضح بما أقام عليه السلام من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسؤول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه عليه السلام بمعزل عن الحكم الإِلهي المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم، ولذلك استأنف الكلام ثانياً فقال من غير وصل وتفريع: { إن تعذبهم } الخ.
فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق، ومفادها أنه لا عهدة علي فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، ولم أداخل أمرهم في شيء حتى اشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت، وهم وصنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، وإليك تدبير أمرهم، ولك أن تسخط عليهم به لأنك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده، وإن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة، وللعزيز (وهو الذي له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيماً (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغي أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر.
وبما تقدم من البيان ظهر أولاً: أن قوله: { فإنهم عبادك } بمنزلة أن يُقال: { فإنك مولاهم الحق } على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.
وثانياً: أن قوله: { فإنك أنت العزيز الحكيم } ليس مسوقاً للحصر بل الإِتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد، ويؤول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم.
وثالثاً: أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى ابن مريم عليه السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الإِلهية التي لا يقوم لها شيء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال، ولذلك قال عليه السلام: { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ولم يقل { فإنك غفور رحيم } لأن سطوع آية العظمة والسطوة الإِلهية الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.
وأما قول إبراهيم عليه السلام لربه:
{ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [إبراهيم: 36] فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإِلهية بما استطاع.
قوله تعالى: { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } تقرير لصدق عيسى ابن مريم عليه السلام على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه وإنما المقام هو الذي يفيد ذلك.
والمراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله: { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الخ، ومن البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذي يعود إليهم من جهة الصدق، والأعمال والأحوال الأُخروية - ومنها صدق أهل الآخرة - لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء وبلفظ آخر: الأعمال والأحوال الأُخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الأعمال والأحوال الدنيوية، إذ لا تكليف في الآخرة، والجزاء من فروع التكليف، وإنما الآخرة دار حساب وجزاء كما أن الدنيا دار عمل وتكليف، قال تعالى:
{ يوم يقوم الحساب } [إبراهيم: 41] وقال: { { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } [الجاثية: 28] وقال تعالى: { إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار } } [غافر: 39]. والذي ذكره عيسى عليه السلام من حاله في الدنيا مشتمل على قول وفعل وقد قرره الله على الصدق فالصدق الذي ذكر في الآية يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول، فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز.
على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق - وينتهي به إلى الصلاح، وقد روي أن رجلاً من أهل البدو استوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترفها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه ويخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.
قوله تعالى: { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } رضي الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق، ورضوا عن الله بما آتاهم من الثواب.
وقد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى:
{ { ورضي له قولاً } [طه: 109] وقوله: { وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر: 7] وبين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شيء هو أن لا تدفعه بكراهة ومن الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه وأنت تسخط على نفسه، وأن يأتي صديقك الذي تحبه بفعل لا ترضاه.
فقوله: { رضي الله عنهم } يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم، ومن المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم، وقد قال تعالى:
{ { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]، فالعبودية هو الغرض الإِلهي من خلق الإِنسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالاً للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذي هو رب كل شيء فلا يرى نفسه ولا شيئاً غيره إلا مملوكاً لله خاضعاً لربوبيته لا يؤوب إلا إلى ربه ولا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان وأيوب: { { نعم العبد إنه أواب } [ص: 44] وهذا هو الرضى عنه.
وهذا من مقامات العبودية، ولازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه وعن الاتصاف بالفسق، كما قال تعالى:
{ { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7]، وقال تعالى: { { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } } [التوبة: 96]. ومن آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد ورأى ما يقع عليه بصره وتبلغه بصيرته مملوكاً لله خاضعاً لأمره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود ونعمة، وأن ما منعه فإنما منعه عن حكمة.
على أن الله سبحانه يذكر عنهم وهم في الجنة بقوله:
{ { لهم فيها ما يشاؤون } [النحل: 31]، ومن المعلوم أن الإِنسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى.
وهذا غاية السعادة الإِنسانية بما هو عبد، ولذلك ختم الكلام بقوله: { ذلك الفوز العظيم }.
قوله تعالى: { لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير }، الملك - بالكسر - سلطة خاصة على رقبة الأشياء وأثره نفوذ الإِرادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها، والملك - بالضم - سلطة خاصة على النظام الموجود بين الأشياء وأثره نفوذ الإِرادة فيما يقدر عليه، وبعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلق بالفرد، والملك - بالضم - متعلق بالجماعة.
وحيث كان الملك في نفوذ الإِرادة بالفعل مقيداً أو متقوماً بالقدرة فإذا تمت القدرة وأُطلقت كان الملك ملكاً مطلقاً غير مقيد بشيء دون شيء وحال دون حال، ولبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله: { لله ملك السماوات والأرض وما فيهن } بقوله: { وهو على كل شيء قدير }.
واختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق، والمناسبة ظاهرة، فإن غرض السورة هو حث العباد وترغيبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، وهو الملك على الإِطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإِطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى لعيسى: { أنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله } قال: لم يقله وسيقوله، إن الله إذا علم أن شيئاً كائن أخبر عنه خبر ما قد كان.
أقول: وفيه أيضاً عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، وحاصله أن الإِتيان بصيغة الماضي في الأمر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه، وهو شائع في اللغة.
وفيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في تفسير هذه الآية: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب }، قال: إن اسم الله الأكبر ثلاثة وسبعون حرفاً فاحتجب الرب تبارك وتعالى منها بحرف فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عز وجل.
أَعطى آدم اثنين وسبعين حرفاً فتوارثها الأنبياء حتى صار إلى عيسى عليه السلام فذلك قول عيسى: { تعلم ما في نفسي } يعني اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأكبر يقول: أنت علمتنيها فأنت تعلمها { ولا أعلم ما في نفسك } يقول: لأنك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.
أقول: سيجيء البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى واسمه الأعظم الأكبر في تفسير قوله تعالى:
{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } } [الأعراف: 180] الآية ويتبين هناك أن الاسم الأكبر أو الاسم الأعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء وإنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكي عنه بالاسم اللفظي وهو الذات مأخوذاً بصفة من صفاته ووجه من وجوهه، ويعود الاسم اللفظي حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد.
وعلى هذا فقوله عليه السلام: "إن الاسم الأكبر مؤلف من ثلاثة وسبعين حرفاً" ونظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الأعظم مؤلف من كذا حرفاً، وأنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية، كل ذلك بيانات مبنية على الرمز، وأمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسوراً بيانها بالصراحة من غير كناية، وبالعين دون المثل.
والذي يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يُقال: إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه وحدوث حوادثه التي لا تحصى، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لأنه خالق جواد مبدئ مثلاً لا لأنه منتقم شديد البطش، وأنه إنما يرزق من يرزق لأنه رازق معط مثلاً لا لأنه قابض مانع، وأنه إنما يفيض الحياة للأحياء لأنه الحي المحيي لا لأنه مميت معيد، والآيات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الآيات معللة بالأسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الآية لبيان ما تضمه من المعنى باسم، وربما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها.
ومن هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الأسماء وعلم الروابط التي بينها وبين الأشياء وما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة ومؤلفة علم النظام الكوني بما جرى وبما يجري عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحداً بعد واحد.
وقد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدأ والمعاد وما رتبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء }.
لكنها جميعاً قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها وباقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم، وإذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى وبأمره وإرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه، ولا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كل جهة ويفتقر إليه في عينه وأثره، فافهم ذلك.
فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنما وجدت أحكامها وآثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم والاقتضاء اللذين هو المبقي لهما القاهر الغالب عليهما، وبعبارة أُخرى: ما في الأشياء من اقتضاء وحكم إنما هو أثر التمليك الذي ملكه الله إياها، ولا معنى لأن يملك شيء بالملك الذي ملكه الله بعينه منه تعالى شيئاً فهو تعالى مالك على الإِطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلاً.
فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير ولا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا وأوعدنا بالسعادة والشقاء وحسن الجزاء وسوء الجزاء، وأخبرنا أنه لا يخلف الميعاد وأخبرنا من طريق الوحي أو العقل بأُمور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به واطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى:
{ { إن الله لا يخلف الميعاد } [آل عمران: 9] وقال تعالى: { والحق أقول } [ص: 84] وفي معناهما الضرورة العقلية في أحكامها.
وهذا الذي بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الإِطلاق له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال تعالى:
{ { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } [الأنبياء: 23]، وهذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لأحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود وأما الآثار التي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهي لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها وإن شئت فقل: إنه اسم لا يصطاد بمفهوم، وإنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعاً من الإِشارة.
فقد تبين أن من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لأحد من خلقه وهو الذي احتجب تعالى به فافهم ذلك.
(كلام في معنى الأدب)
نبحث فيه عن الأدب الذي أدب الله به أنبياءه ورسله عليهم السلام في عدة فصول:
1- الأدب - على ما يتحصل من معناه - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الأصدقاء وإن شئت قلت: ظرافة الفعل.
ولا يكون إلا في الأُمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقق أيضاً إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبساً بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلاً في الإِسلام، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمد الله ويؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، وأدب الجلوس في الصلاة وهو التورك على طمأنينة ووضع الكفين على الوركين فوق الركبتين والنظر إلى حجره ونحو ذلك.
وإذ كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية والحسن وإن كان بحسب أصل معناه وهو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف، وبحسب اختلاف الأقوام والأُمم والأديان والمذاهب وحتى المجتمعات الصغيرة المنزلية وغيرها في تشخيص الحسن والقبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.
فربما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون، وربما كان بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء فإنه في الإِسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة، وعند قوم برفع القلانس، وعند بعض برفع اليد حيال الرأس، وعند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، وكما أن في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين أُموراً يستشنعها الإِسلام ويذمها، إلى غير ذلك.
غير أن هذه الاختلافات جميعاً إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق وأما أصل معنى الأدب، وهو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو مما أطبق عليه العقلاء من الإِنسان وأطبقوا أيضاً على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان.
2- لما كان الحسن من مقوّمات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق، وكان مختلفاً بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإِنسانية فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة، وركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم وعوامل مختلفة أُخر طبيعية أو اتفاقية.
وليست الآداب هي الأخلاق لما أن الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية إلى تتلبس بها النفوس، ولكن الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإِنسان عن صفات مختلفة نفسية، وبين الأمرين بون بعيد.
فالآداب من منشئات الأخلاق والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة فالغاية المطلوبة للإِنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله، وترسم لنفسه خطاً لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرب من غايته.
3- وإذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإِلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه ورسله عليهم السلام هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته، وهو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها وقلتها وبحسب مراتبها في الكمال والرقي.
والإِسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإِنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدباً، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.
وليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعاً أي أن يعتقد الإِنسان أن له إلهاً هو الذي منه بدئ كل شيء وإليه يعود كل شيء، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، ثم يجري في الحياة ويعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته وعبودية كل شيء عنده لله الحق عز اسمه، وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه.
فالأدب الإِلهي - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل.
4- من المعلوم بالقياس ويؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية - وهي التي تتعلم ليعمل بها - لا تنجح كل النجاح ولا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل، لأن الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها ومصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها والإِيمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية وكلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثم صادف موقفاً من المواقف الهائلة التي تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة ووهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية وزوال الحياة المادية الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا وذاك، وتتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، والقوة في جانب الوهم لأن الحس معه.
فمن الواجب عند التعليم أن يتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل ويتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه ويرسخ التصديق بما تعلمه في النفس، لأن الوقوع أحسن شاهد على الإِمكان.
ولذلك نرى أن العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لأول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان وعظم أمر وقوعه وأورث في النفس قلقاً واضطراباً، ثم إذا وقع ثانياً وثالثاً هان أمره وانكسر سورته والتحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، وأن الخير عادة كما أن الشر عادة.
ورعاية هذا الاسلوب في التعليمات الدينية وخاصة في التعليم الديني الإِسلامي من أوضح الأُمور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية والقوانين العامة قط بل بدأ بالعمل وشفعه بالقول والبيان اللفظي فإذا استكمل احدهم تعلم معارف الدين وشرائعه استكمله وهو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى.
كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربي عاملاً بعلمه، فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لأن للفعل دلالة كما أن للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة ونوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس واصطيادهم.
ولذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم ولا تنقاد نفوسهم للعظة والنصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافياً عن الصبر والثبات في طريقه، وربما قالوا: "لو كان ما يقوله حقاً لعمل به" إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الأمر في استنتاج منه فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل إذ لو كان حقاً عنده لعمل به، وليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقاً كما ربما يستنتجونه.
فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربي نفسه متصفاً بما يصفه للمتعلم متلبساً بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادي أن يربى المربي الجبان شجاعاً باسلاً، أو يتخرج عالم حر في آرائه وأنظاره من مدرسة التعصب واللجاج وهكذا.
قال تعالى:
{ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون } [يونس: 35] وقال: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [البقرة: 44] وقال حكاية عن قول شعيب لقومه: { { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإِصلاح ما استطعت } [هود: 88] إلى غير ذلك من الآيات.
فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربي ذا إيمان بمواد تعليمه وتربيته.
على أن الإِنسان الخالي عن الإِيمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالأعمال الصالحة المتظاهر بالإِيمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة فإن اللسان وإن أمكن إلقاء المغايرة بينه وبين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس ولا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة أُخرى فعل، والفعل من آثار النفس ورشحاتها، وكيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله؟.
فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، وواضعها وموصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه - وهو جهة دلالته الوضعية - من جهة فساده - وهو سائر جهاته - إلا من كان على بصيرة من الأمر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
{ ولتعرفنهم في لحن القول } [محمد: 30] فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلم المربي فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعاً بالعمل الصالح الموافق لعلمه، وأما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير.
ولهذه الحقيقة مصاديق كثيرة وأمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين والإِسلاميين خاصة في التعليم والتربية في معاهدنا الرسمية وغير الرسمية فلا يكاد تدبير ينفع ولا سعي ينجح.
5- وإلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإِلهي المتجلي من أعمال الأنبياء والرسل عليهم السلام مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم وأدعيتهم وأسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم ومخاطباتهم فإن إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل.
قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه:
{ { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [الأنعام: 83ـ89]، يذكر تعالى أنبيائه الكرام عليهم السلام ذكراً جامعاً ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الإِلهية وهي الهداية إلى التوحيد فحسب والدليل عليه قوله: { ولو أشركوا لحبط عنهم }، فلم يذكر منافياً لما حباهم به من الهداية إلا الشرك فلم يهدهم إلا إلى التوحيد.
غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها، والدليل عليه قوله: { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } فلولا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافي له كذلك.
ومعنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد وتحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها، ولو أن تلك الأعمال تجردت اعتقاداً محضاً لكانت هي هو بعينه.
وهذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر والخيلاء، وكذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته وسكناته ما في سره من الذلة والاستكانة وهكذا.
ثم أدب تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياء عليهم السلام لا بهم، والاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي.
ونعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى:
{ { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [الأنبياء: 73] فإن إضافة المصدر في قوله { فعل الخيرات } الخ، تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها وصلاة أقاموها وزكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد وتأديب، وليس هو وحي النبوة والتشريع، ولو كان المراد به وحي النبوة لقيل: { وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } كما في قوله تعالى: { { ثم أوحينا إليك أن اتبع } [النحل: 122] وقوله: { { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة } [يونس: 87] إلى غير ذلك من الآيات، ومعنى وحي التسديد أن يخص الله عبداً من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير والتحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الإِنساني في التفكر في الخير والشر، والروح الحيواني في اختيار ما نشتهيه من الجذب والدفع بالإِرادة، وسيجيء الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.
وبالجملة فقوله: { فبهداهم اقتده } تأديب إلهي إجمالي له صلى الله عليه وآله وسلم بأدب التوحيد المنبسط على أعمال الأنبياء عليهم السلام المنزهة من الشرك.
ثم قال تعالى - بعدما ذكر عدة من أنبيائه عليهم السلام - في سورة مريم:
{ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً } } [مريم: 58ـ60]. فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملاً وعلى الخشوع قلباً لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع، وبكاءهم وهو لرقة القلب وتذلل النفس آية الخشوع وهما معاً كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الإِلهي وهو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم وإذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهي مع ربهم ومع الناس جميعاً.
ومن الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } فإن الصلاة وهي التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم واتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، وحيث قوبل اولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الأنبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية وأن يسيروا بين الناس بسمة العبودية أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم رباً يملكهم ويدبر أمرهم، منه بدؤهم وإليه مرجعهم فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم وأعمالهم.
والذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهي بدأ فيه بآدم عليه السلام أول الأنبياء حيث قال:
{ { وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } } [طه: 121ـ122] وسيجيء بعض القول فيه إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى:
{ { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً } } [الأحزاب: 38ـ39]. أدب عام أدّب الله سبحانه به أنبياءه عليهم السلام وسنة جارية له فيهم أن لا يتحرجوا في ما قسم لهم من الحياة ولا يتكلفوا في أمر من الأُمور إذ كانوا على الفطرة والفطرة لا تهدي إلا إلى ما جهزها الله بما يلائمها في نيله، ولا تتكلف الاستواء على ما لم يسهل الله لها الارتقاء على مستواه، قال تعالى حكاية عن نبيه عليه السلام: { { وما أنا من المتكلفين } [ص: 86] وقال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [البقرة: 286] وقال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } [الطلاق: 6] وإذ كان التكلف خروجاً عن الفطرة فهو من اتباع الشهوة والأنبياء في مأمن منه.
قال تعالى وهو أيضاً من التأديب بأدب جامع:
{ { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم، وإن هذه أُمتكم أُمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [المؤمنون: 51] أدبهم تعالى أن يأكلوا من الطيبات أي أن يتصرفوا في الطيبات من مواد الحياة ولا يتعدوها إلى الخبائث التي تتنفر منها الفطرة السليمة وأن يأتوا من الأعمال بالصالح منها وهو الذي يصلح للإِنسان أن يأتي به مما تميل إليه الفطرة بحسب ما جهزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدم إلى حضرة الربوبية، والمعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلق بالإِنسان الفرد.
ثم وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أن الناس ليسوا إلا أُمة واحدة: المرسلون والمرسل إليهم، وليس لهم إلا رب واحد فليجتمعوا على تقواه، ويقطعوا بذلك دابر الاختلافات والتحزبات، فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي والاجتماعي تشكل مجتمع واحد بشري مصون عن الاختلاف يعبد رباً واحداً، ويجري الآحاد منه على الأدب الإِلهي فاتقوا خبائث الأفعال وسيئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة.
وهذا ما جمعته آية أُخرى وهي قوله تعالى:
{ { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } } [الشورى: 13]. وقد فرق الله الأدبين في موضع آخر فقال: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25] فأدبهم بتوحيده وبناء العبادة عليه، وهذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربهم، وقال: { { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً، أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة يأكل منها } [الفرقان: 7ـ8] إلى أن قال { { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [الفرقان: 20]، فذكر أن سيرة الأنبياء جميعاً وهو أدبهم الإِلهي هو الاختلاط بالناس ورفض التحجب والاختصاص والتميز من بين الناس فكل ذلك مما تدفعه الفطرة، وهذا أدبهم في الناس.
6- من أدب الأنبياء عليهم السلام في توجيههم الوجوه إلى ربهم ودعائهم إياه ما حكاه الله تعالى من قول آدم عليه السلام وزوجته:
{ { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 23] كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله أن يقربا منها، وإنما كان نهي إرشاد ليس بالمولوي، ولم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما، وسعادة حياتهما في الجنة الآمنة من كل شقاء وعناء، وقد قال لهما ربهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس: { { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } } [طه: 117ـ119]. فلما وقعا في المحنة وشملتهما البلية، وأخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلا بأنفسهما اشتغال اليائس البائس، ولم يقطع القنوط ما بينهما وبين ربهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الذي إليه أمرهما، وبيده كل خير يأملانه لأنفسهما فأخذا وتعلقا بصفة ربوبيته المشتملة على كل ما يدفع به الشر ويجلب به الخير، فالربوبية هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه.
ثم ذكرا الشر الذي يهددهما بظهور آياته وهو الخسران - كأنهما اشتريا لذة الأكل بطاعة الإِرشاد الإِلهي فبان لهما أن سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال - في الحياة، وذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشر عنهما فقالا: { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } أي إن خسران الحياة يهددنا وقد أطل بنا وما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا وغشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك وهي السعادة لما أن الإِنسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود ومسير البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص والعيب، وأن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية.
ولذلك كان يكفي مجرد إظهار الحال، وإبراز ما نزل على العبد من مسكنة الحاجة فلا حاجة إلى السؤال بلفظ بل في بدو الحاجة أبلغ السؤال وأفصح الاقتراح.
ولذلك لم يصرحا بما يسألانه ولم يقولا: { فاغفر لنا وارحمنا } ولأنهما ـ وهو العمدة - أوقفا أنفسها بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلة والمسكنة التي لا وجه معها ولا كرامة، فنتجت لهما التسليم المحض لما يصدر في ذلك من ساحة العزة ومن الحكم فكفا عن كل مسألة واقتراح غير أنهما ذكرا أنه ربهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم.
فكان معنى قولهما: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }: أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرنا بذلك على الخسران المهدد لعامة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلة والمسكنة أحاطت بنا، والحاجة إلى إمحاء وسمعة الظلم وشمول الرحمة شملتنا، ولم يدع ذلك لنا وجهة ولا كرامة نسألك بها، فها نحن مسلمون لحكمك أيها الملك العزيز فلك الأمر ولك الحكم غير أنك ربنا ونحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربه.
ومن أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوح عليه السلام في ابنه:
{ { وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } [هود: 42ـ43] إلى أن قال { { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإن لا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } } [هود: 45ـ47]. لا ريب أن الظاهر من قول نوح عليه السلام أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر:
فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو وأهله والمؤمنون بقوله:
{ احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن } [هود: 40] فوعده بإنجاء أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول، وقد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله: { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } [التحريم: 10] وأما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، والذي ذكره الله من أمره مع أبيه وهو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره عليه السلام وليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه وليس من الكافرين فيشمله الوعد الإِلهي بالنجاة.
ومن جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال:
{ { وأُوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [هود: 36ـ37] فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى؟.
فكأن هذه الأُمور رابته عليه السلام في أمر ابنه ولم يكن نوح عليه السلام بالذي يغفل من مقام ربه وهو أحد الخمسة أُولي العزم سادات الأنبياء، ولم يكن لينسى وحي ربه: { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } ولا ليرضى بنجاة ابنه ولو كان كافراً ماحضاً في كفره، وهو عليه السلام القائل فيما دعا على قومه:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [نوح: 26] ولو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته.
ولذلك لم يجترئ عليه السلام على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعاً على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثم قال: { إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق } كأنه يقول وهذا يقضي بنجاة ابني { وأنت أحكم الحاكمين } لا خطأ في أمرك ولا مغمض في حكمك فما أدري إلى مَ انجر أمره؟.
وهذا هو الأدب الإِلهي أن يقف العبد على ما يعلمه، ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه.
فألقى نوح عليه السلام القول على وجد منه كما يدل عليه لفظ النداء في قوله: { ونادى نوح ربه } فذكر الوعد الإِلهي ولما يزد عليه شيئاً ولا سأل أمراً.
فأدركته العصمة الإِلهية وقطعت عليه الكلام، وفسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد: { وأهلك } أن المراد به الأهل الصالحون وليس الابن بصالح، وقد قال تعالى من قبل: { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } وقد أخذ نوح عليه السلام بظاهر الأهل وأن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثم فرع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم، وهو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها.
فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإِلهي، واستأنف عليه السلام بكلام آخر صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال: { ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله.
ومن الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله: { أعوذ بك أن أسألك } "الخ" ولم يقل: "أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم" لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.
{ لا تسألن } "الخ"، ولو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلاً: "لا تعد إلى مثله" كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله:
{ قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } [الأعراف: 143]، وقوله: { { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } [النور: 15] إلى أن قال { { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً } } [النور: 17]. ومن دعاء نوح عليه السلام ما حكاه الله تعالى بقوله: { { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً } } [نوح: 28] حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه عليه السلام الذي بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلاً ونهاراً فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، وما قاساه من شدتهم وكابده من المحنة في جنب الله سبحانه، وبذل من نفسه مبلغ جهدها، وصرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فراراً، ولم يزدهم نصحه إلا استكباراً.
ولم يزل بعد ما بثّه فيهم من النصيحة والموعظة الحسنة وقرعه أسماعهم من الحق والحقيقة، ويشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد والإِصرار على الخطيئة، وقابلوه به من المكر والخديعة حتى هاج به الوجد والأسف وأخذته الغيرة الإِلهية فدعا عليهم فقال:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } } [نوح: 26ـ27]. وما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه: { وقد أضلوا كثيراً } وقد أضلوا كثيراً من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم، وقوله: { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } إخبار ببطلان استعداد أصلابهم وأرحامهم أن يخرج منها مؤمن، ذكره - وهو من أخبار الغيب - عن تفرس نبوي ووحي إلهي.
وإذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته، وهو النبي الكريم أول من جاء بكتاب وشريعة، وانتهض لإِنقاذ الدنيا من غمرة الوثنية ولم يلبه من المجتمع البشري إلا قليل - وهو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار - فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الآخذين بدعوته، ويدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.
فقال: { رب اغفر لي } فبدأ بنفسه لأن الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم وأمامهم { ولوالدي } وفيه دليل على إيمانهما { ولمن دخل بيتي مؤمناً } وهم المؤمنون به من أهل عصره { وللمؤمنين والمؤمنات } وهم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أُمته، ورهن منته إلى يوم القيامة، وهو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب وشريعة، ورفع أعلام التوحيد بين الناس، ولذلك حياه الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال:
{ سلام على نوح في العالمين } } [الصافات: 79] فعليه السلام من نبي كريم كلما آمن بالله مؤمن، أو عمل له بعمل صالح، وكلما ذكر لله عز اسمه اسم، وكلما كان في الناس من الخير والسعادة رسم، فذلك كله من بركة دعوته، وذنابة نهضته، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أجمعين.
ومن ذلك ما حكاه الله عن إبراهيم عليه السلام في محاجته قومه:
{ قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الضالين، ولا تخزني يوم يبعثون } } [الشعراء: 75ـ87]. دعاء يدعو عليه السلام به لنفسه، ولأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان هذا أول أمره ولم ييأس بعد من إيمان أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
وقد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلاً على ما هو أدب العبودية وهذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه عليه السلام، وما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله:
{ يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [الأنعام: 78ـ79]، وقوله لابيه: { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } } [مريم: 47]. وقد استعمل عليه السلام من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلها، ولم يذكر لربه إلا الغنى والجود المحض، ومثل نفسه عبداً داخراً لا يقدر على شيء وتقلبه المقدرة الإِلهية حالاً إلى حال من خلق ثم اطعام وسقي وشفاء عن مرض ثم إماتة ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، وليس له إلا الطاعة المحضة والطمع في غفران الخطيئة.
ومن الأدب المراعى في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله: { وإذا مرضت فهو يشفين } لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام وهو مقام الثناء لا يخلو عن شيء، والمرض وإن كان من جملة الحوادث وهي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكن الكلام ليس مسوقاً لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته وعنايته تعالى، ولذلك نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل.
ثم أخذ في الدعاء واستعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الرب وقصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، واختار مما اختاره ما هو أعظم وأفخم فسأل الحكم وهو الشريعة واللحوق بالصالحين وسأل لسان صدق في الآخرين وهو أن يبعث الله بعده زماناً بعد زمان، وحيناً بعد حين من يقوم بدعوته، ويروج شريعته، وهو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم القيامة ثم سأل وراثة الجنة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم القيامة.
وقد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبئ به كلامه تعالى إلا دعاءه لأبيه وحاشا رب العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين مما ذهب سدى لم يستجبه، قال تعالى:
{ ملة أبيكم إبراهيم } [الحج: 78] وقال: { وجعله كلمة باقية في عقبه } [الزخرف: 28] وقال: { { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [البقرة: 130] وحياه بسلام عام إذ قال: { { سلام على إبراهيم } } [الصافات: 109]. وسير التاريخ بعده عليه السلام يصدق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده وأثنى فيه عليه فإنه عليه السلام هو النبي الكريم قام وحده بدين التوحيد وإحياء ملة الفطرة وانتهض لهدم أركان الوثنية، وكسر الأصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد، وعفت الأيام فيها رسوم النبوة ونسيت الدنيا اسم نوح والكرام من أنبياء الله، فأقام دين الفطرة على ساق، وبث دعوة التوحيد بين الناس ودين التوحيد حتى اليوم وقد مضى من زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حي باسمه باق في عقبه فإن الذي تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود ونبيهم موسى، ودين النصارى ونبيهم عيسى، وهما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ودين الإِسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
ومما ذكره الله من دعائه قوله:
{ رب هب لي من الصالحين } } [الصافات: 100] يسأل الله فيه ولداً صالحاً، وفيه اعتصام بربه، وإصلاح لمسألته الذي هي بوجه دنيوية بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله وارتضائه.
ومما ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكة وقد أسكن إسماعيل وأُمه بها، قال تعالى:
{ { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } } [البقرة: 126]. يسأل ربه أن يتخذ أرض مكة - وهي يومئذ أرض قفرة وواد غير ذي زرع - حرماً لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين، ويكون ذلك رابطة أرضية جسمانية بين الناس وبين ربهم يقصدونه لعبادة ربهم، ويتوجهون إليه في مناسكهم، ويراعون حرمته فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كل من ذكره، ويقصده كل من قصده، وتتشخص به الوجهة، وتتحد به الكلمة.
والدليل على أنه عليه السلام يريد بالأمن الأمن التشريعي الذي هو معنى اتخاذه حرماً دون الأمن الخارجي من وقوع المقاتلات والحروب وسائر الحوادث المفسدة للأمن المخلة بالرفاهية قوله تعالى:
{ أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء } [القصص: 57] فإن في الآية امتناناً عليهم بأمن الحرم وهو المكان الذي احترمه الله لنفسه فاتصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد والقتل، والآية نزلت وقد شاهدت مكة حروباً مبيدة بين قريش وجرهم فيها، وكذا من القتل والجور والفساد ما لا يحصى، وكذا قوله تعالى: { { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [العنكبوت: 67] أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التي جعلناها.
وبالجملة كان مطلوبه عليه السلام هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذريته، وكان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعاً دينياً يؤمونه بالسكونة واللواذ والزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلداً آمناً، وقد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه ولا يتفرقوا منه.
ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن والكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله واليوم الآخر فقال: { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } وأما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون والكفار معاً واختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفار فقط؟ وكيف يرزقون من الثمرات والأرض بطحاء غير ذي زرع؟ فلم يتعرض له في مسألته.
وهذا من أدبه عليه السلام في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضي حاجته؟ وما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ وهو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضي حاجته على السنّة الجارية في الأسباب العادية ولا يفرق فيها بين المؤمن والكافر تمم دعاءه عليه السلام بما قيد به كلامه من قوله: { ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير }.
وهذا الدعاء الذي أدى إلى تشريع الحرم الإِلهي وبناء الكعبة المقدسة التي هي أول بيت وضع للناس ببكة مباركة وهدىً للعالمين هو إحدى ثمرات همته العالية المقدسة التي امتن به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة.
ومما دعا عليه السلام دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله:
{ { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء، رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } } [إبراهيم: 35ـ42]. وهذا مما دعا عليه السلام به في أواخر عمره الشريف وقد بنيت بلدة مكة، والدليل عليه قول فيه: { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } وقوله: { اجعل هذا البلد آمناً } ولم يقل كما في دعائه السابق: { واجعل هذا بلداً آمناً }.
ومما استعمل فيه من الأدب تمسكه بالربوبية في دعائه، وكلما ذكر ما يختص بنفسه قال: { رب } وكلما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال: { ربنا }.
ومن الأدب المستعمل في دعائه أن كلما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته، وفيه من إثارة الرحمة الإِلهية ما لا يخفى فلما قال: { اجنبني وبني } "الخ"، ذكر بعده قوله: { رب إنهن أضللن } "الخ"، وحيث قال: { ربنا إني أسكنت } "الخ"، قال بعده: { ربنا ليقيموا الصلاة } وإذ دعا بقوله: { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } ذيله بقوله: { لعلهم يشكرون }.
ومن أدبه فيه أنه أردف كل حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من اسماء الله الحسنى كالغفور والرحيم وسميع الدعاء، وكرر اسم الرب كلما ذكر حاجة من حوائجه فإن الربوبية هي السبب الموصول بين العبد وبين الله تعالى، وهو المفتاح لباب كل دعاء.
ومن أدبه فيه قوله: { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } حيث لم يدع عليهم بشيء يسوء غير أنه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كل إنسان أعني الغفور الرحيم حباً منه لنجاة أُمته وانبساط جود ربه.
ومن ذلك ما حكاه الله عنه وعن ابنه إسماعيل وقد اشتركا فيه، وهو قوله تعالى:
{ { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أُمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } } [البقرة: 127ـ129]. دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة، وفيه من الأدب الجميل ما في سابقه.
ومن ذلك ما حكاه الله عن إسماعيل عليه السلام في قصة الذبح قال تعالى:
{ فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } } [الصافات: 101ـ102]. وصدر كلامه وإن كان من أدبه مع أبيه إلا أن الذيل فيما بينه وبين ربه على أن التأدب مع مثل إبراهيم خليل الله عليه السلام تأدب مع الله تعالى.
وبالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام، وكان أمراً إلهياً بدليل قول إسماعيل: { افعل ما تؤمر } أمره أن يرى فيه رأيه، وهو من أدبه عليه السلام مع ابنه فقال له إسماعيل: { يا أبت افعل ما تؤمر } الخ، ولم يذكر أنه الرأي الذي رآه هضماً لنفسه وتواضعاً لأبيه كأنه لا رأي له قبال رأيه ولذلك صدر القول بخطابه بالأبوة، ولم يقل: إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعية تطييباً لنفس أبيه، ولأنه ذكر في كلامه أنه أمر أُمر به إبراهيم، ولا يتصور في حق مثله أن يتروى أو يتردد في فعل ما أُمر به دون أن يمتثل أمر ربه.
ثم في قوله: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } تطييب آخر لنفس أبيه، وكل ذلك من أدبه مع أبيه عليه السلام.
وقد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع والجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الأمر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية، ولتخل عنها ساحة النبوة، وقد ذم الله لذلك قوماً إذ قطعوا أمراً ولم يعلقوا كما قال في قصة أصحاب الجنة:
{ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون } [القلم: 17ـ18] وقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه بأن يستثني في قوله تأديباً بكناية عجيبة إذ قال: { { ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غداً، إلا أن يشاء الله } } [الكهف: 23ـ24]. ومن ذلك ما حكاه الله عن يعقوب عليه السلام حين رجع بنوه من مصر وقد تركوا بنيامين ويهودا بها قال تعالى: { وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } } [يوسف: 84ـ86]. يقول لبنيه إن مداومتي على ذكر يوسف شكاية مني سوء حالي إلى الله ولست بيائس من رحمة ربي أن يرجعه إلي من حيث لا يحتسب، وذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم ويوردوا عامة حركاتهم وسكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطاً مستقيماً قال: { أولئك الذين هدى الله } [الأنعام: 90] وقال في خصوص يعقوب: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } } [الأنعام: 84] ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } } [ص: 26]. فالأنبياء وهم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح ومأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله وسبيل نسيانه.
والأنبياء عليهم السلام إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الأمر إليه تعالى لا انهم ينفون الأسباب نفياً مطلقاً لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقاً فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجاً عن صراط الفطرة الإِنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالاً، ويضع كل شيء موضعه الذي وضعه الله فيه.
وإذ كان حالهم عليهم السلام ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الأدب الإِلهي أن يراقبوا مقام ربهم ويراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئاً إلا الله، ولا يتركوا شيئاً إلا لله، ولا يتعلقوا بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده، فهو غايتهم على كل حال.
فقوله عليه السلام: { إنما اشكوا بثي وحزني إلى الله } يريد به أن ذكري المستمر ليوسف وأسفي عليه ليس على حد ما يلغوا احدكم إذا اصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعاً ولا ضراً بجهل منه، وإنما ذلك شكوى مني إلى الله فيما دخلني من فقد يوسف، وليس ذلك مسألة مني في أمر لا يكون فإني اعلم من الله ما لا تعلمون.
ومن ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصديق حين هددته امرأة العزيز بالسجن إن لم يفعل ما كانت تأمره به:
{ { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } } [يوسف: 33]. يذكر عليه السلام لربه أن أمره يدور عندهن في موقفه ذاك بين السجن وبين إجابتهن إلى ما يسألنه، وأنه بعلمه الذي أكرمه الله به، وهو المحكي عنه في قوله تعالى: { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } [يوسف: 22] يختار السجن على إجابتهن غير أن الأسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قوية غالبة فهي تهدده بالجهل بمقام ربه وإبطال ما عنده من العلم بالله، ولا حكم في ذلك إلا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن: { إن الحكم إلا لله } } [يوسف: 40] ولذلك تأدب عليه السلام ولم يذكر لنفسه حاجة لأنه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذي أكرمه بها ربه، وذكر أن نجاته من مهلكة الجهل واندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الأمر إليه وسكت.
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وهو الصبوة وإلا فالسجن فتخلص من السجن والصبوة جميعاً، ومنه يعلم أن مراده من كيدهن هو الصبوة والسجن جميعاً، وأما قوله عليه السلام: { رب السجن أحب إلي } الخ، فإنما هو تمايل قلبي إلى السجن على تقدير تردد الأمر وكناية عن النفرة والمباغضة للفحشاء وليس بسؤال منه للسجن كما قال عليه السلام:

الموت أولى من ركوب العار والعــار أولى من دخول النار

لا كما ربما يظن أنه سأل بذلك السجن فقضي له به، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } } [يوسف: 35] لظهور الآية أن سجنه كان عن رأي بدا لهم بعد ذلك، وقد كان الله سبحانه صرف عند قبل ذلك كيدهن بالدعوة إلى انفسهن والتهديد بالسجن.
ومنه ما حكى الله سبحانه من ثنائه ودعائه عليه السلام حيث قال:
{ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } } [يوسف: 99ـ101]. فليتدبر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوة وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الأمر وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه إخوته من التواضع وهم جميعاً على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة.
لم يشقّ عليه السلام فماً بكلام إلا ولربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الأمر بقوله: { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالأمن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو عليه السلام القائل: "إن الحكم إلا لله".
ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم وبدأ في ذلك بقصة رؤياه وتحقق تأويلها وصدّق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله وحكمته توغلاً منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه:
{ { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك } [يوسف: 6] إلى أن قال { إن ربك عليم حكيم } [يوسف: 6] وقال له يوسف ها هنا بعدما صدقه فيما عبر به رؤياه: { إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم } } [يوسف: 100]. ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه وتأويلها فنسبها إلى ربه ووصفها بالحسن وهو من الله إحسان، ومن ألطف أدبه توصيفه ما لقي من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، واتهموه بالسرقة بقوله: { نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي }.
ولم يزل يذكر نعم ربه ويثني عليه ويقول: ربي وربي حتى غشيه الوله وأخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه وتركهم كأنه لا يعرفهم، وقال: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث }، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده، وهو الملك والعلم بتأويل الأحاديث، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذي أنعم عليه بما أنعم لأنه فاطر السماوات والأرض، ومخرج كل شيء من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشيء من الأشياء جدة من نفسه يملك به ضراً أو نفعاً أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخرة.
وإذ كان فاطر كل شيء فهو ولي كل شيء، ولذلك ذكر بعد قوله: { فاطر السماوات والأرض } أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا ولا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء ويقيمه أي مقام أراد فقال: { أنت وليي في الدنيا والآخرة } وعندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه وهو أن ينتقل من الدنيا إلى الآخرة وهو في حال الإِسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قال تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم } وهو الاصطفاء
{ { قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } } [البقرة: 131ـ132]. وهو قوله: { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } يسأل التوفي على الإِسلام ثم اللحوق بالصالحين، وهو الذي سأله جده إبراهيم عليه السلام بقوله: { { رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } [الشعراء: 83] فاجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفاً وهذا آخر ما ذكر الله من حديثه وختم به قصته، وأن إلى ربك المنتهى، وهذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف.
ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى عليه السلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطي فقضى عليه:
{ { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } [القصص: 16] وقوله حين فر من مصر فبلغ مدين وسقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال: { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } } [القصص: 24]. وقد استعمل عليه السلام في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله والتعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الأول بالطلب لأنه كان متعلقاً بالمغفرة والله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } [المزمل: 20] وهو الذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياء عليهم السلام، ولم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء والمسكن مثلاً بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت، فما للدنيا عند الله من قدر.
واعلم أن قوله عليه السلام: { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } يجري في الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة مجرى قول آدم وزوجته: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملاً يخالف مصلحة حياته كما أن الأمر كان على هذا النحو في آدم وزوجته.
فإن موسى عليه السلام إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل وإنما قتل نفساً كافرة غير محترمة، ولا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل شريعته وكان الأمر في عصيان آدم وزوجته على هذا الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الإِنساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الأرض.
ومجرد النهي عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولوياً مستلزماً لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أن القرائن قائمة على كون النهي المتعلق بهما إرشادياً كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب.
على أن الكتاب الإِلهي نص في كون موسى عليه السلام مخلصاً، وأن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى ومن الضروري أن لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى:
{ { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً } [مريم: 51] وقال تعالى { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين } } [ص: 82ـ83]. ومن هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسؤولة في دعائه كما في دعائهما عليهما السلام ليست هي إمحاء العقاب الذي يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الآثار السيئة التي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى عليه السلام يخاف أن يفشو أمره ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيء كائناً ما كان، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه.
ونظير هذا من وجه قول نوح عليه السلام فيما تقدم من دعائه { وإن لم تغفر لي وترحمني } أي وإن لم تؤدبني بأدبك، ولم تعصمني بعصمتك ووقايتك وترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك.
ومنه دعاؤه عليه السلام أول ما القي إليه الوحي وبععث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قال تعالى:
{ { قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيراً * ونذكرك كثيراً * إنك كنت بنا بصيراً } } [طه: 25ـ35]. ينصح عليه السلام لما بعث لها من الدعوة الدينية ويذكر لربه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - أنك كنت بصيراً بحالي أنا وأخي منذ نشأنا نحب تسبيحك، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفي نفسي من الحدة وفي لساني من العقدة ما أنت أعلم به وإني أخاف أن يكذبوني إن دعوتهم إليك وبلغتهم رسالتك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني فاشرح لي صدري، ويسر لي امري، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل } [الأحزاب: 38] واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وأخي هارون أفصح مني لساناً وهو من أهلي فأشركه في هذا الأمر واجعله وزيراً لي كي نسبحك - كما كنا نحبه - كثيراً ونذكرك عند ملأ الناس بالتعاضد كثيراً، فهذا محصل ما سأله عليه السلام ربه من أسباب الدعوة والتبليغ، والأدب الذي استعمل فيه أن ذكر غايته وغرضه من اسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: { كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً } واستشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه وعرضها عليه فقال: { إنك كنت بنا بصيراً } وعرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسؤول الغني الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لأنه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذي لا يمتنع عليه أن يكذب.
ومنه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون وملائه إذ قال:
{ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، قال قد أُجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } } [يونس: 88ـ89]. الدعاء لموسى وهارون ولذلك صدر بكلمة { ربنا } ويدل عليه ما في الآية التالية: { قال قد أُجيبت دعوتكما } دعوا أولاً على أموالهم أن يطمس الله عليها ثم على أنفسهم أن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراًَ } [الأنعام: 158] أي انتقم منهم بتحريم الإِيمان عليهم بمفاجأة العذاب كما حرموه على عبادك باضلالهم، وهذا أشد ما يمكن أن يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة ولا شيء شراً منه بالنسبة إلى إنسان.
والدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكماً فإن الرحمة الإِلهية سبقت غضبه وقد قال لموسى فيما أَوحى إليه:
{ { عذابي أُصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } [الأعراف: 156] فسعة الرحمة الإِلهية تقضي بكراهية اصابة الشر والضر لعبد من عباده وإن كان ظالماً، ويشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم وسترهم بكرمه وأمره عباده بالحلم والتصبر عند جهالتهم وخرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك.
على أن جهات الخير والسعادة كلما كانت ارق لطافة وأدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر والشقاء فإن الإِنسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، ويحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلاً عن تفاصيل خصوصياتها، وهذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعني الدعاء بالخير والدعاء بالشر من حيث الآداب.
فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الأُمور التي بعثت إلى الدعاء بالتكنية وخاصة في الأُمور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، وقد راعاه عليه السلام في دعائه حيث قال: { ليضلوا عن سبيلك } ولم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع.
ومن أدبه الإِكثار من الاستغاثة والتضرع وقد راعاه فيما يقول: { ربنا } وتكرره مرات في دعائه على قصره.
ومن أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجري على ظن أو تهمة، وقد كان عليه السلام على علم منه وقد قال الله فيه:
{ ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } } [طه: 56] وكأنه لذلك أمره الله سبحانه وأخاه عندما أخبرهما بالاستجابة بقوله: { فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } والله أعلم.
ومن دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله:
{ واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك } } [الأعراف: 155ـ156]. يبتدئ الدعاء من قوله: { فاغفر لنا } الخ، غير أن الموقف لما كان موقفاً صعباً قد أخذهم الغضب الإِلهي والبطش الذي لا يقوم له شيء، وما مسألة المغفرة والرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته وأُهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سويّ فلذلك قدّم عليه السلام ما تسكن به فورة الغضب الإِلهي حتى يتخلص إلى طلب المغفرة والرحمة.
فقال: { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } يريد عليه السلام - كما تدل عليه قرينة المقام - رب إن نفسي ونفوسهم جميعاً قبض قدرتك، وطوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم وأنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم وأبقيتني، فماذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم واتهموني بأني قتلتهم، وحالهم ما أنت أعلم به؟ وهذا يبطل دعوتي ويحبط عملي.
ثم عد عليه السلام إهلاك السبعين إهلاكاً له ولقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوماً بفعل السفهاء منهم، وليس ذلك إلا مورداً من موارد الامتحان العام الذي لا يزال جارياً على الإِنسان فيضل به كثير، ويهتدي به كثير، ولم تقابلها إلا بالصفح والستر.
وإذ كان بيدك أمر نفسي ونفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، وكانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذي يعقب ضلال قوم وهداية آخرين، ولا ينتهي إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذي يقوم بأمرك ومشيئتك تدبير أُمورنا، ولا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة والرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب وهي التي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الإِلهي، وفي الآخرة حسنة بالمغفرة والجنة.
وهذا ما ساقه عليه السلام في مسألته، وقد أخذتهم الرجفة وشملتهم البلية، فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية واسترحم ربه، ولم يزل يستوهب الرحمة، ويسكن بثنائه فورة السخط الإِلهي حتى أُجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، وهو إعادة حياتهم إليهم بعد الإِهلاك، وأُوحي إليه بما حكاه الله تعالى:
{ قال عذابي أُصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } [الأعراف: 156] فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى عليه السلام جواباً لمسألته: { ورحمتي وسعت كل شيء }؟.
وقد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، وإجابته إلى مسألته موسى عليه السلام بإعادة الحياة إليهم وقد أهلكوا وردهم إلى الدنيا بقوله:
{ { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } } [البقرة: 55ـ56] ويقرب من ذلك ما في سورة النساء.
وقد استعمل عليه السلام من الأدب في كلامه حيث قال: { تضل بها من تشاء } لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظاً كما كان ينزهه قلباً فيكون على حد قوله تعالى:
{ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26] لأن المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى ولياً على الإِطلاق ينتهي إليه كل التدبير لا غير.
ولم يورد في الذكر أيضاً عمدة ما في نفسه من المسألة وهو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإِهلاك لأن الموقف على ما كان فيه من هول وخطر كان يصرفه عن الاسترسال، وإنما أشار إليه إشارة بقوله: { رب لو شئت أهلكتهم وإياي } الخ.
ومن دعائه عليه السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، وقد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى:
{ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } } [الأعراف: 150] فعند ذلك رق له ودعا له ولنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: { قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } } [الأعراف: 151]. ولم يكن يريد التميّز منهم وأن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الإِلهي سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } [الأعراف: 152] ويعرف بما تقدم وجوه من الأدب في كلامه.
ومن دعائه عليه السلام: وهو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة:
{ يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } [المائدة: 24] ما حكاه الله تعالى بقوله: { { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } } [المائدة: 25]. وقد أخذ عليه السلام بالأدب الجميل حيث كنّى عن الإِمساك عن أمرهم وتبليغهم أمر ربهم ثانياً بعد ما جبهوا أمره الأول بأقبح الرد وأشنع القول بقوله: { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي وأخي أي إنهم ردوا علي بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك وإرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.
وإنما نسب ملك نفسه وأخيه إلى نفسه لأن مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة ولو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، وإنما له من الملك ما ملكه الله إياه، ولما عرض لربه من نفسه الإِمساك واليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين }.
ومن ذلك ما دعا به شعيب عليه السلام على قومه إذ قال:
{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } } [الأعراف: 89]. وهذا استنجاز منه للوعد الإِلهي بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، ومسألة للقضاء بينه وبينهم بالحق على ما قاله الله تعالى: { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } } [يونس: 47]. وإنما قال { بيننا } لأنه ضم المؤمنين به إلى نفسه، وقد كان الكافرون من قومه هدوا أياه والمؤمنين به جميعاً إذ قالوا: { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } } [الأعراف: 88] فضمهم إلى نفسه وهاجر قومه في عملهم وسار بهم إلى ربه وقال: { ربنا افتح بيننا } الخ.
وقد استمسك في دعائه باسمه الكريم: { خير الفاتحين } لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإِقسام، وهذا بخلاف قول موسى عليه السلام: { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } المنقول آنفاً لما تقدم أن لفظه عليه السلام ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإِمساك عن الدعوة وإرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للاقسام بخلاف قول شعيب.
ومن ذلك ما حكاه الله من ثناء داود وسليمان عليهما السلام قال تعالى:
{ { ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } } [النمل: 15]. وجه الأدب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بما له: { إنما أُوتيته على علم عندي } } [القصص: 78] وكما حكى الله عن قوم آخرين: { { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } } [غافر: 83]. ولا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع، وليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، وقد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال: { { والذين يقولون ربنا } [الفرقان: 74] إلى أن قال { { واجعلنا للمتقين إماماً } } [الفرقان: 74]. ومن ذلك ما حكاه عن سليمان عليه السلام في قصة النملة بقوله: { حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، قتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } } [النمل: 18ـ19]. ذكرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الذي شيدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، والجن يعملون له ما يشاء، والعلم بمنطق الطير وغيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره عليه السلام في صورة أجلى أمنية يبلغها الإِنسان كما فينا ولم ينسه عبوديته ومسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه ونعمته أنعمها عليه وعلى والديه بما خصهم به، وهو من مثله عليه السلام والحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربه.
وقد ذكر نعمة ربه، وهي وإن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره عليه السلام والمقام ذاك المقام - هو الملك العظيم والسلطة القاهرة، ولذلك ذكر العمل الصالح وسأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحاً لأن العمل الصالح والسيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك.
فلذلك كله سأل ربه أولاً أن يوزعه على شكر نعمته، وثانياً أن يعمل صالحاً ولم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: { ترضاه } فإنه عبد لا شغل له بغير ربه، ولا يريد الصالح من العمل إلا لأن ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: { وأدخلني برحمتك في عبادك الصلحين }.
ومن ذلك ما حكاه الله عن يونس عليه السلام وقد دعا به وهو في بطن الحوت الذي التقمه قال تعالى:
{ وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } } [الأنبياء: 87]. كان عليه السلام - على ما يقصه القرآن - قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، ولما شاهد يونس ذلك ترك قومه، وذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فالقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، ولم يكن ذلك إلا تأديباً إلهياً يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، وقد قال تعالى: { { فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } } [الصافات: 143ـ144] فكان حاله في تركه العود إلى قومه وذهابه لوجهه يمثل حال عبد انكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه وترك خدمته وما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه وقبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
ولم يكن ذلك كله إلا لأن يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء، وأن يصنع به ما شاء فلا مهرب من حكمه سبحانه إلا إليه، ولذلك لقنه الحال الذي تمثل له وهو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذي لا معبود غيره، ولا مهرب عن عبوديته فقال: { لا إله إلا أنت } ولم يناده تعالى بالربوبية، وهذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياء عليهم السلام لم يصدر باسم الرب.
ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه ونزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال: { سبحانك إني كنت من الظالمين }.
ولم يذكر مسألته - وهي الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقاً في الحياء والخجل، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة:
{ فاستجبنا له ونجيناه من الغم } } [الأنبياء: 88]. والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: { فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا به فمتعناهم إلى حين } } [الصافات: 145ـ148]. ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب عليه السلام بعد ما أزمنه المرض وهلك عنه ماله وولده حيث قال: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } } [الأنبياء: 83]. وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، ولم يذكر عليه السلام حاجته صريحاً على حد ما تقدم من أدعية آدم ونوح وموسى ويونس عليهم السلام هضماً لنفسه واستحقاراً لأمره، وأدعية الأنبياء كما تقدم ويأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى أُمور الدنيا وإن كانوا لا يريدون شيئاً من ذلك اتباعاً لهوى أنفسهم.
وبوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر والصفة الموجودة في المسؤول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، والسكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر وتفهيم باللفظ.
ومن ذلك ما حكاه عن زكريا عليه السلام: حيث قال:
{ { ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفياً، قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً } } [مريمك 2ـ6]. إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولداً من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: { { وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء } } [آل عمران: 37ـ38]. فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب، وانهدت منه القوى، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضي ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإِلهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقاً على باب العبودية والمسألة منذ حداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، ولم يكن بدعائه شقياً، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثاً رضياً.
والدليل على ما ذكرنا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحى إليه بالاستجابة بقوله:
{ { قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً، قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } } [مريم: 8ـ9] فإنه ظاهر في أنه عليه السلام لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والإِجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فاجيب إليها أيضاً.
وكيف كان فالذي استعمله عليه السلام في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذي ملكه، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإِنابة والمسألة حتى وقف موقفاً يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء.
فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه - حاشا مقام النبوة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء } أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي - وهو دعاؤه المديد - قدراً عندك أو فيه منة عليك بل لأني أسألك، وقد وجدتك سميعاً لدعاء عبادك ومجيباً لدعوة السائلين المضطرين، وقد اضطرني خوف الموالي من ورائي، والحث الشديد لذرية طيبة تعبدك أن أسألك.
وقد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوّف الموالي قوله: { واجعله رب رضياً } والرضي وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، والرضا يشمل بإطلاقه رضا الله ورضا زكريا ورضا يحيى لكن قوله في آية آل عمران: { ذرية طيبة } يدل على أن المراد بكونه رضياً كونه مرضياً عند زكريا لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير.
ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله:
{ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } } [المائدة: 114]. القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى عليه السلام لأن ما حكي عنهم من قولهم له: { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } كان أولاً مشتملاً بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها.
وكان ثانياً متضمناً لاقتراح آية جديدة مع أن آياته عليه السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية، وتكلمه في المهد آية، وإحياؤه الموتى وخلقه الطير وإبراؤه الأكمه والأبرص وإخباره عن المغيبات وعلمه بالتوراة والانجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكاً ولا لمرتاب ريباً فاختيارهم آية لأنفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه، ولذلك وبخهم بقوله: { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }.
لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم: { نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } وألجأوه إلى السؤال فسأل.
أصلح عليه السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء فعنونه أولاً بعنوان أن يكون عيداً لهم يختصون هو وأُمته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء عليهم السلام حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإِتمام الحجة أو لحاجة الأمة إلى نزولها، وهذه الآية لم تكن على شيء من هاتين الصفتين.
ثم أجمل ثانياً ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه عليه السلام وشهادتهم عليها، في قوله: { وآية منك }.
ثم ذكر ثالثاً ما ذكروه من عرض الأكل وأخّره وإن كانوا قدموه في قولهم: { نريد أن نأكل منها } الخ، وألبسه لباساً آخر أوفق بأدب الحضور فقال: { وارزقنا } ثم ذيله بقوله: { وأنت خير الرازقين } ليكون تأييداً للسؤال بوجه، وثناء له تعالى من وجه آخر.
وقد صدّر مسألته بندائه تعالى: { اللهم ربنا } فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء عليهم السلام من قولهم { رب } أو { ربنا } لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه.
ومنه مشافهته عليه السلام ربه المحكية بقوله تعالى:
{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } } [المائدة: 114ـ118]. تأدب عليه السلام في كلامه أولاً بأن صدّره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه } [الأنبياء: 26]. وثانياً: بأن أخذ نفسه أدون وأخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: "ما قلت" أو "ما فعلت" وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال: { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: { إن كنت قلته فقد علمته } الخ، فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي وبجميع الغيوب.
ثم قال: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما وإلا أي إني قلت لهم قولاً ولكنه هو الذي أمرتني به وهو أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وأُمي إلهين من دون الله؟.
ثم قال: { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } وهو نفي منه عليه السلام لذلك كالمتمم لقوله: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } "الخ" وذلك لأن معناه: ما قلت لهم شيئاً مما ينسب إلى والذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، وهو { أن اعبدوا الله ربي وربكم } ولم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لأعمالهم ما دمت، فلما توفيتني انقطعت عنهم، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني وبعده وعليهم وعلى كل شيء غيرهم.
وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له عليه السلام أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها، وبه يحصل تمام النفي فقال: { إن تعذبهم فإنهم عبادك } "الخ" يقول - على ما يؤيده السياق - وإذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل منى فأنت وعبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب، وإن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنك عزيز غير مغلوب وحكيم لا يفعل الفعل السفهي اللغو، وإنما يفعل ما هو الأصلح.
وبما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه عليه السلام ولم يورد جملة في كلامه إلا وقد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان وأصدق لسان.
ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من أُمته فقال تعالى:
{ آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخدنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } } [البقرة: 285ـ286]. كلامه تعالى - كما ترى - يحكي إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من أصول المعارف، وفيما اشتمل عليه من الأحكام الإِلهية جميعاً، ثم يلحق به صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين من أُمته دون المعاصرين الحاضرين عنده صلى الله عليه وآله وسلم منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الأُمة على ما هو ظاهر السياق.
ولازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكياً عن لسان حالهم، وإن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل ذلك مشافهاً ربه عن نفسه الشريفة وعن المؤمنين لأنهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة.
والآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمني هذه الأُمة من حيث تلقيهم ما أُنزل إليهم في كتاب الله، وإن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء وخفف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبّخ أُولئك عليه وعيرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره، وبين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره، وبين رسل الله فآمنوا بموسى أو به وبعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، وبين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله وكفروا ببعض، والمؤمنون من هذه الأُمة آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.
فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: { سمعنا وأطعنا } لا كقول اليهود: { سمعنا وعصينا } ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عباداً مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئاً ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا: { غفرانك ربنا } لا كما قالت اليهود: { سيغفر لنا } وقالت: { إن الله فقير ونحن أغنياء } وقالت: { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } إلى غير ذلك من هفواتهم.
ثم قال الله سبحانه: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فإن التكليف الإِلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها، ومن المعلوم أن الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، وفي ذلك سعادة الحياة البتة.
نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمية القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة وزي العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كأن يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، واجتناب النسيان والخطأ إذا اشتد الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والأموال في الشرع الإِسلامي، أو يحمل عليه الكلفة ويزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج وألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.
وكيف كان فقوله: { لا يكلف الله نفساً } إما ذيل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، وإنما قالوه تقدمة لقولهم: { ربنا لا تؤاخذنا } الخ، ليجري مجرى الثناء عليه تعالى ودفعاً لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة ويكلف بالحرجي من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وأن الذي سألوه بقولهم: { ربنا لا تؤاخذنا } الخ، إنما هو الأحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد لا من قبله تعالى.
وإما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكي في كلامه أعني قولهم: { غفرانك ربنا } الخ، وقولهم: { ربنا لا تؤاخذنا } الخ، ليفيد ما مر من الفائدة ويكون تأديباً وتعليماً لهم منه تعالى فيكون جارياً مجرى كلامهم لأنهم مؤمنون بما أنزل الله، وهو منه، وعلى أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم، ويتكئ عليه دعاؤهم.
ثم ذكر بقية دعائهم وإن شئت فقل: طائفة أُخرى من مسائلهم: { ربنا لا تؤاخذنا } الخ { ربنا لا تحمل علينا إصراً } الخ { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا } وكأن مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان والخطأ وسائر موجبات الحرج { واغفر لنا وارحمنا } في سائر ذنوبنا وخطيئاتنا، ولا يلزم من ذكر المغفرة ها هنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقاً: { غفرانك ربنا } لأنها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم وأدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم وبالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.
واشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة والاعتراف بالمملوكية والولاية، والوقوف موقف الذلة ومسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان.
وفي القرآن الكريم تأديبات إلهية وتعليمات عالية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقسام من الثناء يثني بها على ربه أو المسألة التي يسأله بها كما في قوله تعالى:
{ { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } [آل عمران: 26] إلى آخر الآيتين وقوله تعالى: { { قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك } } [الزمر: 46] وقوله تعالى: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } [النمل: 59] وقوله تعالى: { { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله } } [الأنعام: 162] وقوله تعالى: { { وقل رب زدني علماً } } [طه: 114] وقوله: { { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [المؤمنون: 97] "الخ" إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جداً.
ويجمعها جميعاً أنها تشتمل على أدب بارع أدّب الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وندب هو إليه أُمته.
7- رعايتهم الأدب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، وهذا أيضاً باب واسع وهو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، وهو من جهة أخرى من أبواب التبليغ العملي الذي لا يقصر أو يزيد أثراً على التبليغ القولي.
وفي القرآن من ذلك شيء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح وقومه:
{ { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون } } [هود: 32ـ34] ينفي عليه السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الأدب بقوله: { إن شاء } ثم بقوله { وما أنتم بمعجزين } أي لله، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ "الله" دون لفظ "ربي" لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال وجلال، ولم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه وإثباته لربه، وعلل ذلك بقوله: { هو ربكم وإليه ترجعون }.
فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح عليه السلام الطغاة من قومه محاجاً لهم، وهو أول نبي من الأنبياء عليهم السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف.
وهذا أوسع هذه الأبواب مسرحاً لنظر الباحث في أدب الأنبياء عليهم السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدباً وكمالاً فإن جميع أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه قال تعالى:
{ { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون } }. [الأنبياء: 19ـ20] وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والإِعلان والإِسرار والتبشير والإِنذار وغير ذلك.
تدبر في قوله تعالى:
{ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } } [طه: 86] يذكر موسى عليه السلام إذ رجع إلى قومه وقد امتلأ غيظاً وحنقاً لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربه.
وقوله تعالى:
{ { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون } [يوسف: 23] وقوله تعالى: { { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } } [يوسف: 91ـ92] يذكر يوسف في خلاء المراودة الذي يملك من الإِنسان كل عقل، ويبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الأدب في ذكر ربه ومع غيره.
وقوله تعالى:
{ فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم } } [النمل: 40] وهذا سليمان عليه السلام وقد أوتي من عظيم الملك ونافذ الأمر وعجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس وخيلاؤها، ولم ينس ربه ولم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملائه بأحسن الثناء.
وليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم عليه السلام إذ قال:
{ { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت } [البقرةك 258] وقد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر.
أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله:
{ يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب } [الزخرف: 51ـ52] يباهي بملك مصر وأنهاره ومقدار من الذهب كان يملكه هو وملاؤه ولا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: { أنا ربكم الأعلى } وهو الذي كانت تستذله آيات موسى يوماً بعد يوم من طوفان وجراد وقمل وضفادع وغير ذلك.
وقوله تعالى:
{ إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } } [التوبة: 40] وقوله: { { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } [التحريم: 3] إلى أن قال { { فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } [التحريم: 3] فلم يهزهزه صلى الله عليه وآله وسلم شدة الأمر والهول والفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه ولم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الأمر، وكذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربه.
وعلى وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهم عليهم السلام في القرآن الكريم من الأدب الرائع والسنن الشريفة، ولولا أن الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم وأشبعنا فيها البحث.
8- أدب الأنبياء عليهم السلام مع الناس في معاشرتهم ومحاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، والمحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شيء يسير من سيرتهم المنقولة.
أما الأدب في القول فإنك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشيء مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة أو إزراء وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
قال تعالى: { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } يعني قوم نوح
{ { ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } } [هود: 27ـ28]. وقال تعالى حكاية عن عاد قوم هود: { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أُشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه } } [هود: 54] يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلاءه عليه السلام بمثل جنون أو سفاهة ونحو ذلك.
وقال تعالى حكاية عن آزر:
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } } [مريم: 46ـ47]. وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه السلام: { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين، قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } } [الأعراف: 66ـ68]. وقال تعالى: { { قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما } [الشعراء: 23ـ24] إلى أن قال { { قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } } [الشعراء: 27ـ28]. وقال تعالى حكاية عن قوم مريم: { قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً } [مريم: 27ـ30] (الخ).
وقال تعالى يسلي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما رموه به من الكهانة والجنون والشعر:
{ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } } [الطور: 29ـ31]. وقال: { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } } [الفرقان: 8ـ9]. إلى غير ذلك من أنواع الشتم والرمي والإِهانة التي حكي عنهم في القرآن، ولم ينقل عن الأنبياء عليهم السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب والمنطق الحسن اللين اتباعاً للتعليم الإِلهي الذي لقنهم خير القول وجميل الأدب قال تعالى خطاباً لموسى وهارون عليهما السلام: { اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } [طه: 43ـ44] وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً } } [الإسراء: 28]. ومن أدبهم في المحاورة والخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، وهذا ظاهر بالتدبر فيما حكي من محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم" "إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم" .
وليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق وبيانه والانتصار له فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم، وينخلعوا عن الباطل ويتقوا شبكات الضلال أياً ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، واستعقب طوعهم أو كرههم ولقد ورد منه تعالى أشد النهي في ذلك لأنبيائه وأبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولاً وفعلاً بغرض نصرة الحق فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع، والدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل ولو في طريق الحق، والحق الذي يهدي إليه الباطل وينتجه ليس بحق من جميع جهاته.
ولذلك قال تعالى:
{ وما كنت متخذ المضلين عضداً } } [الكهف: 51] وقال: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } } [الإسراء: 74ـ75] فلا مساهلة ولا ملابسة ولا مداهنة في حق ولا حرمة لباطل.
ولذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته وأولياء دينه وهم الأنبياء عليهم السلام بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق ونصرته، قال تعالى:
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً } } [الأحزاب: 38ـ39] فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره فليس أي مانع من إظهارهم الحق ولو بلغ بهم أي مبلغ وأوردهم أي مورد.
ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال:
{ { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171ـ173] وقال: { إنا لننصر رسلنا } } [غافر: 51]. ولذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئاً في إظهار الحق وقول الصدق وإن لم يرتضه الناس واستمروه في مذاقهم، قال تعالى حاكياً عن نوح يخاطب قومه: { ولكني أراكم قوماً تجهلون } } [هود: 29] وقال عن قول هود: { إن أنتم إلا مفترون } } [هود: 50] وقوله لقومه: { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } [الأعراف: 71]، وقال تعالى يحكي عن لوط: { { بل أنتم قوم مسرفون } } [الأعراف: 81] وحكى عن إبراهيم من قوله لقومه: { أُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } } [الأنبياء: 67] وحكى عن موسى في جواب قول فرعون له: { إني لأظنك يا موسى مسحوراً، قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } [الإسراء: 101ـ102] أي ممنوعاً من الإِيمان بالحق مطروداً هالكاً، إلى غير ذلك من الموارد.
فهذه كلها من رعاية الأدب في جنب الحق واتباعه، ولا مطلوب أعز منه ولا بغية أشرف منه وأغلى، وإن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى والسلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين والخضوع والتملق إلى المفسدين والمترفين سياسة في العمل.
وجملة الأمر أن الأدب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ والعمل الصالح، ويختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات والآراء والعقائد التي تتمكن فيها وتتشكل هي عنها، والدعوة الإِلهية التي تستند إليها المجتمع الديني إنما تتبع الحق في الاعتقاد والعمل، والحق لا يخالط الباطل ولا يمازجه ولا يستند إليه ولا يعتضد به، فلا محيص عن إظهاره واتباعه، والأدب الذي يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك ويتزيى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة وخشونة، واختيار الاستعجال في الخير إذا أمكن فيه كل من المسارعة والتبطي.
وهذا هو الذي يأمر به في قوله تعالى: { وكتبنا له } أي لموسى
{ { في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } } [الأعراف: 145] وبشر عباده الآخذين به في قوله: { فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } } [الزمر: 17ـ18] فلا أدب في باطل ولا أدب في ممزوج من حق وباطل فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولي الحق وقد قال: { { فماذا بعد الحق إلا الضلال } } [يونس: 32]. وهذا هو الذي دعا أنبياء الحق إلى صراحة القول وصدق اللهجة وإن كان ذلك في بعض الموارد مما لا يرتضيه سنة المداهنة والتساهل والأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينية.
ومن أدبهم مع الناس في معاشرتهم وسيرتهم فيهم احترام الضعفاء والأقوياء على حد سواء والإِكثار والمبالغة في حق أهل العلم والتقوى منهم فإنهم لما بنوا على أساس العبودية وتربية النفس الإِنسانية تفرع عليه تسوية الحكم في الغني والفقير والصغير والكبير والرجل والمرأة والمولى والعبد والحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والسلطان والرعية، وعند ذلك لغى تمايز الصفات، واختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعية، وبطل تقسم الوجدان والفقدان والحرمان والتنعم والسعادة والشقاء بين صفتي الغنى والفقر والقوة والضعف، وأن للقوي والغني من كل مكانة أعلاها، ومن كل عيشة أنعمها، ومن كل مجاهدة أروحها وأسهلها، ومن كل وظيفة أخفها بل كان الناس في ذلك شرعاً سواء، قال:
{ { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } } [الحجرات: 13] وتبدل استكبار الأقوياء بقوتهم ومباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعاً للحق ومسارعة إلى المغفرة والرحمة، وتسابقاً في الخيرات وجهاداً في سبيل الله وابتغاء لمرضاته.
واحترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء، وتؤدب مع الضعفاء كما مع الأغنياء بل اختص هؤلاء بمزيد شفقة ورأفة ورحمة، قال تعالى يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } } [الكهف: 28] وقال تعالى: { { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } [الأنعام: 52]، وقال: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين، وقل إني أنا النذير المبين } } [الحجر: 88ـ89]. ويشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوح عليه السلام وقومه إذ قال: { { فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون } [هود: 27ـ29] -أي في تحقيركم أمر الفقير الضعيف - { ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون، ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } - أي لا أدعي شيئاً يميزني منكم بمزية إلا أني رسول إليكم - { ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم } - أي من الخير والسعادة اللذين يرجيان منهم - { { إني إذاً لمن الظالمين } }. [هود: 31] ونظيره في نفي التمييز قول شعيب لقومه على ما حكاه الله: { { وما أُريد أن أُخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإِصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب } [هود: 88]، وقال الله تعالى يعرف رسوله صلى الله عليه وآله وسلم للناس: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [التوبة: 128] وقال أيضاً: { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذن قل أُذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم } } [التوبة: 61] وقال أيضاً: { وإنك لعلى خلق عظيم } } [القلم: 4] وقال أيضاً وفيه جماع ما تقدم: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } } [الأنبياء: 107]. وهذه الآيات وإن كانت بحسب المعنى المطابقي ناظرة إلى أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم الحسنة دون أدبه الذي هو أمر وراء الخلق إلا أن نوع الأدب - كما تقدم بيانه - يستفاد من نوع الخلق، على أن نفس الأدب من الأخلاق الفرعية.
(بحث روائي آخر)
الآيات القرآنية التي يستفاد منها خلقه صلى الله عليه وآله وسلم الكريم وأدبه الجميل أكثرها واردة في صورة الأمر والنهي، ولذلك رأينا أن نورد في هذا المقام روايات من سننه صلى الله عليه وآله وسلم فيها مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإِلهي الجميل، وهي مع ذلك متأيدة بالآيات الشريفة القرآنية.
1- في معاني الأخبار بطريق عن أبي هالة التميمي عن الحسن بن علي عليهما السلام وبطريق آخر عن الرضا عن آبائه عن علي بن الحسين عن الحسن بن علي عليهم السلام، وبطريق آخر عن رجل من ولد أبي هالة عن الحسن بن علي عليهما السلام:
قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئاً لعلي أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن تفرقت عقيقته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره القضب، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المشربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، فسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط في صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام.
قال: فقلت له: صف لي منطقه، فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم عنده النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئاً غير أنه كان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضيه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وانشاح، وإذا غضب غض طرفه جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.
قال الصدوق: إلى هنا رواية القاسم بن المنيع عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد، والباقي رواية عبد الرحمن إلى آخره:
قال الحسن عليه السلام: فكتمتها الحسين عليه السلام زماناً ثم حدثته به فوجدته قد سبقني إليه فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه عليه السلام عن مدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئاً.
قال الحسين عليه السلام قد سألت أبي عليه السلام عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان دخوله في نفسه مأذوناً له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئاً.
وكان من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جزء الأُمة إيثار أهل الفضل بأدبه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأُمة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة.
وسألته عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا عما كان يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عن الناس، ويحسّن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ويميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم؛ أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة.
قال عليه السلام فسألته عن مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أباً، وكانوا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا يؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال عليه السلام: كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإِكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام.
قال: فسألته عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليه السلام كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير: فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه القبيح لينتهي عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أُمته، والقيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة.
أقول: ورواه في مكارم الأخلاق نقلاً من كتاب محمد بن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني بروايته عن ثقاته عن الحسن والحسين عليهما السلام؛ قال في البحار: والرواية من الأخبار المشهورة روته العامة في أكثر كتبهم، انتهى.
وقد روي في معناها أو معنى بعض أجزائها روايات كثيرة عن الصحابة.
قوله: "المربوع" الذي بين الطويل والقصير، والمشذب الطويل الذي لا كثير لحم على بدنه، ورجل الشعر من باب علم فهو رجل بالفتح والسكون أي كان بين السبط والجعد، والعقيقة الخصلة السبطة من الشعر، وأزهر اللون أي لونه مشرق صاف، والأزج من الحاجب ما رق وطال، والسوابغ من الحاجب هي الواسعة، والقرن بفتحتين اقتران ما بينها، والشمم ارتفاع قصبة الأنف مع حسن واستواء، وكث اللحية المجتمع شعرها إذا كثف من غير طول، وسهل الخد مستويه من غير لحم كثير، وضليع الفم أي وسيعه ويعد في الرجال من المحاسن، والمفلج من الفلجة بفتحتين إذا تباعد ما بين قدميه أو يديه أو أسنانه، والأشنب أبيض الأسنان.
والمشربة الشعر وسط الصدر إلى البطن، والدمية بالضم الغزال، والمنكب مجتمع رأس الكتف والعضد، والكراديس جمع كردوس وهو العظمان إذا التقيا في مفصل، وأنور المتجرد كأن المتجرد اسم فاعل من التجرد وهو التعري من لباس ونحوه، والمراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان جميل الظاهر حسن الخلقة في بدنه إذا تجرد عن اللباس.
واللبة بالضم فالتشديد موضع القلادة من الصدر والسرة معروفة، والزند موصل الذراع من الكف، ورحب الراحة أي وسيعها، والشثن بفتحتين الغلظ في القدمين والكفين، وسبط القصب أي سهل العظام مسترسلها من غير نتو، أخمص القدم، الموضع الذي لا يصل الأرض منها، والخمصان ضامر البطن فخمصان الأخمصين أي كونهما ذا نتو وارتفاع بالغ من الأرض، والفسحة هي الوسعة، والقلع بفتحتين القوة في المشي.
والتكفؤ في المشي الميد والتمايل فيه، وذريع المشية أي السريع فيها، والصبب ما انحدر من الطريق أو الأرض، وخافض الطرف تفسيره ما بعده من قوله: "نظره إلى الأرض" الخ.
والأشداق جمع شدق - بالكسر فالسكون - وهو زاوية الفم من باطن الخدين، وافتتاح الكلام واختتامه بالأشداق كناية عن الفصاحة، يقال: تشدق أي لوى شدقه للتفصح، والدمث من الدماثة وتفسيره ما بعده وهو قوله: { ليس بالجافي ولا بالمهين } والذواق بالفتح ما يذاق من طعام، وانشاح من النشوح أي أعرض، ويفتر عن مثل حب الغمام افتر الرجل افتراراً أي ضحك ضحكاً حسناً، وحب الغمام البرد، والمراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يضحك ضحكاً حسناً يبدو به أسنانه.
وقوله: "فيرد ذلك بالخاصة على العامة"الخ" المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان في جزئه الذي لنفسه خلا بنفسه عن الناس لكنه لا ينقطع عنهم بالكلية بل يرتبط بواسطة خاصته بالناس فيجيبهم في مسائلهم ويقضي حوائجهم، ولا يدخر عنهم من جزء نفسه شيئاً، والرواد جمع رائد وهو الذي يتقدم القوم أو القافلة يطلب لهم مرعى أو منزلاً ونحو ذلك.
وقوله: "لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها" المراد بها المجالس أي لا يعين لنفسه مجلساً خاصاً بين الجلساء حذراً من التصدر والتقدم فقوله: "وإذا انتهى"الخ" كالمفسر له، ولا تؤبن فيه الحرم أي لا تعاب عنده حرمات الناس، والابنة بالضم العيب، والحرم بالضم فالفتح جمع حرمة.
وقوله: "ولا تثنى فلتاته" من التثنية بمعنى التكرار، والفلتات جمع فلتة وهي العثرة أي إذا وقعت فيه فلتة من أحد جلسائه بينها لهم فراقبوا للتحذر من الوقوع فيها ثانياً، والبشر بالكسر فالسكون بشاشة الوجه، والصخاب الشديد الصياح.
وقوله: "حديثهم عنده حديث أوليتهم" الأولية جمع ولي، وكأن المراد به التالي التابع والمعنى أنهم كانوا يتكلمون واحداً بعد آخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر أو يتوسطه أو يشاغبوا فيه، وقوله: "حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم" أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم.
وقوله: "ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ" أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح من كافأه بمعنى جازاه، أو من المكافأة بمعنى المساواة أي ممن يثني بما يستحقه من الثناء على ما أنعم به من غير إطراء وإغراق، وقوله: "ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز" أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام، والاستفزاز الاستخفاف والإِزعاج.
2- وفي الإِحياء: كان صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس منطقاً وأحلاهم - إلى أن قال - وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضاً، بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه، كان جهير الصوت أحسن الناس نغمة.
3- وفي التهذيب بإسناده عن إسحاق بن جعفر عن أخيه موسى عن آبائه عن علي عليه السلام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها"
]. 4- وفي مكارم الأخلاق عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.
5- وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملك فقال: إن الله يخيرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً.
قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع فقال: عبداً رسولاً متواضعاً، فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئاً، قال: ومعه مفاتيح خزائن الأرض.
6- وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: فتأس بنبيك الأطهر الأطيب - إلى أن قال - قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا عرضاً فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وصغر شيئاً فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله وتعظيمنا لما صغر الله لكفى به شقاقاً لله ومحادة عن أمر الله، ولقد كان رسول الله يأكل على الأرض ويجلس جلسه العبد، ويخصف بيده نعله، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فيكون عليه التصاوير فيقول: يا فلانة - لإِحدى إزواجه - غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن يغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وإن يذكر عنده.
7- وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسن بن علي عن أبيه علي عليهم السلام في خبر طويل: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبكي حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم، الحديث.
8- وفي المناقب: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبكي حتى يغشى عليه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ وكذلك كان غشيات علي بن أبي طالب وصيه في مقاماته.
أقول: بناء سؤال السائل على تقدير كون الغرض من العبادة هو الأمن من العذاب وقد ورد: أنه عبادة العبيد، وبناء جوابه صلى الله عليه وآله وسلم على كون الداعي هو الشكر لله سبحانه، وهو عبادة الكرام، وهو قسم آخر من أقسام العبادة، وقد ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن من العبادة ما تكون خوفاً من العقاب وهو عبادة العبيد، ومنها ما تكون طمعاً في الثواب وهو عبادة التجار، ومنها ما تكون شكراً لله سبحانه، وفي بعض الروايات حباً لله تعالى، وفي بعضها لأنه أهل له.
وقد استقصينا البحث في معنى الروايات في تفسير قوله تعالى:
{ وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران: 144] في الجزء الرابع من الكتاب، وبينا هناك أن الشكر لله في عبادته هو الإِخلاص له، وأن الشاكرين هم المخلصون (بفتح اللام) من عباد الله المعنيون بمثل قوله تعالى: { سبحان الله عما يصفون، إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 159ـ160].
9- وفي إرشاد الديلمي: أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع منه في صلاته أزيز كأزيز الوجل من خوف الله تعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك.
10- وفي تفسير أبي الفتوح عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله تعالى: { واذكروا الله ذكراً كثيراً } اشتغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الله حتى قال الكفار: إنه جن.
11- وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة، قلت: أكان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟ قال: لا ولكن كان يقول: أتوب إلى الله، قلت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب ولا يعود، ونحن نتوب ونعود، قال: الله المستعان.
12- وفي مكارم الأخلاق نقلاً من كتاب النبوة عن علي عليه السلام أنه كانَ إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال: كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وآله وسلم.
13- وفي الكافي بإسناده عن عمر بن علي عن أبيه عليه السلام قال: كانت من أيمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا وأستغفر الله.
14- وفي إحياء العلوم: كان صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة.
15- وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم أسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله.
لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى أنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء، قال: وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، قال: ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، قال: لا يهوله شيء من أُمور الدنيا.
قال: ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه.
قال: وكان له عبيد وإماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يمضي له وقت من غير عمل لله تعالى أو لما لا بد منه من صلاح نفسه، يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره أو زمانته، ولا يهاب ملكاً لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً.
16- وفيه قال: وكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضى، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس.
17- وفيه قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر ورضي فهو أحسن الناس رضى، فإن وعظ وعظ بجد، وإن غضب - ولا يغضب إلا لله - لم يقم لغضبه شيء، وكذلك كان في أُموره كلها، وكان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله، وتبرأ من الحول والقوة، واستنزل الهدى.
أقول: والتوكل على الله وتفويض الأُمور إليه والتبري من الحول والقوة واستنزال الهدى من الله يرجع بعضها إلى بعض وينشأ الجميع من أصل واحد، وهو أن للأُمور استناداً إلى الإِرادة الإِلهية الغالبة غير المغلوبة والقدرة القاهرة غير المتناهية، وقد أطبق على الندب إلى ذلك الكتاب والسنة كقوله تعالى:
{ وعلى الله فليتوكل المتوكلون } } [إبراهيم: 11] وقوله: { { وأُفوض أمري إلى الله } } [غافر: 44] وقوله: { { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } } [الطلاق: 3] وقوله: { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 54] وقوله: { { وأَنَّ إلى ربك المنتهى } [النجم: 42] إلى غير ذلك من الآيات، والروايات في هذه المعاني فوق حد الإِحصاء.
والتخلق بهذه الأخلاق والتأدب بهذه الآداب على أنه يجري بالإِنسان مجرى الحقائق ويطبق عمله على ما ينبغي أن ينطبق عليه من الواقع، ويقره على دين الفطرة فإن حقيقة الأمر هو رجوع الأُمور بحسب الحقيقة إلى الله سبحانه كما قال:
{ ألا إلى الله تصير الأُمور } [الشورى: 53]، له فائدة قيمة هي أن اتكاء الإِنسان واعتماده على ربه - وهو يعرفه بقدرة غير متناهية وإرادة قاهرة غير مغلوبة - يمد إرادته ويشيد أركان عزيمته فلا تنثلم عن كل مانع يبدو له، ولا تنفسح عن كل تعب أو عناء يستقبله، ولا يزيلها كل تسويل نفساني ووسوسة شيطانية تظهر لسره في صورة الخطورات الوهمية.
(من سننه وأدبه في العشرة)
18- وفي إرشاد الديلمي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلم على من استقبله من غني وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجش من شبع قط، ولم يمد يده إلى طمع قط.
19- وفي مكارم الأخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان ينظر في المرآة ويرجّل جمّته ويتمشط، وربما نظر في الماء وسوى جمته فيه، ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلاً على تجمله لأهله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل"
]. 20- وفي العلل والعيون والمجالس بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "خمس لا أدعهن حتى الممات: الأكل على الأرض مع العبيد، وركوبي مؤكفا، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي"
]. 21- وفي الفقيه عن علي عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أُحدثك عني وعن فاطمة - إلى أن قال - فغدا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في لحافنا فقال السلام عليكم فسكتنا واستحيينا لمكاننا ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم فسكتنا، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثاً فإن أذن له وإلا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول الله ادخل فدخل، الخبر.
22- وفي الكافي بإسناده عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسلم على النساء ويرددن عليه السلام، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن، ويقول: أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر مما أطلب من الأجر.
أقول: ورواه الصدوق مرسلاً، وكذا سبط الطبرسي في المشكاة نقلاً عن كتاب المحاسن.
23- وفيه بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رفعه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس ثلاثاً: القرفصاء وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيده، ويشد يده في ذراعه، وكان يجثو على ركبتيه، وكان يثني رجلاً واحدة ويبسط عليها الأُخرى، ولم ير متربعاً قط.
24- وفي المكارم نقلاً من كتاب النبوة عن علي عليه السلام قال: ما صافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد قط الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط.
ولا خير بين أمرين إلا أخذ بأشدهما، وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى، وما أكل متكئاً قط حتى فارق الدنيا، وما سئل شيئاً قط فقال لا، وما رد سائل حاجة قط إلا أتى بها أو بميسور من القول، وكان أخف الناس صلاة في تمام، وكان أقصر الناس خطبة وأقلهم هذراً، وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل، وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده، وكان إذا أكل أكل مما يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده، وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس، وكان يمص الماء مصاً ولا يعبه عباً، وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وعطائه فكان لا يأخذ إلا بيمينه، ولا يعطي إلا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه وكان يحب التيمن في جميع أُموره في لبسه وتنعله وترجله.
وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا تكلم تكلم وتراً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً، وكان كلامه فصلاً يتبينه كل من سمعه، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، وإذا رأيته قلت: أفلج وليس بأفلج.
وكان نظره اللحظ بعينه، وكان لا يكلم أحداً بشيء يكرهه، وكان إذا مشى كأنما ينحط في صبب، وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقاً، وكان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا يتنازع أصحاب الحديث عنده، وكان المحدث عنه يقول: لم أرَ بعيني مثله قبله ولا بعده صلى الله عليه وآله وسلم.
25- وفي الكافي بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية. قال: ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده.
26- وفي المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدث بحديث تبسم في حديثه.
27- وفيه عن يونس الشيباني قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليلاً. قال: هلا تفعلوا؟ فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرجل يريد به أن يسره.
28- وفيه عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق عن الصادق عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا وفيه دعابة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب ولا يقول إلا حقاً.
29- وفي الكافي بإسناده عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيمضي بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: لا بأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش.
ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الأعرابي فيأتي إليه بالهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا اغتم يقول: ما فعل الأعرابي ليته أتانا.
30- وفي الكافي بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله: قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما يجلس تجاه القبلة.
31- وفي المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة فيضعه في حجره تكرمة لأهله، وربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين يبول فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزرموا بالصبي حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده.
32- وفيه روي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد.
33- وفيه عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق: وجاء في الآثار: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقم لنفسه من أحد قط بل كان يعفو ويصفح.
34- وفيه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من أخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.
35- وفيه: عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين فما أعلم أنه قال لي قط: هلا فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئاً قط.
36- وفي الإِحياء قال: قال أنس: والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه: لم فعلته؟ ولا لامني نساؤه إلا قال: دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر.
37- وفيه عن أنس: وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك.
38- وفيه عنه: ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويكني من لم يكن له كنية فكان يدعى بما كناه به، ويكني أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن، ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم.
39- وفيه: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.
40- وفي الكافي بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فجاء سائل فقام عليه السلام إلى مكيل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فقال عليه السلام: الله رازقنا وإياك.
ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابناً لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء فقل: أعطني قميصك، قال: فأخذ قميصه فرمى به (وفي نسخة أُخرى فأعطاه) فأدبه الله على القصد فقال: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً }.
41- وفيه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
42- وفيه عن موسى بن عمران بن بزيع قال: قلت للرضا عليه السلام: جعلت فداك إن الناس رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ في طريق رجع في غيره! كذا كان؟ قال: فقال نعم فأنا أفعله كثيراً فافعله، ثم قال لي: أما إنه أرزق لك.
43- وفي الإِقبال بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بعد طلوع الشمس.
44- وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن المغيرة عمن ذكره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل.
أقول: ورواه سبط الطبرسي في المشكاة نقلاً عن المحاسن وغيره.
45- ومن سننه وآدابه صلى الله عليه وآله وسلم في التنظف والزينة ما في المكارم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غسل رأسه ولحيته غسلهما بالسدر.
46 - وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجل شعره، وأكثر ما كان يرجل بالماء، ويقول: كفى بالماء طيباً للمؤمن.
47- وفي الفقيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس جزّوا لحاهم ووفروا شواربهم، وإنا نحن نجزّ الشوارب ونعفي اللحى.
48- وفي الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من السنة تقليم الأظفار.
49- وفي الفقيه: روي: من السنة دفن الشعر والظفر والدم.
50- وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن الخضاب فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يختضب، وهذا شعره عندنا.
51- وفي المكارم: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلى فيطليه من يطلي حتى إذا بلغ ما تحت الإِزار تولاه بنفسه.
52- وفي الفقيه: قال علي عليه السلام: نتف الإِبط ينفي الرائحة الكريهة وهو طهور وسنة مما أمر به الطيب عليه السلام.
53- وفي المكارم: كان له صلى الله عليه وآله وسلم مكحلة يكتحل بها في كل ليلة وكان كحله الإِثمد.
54- وفي الكافي بإسناده عن أبي اسامة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من سنن المرسلين السواك.
55- وفي الفقيه بإسناده عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة قال: والسواك مرضاة الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومطهرة للفم.
أقول: والأخبار في استنانه صلى الله عليه وآله وسلم بالسواك من طرق الفريقين كثيرة جداً.
56- وفي الفقيه: قال الصادق عليه السلام أربع من أخلاق الأنبياء: التطيب والتنظيف بالموسى وحلق الجسد بالنورة وكثرة الطروقة.
57- وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممسكة إذا هو توضأ أخذها بيده وهي رطبة فكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
58- وفي المكارم: كان لا يعرض له طيب إلا تطيب، ويقول: هو طيب ريحه خفيف محمله، وإن لم يتطيب وضع إصبعه في ذلك الطيب ثم لعق منه.
59- وفيه: كان صلى الله عليه وآله وسلم يستجمر بالعود القماري.
60- وفي ذخيرة المعاد: وكان أي المسك أحب الطيب إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
61- وفي الكافي بإسناده عن إسحاق الطويل العطار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام.
62- وفيه بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الطيب في الشارب من أخلاق النبيين وكرامة للكاتبين.
63- وفيه بإسناده عن السكن الخزاز قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: حق على كل محتلم في كل جمعة أخذ شاربه وأظفاره ومس شيء من الطيب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم الجمعة ولم يكن عنده طيب دعا ببعض خمر نسائه فبلها في الماء ثم وضعها على وجهه.
64- وفي الفقيه بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بطيب يوم الفطر بدأ بنسائه.
65- وفي المكارم: وكان يدهن صلى الله عليه وآله وسلم بأصناف من الدهن، قال وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدهن بالبنفسج ويقول: هو أفضل الأدهان.
66- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر ما في الفقيه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسافر يوم الخميس.
أقول: وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
67- وفي أمان الأخطار ومصباح الزائر قال: ذكر صاحب كتاب عوارف المعارف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة والمكحلة والمذرى والسواك، قال: وفي رواية أُخرى: والمقراض.
أقول: ورواه في المكارم والجعفريات.
68- وفي المكارم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى مشى مشياً بعرف أنه ليس بعاجز ولا كسلان.
69- وفي الفقيه بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفره إذا هبط هلل وإذا صعد كبّر.
70- وفي لب اللباب للقطب: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يرتحل من منزل إلا وصلى فيه ركعتين، وقال: حتى يشهد علي بالصلاة.
71- وفي الفقيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع المؤمنين قال: زودكم الله التقوى، ووجهكم إلى كل خير، وقضى لكم كل حاجة، وسلم لكم دينكم ودنياكم، وردكم سالمين إليّ غانمين.
أقول: والروايات في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم عند الوداع مختلفة لكنها على اختلافها متفقة في الدعاء بالسلامة والغنيمة.
72- وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول للقادم من مكة: تقبل الله نسكك، وغفر ذنبك، وأخلف عليك نفقتك.
73- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الملابس وما يتعلق بها ما في الإِحياء: كان صلى الله عليه وسلم يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداء، أو قميص أو جبة أو غير ذلك، وكان يعجبه الثياب الخضر، وكان أكثر ثيابه البياض، ويقول: ألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم.
وكان يلبس القباء المحشو للحرب وغير الحرب، وكان له قباء سندس فيلبسه فيحسن خضرته على بياض لونه، وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين، ويكون الإِزار فوق ذلك إلى نصف الساق وكان قميصه مشدود الإِزار وربما حل الإِزار في الصلاة وغيرها.
وكانت له ملحفة مصبوغة بالزعفران، وربما صلى بالناس فيها وحدها، وربما لبس الكساء وحده ليس عليه غيره، وكان له كساء ملبد يلبسه ويقول: إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة، وربما لبس الإِزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفيه بين كتفيه، وربما أم به الناس على الجنائز، وربما صلى في بيته في الإِزار الواحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه ويكون ذلك الإِزر الذي جامع فيه يومئذ، وكان ربما صلى بالليل في الإِزار ويرتدي ببعض الثوب مما يلي هدبه، ويلقي البقية على بعض نسائه فيصلي كذلك.
ولقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له أم سلمة، بأبي أنت وأمي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: كسوته. فقالت: ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده. وقال أنس: وربما رأيته يصلي بنا الظهر في شملة عاقداً بين طرفيها، وكان يتختم، وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر بها الشيء، وكان يختم به على الكتب ويقول: الخاتم على الكتاب خير من التهمة.
وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة، وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلي إليها، وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وعلى جبهته، وكانت له عمامة تسمّى السحاب فوهبها من علي فربما طلع علي فيها فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: أتاكم علي في السحاب.
وكان إذا لبس ثوباً لبسه من قبل ميامنه ويقول: الحمد لله الذي كساني ما أُواري به عورتي وأتجمل به في الناس، وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره، وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً ثم يقول: ما من مسلم يكسو مسلماً من سمل ثيابه، لا يكسوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حياً وميتاً.
وكان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه وعرضه ذراع وشبر أو نحوه، وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته، وكان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره.
وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه؛ وكان اسم رايته العقاب، وسيفه الذي يشهد به الحروب ذا الفقار، وكان له سيف يُقال له: المخذم، وآخر يقال له: الرسوب، وآخر يقال له القضيب، وكانت قبضة سيفه محلاة بالفضة، وكان يلبس المنطقة من الأدم فيها ثلاث حلق من فضة، وكان اسم قوسه الكتوم وجعبته الكافور، وكان اسم ناقته العضباء، واسم بغلته الدلدل، وكان اسم حماره يعفور، واسم شاته التي يشرب لبنها عينة.
وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون عنه، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا على وجوههم وأجسادهم يبتغون بذلك البركة.
74- وفي الجعفريات عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس من القلانس المضربة - إلى أن قال - وكان له درع يقال له ذات الفضول وكانت له ثلاث حلقات من فضة، بين يديها واحدة واثنتان من خلفها، الخبر.
75- وفي العوالي: روي أنه كان له صلى الله عليه وآله وسلم عمامة سوداء يتعمم بها ويصلي فيها.
أقول: وروي أن عمامته صلى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاث أكوار أو خمساً.
76- وفي الخصال بإسناده عن علي في الحديث الأربعمائة قال: البسوا الثياب القطن فإنها لباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن يلبس الشعر والصوف إلا من علة.
أقول: ورواه الصدوق أيضاً مرسلاً، ورواه الصفواني في كتاب التعريف، ويتبين بهذا معنى ما مر من لبسه صلى الله عليه وآله وسلم الصوف وأنه لا منافاة.
77- وفي الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنزة في أسفلها عكاز يتوكأ عليها ويخرجها في العيدين يصلي إليها.
أقول: ورواه في الجعفريات.
78- وفي الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ورق.
79- وفيه بإسناده عن أبي خديجة قال: قال: الفص مدور، وقال: هكذا كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
80- وفي الخصال بإسناده عن عبد الرحيم بن أبي البلاد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتمان: أحدهما عليه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآخر: صدق الله.
81- وفيه بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الثاني عليه السلام في حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام كانوا يتختمون في اليمين.
82- وفي المكارم عن الصادق عن علي عليهما السلام قال: لبس الأنبياء القميص قبل السراويل.
أقول: ورواه في الجعفريات، وفي المعاني السابقة أخبار أُخر كثيرة.
83- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في مسكنه وما يتعلق به ما في كتاب التحصين لابن فهد قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما وضع لبنة على لبنة.
84- وفي لب اللباب قال: قال عليه السلام: المساجد مجالس الأنبياء.
85- وفي الكافي بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج في الصيف من البيت خرج يوم الخميس، وإذا أراد أن يدخل في الشتاء من البرد دخل يوم الجمعة.
أقول: ورواه أيضاً في الخصال مرسلاً.
86- وعن كتاب العدد القوية للشيخ علي بن الحسن بن المطهر أخ العلامة رحمهما الله عن خديجة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإِناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه.
87- وفي الكافي باسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ما بيّت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدواً قط.
88- وفي المكارم: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة، وكانت مرفقته من أدم حشوها ليف فثنيت ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعتني الليلة الفراش الصلاة فأمر أن يجعل له بطاق واحد، وكان له فراش من أدم حشوه ليف، وكانت له عباءة تفرش له حيثما انتقل، وتثنى ثنيتين.
89- وفيه: عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نوم قط إلا خر لله ساجداً.
90- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في المناكح والأولاد ما في رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى باسناده إلى تفسير النعماني عن علي عليه السلام قال: إن جماعة من الصحابة كانوا قد حرموا على أنفسهم النساء والإِفطار بالنهار والنوم بالليل فأخبرت أُم سلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى أصحابه فقال: أترغبون عن النساء؟ فإني آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل فمن رغب عَن سنتي فليس مني، الخبر.
أقول: وهذا المعنى مروي في كتب الفريقين بطرق كثيرة.
91- وفي الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أخلاق الأنبياء حب النساء.
92- وفيه بإسناده عن بكار بن كردم وغير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جعل قرة عيني في الصلاة ولذتي في النساء.
أقول: ويقرب منه ما روي بطرق أُخرى.
93- وفي الفقيه: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يتزوج بامرأة بعث إليها من ينظر إليها، الخبر.
94- وفي تفسير العياشي: عن الحسين ابن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إن الله جعل الليل سكناً، وجعل النساء سكناً، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام.
95- وفي الخصال بإسناده عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة قال: عقوا عن أولادكم يوم السابع، وتصدقوا بوزن شعورهم فضة على مسلم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين وسائر أولاده.
96- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الأطعمة والأشربة وما يتعلق بالمائدة ما في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما كان شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يظل جائعاً خائفاً في الله.
97- وفي الاحتجاج بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام في حديث طويل في أسئلة اليهودي الشامي عن أمير المؤمنين عليه السلام - إلى أن قال - قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهداً!، قال له علي عليه السلام: كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أزهد الأنبياء كان له ثلاث عشرة نسوة سوى من يطيف به من الإِماء ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام، وما أكل خبز بر قط، ولا شبع من خبز شعير قط ثلاث ليال متواليات.
98- وفي أمالي الصدوق عن العيص بن القاسم قال: قلت للصادق عليه السلام: حديث يروى عن أبيك؟ أنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز بر قط أهو صحيح؟ فقال: لا ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز بر قط ولا شبع من خبز شعير قط.
99- وفي الدعوات للقطب قال: وروي ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئاً إلا مرة ثم جلس فقال: اللهم إني عبدك ورسولك.
أقول: وروى هذا المعنى الكليني والشيخ بطرق كثيرة والصدوق والبرقي والحسين بن سعيد في كتاب الزهد.
100- وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئاً منذ بعثه الله حتى قبض كان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد. قلت: ولم؟ قال: تواضعاً لله عز وجل.
101- وفيه بإسناده عن أبي خديجة قال: سأل بشير الدهان عن أبي عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فقال: هل كان يأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئاً على يمينه وعلى يساره؟ فقال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئاً على يمينه ولا على يساره، ولكن يجلس جلسه العبد، قلت: ولم ذاك؟ قال: تواضعاً لله عز وجل.
102- وفيه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل على الحضيض وينام على الحضيض.
103- وفي الإِحياء: كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس يأكل جمع بين ركبتيه وبين قدميه كما يجلس المصلي إلا أن الركبة فوق الركبة والقدم فوق القدم، ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.
104- وفي كتاب التعريف للصفواني عن علي عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قعد على المائدة قعد قعدة العبد، وكان يتكئ عن فخذه الأيسر.
105- وفي المكارم: عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك.
106- وفي المحاسن بإسناده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلعق أصابعه إذا أكل.
107- وفي الاحتجاج نقلاً من كتاب مواليد الصادقين قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل كل الأصناف من الطعام، وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ومع من يدعوه من المسلمين على الأكل، وعلى ما أكلوا عليه وما أكلوا إلا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه - إلى أن قال - وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف.
أقول: قوله: "وعلى ما أكلوا عليه" يريد أمثال المائدة والصحفة، وقوله: "وما أكلوا" ما موصولة أو توقيتية، وقوله: "إلا أن ينزل" الخ، استثناء من قوله: "مع أهله وخدمه" و "الضفف" كثرة العيال ونحوها، والضفة بالفتح الجماعة.
108- وفي الكافي بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل مع القوم طعاماً كان أول من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم.
109- وفي الكافي بإسناده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: عشاء النبيين بعد العتمة فلا تدعوا العشاء فإن ترك العشاء خراب البدن.
110- وفي الكافي بإسناده عن عنبسة بن نجاد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعام فيه تمر إلا بدأ بالتمر.
111- وفي الكافي وصحيفة الرضا بإسناده عن آبائه عليهم السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل التمر يطرح النوى على ظهر كفه ثم يقذف به.
112- وفي الاقبال نقلاً من الجزء الثاني من تاريخ النيسابوري في ترجمة الحسن بن بشر بإسناده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمد الله بين كل لقمتين.
113- وفي الكافي بإسناده عن وهب بن عبد ربه قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يتخلل فنظرت إليه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخلل، وهو يطيب الفم.
114- وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا شرب بدأ فسمى - إلى أن قال: ويمص الماء مصاً ولا يعبه عباً، ويقول: إن الكباد من العب.
115- وفي الجعفريات عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: تفقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، وهو إذا شرب تنفس ثلاثاً مع كل واحدة منها تسمية إذا شرب وتحميد إذا انقطع فسألته عن ذلك فقال: يا علي شكراً لله تعالى بالحمد وتسمية من الداء.
116- وفي المكارم كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يتنفس في الإِناء إذا شرب فإن أراد أن يتنفس أبعد الإِناء عن فيه حتى يتنفس.
117- وفي الإِحياء: وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل اللحم لم يطأطئ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه رفعاً ثم ينهشه انتهاشاً ثم قال: وكان إذا أكل اللحم خاصة غسل يديه غسلاً جيداً ثم مسح بفضل الماء على وجهه.
118- وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأكل الأصناف من الطعام.
أقول: ثم ذكر الطبرسي أصنافاً من الطعام كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكلها كالخبز واللحم على أقسامه والبطيخ والخربز والسكر والعنب والرمان والتمر واللبن والهريسة والسمن والخل والهندباء والباذروج والكرنب. وروي: أنه كان يحب التمر، وروي أنه كان يعجبه العسل. وروي أنه كان أحب الثمرات إليه الرمان.
119- وفي أمالي الطوسي بإسناده عن أبي أُسامة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشعير إذا وجده، وحلواه التمر، ووقوده السعف.
120- وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يأكل الحار حتى يبرد ويقول: إن الله لم يطعمنا ناراً إن الطعام الحار غير ذي بركة.
وكان إذا أكل سمى، ويأكل بثلاث أصابع، ومما يليه ولا يتناول من بين يدي غيره، ويؤتى بالطعام فيشرع قبل القوم ثم يشرعون، وكان يأكل بأصابعه الثلاث: الإِبهام والتي تليها والوسطى وربما استعان بالرابعة، وكان يأكل بكفه كلها، ولم يأكل بإصبعين، ويقول: إن الأكل بإصبعين هو أكل الشيطان، ولقد جاء أصحابه يوماً بفالوذج فأكل معهم وقال: ممَّ هذا؟ فقالوا: نجعل السمن والعسل فيأتي كما ترى فقال: إن هذا طعام طيب.
وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وما أكل خبز بر قط، ولا شبع من خبز شعير قط، ولا أكل على خوان حتى مات، وكان يأكل البطيخ والعنب ويأكل الرطب ويطعم الشاة النوى، وكان لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث ولا العسل الذي فيه المغافير، والمغافير ما يبقى من الشجر في بطون النحل فيلقيه في العسل فيبقى له ريح في الفم.
وما ذم طعاماً قط. كان إذا أعجبه أكله، وإذا كرهه تركه ولا يحرمه على غيره، وكان يلحس القصعة ويقول: آخر الصحفة أعظم الطعام بركة، وكان إذا فرغ لعق أصابعه الثلاث التي أكل بها واحدة واحدة، وكان يغسل يده من الطعام حتى ينقيها، وكان لا يأكل وحده.
أقول: قوله: "الإِبهام والتي تليها والوسطى" من جميل أدب الراوي حيث لم يقل: الإِبهام والسبابة "الخ" صوناً له صلى الله عليه وآله وسلم عن إطلاق السبابة على إصبعه الشريفة لما في اللفظ من الإِيهام.
والذي رواه من أكله صلى الله عليه وآله وسلم الفالوذج يخالف ما في المحاسن مسنداً عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام في الرحبة في نفر من أصحابه إذ أهدي إليه خوان فالوذج فقال لأصحابه: مدّوا أيديكم فمدوا أيديهم ومدّ يده ثم قبضها وقال: إني ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكله فكرهت أكله.
121- وفي المكارم قال: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشرب في أقداح القوارير التي يؤتى بها من الشام، ويشرب في الأقداح التي تتخذ من الخشب والجلود والخزف.
أقول: وروي قريباً من صدره في الكافي والمحاسن، وفيه: ويعجبه أن يشرب في القدح الشامي وكان يقول: هي أنظف آنيتكم.
122- وفي المكارم عن النبي أنه كان يشرب بكفه يصب الماء فيها، ويقول: ليس إناء أطيب من اليد.
123- وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذبح يوم الأضحى كبشين أحدهما عن نفسه والآخر عمن لم يجد من أُمته.
124- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الخلوة ما في شرح النفلية للشهيد الثاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم ير على بول ولا غائط.
125- وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يتخنع غطى رأسه ثم دفنه، وإذا أراد أن يبزق فعل مثل ذلك، وكان إذا أراد الكنيف غطى رأسه.
أقول: واتخاذ الكنيف في العرب مما حدث بعد الإِسلام، وكانوا قبل ذلك يخرجون إلى البر على ما يستفاد من بعض الروايات.
126- وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الثاني عليه السلام قال قلت له: إنا روينا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستنجي وخاتمه في إصبعه، وكذلك كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام، وكان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: محمد رسول الله؟ قال: صدقوا، قلت: فينبغي لنا أن نفعل، قال: إن أُولئك كانوا يتختمون في اليد اليمنى وإنكم أنتم تتختمون في اليسرى، الحديث.
أقول: وروي قريب منه في الجعفريات وفي المكارم نقلاً عن كتاب اللباس للعياشي عن الصادق عليه السلام.
127- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم عند المصائب والبلايا وفي الأموات وما يتعلق بها ما في المكارم: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى من جسمه بثرة أعاذ بالله واستكان له وجأر إليه فيقال له: يا رسول الله ما هو ببأس، فيقول: إن الله إذا أراد أن يعظم صغيراً عظم، وإذا أراد أن يصغر عظيماً صغر.
128- وفي الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال السنة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع.
129- وفي قرب الأسناد عن الحسين بن طريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه أن الحسن بن علي عليهما السلام كان جالساً ومعه أصحاب له فمر بجنازة فقام بعض القوم ولم يقم الحسن عليه السلام فلما مضوا بها قال بعضهم: الا قمت عافاك الله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم للجنازة إذا مروا بها؟ فقال الحسن عليه السلام: إنما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة، وذلك أنه مر بجنازة يهودي وقد كان المكان ضيقاً فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكره أن يعلوا رأسه.
130- وفي دعوات القطب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اتبع جنازة غلبته كآبة، وأكثر حديث النفس، وأقل الكلام.
131- وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحثو ثلاث حثيات من تراب على القبر.
132- وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين: كان إذا صلى بالهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: من مات من آل محمد؟.
133- وفي مسكن الفؤاد للشهيد الثاني عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عزى قال: آجركم الله ورحمكم، وإذا هنأ قال: بارك الله لكم وبارك الله عليكم.
134- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء والغسل ما في آيات الأحكام للقطب عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال عمر: يا رسول الله صنعت شيئاً ما كنت صنعته، فقال: عمداً فعلته.
135- وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلنا: بلى؛ فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه، ثم حسر عن ذراعيه، ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال: هكذا إذا كانت الكف طاهرة ثم غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه، ثم قال: بسم الله وسدله على أطراف لحيته ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى فأمرّ كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه، ومسح مقدم رأسه وظاهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه.
قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: إن الله وتر يحب الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى.
قال زرارة: قال أبو جعفر عليه السلام سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكى له مثل ذلك.
أقول: وهذا المعنى مروي عن زرارة وبكير وغيرهما بطرق متعددة رواها الكليني والصدوق والشيخ والعياشي والمفيد والكراجكي وغيرهم، وأخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام في ذلك مستفيضة تقرب من التواتر.
136- وفي الأمالي لمفيد الدين الطوسي بإسناده عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ بدأ بميامنه.
137- وفي التهذيب بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوضوء فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع.
أقول: وروي مثله عن أبي جعفر عليه السلام بطريق آخر.
138- وفي العيون بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام في حديث طويل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، وأُمرنا بإسباغ الطهور، ولا ننزي حماراً على عتيقة.
139- وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المضمضة والاستنشاق مما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
140- وفيه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله يغتسل بصاع، وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد.
أقول: وروى هذا المعنى الكليني في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عنه وفيه: يغتسلان جميعاً من إناء واحد، وكذلك الشيخ بطريق آخر.
141- وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال: سأل الحسن بن محمد، جابر بن عبد الله عن غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغرف على رأسه ثلاث مرات فقال الحسن بن محمد: إن شعري كثير كما ترى فقال جابر: يا حر لا تقل ذلك فشعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أكثر وأطيب.
142- وفي الهداية للصدوق: قال الصادق عليه السلام غسل الجمعة سنة واجبة على الرجال والنساء في السفر والحضر - إلى أن قال - وقال الصادق عليه السلام: غسل يوم الجمعة طهور وكفارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة، قال: والعلة في غسل الجمعة أن الأنصار كانت تعمل لنواضحها وأموالها فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد فيتأذى الناس بأرياح آباطهم فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل فجرت به السنة.
أقول: وقد روي من سننه صلى الله عليه وآله وسلم في الغسل غسل يوم الفطر والغسل في جميع الأعياد وأغسال أُخر كثيرة ربما يأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
143- ومن آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وما يلحق بها ما في الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار وعبد الملك وبكير قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من التطوع مثلي الفريضة، ويصوم من التطوع مثلي الفريضة.
أقول: ورواه الشيخ أيضاً.
144- وفيه بإسناده عن حنان قال: سأل عمرو بن حريث أبا عبد الله عليه السلام وأنا جالس فقال: جعلت فداك أخبرني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ثمان ركعات الزوال، وأربعاً الأُولى، وثماني بعدها، وأربعاً العصر، وثلاثاً المغرب، وأربعاً بعد المغرب، والعشاء الآخرة أربعاً وثماني صلاة الليل، وثلاثاً الوتر، وركعتي الفجر، وصلاة الغداة ركعتين.
قلت: جعلت فداك إن كنت أقوى على أكثر من هذا يعذبني الله على كثرة الصلاة؟ فقال: لا ولكن يعذبك على ترك السنة.
أقول: ويظهر من الرواية أن الركعتين عن جلوس العشاء أعني العتمة ليستا من الخمسين بل يتم بهما - محسوبتين بواحدة عن قيام - العدد إحدى وخمسين بل إنما شرعت العتمة بدلاً من الوتر لو نزل الموت قبل القيام إلى الوتر فقد روى الكلينيرحمه الله في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلا بوتر. قلت: تعني الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم إنهما بركعة فمن صلاهما ثم حدث به حدث مات على وتر فإن لم يحدث به حدث الموت يصلي الوتر في آخر الليل.
فقلت: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاتين الركعتين؟ قال: لا. قلت: ولِمَ؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الوحي، وكان يعلم أنه هل يموت في تلك الليلة أم لا؟ وغيره لا يعلم فمن أجل ذلك لم يصلهما وأمر بهما، الخبر.
ويمكن أن يكون المراد بقوله في الحديث: "لم يصلهما" أنه لم يداوم عليهما بل ربما صلى وربما ترك كما يستفاد من بعض أخر من الأحاديث، فلا يعارض ما ورد من أنه كان يصليهما.
145- وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي من النهار شيئاً حتى تزول الشمس فإذا زالت قدر نصف إصبع صلى ثماني ركعات فإذا فاء الفيء ذراعاً صلى الظهر، ثم صلى بعد الظهر ركعتين، ويصلي قبل وقت العصر ركعتين، فإذا فاء الفيء ذراعين صلى العصر، وصلى المغرب حتى (حين ظ) تغيب الشمس، فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء، وآخر وقت المغرب إياب الشفق فإذا آب الشفق دخل وقت العشاء وآخر وقت العشاء ثلث الليل.
وكان لا يصلي بعد العشاء حتى ينتصف الليل ثم يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر ومنها ركعتا الفجر قبل الغداة، فإذا طلع الفجر وأضاء صلى الغداة.
أقول: ولم يستوعب تمام نافلة العصر في الرواية، وهي معلومة من روايات أُخر.
146- وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وذكر صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره في السماء، ثم تلا الآيات من آل عمران:
{ إن في خلق السماوات والأرض } [آل عمران: 190] الآيات، ثم يستن ويتطهر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه؟ ويسجد حتى يُقال: متى يرفع رأسه.
ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات ويقلب بصره إلى السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيصلي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك.
ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء، ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة.
أقول: وروي هذا المعنى أيضاً في الكافي بطريقين.
147- وروي: أنه عليه السلام كان يوجز في نافلة الصبح يصليهما عند أول الفجر ثم يخرج إلى الصلاة.
148- وفي المحاسن بإسناده عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه قال: من قال في وتره إذا أوتر: استغفر الله ربي وأتوب إليه سبعين مرة، وواظب على ذلك حتى قضى سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله في الوتر سبعين مرة، ويقول: هذا مقام العائذ بك من النار سبعاً، الخبر.
149- وفي الفقيه: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، سبحانك رب البيت، أستغفرك وأتوب إليك وأُومن بك وأتوكل عليك، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رحيم.
150- وفي التهذيب بإسناده عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة وأنا أزيد فزيدوا.
أقول: يعني عليه السلام بالزيادة الألف ركعة - التراويح - نوافل شهر رمضان التي كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير الخمسين نوافل اليوم والليلة، وقد وردت في كيفيتها وتقسمها على ليالي شهر رمضان أخبار كثيرة، وورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصليها بغير جماعة، وينهى عن إتيانها بالجماعة، ويقول: لا جماعة في نافلة.
وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم صلوات خاصة أُخرى منقولة عنه في كتب الأدعية تركنا ذكرها لخروجها عن غرضنا في هذا المقام، وكذلك له صلى الله عليه وآله وسلم سنن في الصلوات والأدعية والأوراد من أراد الوقوف عليها فليراجع مظان ذكرها.
151- وفي الكافي بإسناده عن يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت قال: إذن لا يكذب علينا - إلى أن قال - قلت: وقال: إن وقت المغرب إذا غاب القرص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جد به السير أخَّر المغرب ويجمع بينها وبين العشاء، فقال: صدق.
152- وفي التهذيب بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في الليلة الممطرة يوجز في المغرب ويعجل في العشاء يصليهما جميعاً، ويقول: من لا يَرحم لا يُرحم.
153- وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان في سفر أو عجلت به الحاجة يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء الآخرة، الخبر.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة رواها الكليني والشيخ وابنه والشهيد الأول رحمهم الله.
154- وفي الفقيه بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: كان المؤذن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحر في صلاة الظهر فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبرد أبرد.
أقول: قال الصدوق: يعني عجّل عجّل أُخذ ذلك من البريد، والظاهر أن المراد به التأخير ليزول شدة الحر كما يدل عليه ما في كتاب العلاء عن محمد بن مسلم قال: مرّ بي أبو جعفر عليه السلام بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أصلي فلقينى بعد فقال: إياك أن تصلي الفريضة في تلك الساعة، أتؤديها في شدة الحر؟ قلت: إني كنت أتنفل.
155- وفي الإِحياء قال: وكان صلى الله عليه وسلم لا يجالس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: ألك حاجة؟ فإذا فرغ من حاجاته عاد إلى صلاته.
156- وفي كتاب زهد النبي لجعفر بن أحمد القمي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة تريد وجهه خوفاً من الله، وكان لصدره أو لجوفه أزير كأزير الوجل.
أقول: وروى هذا المعنى ابن الفهد وغيره أيضاً.
157- وفيه قال: وفي رواية أُخرى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى.
158- وفي البحار قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه.
159- وفي المجالس لمفيد الدين الطوسي بإسناده إلى علي عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر - إلى أن قال - ثم انظر ركوعك وسجودك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أتم الناس صلاة، وأخفهم عملاً فيها.
160- وفي الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تثاءب في الصلاة ردها بيده اليمنى.
أقول: وروى في الدعائم مثله.
161- وفي العلل بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبي الحسن موسى عليه السلام في حديث قال: قلت له: لأي علة يقال في الركوع: سبحان ربي العظيم وبحمده؟ ويقال في السجود: سبحان ربي الأعلى وبحمده؟ فقال: يا هشام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أُسري به، وصلى وذكر ما رأى من عظمة الله ارتعدت فرائضه وابترك على ركبتيه، وأخذ يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، فلما اعتدل من ركوعه فإنما نظر إليه في موضع أعلى من ذلك خر على وجهه وهو يقول: سبحان ربي الأعلى وبحمده فلما قالها سبع مرات سكن ذلك الرعب فلذلك جرت به السنة.
162- في تنبيه الخواطر للشيخ ورام بن أبي فراس عن النعمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد أغفلنا عنه، ثم خرج يوماً وقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلاً بادئاً صدره فقال: عباد الله لتسوون صفوفكم أو ليخالفن بين وجوهكم.
163- وفيه عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، الخبر.
164- وفي الفقيه بإسناده عن داود بن الحصين عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في العشر الأول ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثم لم يزل يعتكف في العشر الأواخر.
165- وفيه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كانت بدر في شهر رمضان ولم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أن كان من قابل اعتكف عشرين: عشراً لعامه، وعشراً قضاء لما فاته.
أقول: ورواه والذي قبله الكليني في الكافي.
166- وفي الكافي بإسناده عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر (يعني من شهر رمضان) اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمر الميزر، وطوى فراشه وقال بعضهم: واعتزل النساء؟ قال: أما اعتزال النساء فلا.
أقول: وهذا المعنى مروي في روايات كثيرة، والمراد من نفي الاعتزال - كما ذكروه وتدل عليه الروايات - تجويز مخالطتهن ومعاشرتهن دون المجامعة.
167- ومن آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم في الصيام ما في الفقيه بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ثم صام يوماً وأفطر يوماً، ثم صام الاثنين والخميس، ثم آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أول الشهر، وأربعاء في وسط الشهر، والخميس في آخر الشهر، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ذلك صوم الدهر.
وقد كان أبي عليه السلام يقول: ما من أحد أبغض إلى الله من رجل يقال له: كان رسول الله يفعل كذا وكذا فيقول: لا يعذبني الله على أن أجتهد في الصلاة والصوم كأنه يرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك شيئاً من الفضل عجزاً منه.
168- وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر ويفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوماً: خميسين بينهما أربعاء فقبض صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعمل ذلك.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة مستفيضة.
169- وفيه بإسناده عن عنبسة العابد قال: قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر.
170- وفي نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن نعمان عن زرعة عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن صوم شعبان أصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم ولم يصمه كله، قلت: كم أفطر منه؟ قال: أفطر، فأعدتها وأعادها ثلاث مرات لا يزيدني على أن أفطر، ثم سألته في العام القابل عن ذلك فأجابني بمثل ذلك، الخبر.
171- وفي المكارم عن أنس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شربة يفطر عليها وشربة للسحر، وربما كانت واحدة وربما كانت لبناً، وربما كانت الشربة خبزاً يماث، الخبر.
172- وفي الكافي بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما يفطر عليه في زمن الرطب الرطب وفي زمن التمر التمر.
173- وفيه بإسناده عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صام ولم يجد الحلواء أفطر على الماء، وفي بعض الروايات: أنه ربما أفطر على الزبيب.
174- وفي المقنعة روي عن آل محمد عليهم السلام أنهم قالوا: يستحب السحور ولو بشربة من الماء، وروي أن أفضله التمر والسويق لمكان استعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
أقول: وهذا في سننه الجارية، وكان من مختصاته صوم الوصال وهو الصوم أكثر من يوم من غير فصل بالإِفطار، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم الأُمة عن ذلك، وقال: إنكم لا تطيقون ذلك وإن لي عند ربي ما يطعمني ويسقين.
175- وفي المكارم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأكل الهريسة أكثر ما يأكل ويتسحر بها.
176- وفي الفقيه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل.
177- وفي الدعائم عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوي فراشه ويشد ميزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرش وجوه النيام بالماء في تلك الليلة، وكانت فاطمة عليها السلام لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة وتداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار، وتقول: محروم من حرم خيرها.
178- وفي المقنع: والسنة أن يفطر الرجل في الأضحى بعد الصلاة وفي الفطر قبل الصلاة.
179- ومن آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة القرآن والدعاء ما في مجالس الشيخ بإسناده عن أبي الدنيا عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة.
180- وفي مجمع البيان عن أُم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته آية آية.
181- وفي تفسير أبي الفتوح: كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يرقد حتى يقرأ المسبحات، ويقول: في هذه السور آية هي أفضل من ألف آية. قالوا: وما المسبحات؟ قال: سورة الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.
أقول: وروي هذا المعنى في مجمع البيان عن العرباص بن سارية.
182- وفي درر اللئالي لابن أبي جمهور عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك والم التنزيل.
183- وفي مجمع البيان: وروى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب هذه السورة: سبح اسم ربك الأعلى، وأول من قال: "سبحان ربي الأعلى" ميكائيل.
أقول: وروي أول الحديث في البحار عن الدر المنثور، وهنا أخبار أُخر في ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند تلاوة القرآن أو عند تلاوة سور أو آيات مخصوصة، من أرادها فعليه بمظانها.
وله صلى الله عليه وآله وسلم خطب وبيانات يرغّب فيها ويحث على التمسك بالقرآن والتدبر فيه، والاهتداء بهدايته، والاستنارة بنوره، وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم أولى الناس بما يندب إليه من الكمال وأسبق الناس وأسرعهم إلى خير، وهو القائل - في الرواية المشهورة -: شيبتني سورة هود، وقد روي عن ابن مسعود قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أتلو عليه شيئاً من القرآن فقرأت عليه من سورة يونس حتى إذا بلغت قوله تعالى: { وردوا إلى الله مولاهم الحق } الآية رأيته وإذا الدمع تدور في عينيه الكريمتين.
فهذه شذرات من آدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم وقد استفاضت الروايات وتكرر النقل في كثير منها في كتب الفريقين، والكلام الإِلهي يؤيدها ولا يدفع شيئاً منها، والله الهادي.
(كلام في الرق والاستعباد)
قوله تعالى:
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } [المائدة: 118] كلام منبئ عن معنى الرق والعبودية، والآيات المتضمنة لهذا المعنى وإن كانت كثيرة في القرآن الكريم غير أن هذه الآية مشتملة على التعليل العقلي الكاشف عن أنه لو كان هناك عبد كان من المسلم عند العقل أن لمولاه أن يتصرف فيه بالعذاب لأنه مولاه المالك له.
والعقل لا يحق الحكم بجواز التعذيب، وتسويغ التصرف الذي يشقه إلا بعد حكمه بإباحة سائر التصرفات غير الشاقة فللمولى أن يتصرف في عبده كيف شاء وبما شاء وإنما استثنى العقل التصرفات التي يستهجنها بما أنها تصرفات شنيعة مستهجنة لا بما أن العبد عبد.
ولازم ذلك أيضاً أن على العبد أن يطيع مولاه فيما كلفه به وأن يتبعه فيما أراد وليس له أن يستقل بشيء من العمل إن لم يرض به مولاه كما يشير إلى ذلك بعض الإِشارة قوله تعالى:
{ { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } } [الأنبياء: 26] وقوله تعالى: { { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون } } [النحل: 75]. واستقصاء البحث في جهات ما يراه القرآن الشريف في مسألة العبودية والرق يتوقف على فصول:
1- اعتبار العبودية لله سبحانه: في القرآن الكريم آيات كثيرة جداً يعد الناس عباداً لله سبحانه، وتبني على ذلك أصل الدعوة الدينية: الناس عبيد والله مولاهم الحق. بل ربما تعدى ذلك واخذ كل من في السماوات والأرض موسوماً بسمة العبودية كالحقيقة المسماة بالملك على كثرتها والحقيقة الأُخرى التي يسميها القرآن الشريف بالجن قال تعالى:
{ { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } } [مريم: 93]. ولا ريب أن اعتبار العبودية لله سبحانه أمر مأخوذ بالتحليل وهو تحليل معنى العبودية إلى أجزائها الأصلية ثم الحكم بثبوت حقيقته بعد طرح خصوصياته الزائدة الطارئة على أصل المعنى في أُولي العقل من الخليقة فهناك أفراد من الناس يسمى الواحد منهم عبداً، ولا يسمى به إلا لأن نفسه مملوكة لغيره ملكاً يسوغ لذلك الغير الذي هو مالكه ومولاه أن يتصرف فيه كيف يشاء وبما أراد، ويسلب عن العبد استقلال الإِرادة مطلقاً.
والتأمل في هذا المعنى يوجب الحكم بأن الإِنسان - وإن شئت وسّعت وقلت: كل ذي شعور وإرادة - عبد لله سبحانه بحقيقة معنى العبودية فإن الله سبحانه مالك كل ما يسمى شيئاً بحقيقة معنى الملك فلا يملك شيء من نفسه ولا من غيره شيئاً من ضرّ ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يستقل أمر في الوجود بذات ولا وصف ولا فعل اللهم إلا ما ملكه الله ذلك تمليكاً لا يبطل بذلك ملكه تعالى، ولا ينتقل به الملك عنه إلى غيره بل هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط.
وهذه السلطة الحقيقية والملك الواقعي هي المنشأ لوجوب انقيادهم لما يريده منهم بإرادته التشريعية، وما يصنع لهم من شرائع الدين وقوانين الشريعة مما يصلح به أمرهم وتحاز به سعادتهم في الدارين.
والحاصل أنه تعالى هو المالك لهم ملكاً تكوينياً يكونون به عبيده الداخرين لقضائه سواء عرفوه أم جهلوه أطاعوه في تكاليفه أم عصوه وهو المالك لهم ملكاً تشريعياً يوجب له عليهم السمع والطاعة، ويحكم عليهم بالتقوى والعبادة.
ويتميز هذا الملك والمولوية بحسب الحكم عن الملك والمولوية الدائر بين الناس - وكذا العبودية المقابلة له - بأن الله سبحانه لما كان مالكاً تكويناً على الإِطلاق لا مالك سواه لم يجز في مرحلة العبودية التشريعية اتخاذ مولى سواه ولا عبادة أحد غيره قال تعالى:
{ { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23] بخلاف الموالي من الناس فإن الملك هناك لمن غلب بسبب من أسباب الغلبة.
وأيضاً لما لم يكن في عبيده تعالى المملوكين شيء غير مملوك له تعالى ولم ينقسموا في وجودهم إلى مملوك وغير مملوك بل كانوا من حيث ذواتهم وأوصافهم وأحوالهم وأعمالهم مملوكين له تكويناً تبع ذلك التشريع فحكم فيهم بدوام العبودية واستيعابها لجميع ما يرجع إليهم بوجه من الوجوه فلا يسعهم أن يعبدوا الله من جهة بعض ما يرجع إليهم دون بعض مثل أن يعبدوه باللسان دون اليد كما لا يسعهم أن يجعلوا بعض عبادتهم لله تعالى وبعضها لغيره وهذا بخلاف المولوية الدائرة بين الناس فلا يسع للمولى عقلاً، أن يفعل ما يشاء، تأمل فيه.
وهذا هو الذي يدل على إطلاق أمثال قوله تعالى:
{ { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } [السجدة: 4] وقوله تعالى: { { وهو الله لا إله إلا هو الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم } [القصص: 70]، وقوله: { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } } [التغابن: 1]. وكيفما كان فالعبودية المعتبرة بالنسبة إليه تعالى معنى تحليلي مأخوذ من العبودية التي تعتبره العقلاء من الإِنسان في مجتمعهم فلها أصل في المجتمع الإِنساني فلننظر ما هو أصله؟.
2- استعباد الإِنسان وأسبابه: كان الاستعباد والاسترقاق دائراً في المجتمع الإِنساني شائعة معروفة إلى ما يقرب من سبعين سنة قبل هذا التاريخ، ولعلها توجد معمولة في بعض القبائل المتطرفة النائية في أفريقيا وآسيا حتى اليوم، وكان اتخاذ العبيد والإِماء من السنن الدائرة بين الأوام القديمة لا يكاد يضبط بدء تاريخي له، وكان ذا نظام مخصوص وأحكام وقوانين عامة بين الأُمم، وأخرى مخصوصة بأُمة أُمة.
والأصل في معناه كون النفس الإِنسانية عند وجود شرائط خاصة سلعة مملوكة كسائر السلع المملوكة من حيوان ونبات وجماد، وإذا كانت النفس مملوكة كانت مسلوبة الاختيار مملوكة الأعمال والآثار يتصرف فيها كيف اريد.
هذه سنتهم الدائرة بينهم في الاسترقاق غير أنه لم يكن متكئاً على إرادة جزافية أو مطلقاً غير مبني على أي شرط فلم يكن يسع لأحدهم أن يتملك كل من أحب، ولا أن يملك كل من شاء وأراد ببيع أو هبة أو غير ذلك فلم يكن أصل المعنى متكئاً على الجزاف، وإن كان ربما يوجد في تضاعيف القوانين المتبعة فيه بحسب اختلاف آراء الأقوام وسننهم أُمور جزافية كثيرة.
كان الاستعباد مبنياً على نوع من الغلبة والسيطرة كغلبة الحرب التي تنتج للغالب الفاتح أن يفعل بخصمه المغلوب ما يشاء من قتل أو سبي أو غيره، وغلبة الرئاسة التي تصير الرئيس الجبار فعالاً لما يشاء في حوزة رئاسته، واختصاص التوليد والإِنتاج الذي يضع ولاية أمر المولود الضعيف في كف والده القوي يصنع به ما بدا له حتى البيع والهبة والتبديل والإِعارة ونحو ذلك.
وقد تكرر في أبحاثنا السابقة: أن أصل الملك في المجتمع الإِنساني مبني على القدرة المغروزة في الإِنسان على الانتفاع من كل شيء يمكنه أن ينتفع به بوجه - والإِنسان مستخدم بالطبع - فالإِنسان يستخدم في سبيل إبقاء حياته كل ما قدر عليه واستخدامه والانتفاع بمنافع وجوده آخذاً من المادة الأصلية فالعناصر فالمركبات الجمادية المتنوعة فالحيوان حتى الإِنسان الذي هو مثله في الإِنسانية.
غير أن حاجته المبرمة إلى الاجتماع والتعاون اضطره إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو وسائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعاً يختص كل جزء من أجزائه وكل طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثم ينتفع المجموع بالمجموع، وإن شئت فقل: ثم تقسم نتائج الأعمال بينهم فيتمتع كل واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعية، ولذلك نرى أن الفرد من الإِنسان وهو اجتماعي كلما قوي واشتد أبطل المدنية الطبعية وأخذ يستخدم الناس بالغلبة، ويتملك رقابهم، ويحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم بما يقترحه.
ولأجل ذلك إذا تأملت تأملاً حراً في سنتهم في استعباد الإِنسان وجدت أنهم لا يعتبرون تملك الإِنسان ما دام داخلاً في المجتمع وجزء من أجزائه بل إما أن يكون الإِنسان المملوك محكوماً بالخروج عن المجتمع كالعدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يهلك الحرث والنسل ويمحي الإِنسان باسمه ورسمه فهو خارج عن مجتمع عدوه، وله أن يهلكه بالإِفناء ويتملك منه ما يشاء لأن الحرمة مرفوعة، ومثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده والتابعين لنفسه فإنه يرى أنهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرف فيهم حتى بالقتل والبيع وغيرهما.
وإما أن يكون الإِنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، والتمتع بصفوة ما يختار، والتصرف في نفوسهم حتى بالملك والاستعباد.
فقد تبين أن الأصل الأساسي الذي كان يبني عليه الإِنسان سنة الاستعباد والاسترقاق هو حق الاختصاص والتملك المطلق الذي يعتقده الإِنسان لنفسه، وأن الإِنسان لا يستثني عنه أحداً إلا مشاركيه في مجتمعه الإِنساني ممن يعادله في الزنة الاجتماعية ويتحصن منه في حصن التعاون والتعاضد، وأما الباقون فلا مانع عنده من تملكهم واستعبادهم.
وعمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدو المحارب، والأولاد الضعفاء بالنسبة إلى آبائهم وكذا النساء بالنسبة إلى أوليائهن، والمغلوب المستبذل بالنسبة إلى الغالب المتعزز.
3- سير الاستعباد في التاريخ: سنة الاستعباد وإن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإِنساني غير أن الأشبه أن يكون ارقاء مأخوذين في أول الأمر بالقتال والتغلب ثم يلحق به الأولاد والنساء، ولذلك نعثر في تاريخ الأُمم القوية الحربية من القصص والحكايات وكذا القوانين والأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.
وقد كان دائراً بين الأُمم المتمدنة القديمة كالهند واليونان والرومان وإيران، وبين المليين كاليهود والنصارى على ما يستفاد من التوراة والإِنجيل حتى ظهر الإِسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته وإصلاح لأحكامه المقررة، ثم آل الأمر أن قرر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريباً.
قال " فردينان توتل" في معجمه لأعلام الشرق والغرب: كان الرق شائعاً عند الأقدمين، وكان الرقيق يؤخذ من أسرى وسبايا الحرب ومن الشعوب المغلوبة، كان للرق نظام معروف عند اليهود واليونان والرومان والعرب في الجاهلية والإِسلام.
وقد أُلغي نظام الرق تدريجاً: في الهند (1843) وفي المستعمرات الافرنسية (1848) وفي الولايات المتحدة بعد حرب الانفصال (1865) وفي البرازيل (1888) إلى أن اتخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد (1890) غير أنه لا يزال موجوداً فعلاً بين بعض القبائل في أفريقيا وآسيا.
ومبدء إلغاء الرق هو تساوي البشر بالحقوق والواجبات، انتهى.
4- ما الذي رآه الإِسلام في ذلك؟ قسم الإِسلام الاستعباد بحسب أسبابه، وقد تقدم أن عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، والتغلب والولاية كالابوة ونحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله وهما التغلب والولاية.
فاعتبر احترام الناس شرعاً سواء من ملك ورعية وحاكم ومحكوم وأمير وجندي ومخدوم وخادم بإلغاء الامتيازات والاختصاصات الحيوية، والتسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، والاعتناء بشعورهم وإرادتهم - وهو الاختيار التام في حدود الحقوق المحترمة - وأعمالهم وما اكتسبوه وهو تسلطهم على أموالهم ومنافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإِسلام إلا الولاية على الناس في إجراء الحدود والأحكام وفي أطراف المصالح العامة العائدة إلى المجتمع الديني، وأماما تشتهيه نفسه وما يستحبه لحياته الفردية فهو كأحد الناس لا يختص من بينهم بخصيصة، ولا ينفذ أمره في الكثير مما يهواه لنفسه ولا في القليل، ويرتفع بذلك الاسترقاق التغلبي بارتفاع موضوعه.
وعدّل ولاية الأباء لأبنائهم فلهم حق الحضانة والحفظ وعليهم حق التربية والتعليم وحفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم وآباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعية الدينية، وهم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.
نعم أكدت التوصية لآبائهم عليهم بالإِحسان ومراعاة حرمة التربية، قال تعالى:
{ ووصينا الإِنسان بوالديه حملته أُمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ } } [لقمان: 14ـ15] وقال تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } } [الإسراء: 23] وقد عد في الشرع الإِسلامي عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.
وأما النساء فقد وضع لهن من المكانة في المجتمع واعتبر لهن من الزنة الاجتماعية ما لا يجوز عند العقل السليم التخطي عنه ولو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإِنساني وقد كن في الدنيا محرومات من ذلك، وأُعطين زمام الازدواج والمال وقد كن محرومات أو غير مستقلات في ذلك.
وشاركن الرجال في أُمور واختصصن عنهم بأُمور واختص الرجال بأُمور كل ذلك عن مراعاة تامة لقوام وجودهن وتركيب بناهن، ثم سهل عليهن في أُمور شق فيها على الرجال كأمر النفقة وحضور معارك القتال ونحو ذلك.
وقد تقدم الكلام في ذلك كله تفصيلاً في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، وفي أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، وتبين هناك أن النساء مختصات في الإِسلام من مزيد الإِرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعية قديمها وحديثها.
قال تعالى:
{ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } } [النساء: 32] وقال تعالى: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [البقرة: 234] وقال تعالى: { { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [البقرة: 228] وقال: { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } [آل عمران: 195] ثم جمع الجميع في بيان واحد فقال: { { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } } [البقرة: 286] وقال: { { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام: 164] إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي تأخذ الفرد من الإِنسان جزءً تاماً كاملاً من المجتمع، ويعطيه من الاستقلال الفردي ما ينفصل به عن أي فرد آخر نتائج أعماله من خير أو شر أو نفع أو ضرّ من غير أن يستثني صغيراً أو كبيراً أو ذكراً أو أنثى.
ثم سوّى بينهم جميعاً في العزة والكرامة ثم ألغى كل عزة وكرامة إلا الكرامة الدينية المكتسبة بالتقوى والعمل فقال:
{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } { المنافقون: 8] وقال: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } } [الحجرات: 13]. وقد أبقى الإِسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، وهو أن يسبى الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، وأما اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه ولا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتى ينقاد لأمر الله قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } } [الحجرات: 9]. وذلك أن العدو المحارب الذي لا هم له إلا أن يفني الإِنسانية ويهلك الحرث والنسل لا ترتاب الفطرة الإِنسانية أدنى ريب في أنه يجب أن لا يعد جزء من المجتمع الإِنساني الذي له التمتع بمزايا الحياة والتنعم بحقوق الاجتماع، وأنه يجب دفعه بالإِفناء فما دونه، وعلى ذلك جرت سنة بني آدم منذ عمروا في الأرض إلى يومنا هذا وعلى ذلك ستجري.
والإِسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الديني - على أساس التوحيد وحكومة الدين الإِسلامي ألغى جزئية كل مستنكف عن التوحيد وحكومة الدين من المجتمع الإِنساني إلا مع ذمة أو عهد فكان الخارج عن الدين وحكومته وعهده خارجاً عن المجتمع الإِنساني لا يعامل معه إلا معاملة غير الإِنسان الذي للإِنسان أن يحرمه عن أي نعمة يتمتع بها الإِنسان في حياته، ويدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره وإفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه وعمله ونتائج أي مسعى من مساعيه، فللجيش الإِسلامي أن يتخذ أسرى ويستعبد عند الغلبة.
5- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإِسلام؟ يتأهب المسلمون على من يلونهم من الكفار فيتمون عليهم الحجة ويدعونهم إلى كلمة الحق بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وإن أبوا إلا الرد فإن كانوا أهل كتاب وقبلوا الجزية تركوا وهم على ذمتهم، وإن أخذوا عهداً كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، وإن لم يكن شيء من ذلك أُوذنوا على سواء وقوتلوا.
يقتل منهم من شهر سيفاً ودخل المعركة، ولا يقتل منهم من ألقى السلم، ولا يقتل منهم المستضعفون من الرجال والنساء والولدان، ولا يبيتون ولا يغتالون، ولا يقطع عنهم الماء، ولا يعذبون ولا يمثل بهم فيقاتلون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
فإذا غلبوهم ووضعت الحرب أوزارها فما تسلط عليه المسلمون من نفوسهم وأموالهم فهو لهم، وقد اشتمل تاريخ حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه على صحائف غر متلمعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوة والمروة، وطرائف البر والإِحسان.
6- ما هي سيرة الإِسلام في العبيد والاماء؟ إذا استقرت العبودية على من استقرت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره ونفقته على مولاه.
وقد وصى الإِسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله وهو منهم فيساويهم في لوازم الحياة وحوائجها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤاكل عبيده وخدمه ويجالسهم، ولا يؤثر نفسه عليهم في مأكل ولا ملبس ونحوها.
وأن لا يشق عليهم ولا يعذبوا ولا يسبوا ولا يظلموا، وأُجيز أن يتزوجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، وإن يتزوج بهم الأحرار، وأن يشاركوهم في الشهادات، ويساهموهم في الأعمال حال الرق وبعد الانعتاق.
وقد بلغ من إرفاق الإِسلام في حقهم أن شاركوا الأحرار في عامة الأُمور، وقد قلّد جمع منهم الولاية والإِمارة وقيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإِسلام، ويوجد بين الصحابة الكبار عدة من الموالي كسلمان وبلال وغيرهما.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتق جاريته صفية بنت حي بن أخطب وتزوج بها، وتزوج جويرية بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق وقد كانت بين سباياهم، وكانوا مأتي بيت بالنساء والذراري، وصار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، وقد مرّ إجمال القصة في الجزء الرابع من الكتاب.
ومن الضروري من سيرة الإِسلام أنه يقدم العبد المتقي على المولى الحر الفاسق، وأنه يبيح للعبد أن يتملك المال ويتمتع بعامة مزايا الحياة بإذن من أهله، هذا إجمال من صنيع الإِسلام فيهم.
ثم أكد الوصية وندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، وإخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جو الحرية ولا يزال يقل بذلك عددهم ويتبدل جمعهم موالي وأحراراً لوجه الله، ولم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الإِفطار، وأجاز لهم الاشتراط والكتابة والتدبير، كل ذلك عناية بهم وقصداً إلى تخليصهم وإلحاقاً لهم بالمجتمع الإِنساني الصالح إلحاقاً تاماً يقطع دابر الاستذلال.
7- محصل البحث في الفصول السابقة: تحصل مما مر أُمور ثلاث:
الأول: أن الإِسلام لم يأل جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد وتقليلها وتضعيفها حتى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع، وهو جواز استعباد كل إنسان محارب للدين مضاد للمجتمع الإِنساني غير خاضع للحق بوجه من وجوه الخضوع.
الثاني: أنه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد والإِماء - وتقريب شؤونهم الحيوية من حياة أجزاء المجتمع الحرة حتى صاروا كأحدهم وإن لم يصيروا أحدهم، ولم يبق عليهم إلا حجاب واحد رقيق، وهو أن الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسطة لمواليهم لا لهم، وإن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحر والعبد في الإِسلام إلا إذن المولى في العبد.
الثالث: أنه احتال بكل حيلة مؤثرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب والتحريص في موارد، وبالفرض والإِيجاب في أُخرى كالكفارات، وبالتسويغ والإِنفاذ في مثل الاشتراط والتدبير والكتابة.
8- سير الاستعباد في التاريخ، ذكروا أن الاستعباد ظهر أول ما ظهر بالسبي والأسر، وكانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها ومقاتلها وأخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثم رأوا أن يتركوهم أحياء ويتملكوهم كسائر الغنائم الحربية لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقهم وحفظاً للنوع واحتراماً للقوانين الأخلاقية التي ظهرت فيهم بالترقي في صراط المدنية شيئاً بعد شيء.
وإنما ظهرت هذه السنة بين القبائل بعدما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق بالاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الإِنفاق على العبيد والإِماء حتى انتقلوا إلى عيشة النزول والارتحال وتمكنوا من ذلك.
وبشيوع الاستعباد بين القبائل والأُمم على أي وتيرة كانت تحولت حياة الإِنسان الاجتماعية بظهور جهات من الانتظام والانضباط في المجتمعات أولاً وتقسيم الأعمال ثانياً.
ولم يكن الاستعباد إذ كان دائراً في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستن في بعض المناطق أصلاً كاوستراليا وآسيا المركزية وسيبريا وأميركا الشمالية وإسكيمو وبعض المناطق بأفريقيا بشمال النيل وجنوب زامبيز.
وبالعكس كان رائجاً في جزيرة العرب وأفريقيا الوحشية وأوروبا وأميركا الجنوبية وكان دائراً بين اليهود، وفي التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، وكذا بين النصارى وفي كتاب بولس إلى فيلمن أن إفسيموس كان عبداً شارداً رده بولس إلى سيده.
وكانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، ومن الشواهد على ذلك أنا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر والأبنية الآشورية التاريخية فإنها كانت من أعمال العبيد الشاقة، وكانت الروم واليونان أكثر الأُمم تشديداً على العبيد.
وقد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكر التحرير حتى لغى الرق فيها في القرن 13 الميلادي، وبقي في الروم الغربي على شكل آخر وهو أنهم كانوا يبيعون ويشترون المزارع بزراعها - وكانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإِجبارية.
وكان الاستعباد دائراً في معظم ممالك أوروبا إلى سنة 1772 الميلادية وقد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا وإسبانيا على أن يجبي الإِنجليز إليهم كل سنة أربعة آلاف وثمانمائة نسمة من رقيق أفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.
وقد ثارت الأفكار العامة سنة 1761 على الرق والاستعباد بينهم، وأقدم الطوائف التي قامت عليه منهم طائفة "لرزان" المذهبية، ولم يزالوا على ذلك حتى وضعت مادة قانونية سنة 1772 أن كل من دخل أرض بريطانيا فهو حر.
وقد ظهر سنة 1788 بعد بحث دقيق أن إنجلترا يعامل كل سنة مئتي ألف نسمة رقيقاً، وكان الذين يجلبون منهم من أفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.
ولم يزل حتى أُلغي الاستعباد في بريطانيا سنة 1833 وأدت الدولة إلى كمبانيات النخس عشرين ميلوناً ليرة أثمان من حررته من رقيقهم العبيد والإِماء، وانعتق في هذه الواقعة فيها (770380) نسمة.
ولغى الاستعباد في أميركا سنة 1862 بعد مجاهدات شديدة تحملتها أهالي أميركا وقد كان شمال هذه المملكة وجنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أما أميركا الشمالية فإنما كانت تأخذ العبيد والإِماء للتجمل فحسب، وأما الجنوبية فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة والحرث، وكانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمالة فكانوا يأخذون الأرقاء استثماراً بإعمالهم، ولذلك كانوا يتحرجون من قبول التحرير العام.
ولم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتى انعقد قرار بروسل سنة (1890) الميلادية على إلغاء سنة الاستعباد، وأمضاها الدول وأُجريت في الممالك، ولغت العبودية في الدنيا، وانعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخصاً.
وأنت تجد بثاقب نظرك أن هذه المجاهدة الطويلة والمشاجرة ثم ما وضع من قوانين الإِلغاء وانفذ من الحكم كل ذلك إنما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلب كما يشهد به أن جل الأرقاء أو كلهم كانوا يجلبون من نواحي أفريقيا المعمول فيها ذلك، وأما الاسترقاق من طريق السبي الحربي الذي أنفذ الإِسلام فلم يكن مورداً للبحث قط.
9- نظرة في بنائهم: هذه الحرية الفطرية التي نسميها بالحرية الموهوبة للإِنسان (ولسنا ندري ما هو السبب الذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان وهي تماثل الإِنسان في الشعور النفساني والإِرادة الباعثة؟ غير أن نقول إن الإِنسان هو الذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرع على أصل إلا على أن الإِنسان مجهز بشعور باطني يميز له ما يلتذ به وما يتألم به ثم بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذه ودفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.
ولم يتقيد الشعور الإِنساني بأن يتعلق بشيء ولا يتعلق بآخر كأن لا يشعر الإِنسان الضعيف المستذل بما يشعر به الإِنسان القوي المتعزز، ولا تحددت الإِرادة الإِنسانية بحد يمنعها عن التعلق ببعض ما يستحبه أو يجبرها على التعلق بما تعلقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع غيره وتنسى نفسها، فالإِنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإِنسان الذي غلبه وقهره لنفسه، ولا رابطة طبيعية بين إرادة الضعيف وإرادة القوي تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلق بما تعلقت به إرادة القوي، أو تفنى في إرادة القوي فتعود الإِرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القوي، أو تتبع الإِرادة اتباعاً يسلبها الاستقلال.
وإذ كان كذلك وكان من حق قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعية كان من الواجب أن يعيش الإِنسان حراً في نفسه وحراً في عمله، ومن هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.
لكن ينبغي لنا أن نتأمل هذه الحرية الموهوبة للإِنسان هل هي في المجتمع الإِنساني على إطلاقها منذ ولدت وعاشت في البنى الإِنسانية؟.
فلم يزل النوع الإِنساني - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع ولا يسعه بحسب جهازه الوجودي إلا ذلك، ومن المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع ولو حيناً ما إلا مع سنة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنة عادلة تعقلية أو سنة جائرة أو مجازفة أو بأي وصف اتصفت، وهذه السنة كيفما كانت تحدد الحرية الفردية.
على أن الإِنسان لا يتأتى له أن يعيش إلا مع تصرف ما في المادة يضمن له البقاء ولا يتأتى له ذلك إلا بأن يختص بما يتصرف فيه نوعاً من الاختصاص الذي نسميه بالملك - أعم من الحق والملك المصطلح عليه - فالذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه والذي يأكله فرَد أو يشربه أو يشغله بالتمكن فيه لا يمكن لغيره أن يستقل به، وليس ذلك إلا تحديداً لغير المتصرف في إطلاق إرادته، وتقييداً لحريته.
ولم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلا وتطلع فيه الشمس على اختلافات، وتغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس وضيعة أعراض وانتهاب أموال، ولو كان الإِنسان يرى لنفسه - أي للإِنسانية - حرية مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.
وسنة المجازاة والمؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوعة مدينة كانت أو همجية، ولا معنى للمجازاة إلا أن يملك المجتمع من الإِنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، وأن يسلب عنه بعض الحرية فلولا أن المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، ولولا أن الآثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب والكناية كالقطع والضرب والحبس وغير ذلك يملك الحكم والاجراء منه ما يسلبه من شؤون الحياة أو الراحة أو السلطة المالية لما صح ذلك، وكيف يصح منع الجائر المتعدي أن يجور ويتعدى ولا الذب عن حريم نفس أو عرض أو مال إلا مع سلب بعض حرية المتغلب الممنوع؟.
وبالجملة فمما لا يشك فيه ذو مسكة أن بقاء الحرية الإِنسانية على إطلاقها في المجتمع الإِنساني ولو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعي من وقته فهذا الاجتماع الذي هو أيضاً فطري للإِنسان ولا يعيش بدونه هو يقيد إطلاق الحرية الفطرية التي وهبته للإِنسان إرادته وشعوره الغريزيان فلا يتأتى لمجتمع إنساني أن يعيش إلا مع تقييد ما لاطلاق الحرية كما لا يتأتى له أن يعيش مع بطلان الحرية من أصلها، ولم يزل المجتمع الإِنساني يحفظ بين الحدين هذه الحرية التي يخيل لنا من كثرة التبليغات اللغربية أنهم هم الذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، وحفظوها على إطلاقها.
فهذا الاجتماع الفطري هو الذي يقيد تلك الحرية الفطرية ويحددها على حد تقييد القوى الطبيعية البدنية وغير البدنية بعضها بعضاً؛ فيقف البعض عن الفعل اعتناءً بشأن بعض آخر يزامله كقوة الابصار التي هي مبدأ للابصار على الاطلاق تفعل فعلها حتى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوة المفكرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيداً بفعل مزاملها، والذائقة تلتذ بالتقام الغذاء اللذيذ وازدراده وبلعه حتى تكل عضلات الفكّ فتقيد الذائقة فتكف عن مشتهاها.
فالاجتماع الفطري لا يتم للإِنسان إلا بأن يجود ببعض حريته في العمل واسترساله في التمتع.
10- ما مقدار التحديد: وأما المقدار الذي تحدد به الحرية الموهوبة من قبل الاجتماع الفطري ويتقيد به إطلاقها الفطري فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإِنسانية بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع وقتلها فإن المقيد للحرية بعد أصل الاجتماع إنما هو القانون المجرى بين الناس فكلما زادت القوانين ودقت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرية والاسترسال، وكلما نقصت نقص.
لكن الذي لا مناص عنه في أي اجتماع لأي مجتمع فرض، والواجب الذي ليس في وسع الإِنسان الاجتماعي أن يستهين به ويتساهل في أمره: فهو حفظ وجود الاجتماع وكونه إذ لا حياة للإِنسان دونه، وحفط السنن الدائرة والقوانين الجارية فيه من النقص والانتقاض، ولذلك لست تجد مجتمعاً من المجتمعات البشرية إلا وفيه جهة دفاعية تذب عن النفوس والذراري وتقيهم من الفناء والهلاك، وولي يلي أمرهم ويحفط السنة الجارية والعادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعي، وسياسة المتعدي الجائر، والموجود من التاريخ يصدّق ذلك أيضاً.
وإذا كان كذلك فأول حق مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرية عن عدو المجتمع في أصل اجتماعه، وإن شئت فقل: أن يملك من عدوه المبيد لحياته المفسد لحرثه ونسله نفسه وعمله ويذهب بحرية إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، وأن يسلب عن عدو السنة والقانون حرية العمل والاسترسال في النقض، ويملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.
وكيف يسع الإِنسان - حتى الإِنسان الفرد - أن يذعن بحرية عدو لا لحياة مجتمعه يحترم فيواخيه ويشاركه ويمتزج به، ولا عن إبادة مجتمعه وإفنائه يغمض فيتركهم وشأنهم؟ وهل الجمع بين العناية الفطرية بالاجتماع وبين ترك هذا العدو وحريته في العمل إلا جمعاً بين المتناقضين صريحاً وسفهاً أو جنوناً؟.
فتبين مما مر أولاً: أن البناء على إطلاق حرية الإِنسان أمر مخالف لصريح الحق الفطري المشروع للإِنسان الذي هو من أول الحقوق الفطرية المشروعة؟.
وثانياً: أن حق الاستعباد الذي اعتبره الإِسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، وهو أن يستعبد أعداء الدين الحق المحاربين للمجتمع الإِسلامي فيسلب عنهم حرية العمل، ويجلبوا إلى داخل المجتمع الديني ويكلفوا بأن يعيشوا في زي العيودية حتى يتربوا بالتربية الصالحة الدينية، وينعتقوا تدريجاً، ويلتحقوا بالمجتمع الحر سالمين غانمين، ولولي الأمر أن يشتريهم ويعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الديني في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإِلهية.
11- إلى مَ آل أمر الإِلغاء؟: أجرت الدول المعظمة قرار مؤتمر بروسل ومنعوا بيع الرقيق أشدّ المنع وانعتقت الإِماء والعبيد فلا يصطفون اليوم في دكاك النخاسين ولا يساقون سوق الأغنام، وتبع ذلك أن انتسخ اتخاذ الخصيان، ولا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء وأُولئك ولو نماذج قليلة إلا ما ربما يذكر من أمر الأقوام الهمجية.
لكن هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد والاسترقاق من الألسنة وغيبة المسمين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أو ليس يسأل أن هذه المسألة هل هي مسألة لفظية يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، ويكفي في إجرائها أن يسمّى العبد حراً وإن سلب منافع عمله وتبع غيره في إرادته، أو أن المسألة معنوية يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته وآثاره الخارجية؟.
فهاتيك الحرب العالمية الثانية لم يمض عليها إلا بضع عشرة سنة حملت الدول الفاتحة على عدوها المغلوب التسليم بلا شرط ثم احتلوا بلادهم، وأخذوا ملايين من أموالهم، وتحكموا على نفوسهم وذراريهم، ونقلوا الملايين من أسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤا وكيف شاؤا، والأمر يجري على ذلك حتى اليوم.
فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به وإن منع من إطلاق لفظه؟ وهل له معنى إلا سلب إطلاق الحرية؟ وتملك الإِرادة والعمل، وإنفاذ القوي المتعزز حكمه في الضعيف المستذل كيف شاء وأراد عدلاً أو ظلماً؟.
فيا لله العجب يسمّى حكم الإِسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعباداً ولا يسمّى حكمهم بذلك، والإِسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه وأخفها وهم يأخذون بأشقها وأعنفها، فقد رأينا محبتهم وصداقتهم حينما احتلوا بلادنا تحت عنوان المحبة والحماية والوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة والنكاية؟.
ومن هنا يظهر أن قرار الإِلغاء لم يكن إلا لعباً سياسياً هو في الحقيقة أخذ في صورة الرد، أما الاستعباد عن حرب وقتال فقد أنفذه الإِسلام وأنفذوه عملاً وإن منعوا عن التلفظ باسمه لساناً، وأما الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه فقد كان الإِسلام منعه من قبل، وأما الاستعباد من طريق الغلبة والسلطة الحكمية فقد منعه الإِسلام من قبل، وأما هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعداها إلى مرحلة المعنى ووافقه العمل؟!.
يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الأوروبية في آسيا وأفريقيا وأميركا، والفجائع التي ارتكبوها، والدماء والأعراض والأموال التي أهرقوها واستباحوها ونهبوها، والتحكمات التي أتوا بها وليس بالواحد والمائة والألف.
ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيداً - فقد يجزيك أن تتأمل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس وتخريب البلاد والتشديد على أهله، وما تلقاه الممالك العربية من الإِنجليز، وما يتحمله السودان والحمر في أميركا، والاوروبة الشرقية من الجمهوريات الاشتراكية، وما نكابده نحن من أيدي هؤلاء وأُولئك، كل ذلك في لفظه نصح وإشفاق، وفي معناه استعباد واسترقاق!.
فظهر من جميع ما مر أنهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإِسلام من إباحة وسلب إطلاق الحرية عند وجود سببها الفطري الذي هو حرب من يريد هدم المجتمع وإهلاك الإِنسانية، وهو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعي لا يتغير وهو حاجة الإِنسان في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً ويناقضها بقاءً ثم أصل اجتماعي عقلائي لا يتبدل متفرع على أصله الواقعي وهو وجوب حفظ المجتمع الإِنساني عن الانعدام والانهدام.
فهذا هو الذي راموه في عملهم وأخذوه معنى وأنكروه اسماً غير أنهم تعدوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع وهو الاستعباد بسبب الغلبة والسلطة فلا يزالون يستعبدون الأُلوف والملايين قبل حديث الإِلغاء وبعده، ويبيعون ويشترون ويهبون ويعيرون إلا أنهم لا يسمون ذلك استعباداً، وإنما يسمى استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية أو عناية وإعانة أو غير ذلك من الألفاظ التي لا يراد بشيء منها إلا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، وكلما خلق أو خرق شيء منها رمي به وجيء بآخر.
ولم يبق مما نسخه قرار بروسل ولا يزال يقرع به أسماع الدنيا وأهلها ويتباهى به الدول المتمدنة الذين هم رواد المدنية الراقية، وبأيديهم راية الحرية الإِنسانية إلا الاستعباد من طريق بيع الأبناء والبنات والإِخصاء ولا فائدة هامة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفردية منه بالمسألة الاجتماعية، ونسخه مع ذلك حجة لفظية تبليغية بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ وتؤثر أثر المعنى.
نعم يبقى هناك محل بحث آخر وهو أن الإِسلام يبدأ في غنائمه الحربية من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعه فيقسمها بينهم ثم ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإِسلام وهؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقاً موقوفاً على الدولة، وهذه مسألة أُخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلنا نوفق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة والخمس، والله المستعان.
وبعد ذلك كله نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقاً: "مبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر في الحقوق والواجبات" فما معنى تساوي البشر في الحقوق (الخ)، فإن أُريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها وإن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتة كاختلاف الرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم والآمر والمأمور والمطيع للقانون والمتخلف عنه والعادل والظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعية.
فهو كذلك لكنه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع وبين من ليس في صلاحيته أن ينضم إلى المجتمع ولا كرامة، وإنما هو كالسم المهلك الذي أينما حل أبطل الحياة فإن من الحكم الفطري الصريح أن يفرق بينهما بإعطاء الحرية الكاملة للأول، وسلبها عن الثاني فلا حق للعدو على عدوه فيما يعاديه، ولا واجب للذئب في ذمة الغنم ولا للأسد على فريسته.
وإن أُريد به أن الإِنسانية لما كانت مشتركة بين أفراد الإِنسان وكان في قوة الفرد من الإِنسان كائناً من كان أن يرقى في المدنية وينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حق الإِنسانية على المجتمع الراقي أن يجود بالحرية على كل إنسان ويربيه حتى يلحق المجتمع الصالح.
فذلك حق لكن ربما كان من شرائط التربية أن يسلب المربى حرية الإِرادة والعمل حيناً حتى تتم التربية، وتتبصر النفس المرباة في استعمال إرادتها، وتتنعم بنعمة حريتها كما يعالج المريض بما يسوؤه ويربى الصغير بما يتحرج منه، وهذا هو الذي يراه الإِسلام من سلب حرية الإِرادة والعمل عن الأُمة الكافرة المحاربة، واجتلابهم إلى داخل المجتمع الديني، وتربيتهم فيها، وتخليصهم تدريجاً إلى ساحة الحرية فإن السلوك سلوك اجتماعي ينبغي أن ينظر إليه وإلى نتيجته وأثره بنظر عام كلي، وليس بأمر فردي ينظر إليه بنظر فردي جزئي، ثم من العجب أن هؤلاء أيضاً يجرون عملاً بما جرت عليه السيرة الإِسلامية وإن خالفوه في التسمية وحسن النية كما تقدم بيانه.
وإن أُريد به أن من حق الحرية الإِنسانية أن تطرد في الجميع ويخلى بين كل إنسان وإرادته المطلقة.
فمن الواضح الذي لا مرية فيه أن ذلك غير جائز التسليم ولا ميسور العمل على إطلاقه وخاصة في الخصم المحارب وهو المورد الوحيد الذي يعتني به الإِسلام في سلب إطلاق الحرية.
ثم لو كان هذا حقاً لم يكن فيه فرق بين الواحد والاثنين وبين الجماعة فما بالهم يسلمون للواحد من الحرية القانونية حتى مثل "الانتحار" وللاثنين مثل "دئل" ولا يسلمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات ويشتغلوا بأنفسهم ويأكلوا رزق ربهم ويسلكوا سبيل حياتهم؟.
بقي هنا شيء وهو أنه ربما قال القائل: ما بال الإِسلام لم يشرع للرقيق تملك المال حتى يستعين به على حوائجه الضرورية من غير أن يكون كلاً على مولاه؟ وما باله لم يحدد الرق بالإِسلام حتى ينعتق العبد بالإِسلام وينمحي عنه لوث المحرومية اللازمة له ولأعقابه إلى يوم القيامة.
لكن ينبغي أن يتنبه هذا القائل إلى أن الحكم باستقرار الرق والحرمان من تملك المال إنما ظهوره ووقوعه بحسب نظر التشريع في أول زمان الاستيلاء عليه، وحكم الفطرة عليهم - وهم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرية إنما هو لابطال كيدهم وسلب قوتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الديني الصالح، ولا قوة ولا قدرة إلا بالملك فإذا لم يملكوا عملاً ولا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة والمحاربة.
نعم أجاز الإِسلام لهم أن يتملكوا في الجملة بتمليك الموالي، وهذا ملك في طول ملك، وليس فيه محذور الاستقلال بالتصرف.
وأما تحديد رقهم بالايمان فهو أمر يبطل السياسة الدينية في حفظ بيضة الإِسلام وإقامة المجتمع الديني على ساقه وبسط التربية الدينية على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدة والقوة، ولولا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرد أن استقرت عليهم سيطرة الدين، وضربت عليهم بذلة العبودية فحفظوا بذلك عدتهم وقوتهم ثم عادوا لما نهوا عنه.
وليرجع في ذلك إلى السنة الجارية بين الأُمم والأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود التي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإِنسانية فالامتان أو القبيلتان إذا تحاربتا وتقاتلتا ثم غلبت إحداهما الاخرى واستعلت عليها فإنها ترى من حقها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يسلم لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط.
وليست ترضى من التسليم بمجرد أن تضع الأُمة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم وما يريدون بل بالتسليم لأمر الأُمة الغالبة، والخضوع التام لما تحكم فيهم، وترى لهم أو عليهم، وتتصرف في نفوسهم وأموالهم.
ومن سفه الرأي أن تقيد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، ويبطل حكمه، ويمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده ومكره، ويجدد له رجاء العود إلى ما بدأ، وكيف يسوغ للأُمة الغالبة ذلك وقد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس والأموال؟ وهل ذلك إلا ظلماً لنفسها واستهانة بأعز ما عندها، وتبذيراً للدماء والأموال والمساعي؟.
وليس لمعترض أن يعترض على أُمة غالبة غلبت بتضحية النفوس والأموال فضربت على عدّوها بالذلة والمسكنة، وحفظهم على حالة الرق: بأن رجالهم قاتلوا وقتلوا وأفسدوا فاخذوا بالأسر وجوزوا بسلب الحرية على ما يبيحه الحق المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولدين بعد ذلك، ولم يحملوا سلاحاً، ولا سلوا سيفاً، ولا دخلوا معركة؟ وذلك أنهم ضحايا آبائهم.
بعد ذلك كله لا ينبغي أن ينسى أن للحكومة الإِسلامية أن تحتال في انعتاق الرقيق بشراء وعتق ونحو ذلك إذا أحرزت أن الأصلح بحال المجتمع الإِسلامي ذلك والله أعلم.
(كلام في المجازاة والعفو في فصول)
1- ما معنى الجزاء؟: لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعية على أجزائه أن يحترموها فلا هم للمجتمع إلا أن يوافق بين أعمال الأفراد ويقرب بعضها من بعض، ويربط جانباً منها بجانب حتى تأتلف وتجتمع وترفع بآثارها ونتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقه كل واحد بعمله وسعيه.
وهذه التكاليف لما كانت متعلقة بأُمور اختيارية يسع الإِنسان أخذها وتركها، وهي بعينها لا تتم إلا مع سلب ما لحرية الإِنسان في إرادته وعمله لم يمتنع أن يتخلف عنها أو عن بعضها الإِنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال وإطلاق الحرية.
والتنبه إلى هذا النقص في التكاليف والفتور في بني القوانين هو الذي بعث الإِنسان الاجتماعي على أن يتمم نقصها ويحكم فتورها بأمر آخر، وهو أن يضم إلى مخالفتها والتخلف عنها أُموراً يكرهها الإِنسان المكلف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الذي يكلف به حذراً من أن يحل به ما يكرهه ويتضرر به.
وهذا هو جزاء السيئة، وهو حق للمجتمع أو لولي الأمر على المتخلف العاصي، وله نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف أمر يؤثره ويحبه ليكون ذلك داعياً يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقاً من التكاليف، وهو حق للمكلف المطيع على المجتمع أو لولي الأمر، وهذا هو جزاء الحسنة، وربما يسمى جزاء السيئة عقاباً وجزاء الحسنة ثواباً.
وعلى هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإِلهية، قال تعالى:
{ { للذين أحسنوا الحسنى } } [يونس: 26] وقال تعالى: { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } } [يونس: 27] وقال: { { وجزاء سيئة سيئة مثلها } } [الشورى: 40]. وللعقاب والثواب عرض عريض آخذاً من الاستكراه والاستحسان والذم والمدح إلى آخر ما يتعلق به القدرة من الشر والخير، ويرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيات الفعل والفاعل وولي التكليف ومقدار الضرر والنفع العائدين إلى المجتمع، ولعله يجمع الجميع أن العمل كلما زاد الاهتمام بأمره زاد عقاباً في صورة المعصية وثواباً في صورة الطاعة.
ويعتبر بين العمل وبين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة والمسانخة ولو تقريباً، وعلى ذلك يجري كلامه تعالى أيضاً كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى:
{ { ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } } [النجم: 31] وأوضح منه قوله تعالى وقد حكاه عن صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام: { { وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى } }. [النجم: 39ـ41] وهذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى: { كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } } [البقرة: 178] وقال: { { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } } [البقرة: 194]. ولازم هذه المماثلة والمسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنه إذا عصى حكماً اجتماعياً مثلاً فإنما تمتع لنفسه بما يضر المجتمع أي بما يفسد تمتعاً من تمتعات المجتمع فينقص من تمتعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك مما يعود بوجه إليه.
وهذا هو الذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أن المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأناً من شؤون نفسه يعادل الجرم الذي اجترمه ونقيصة الضرر الذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرف المجتمع أو ولي الأمر استناداً إلى هذا الملك - وهو الحق - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، ويسلب حريته في ذلك.
فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإِسلامي ملك ولي الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفساً محترمة، وحده الذي هو القتل تصرف في نفسه عن الملك الذي ملكه، ولو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضر بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العام الذي أسدلته يد الشريعة وحفظته يد الأمانة، وحدّها الذي هو القطع ليس حقيقته إلا أن ولي الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأناً من شؤون حياته وهو الشأن الذي تشتمل عليه اليد فيتصرف فيه بسلب ماله من الحرية ووسيلتها من هذه الجهة، وقس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع والسنن المختلفة.
فيتبين من هنا أن الإِجرام والمعصية الاجتماعية يستجلب نوعاً من الرق والعبودية، ولذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة والعقاب قال تعالى:
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } } [المائدة: 118]. ولهذا المعنى مظاهر متفرقة في سائر الشرائع والسنن المختلفة قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه: { قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } أي في إنكاركم سرقة صواع الملك { قالوا من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين } أي نجزي السارق باسترقاقه { فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف } إلى أن قال { قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } وهذا هو التبديل ونوع من الفدية { { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون } } [يوسف: 79]. وربما كان يؤخذ القاتل أسيراً مملوكاً، وربما كان يفدي بواحدة من نسائه وحرمه كبنته وأُخته إلى غير ذلك، وسنة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيام بين القبائل والعشائر في نواحينا لأن الازدواج يعد عندهم نوعاً من الاسترقاق والإِسارة للنساء.
2- ومن هنا ما ربما يعد المطيع عبداً للمطاع لأنه بإطاعته يتبع إرادته إرادة المطاع فهو مملوكه المحروم من حرية الإِرادة قال تعالى:
{ { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني } } [يس: 60ـ61] وقال: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } } [الجاثية: 23]. وبالعكس من تملك المجتمع أو ولي الأمر المجرم المعاقب يملك المطيع المثاب من المجتمع أو ولي الأمر ما يوازن طاعته من الثواب فإن المجتمع أو الولي نقص من المكلف المطيع بواسطة التكليف شيئاً من حريته الموهوبة فعليه أن يتممه كما نقص.
وهذا الذي ذكرناه هو السر في ما اشتهر: أن الوفاء بالوعد واجب دون الوعيد، وذلك أن مضمون الوعد في ظرف المولوية والعبودية هو الثواب على الطاعة كما أن مضمون الوعيد هو العقاب على المعصية، والثواب لما كان من حق المطيع على ولي الأمر وفي ذمته وجب عليه تأديته وتفريغ ذمته منه بخلاف العقاب فإنه من حق ولي الأمر على المكلف المجرم، وليس من الواجب أن يتصرف الإِنسان في ملكه ويستفيد من حقه إن كان له ذلك، وللكلام تتمة.
3- العفو والمغفرة؟: استنتجنا من البحث السابق جواز ترك المجازاة على المعصية بخلاف الطاعة، وهو حكم فطري في الجملة مبني على أن العقاب حق للمعصي على العاصي، وليس من الواجب إعمال الحق دائماً.
غير أنه كما لا يجب إعمال حق العقاب دائماً كذلك لا يجوز تركه دائماً وإلا لغى القضاء الفطري بثبوت الحق، ولا معنى لثبوت شيء لا أثر له ولا في وقت من الأوقات على أن إلغاء حق العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية الاجتماع وفي هدمها هدم الاجتماع بلا ريب.
فالحكم - وهو جواز العفو عن الذنب - ثابت في الجملة، والقضية مهملة فإن كان هناك سبب مسوغ بحسب الحكمة للعفو جاز العفو وإلا وجبت المجازاة احتراماً للقوانين الحافظة لبنية المجتمع وسعادة الإِنسان، وإليه الإِشارة بقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
{ { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } } [المائدة: 118]. ويوجد في القرآن الكريم من أسباب المغفرة مما تمضيه الحكمة الإِلهية سببان كليان:
أحدهما: توبة العبد إلى الله سبحانه أعم من رجوعه من الكفر إلى الإِيمان أو رجوعه من المعصية إلى الطاعة على ما تقدم بيانه في الكلام على التوبة في الجزء الرابع من الكتاب، قال تعالى:
{ { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } [الزمر: 53ـ54] وهذه التوبة من الكفر الذي فيه وعيد العذاب الذي لا ينفع فيه ناصر شفيع { { واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون } } [الزمر: 55] وهذه هي التوبة من المعصية إلى الطاعة، ولم ينف فيه نفع الشفاعة.
وقال تعالى:
{ { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أُولئك اعتدنا لهم عذاباً أليماً } } [النساء: 17ـ18]. وثانيهما: الشفاعة يوم القيامة قال تعالى: { { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتعرضة لأمر الشفاعة، وقد أشبعنا البحث فيها في الكلام على الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
ويوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه وإن كان التدبر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من المصلحة وهي مصلحة الدين كقوله تعالى:
{ { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: { { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله } [المجادلة: 13] وقوله تعالى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } [التوبة: 117] وقوله تعالى: { { وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم } } [المائدة: 71]، وقوله تعالى: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور } [المجادلة: 2]وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 95] إلى أن قال { { عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } } [المائدة: 95]. فهذه موارد متنوعة من العفو الإِلهي وقد بينا خصوصية كل منها في الكلام على الآية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع.
وليس من قبيل ما تقدم قوله تعالى:
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } } [التوبة: 43] فإنه دعاء نظير قولنا: غفر الله لك لم فعلت كذا وكذا، ونظيره على الخلاف قوله تعالى: { إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر } } [المدثر: 18ـ19] وليس من ذاك القبيل أيضاً قوله تعالى: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [الفتح: 1ـ2]، ويدل على ذلك جعل المغفرة غاية متفرعة على فتحه تعالى مكة لنبيه ولا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الإِثم وبين الفتح، وسيجيء تمام الكلام في محله إن شاء الله.
4- للعفو مراتب: لما كان العفو والمغفرة يتعلق بالذنب الذي يستتبع نوعاً من المجازاة والعقاب، وللجزاء كما عرفت عرض عريض ومراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، وليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيئة التي يستتبعها العمل، فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره، والجزاء سواء كان عقاباً أو ثواباً إنما يوزن بزنتها.
فمما لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب واختلاف مراتبه، والتأمل فيما يهدي إليه العقل الفطري فإن البحث وإن كان قرآنياً يراد به الحصول على ما يراه الكتاب الإِلهي في هذه الحقائق غير أنه تعالى على ما بين في كلامه يكلمنا على قدر عقولنا وبالموازين الفطرية التي نزن بها الأشياء في مرحلتي النظر والعمل، وقد مرت الإِشارة إليه في موارد من الأبحاث الموضوعة في هذا الكتاب، وقد استمد تعالى في موارد من بياناته بالعقل والفكر الإِنساني، وأيد به مقاصد كلامه فقال تعالى: { أفلا تعقلون }، { أفلا تتفكرون }، وما في معناهما.
والذي يفيده الاعتبار الصحيح هو أن أول ما يتعلق به ويحترمه المجتمع الإِنساني هو الأحكام العملية والسنن المحترمة التي تحفظ بالعمل بها والمداومة عليها مقاصده الإِنسانية وتهديه إلى سعادته في الحياة، ثم تضع أحكاماً جزائية يجازى على طبقها المتخلف العاصي عن القوانين الاجتماعية ويثاب المطيع الممتثل.
وفي هذه المرحلة لا يسمى باسم الذنب إلا التخلف عن متون القوانين العملية، وتحاذي الذنوب لا محالة في عددها عدد مواد الأحكام الاجتماعية، وهذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضاً من معنى لفظ الذنب والألفاظ التي تقارنه في المعنى كالسيئة والمعصية والإِثم والخطيئة والحوب والفسق ونحوها.
لكن الأمر لا يقف على هذا الحد فإن الاحكام العملية إذا عمل بها وروقبت وتحفظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق وأوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التي هي غاية اجتماعهم، وهذه الأخلاق هي التي يسميها المجتمع بالفضائل الإِنسانية ويحرص ويحرض عليها، وتقابلها الرذائل.
وهي وإن كانت مختلفة باختلاف السنن والمقاصد في المجتمعات إلا أن أصل إنتاج الأحكام الاجتماعية لها مما لا سبيل إلى سده وإعفائها عنه.
وهذه الأخلاق الفاضلة وإن كانت أوصافاً روحية لا ضامن لإِجرائها في مقام العمل في المجتمعات، وكانت غير اختيارية بلا واسطة لكونها ملكات لكنها لكونها في تحققها تتبع تكرر العمل بالأحكام المقررة في المجتمع أو تكرر التخلف عن العمل كانت نفس العمل بالأحكام ضامنة لإِجرائها، وتعد اختيارية باختيارية مقدمتها وهي تكرر العمل، وتتصور في مواردها أوامر عقلية متعلقة بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة والعفة والعدالة، ونواه عقلية تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن والتهور والخمود والشره والظلم، وكذا يتصور لها عقاب وثواب يسميان بالعقاب والثواب العقليين كالمدح والذم.
وبالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، وهي مرتبة التخلف عن الأحكام الخلقية والأوامر العقلية المتعلقة بها.
ولم تعد هذه الأوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة التي تسوق إليها وبينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب ويأمر به وهو العقل الإِنساني ونظيره القول في تسمية النواهي العقلية نواهي، وهذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الآخر ووجوبه، ونرى التخلف عن ذلك عصياناً لهذا الأمر العقلي، وذنباً يستحق به نوع من المؤاخذة.
ويظهر من هنا أمر آخر وهو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - ومثله اشتمال الرذائل على المحرمات - وعلى أُمور مندوبة مستحبة هي كالزينة والهيئة الجميلة فيها - وهي الآداب الحسنة التي تتعلق بها أوامر عقلية استحسانية إلا أنها إذا فرضت ظرفاً لأحد منا كان ما يلازمها من الآداب وهي مندوبة في نفسها - مأموراً به عقلاً أمراً إيجابياً قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوي العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيداً من المستوى المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع والسنن العامة التي يناله عقله وفهمه، وربما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضري معتذراً بقصور الفهم وبعد الدار من السواد الأعظم الذي تكرر مشاهدة الرسوم والآداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه.
ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف والأدب الظريف، ولا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الأدب وظرائف القول والفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد مما يأتي به وظرفه هو ظرفه.
وما يأتي به مما لا ينبغي هو مما يؤاخذ به الأوحديون من الرجال فربما يؤاخذون بلحن خفي في كلام أو بتبطؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين ونحو ذلك فيعد ذلك كله ذنباً منهم، وليس من الذنب بمعنى مخالفة المواد القانونية دينية كانت أو دنيوية، وقد اشتهر بينهم: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وكلما دق المسلك ولطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقق هذا الظرف مغفولاً عنها لا يحس بها الإِنسان المكلف بالتكاليف، ولا يؤاخذ بها ولي المؤاخذة والمحاسبة.
وينتهي ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الأحكام الناشئة في ظرفي الحب والبغض فترى عين البغض - وخاصة في حال الغضب - عامة الأعمال الحسنة سيئة مذمومة، ويرى المحب إذا تاه في الغرام واستغرق في الوله أدنى غفلة قلبية عن محبوبه ذنباً عظيماً وإن اهتم بعمل الجوارح بتمام أركانه، وليس إلا أنه يرى أن قيمة أعماله في سبيل الحب على قدر توجه نفسه وانجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبية فقد أعرض عن المحبوب وانقطع عن ذكره وأبطل طهارة قلبه بذلك.
حتى أن الاشتغال بضروريات الحياة من أكل وشرب ونحوهما يعد عنده من الإِجرام والعصيان نظراً إلى أن أصل الفعل وإن كان من الضروري الذي يضطر إليه الإِنسان لكن كل واحد واحد من هذه الأفعال الاضطرارية من حيث أصله اختياري في نفسه، والاشتغال به اشتغال بغير المحبوب وإعراض عنه اختياراً وهو من الذنب، ولذلك نرى أهل الوله والغرام وكذا المحزون الكئيب ومن في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما.
وعلى نحو من هذا القبيل ينبغي أن يحمل ما ربما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم سبعين مرة"، وعليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى:
{ { واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإِبكار } } [غافر: 55] وقوله: { { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً } } [النصر: 3]. وعليه يحمل ما حكى تعالى عن عدة من أنبيائه الكرام كقول نوح: { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً } } [نوح: 28] وقول إبراهيم: { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } } [إبراهيم: 41] وقول موسى لنفسه وأخيه: { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك } } [الأعراف: 151] وما حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } } [البقرة: 285]. فإن الأنبياء عليهم السلام مع عصمتهم لا يتأتى أن تصدر عنهم المعصية، ويقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادة من المواد الدينية التي هم المرسلون للدعوة إليها، والقائمون قولاً وفعلاً بالتبليغ لها، والمفترض طاعتهم من عند الله، ولا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك.
وهكذا يحمل على هذا الباب ما حكي عن بعضهم عليهم السلام من الاعتراف بالظلم ونحوه كقول ذي النون:
{ { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } } [الأنبياء: 87] إذ كما يجوز عدهم بعض الأعمال المباحة الصادرة عنهم ذنباً لأنفسهم وطلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عده ظلماً من أنفسهم لأن كل ذنب ظلم.
وقد مر أن هنالك محملاً آخر وهو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم وزوجته:
{ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } } [الأعراف: 23]. وإياك أن تتوهم أن معنى قولنا في آية: إن لها محملاً كذا ومحملاً كذا هو تسليم أن ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثم الاجتهاد في اختلاق معنى يحمل عليه الكلام، وتطبق عليه الآيات القرآنية تحفظاً على الآراء المذهبية، واضطراراً من قبل التعصب.
وقد تقدم البحث الحر في عصمة الأنبياء عليهم السلام بالتدبر في الآيات أنفسها من غير اعتماد على المقدمات الغريبة الأجنبية في الجزء الثاني من الكتاب.
وقد بينا هناك وفي غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقامية والكلامية المتصلة والمنفصلة - كالآية المتعرضة لمعنى آية أُخرى - تأثير قاطع في الظواهر، وخاصة في الكلام الإِلهي الذي بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ويصدق بعضه بعضاً.
والغفلة عن هذه النكتة هي التي أشاعت بين عدة من المفسرين وأهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، وارتكابه في الآيات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم، فتراهم يقطعون القرآن قطعاً ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقي من كلام سوقي مثله فإذا سمعوه تعالى يقول: { فظن أن لن نقدر عليه } حملوه على أنه عليه السلام - وحاشاه - زعم أو أيقن أن الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أن ما في الآية التالية: { وكذلك ننجي المؤمنين } يعده من المؤمنين، ولا إيمان لمن شك في قدرة الله فضلاً عن أن يرجح أو يقطع بعجزه.
وإذا سمعوه تعالى يقول: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } تفهموا منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهي مولوي من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية.
ولم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الآية: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } حتى ينجلي لهم أن هذا الذنب والمغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التي لنا والمغفرة التي تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذي الغاية، وكذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعني قوله:
{ ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً، وينصرك الله نصراً عزيزاً } } [الفتح: 2ـ3]. وكذا إذا سمعوا سائر الآيات التي تشتمل على عثرات الأنبياء بزعمهم كالتي وردت في قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وداود وسليمان وأيوب ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، ولم ينقبضوا عن إساءة الأدب إليهم وهم أنفسهم أولى بما رموا ولا شين كسوء الأدب.
فساقهم سوء الحظ ورداءة النظر إلى أن أبدلوا ربهم رب العالمين برب تنعته التوراة والأناجيل المحرفة قوة غيبية متجسدة تدير رحى الوجود كما يدير جبار من جبابرة الإِنسان مملكته لا هم له إلا إشباع طاغية شهوته وغضبه فجهلوا مقام ربهم ثم سهوا عن مقام النبوة وعفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحية ومقاماتهم السامية الحقيقية فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة التي ليس لها من شرف الإِنسانية إلا التسمي باسمها، تهلك من هذا نفسه، وتخون من ذاك عرضه، وتطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمراً من أُمور دنياهم أو يتصدى يوماً للقيام بمصلحة بيتهم وأهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه وهو العليم الحكيم الذي أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم؟ وليت شعري أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك والوثنية ثم يتبرأ منه وينسبه إلى الشيطان؟.
وإذا ذكروا ببعض ما لأنبياء الله عليهم السلام من العصمة الإِلهية، والمقامات الموهوبة والمواقف الروحية عدوا ذلك شركاً بالله، وغلواً في حق عباد الله، وأخذوا في تلاوة قوله: { قل إنما أنا بشر مثلكم }.
وقد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عز اسمه وينعتونه بها من النعوت في ذاته وفعله دون ما يذكرون به من مقامات الأنبياء عليهم السلام وأخفض منها منزلة وقدراً، وهذا كله من المصائب التي لقيتها الإِسلام وأهله مما دسته أهل الكتاب وخاصة اليهود في الروايات وعملته أيديهم، وحركوا بها الرحى على غير محوره، واعتقدوا في الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء أنه مثل الإِنسان المتجبر الذي يرى لنفسه أنه حر غير مسؤول فيما يفعل وهم المسؤولون، وأن ترتب المسببات على أسبابها واستيلاد المقدمات نتائجها، واقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لآثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية.
وأن الله تعالى ختم بمحمد النبوة وأنزل عليه القرآن، وخص موسى بالتكليم، وعيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لأنه أراد أن يخصهم بكذا وبكذا، وأن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك ولا يفجر هذا، وأن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادي أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيي أُولئك ولا يحيي هؤلاء وهكذا.
وليس ذلك كله إلا قياساً لنظام التكوين إلى نظام التشريع الذي لا قوام له إلا الوضع والاصطلاح والتعاهد الذي يتجاوز ظرف الاجتماع سعة، ولا يعدو دنيا الإِنسان المجتمع.
ولو أنهم تفطنوا قليلاً وتدبروا في أطراف الآيات المتعرضة لأمر الذنب والمعصية بالمعنى المصطلح عليه، وهي مخالفة الأمر والنهي المولويين تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة.
فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عباداً يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم ولا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، وقد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم وإسحاق ويعقوب:
{ { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } [ص: 46]، وقوله في يوسف: { إنه من عبادنا المخلصين } } [يوسف: 24]، وقوله في موسى: { إنه كان مخلصاً } } [مريم: 51] وقد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم عليه السلام: { { ربنا اغفر لي ولوالدي } } [إبراهيم: 41]، وقول موسى عليه السلام: { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك } } [الأعراف: 151] ولو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.
نعم ربما قال القائل: إنهم عليهم السلام يعدون أنفسهم مذنبين تواضعاً لله سبحانه ولا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم عليهم السلام لم يخطأوا في نظرهم هذا، ولم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح والمسألة جدية.
على أن دعاء إبراهيم عليه السلام: { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } دعاء لكافة المؤمنين - وفيهم المخلصون - بالمغفرة، وكذا في دعاء نوح عليه السلام:
{ { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات } } [نوح: 28] شمول بإطلاقه للمخلصين، ولا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.
فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف وكذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله:
{ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } } [الشعراء: 82] ولعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الأخروية التي هي الجنة قدّم عليه ذكر المغفرة كقوله: { وقل رب اغفر وارحم } } [المؤمنون: 118] وقوله: { { واغفر لنا وارحمنا } } [البقرة: 286] وقوله حكاية عن آدم وزوجته: { وإن لم تغفر لنا وترحمنا } } [الأعراف: 23] وقوله عن نوح عليه السلام: { وإلا تغفر لي وترحمني } [هود: 47].
4- فتحصل من البيان السابق: أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولاً كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، وليس من اللازم أن يكون كل ذنب وخطيئة متعلقاً بأمر أو نهي مولوي فيعرفه ويتبينه الأفهام العامية الساذجة، ولا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب.
فالذي تبين لنا من مراتب الذنب والمغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع:
أولاها: الذنب المتعلق بالأمر والنهي المولويين وهو المخالفة لحكم شرعي فرعي أو أصلي وإن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، وتتعلق به مغفرة تحاذيه مرتبة.
والثانية: الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقي والمغفرة المتعلقة به.
والثالثة: الذنب المتعلق بالحكم الأدبي ممن ظرف حياته ظرف الأدب والمغفرة المتعلقة به، وهذان القسمان ربما لم يعدّا بحسب الفهم العامي من الذنوب والمغفرات، وربما حسبوهما منها مجازاً، وليس من المجاز في شيء لما عرفت من ترتب الآثار الحقيقية عليهما.
والرابعة: الذنب الذي يحكم به ذوق الحب والمغفرة المتعلقة به، وفي ظرف البغض أيضاً مايشبههما، وهذا النوع لا يعده الفهم العامي من الأقسام، وقد أخطأوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم والقضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله وتبين معناه.
وربما قال القائل منهم: إنه من أوهام العشاق والمبرسمين أو تخيل شعري لا يتكئ على حقيقة عقلية، وقد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام وتخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق - وأى حقائق - في طريق العبودية عن حب إلهي يذيب القلب ويوله اللب، ولا يدع للإِنسان شعوراً يشعر بغير ربه، ولا إرادة يريد بها إلا ما يريده.
وحينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شيء ذنب عظيمٍ وحجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الإِلهية، وقد عدّ الله سبحانه الذنب حجاباً للقلب عن التوجه التام إلى ربه إذ قال:
{ { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } } [المطفيين: 14ـ15]. فهذا ما يعطيه البحث الجدي الذي لا يلعب فيه بالحقائق، وربما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب ولطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلية العامة.
5- هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنباً؟: الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنهم يبنون المؤاخذة والعقاب على التكليف الاختياري، ومن شرائط صحته عندهم العقل، وهناك شرائط أُخر تختلف في أصلها وفي تحديد ما هياتها وحدودها المجتمعات، ولسنا ها هنا بصدد البحث عنها.
وإنما كلامنا في العقل الذي هو قوة التمييز بين الحسن والقبح والنافع والضار والخير والشر بحسب المتوسط من حال الناس في مجتمعهم، فإن الناس من حيث النظر الاجتماعي يرون أن في الإِنسان مبدءً فعالاً هذا شأنه وإن كان البحث العلمي ربما أدى إلى أنه ليست قوة من القوى الطبيعية المودوعة في الإِنسان كالمتخيلة والحافظة، وإنما هي ملكة حاصلة من توافق عدة من القوى في الفعل كالعدالة.
فالمجتمعات على اختلافها ترى أن التكليف منوط بهذا المسمى عقلاً فيتفرع الثواب والعقاب المتفرعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته ويعاقب بجرمه.
وأما غير العاقل كالصبي والمجنون والسفيه وكل مستضعف غيرهم فلا ثواب ولا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب والعقاب، وإن كانوا ربما يثابون قبال طاعتهم ثواباً تشويقياً أو يؤاخذون ويساسون قبال جرمهم بما يسمى عقاباً تأديباً، وهذا شائع دائر في المجتمعات حتى المجتمع الإِسلامي.
وهؤلاء بالنظر إلى السعادة والشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف ومخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء ولا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتى يسعدوا به ولا عقاب حتى يشقوا به، وإن كانوا ربما يشوقون بخير أو يؤدبون بشر.
وأما بالنسبة إلى الحياة الآخرة التي يثبتها الدين الإِلهي ثم يقسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: السعيد والشقي أو المثاب والمعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلاً إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى:
{ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } [التوبة: 106]، وقال تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً } } [النساء: 97ـ99]. والآيات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم والتوبة عليهم ولا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، وعلى عذابهم ولا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب وكذا المغفرة والعقاب والثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، ومنها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة وأدران القلب التي تحجب الإِنسان عن ربه، وهؤلاء وإن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس وأستار القلوب التي يحتاج التنعم بنعيم القرب، والحضور في ساحة القدس إلى إزالتها وعفوها والستر عليها ومغفرتها.
ولعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الروايات: "إن الله سبحانه يحشرهم ثم يخلق ناراً ويأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة ومن أبى أن يدخلها دخل النار" وسيجيء ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، وقد مر بعض الكلام في سورة النساء.
ومن استعمال العفو والمغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى:
{ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإِثم فإن الله غفور رحيم } [المائدة: 3]، ونظيره ما في سورة الأنعام، وقوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: { وإن كنتم مرضى أو على سفر } [النساء: 43] إلى أن قال { { فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوّاً غفوراً } [النساء: 43]، وقوله في حد المفسدين في الأرض: { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } [المائدة: 34]، وقوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: { ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم } [التوبة: 91]، إلى غير ذلك.
وقال تعالى في البلايا والمصائب التي تصيب الناس:
{ { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } } [الشورى: 30]. وينكشف بذلك أن صفة العفو والمغفرة منه تعالى كصفتي الرحمة والهداية تتعلق بالأُمور التكوينية والتشريعية جميعاً فهو تعالى يعفو عن الذنوب والمعاصي فيمحوها من صحيفة الأعمال، ويعفو عن الحكم الذي له مقتض يقتضي وضعه فيمحوه فلا يشرعه، ويعفو عن البلايا والمصائب وأسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الإِنسان.
6- رابطة العمل والجزاء: قد عرفنا فيما تقدم من البحث أن الأوامر والنواهي العقلائية - القوانين الدائرة بينهم - تستعقب آثاراً جميلة حسنة على امتثالها وهي الثواب، وآثاراً سيئة على مخالفتها والتمرد منها تسمى عقاباً، وأن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقاً للعامل، والجزاء السيء على المخالفة ليكون العامل على خوف وحذر من التمرد.
ومن هنا يظهر أن الرابطة بين العمل والجزاء رابطة جعلية وضعية من المجتمع أو من ولي الأمر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه ويرفعوا به الحاجة ويسدوا به الخلة، ولذلك تراهم إذا استغنوا وارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهدوا به من ثواب وعقاب.
ولذلك أيضاً ترى الجزاء يختلف كثرة وقلة والأجر يتفاوت شدة وضعفاً باختلاف الحاجة إلى العمل فكلما زادت الحاجة زاد الأجر وكلما نقصت نقص، فالآمر والمأمور والمكلِّف والمكلَّف بمنزلة البائع والمشتري كل منهما يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً.
والأجر والثواب بمنزلة الثمن، والعقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئاً فضمن قيمته واستقرت في ذمته.
وبالجملة فهو أمر وضعي اعتباري نظير سائر العناوين والأحكام والموازين الاجتماعية التي يدور عليه رحى الاجتماع الإِنساني كالرئاسة والمرؤوسية والأمر والنهي والطاعة والمعصية والوجوب والحرمة والملك والمال والبيع والشراء وغير ذلك، وإنما الحقائق هي الموجودات الخارجية والحوادث المكتنفة بها التي لا تختلف حالها بغنى وفقر وعز وذل ومدح وذم كالأرض وما يخرج منها والموت والحياة والصحة والمرض والجوع والشبع والظمأ والري.
فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، والله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضاً فقلب سعادتنا التي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعية فأمر ونهى ورغب وحذر، وبشر وأنذر، ووعد بالثواب وأوعد بالعقاب فصرنا نتلقى الدين على أسهل الوجوه التي نتلقى بها السنن والقوانين الاجتماعية، قال تعالى:
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً } } [النور: 21]. ولم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدة لإِدراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أن وراء هذه المعارف الدينية التي تشتمل عليها ظواهر الكتاب والسنة أمراً هو أعظم، وسراً هو أنفس وأبهى فقال تعالى: { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } } [العنكبوت: 64]. فعد الحياة الدنيا لعباً لا بنية له إلى الخيال، ولا شأن له إلا أن يشغل الإِنسان عما يهمه، وهي الدار الآخرة وسعادة الإِنسان الدائمة التي لها حقيقة الحياة، والمراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسميه حياة دون ما يلحق بها من الشؤون الحيوية من مال وجاه وملك وعزة وكرامة ونحوها فكونها لعباً ولهواً مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشؤون الحيوية لعباً ولهواً بطريق أولى، وإن كان المراد الحياة الدنيوية بجميع لواحقها فالأمر أوضح.
فهذه السنن الاجتماعية والمقاصد التي يطلب بها من عز وجاه ومال وغيرها، ثم الذي يشتمل عليه التعليم الديني من مواد ومقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثم بالرسالة مثلها كمثل اللعب الذي يضعه الولي المربي العاقل للطفل الصغير الذي لا يميز صلاحه من فساده وخيره من شره ثم يجاريه فيه ليروض بدنه ويروح ذهنه ويهيئه لنظام العمل وابتغاء الفوز به، فالذي يقع من العمل اللعبي هو من الصبي لعب جميل يهديه إلى حد العمل، ومن الولي حكمة وعمل جدي ليس من اللعب في شيء.
وقال تعالى:
{ { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الدخان: 38ـ39] والآية قريبة المضمون من الآية السابقة.
ثم شرح تعالى كيفية تأدية هذه التربية الصورية إلى مقاصدها المعنوية في مثل عام ضربه للناس فقال:
{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } } [الرعد: 17]. فظهر من بيانه تعالى أن بين العمل والجزاء رابطة حقيقية وراء الرابطة الوضعية الاعتبارية التي بينهما عند أهل الاجتماع ويجري عليها ظاهر تعليمه تعالى.
7- والعمل يؤدي الرابطة إلى النفس: ثم بين تعالى أن العمل يؤدي هذه الرابطة إلى النفس من جهة الهيئة النفسانية التي تحصل لها من العمل والحالة التي تؤديها إليها فقال تعالى:
{ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [البقرة: 225]، وقال: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } } [البقرة: 284] وفي هذا المعنى آيات أُخر كثيرة.
ويتبين بها أن جميع الآثار المترتبة على الأعمال من ثواب أو عقاب إنما تترتب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الأعمال، وأن ليس للأعمال إلا الوساطة.
ثم بيّن تعالى أن الذي سيواجههم من الجزاء على الأعمال إنما هو نفس الأعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الإِنسان في مجتمعه عملاً ثم يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثم يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى:
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً } } [آل عمران: 30] وقال تعالى: { لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } } [التحريم: 7] ودلالة الآيات ظاهرة، وتلحق بها في ذلك آيات أُخر كثيرة.
ومن أحسنها دلالة قوله تعالى:
{ { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } } [ق: 22] فإن هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، وقد عده غافلاً عنه في الدنيا بقرينة قوله: { اليوم } ولا معنى للغفلة إلا عن أمر موجود، ثم ذكر كشف غطائه عنه، ولا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه ويبصره من الجزاء يوم القيامة حاضراً موجوداً في الدنيا غير أنه لم يكشف عنه.
وهذه الآيات تفسر الآيات الأُخر الظاهرة في المجازاة وبينونة العمل والجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعية الوضعية، وهذه الآية ناظرة إلى مرحلة الرابطة الحقيقية كما بيناه، وقد تعرضنا لهذا البحث بعض التعرض في تفسير قوله تعالى:
{ { ختم الله على قلوبهم } } [ البقرة: 7] في الجزء الأول من الكتاب فليراجعه من شاء. والله الهادي.
(تمَّ والحمد لله)