التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥١
فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
٥٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السير الإِجمالي في هذه الآيات يوجب التوقف في اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكذا في اتصال ما بعدها كقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } (إلى آخر الآيتين) ثم اتصال قوله بعدهما: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً } إلى تمام عدة آيات ثم في اتصال قوله: { يا أيها الرسول بلغ } (الآية).
أما هذه الآيات الأربع فإنها تذكر اليهود والنصارى، والقرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذٍ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الآيات، ولا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذٍ بمخالطة اليهود ومعاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم ومكرهم خاصة دون النصارى إلاَّ في النصف الأخير من زمن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فلعلَّ الآيات الأربع نزلت فيه، ولعلَّ المراد بالفتح فيها فتح مكة.
لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع وقد فتحت مكة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة؟ أو أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة وقبل نزول السورة جميعاً؟.
ثم إن الآية الأخيرة أعني قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم } (الآية) هل هي متصلة بالآيات الثلاث المتقدمة عليها؟ ومن المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم؟ ومن هؤلاء الآخرون الذين وعد الله أنه سيأتي بهم؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاماً على إبهام، وقد تشتت ما ورد من أسباب النزول وليست إلاَّ أنظار المفسرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات، وهذا الاختلاف الفاحش أيضاً مما يشوش الذهن في تفهم المعنى، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الأنظار القاضية فيها كما سيمر بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات وأقوال المفسرين من السلف والخلف.
والذي يعطيه التدبر في الآيات: أن هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متصلة الأجزاء منقطعة عمّا قبلها وما بعدها، وأن الآية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات والمسامحات التي جوزتها أنظار الباحثين من المفسرين في الآيات وخاصة فيما ذكر فيها من الأوصاف والنعوت على ما سيجيء.
وإجمال ما يتحصل من الآيات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ويهددهم في ذلك أشد التهديد، ويشير في ملحمة قرآنية إلى ما يؤول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية، وأن الله سيبعث قوماً يقومون بالأمر، ويعيدون بينة الدين إلى عمارتها الأصلية.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } قال في المجمع: الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإِعداده لأمر، وهو افتعال من الأخذ، وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء، وأدغمتها في التاء التي بعدها ومثله الاتعاد من الوعد، والأخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، وأخذ القربان إذا تقبله، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، وأصله جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.
وقال الراغب في المفردات: الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد (انتهى موضع الحاجة) وسيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.
وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشيء يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولي هو الناصر الذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شيء، وإن كان من جهة الالتئام في المعاشرة والمحبة التي هي الانجذاب الروحي فالولي هو المحبوب الذي لا يملك الإِنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، ويعطيه فيما يهواه، وان كان من جهة النسب فالولي هو الذي يرثه مثلاً من غير مانع يمنعه، وإن كان من جهة الطاعة فالولي هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.
ولم يقيد الله سبحانه في قوله: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الولاية بشيء من الخصوصيات والقيود فهي مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة }، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم: { نخشى أن تصيبنا دائرة } وهي الدولة تدور عليهم، وكما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود والنصارى فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود والنصارى فينجوا منها باتخاذهما أولياء المحبة والخلطة.
والولاية بمعنى قرب المحبة والخلطة تجمع الفائدتين جميعاً أعني فائدة النصرة والامتزاج الروحي فهو المراد بالآية، وسيجيء ما في القيود والصفات المأخوذة في الآية الأخيرة: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه }، من الدلالة على أن المراد بالولاية ها هُنا ولاية المحبة لا غير.
وقد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة وهي التي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الآخر عند الحاجة، واستدل على ذلك بما محصله أن الآيات - كما يلوح من ظاهرها - منزّلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة ومن حولهم من يهود فدك وخيبر وغيرهم، ومن ورائهم النصارى وكان بين طوائف من العرب وبينهم عقود من ولاية النصرة والحلف، وربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرأ من بني قينقاع لما حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبينهم ولاية حلف، لكن عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين لم يتبرأ منهم وسارع فيهم قائلاً: نخشى أن تصيبنا دائرة.
أو ما ورد في قصة أبي لبابة لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج بني قريظة من حصنهم وينزلهم على حكمه، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح.
أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، وبعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض.
أو ما ورد أن بعضهم قال: إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل بهم يوم أُحد من القتل والهزيمة.
وهؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين: { نخشى أن تصيبنا دائرة } كانوا هم المنافقين، وبالجملة فالآيات إنما تنهى عن المخالفة وولاية النصرة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى.
وقد أكّد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبة والاعتماد مما تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرء منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل.
وكيف يصح حمل الآية على النهي عن معاشرتهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوي ذمة أو عهد، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الصحابة في المدينة، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة (انتهى ما ذكره ملخصاً).
وهذا كله من التسأهل في تحصيل معنى الآية أما ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عام حجة الوداع وهي سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة.
وأما ما ذكروه من أسباب النزول ودلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة وولاية النصرة التي كانت بين أقوام من العرب وبين اليهود والنصارى، ففيه (أولاً) أن أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق ويعتمد عليه.
و (ثانياً) أنها لا توجه ولاية النصارى وإن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين وبين النصارى ولاية الحلف يومئذٍ.
و (ثالثاً) أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلاَّ أنك قد عرفت فيما مرَّ أن جل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخاً على الآيات القرآنية المناسبة لها، وهذا أيضاً لا بأس به.
وأما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الآيات القرآنية أو تقيد إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغي التفوه به، ولا أن الظاهر المتفاهم يساعده. ولو تخصص أو تقيد ظاهر الآيات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم، وانقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التي بعد عصر التنزيل، ولا يوافقه كتاب ولا سُنّة ولا عقل سليم.
وأما ما ذكره بعضهم: "أن أخذ الولاية بمعنى المحبة والاعتماد خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه أسباب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل" فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن ما ذكره من تبري أسباب النزول وما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الآيات ذلك وتصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه، وأما قصر الدلالة على مورد النزول والحالة العامة الموجودة وقتئذٍ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل - وهو حجية الآية في ظهورها المطلق - على خلافه فقد عرفت أن الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة في المعنى المطلق، وهو الولاية بمعنى المحبة.
وما ذكره من تبري الآية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام، وليت شعري ما الذي قصده من هذا التبري الذي وصفه وحمله على مفردات الآية ولم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.
وكيف تتبرأ من ذلك مفردات الآية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } قوله تعالى: { بعضهم أولياء بعض } ولا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال: لا تحالفوا اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلاَّ مجرد المحبة والمودة من جهة الدين؟.
وكذا قوله تعالى بعد ذلك: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } فإن الاعتبار الذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد الأرواح المختلفة وتتوحد بذلك الإِدراكات، وترتبط به الأخلاق، وتتشابه الأفعال، وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة، وإرادة واحدة، وفعل واحد لا يخطىء أحدهما الآخر في مسير الحياة، ومستوى العشرة.
فهذا هو الذي يوجب كون من تولى قوماً منهم ولحوقه بهم، وقد قيل: من أحب قوماً فهو منهم، والمرء مع من أحب، وقد قال تعالى في نظيره نهياً عن موالاة المشركين: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } إلى أن قال بعد عدة آيات:
{ { ومن يتولهم منكم فأُولئك هم الظالمون } [التوبة: 23]، وقال تعالى: { { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } [المجادلة: 22]، وقال تعالى في تولي الكافرين - واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعاً -: { { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه } [آل عمران: 28] والآية صريحة في ولاية المودة والمحبة دون الحلف والعهد، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود، وكذا بينه وبين المشركين يومئذٍ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات.
وبالجملة الولاية التي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبة والمودة دون الحلف والنصرة وهو ظاهر، ولو كان المراد بقوله: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنه لمعصيته النهي ظالم ملحق بأُولئك الظالمين في الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيداً من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.
ومن دأب القرآن في كل ما ينهي عن أمر كان جائزاً سائغاً قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقاً، واحتراماً للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله:
{ { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [التوبة: 28]، وقوله: { { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا } } [البقرة: 187] الآية، وقوله: { { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } [الأحزاب: 52] إلى غير ذلك.
فقد تبيّن أن لغة الآية في مفرداتها وسياقها لا تتبرأ من كون المراد بالولاية ولاية المحبة والمودة، بل إن تبرأت فإنما تتبرأ من غيرها.
وأما قولهم: إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجيء أن السياق لا يساعده.
فالمراد بقوله: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } النهي عن موادتهم الموجب لتجاذب الأرواح والنفوس الذي يفضي إلى التأثير والتأثر الأخلاقيين فإن ذلك يقلّب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية.
وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبّر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإِشعار بقربهم من المسلمين نوعاً من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهي عن اتخاذهم أولياء، وأما ما في الآية الآتية: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزواً ولعباً يقلب حال ذلك الوصف - أعني كونهم ذوي كتاب - من المدح إلى الذم فإن من أُوتي الكتاب الداعي إلى الحق والمبيّن له ثم جعل يستهزىء بدين الحق ويلعب به أحق وأحرى به أن لا يتخذ ولياً، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته.
وأما قوله تعالى: { بعضهم أولياء بعض } فالمراد بالولاية - كما تقدم - ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى، والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة، وليسوا على وحدة من المليّة لكن يبعث القوم على الاتفاق، ويجعلهم يداً واحدة على المسلمين أن الإِسلام يدعوهم إلى الحق، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا.
فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود والنصارى - على ما بينهما من الشقاق والعداوة الشديدة - مجتمعاً واحداً يقترب بعضه من بعض، ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس، ويتولى بعض اليهود بعضاً، وبعض النصارى بعضاً، وهذا معنى إبهام الجملة: { بعضهم أولياء بعض } في مفرداتها، والجملة في موضع التعليل لقوله: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } والمعنى لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة.
وربما أمكن أن يستفاد من قوله: { بعضهم أولياء بعض } معنى آخر، وهو أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذي هم أولياؤكم على البعض الآخر، ولا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.
قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } التولي اتخاذ الولي، و "من" تبعيضية والمعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم، وهذا إلحاق تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضاً من اليهود والنصارى، ويؤل الأمر إلى أن الإِيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب والخلوص، والكدورة والصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنية قال تعالى:
{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلاَّ وهم مشركون } [يوسف: 106]، وهذا الشوب والكدر هو الذي يعبّر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم }.
فهؤلاء الموالون لأولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود والنصارى وإن كانوا من المؤمنين ظاهراً، وأقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذي هو الإِيمان بل سالكوا سبيل اتخذه أولئك سبيلاً يسوقه إلى حيث يسوقهم وينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.
ولذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } فالكلام في معنى: أن هذا الذي يتولاهم منكم هو منهم غير سالك سبيلكم لأن سبيل الإِيمان هو سبيل الهداية الإِلهية، وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم، والله لا يهدي القوم الظالمين.
والآية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولاهم من المؤمنين منزلتهم من غير تعرض لشيء من آثاره الفرعية، واللفظ وإن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان من قبيل بيان الملاك - نظير قوله:
{ { وأنْ تصوموا خير لكم } [البقرة: 184] وقوله: { { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } [العنكبوت: 45] إلى غير ذلك - لم يكن إلاَّ مهملاً يحتاج التمسك به في إثبات حكم فرعي إلى بيان السنة، والمرجع في البحث عن ذلك فن الفقه.
قوله تعالى: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } تفريع على قوله في الآية السابقة: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } فمن عدم شمول الهداية الإِلهية لحالهم - وهو الضلال - مسارعتهم فيهم واعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، وقد قال تعالى: { يسارعون فيهم } ولم يقل: يسارعون إليهم، فهم منهم وحالون في الضلال محلهم، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية اصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، وإنما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من اللوم والتوبيخ بل إنما يحملهم على تلك المسارعة توليهم أُولئك { اليهود والنصارى }.
ولما كان من شأن كل ظلم وباطل أن يزهق يوماً ويظهر للملأ فضيحته، وينقطع رجاء من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } كان من المرجو قطعاً أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم، ويظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.
وبهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله: { فترى الذين } (الخ) على قوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.
فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود والنصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة، وعنوانه الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، وأما كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإِيمان فسياق الآيات لا يوافقه.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أُبي وأصحابه على ما يؤيده أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم ويجاملونهم من جانب، ومن الجانب الآخر كانوا يتولون اليهود والنصارى بالحلف والعهد على النصرة استدراراً للفئتين، وأخذاً بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال، ويكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.
وما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، ولا ندامة في الاحتياط، وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة عليهم، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله: { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف أن لم يقع ما كان يخاف وقوعه، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوماً ولا ذماً.
إلاَّ أن يقال: إن الذم إنما لحقهم لأنهم عصوا النهي الإِلهي ولم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.
قوله تعالى: { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين } لفظة { عسى } وإن كان في كلامه تعالى للترجّي كسائر الكلام - على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعاً فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وتثبيت صدقه، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.
والذي ذكره الله تعالى من الفتح - وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بيّن المصداق بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا - لعله يؤيد كون اللام في "الفتح" للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى:
{ { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [القصص: 85] وقوله: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } [الفتح: 27] وغير ذلك.
والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى:
{ { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون } [السجدة: 28ـ39] فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الإِيمان لمن كان كافراً قبله، وأن الكفار ينتظرونه، وأنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التي نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الإِيمان وهو التوبة إنما يتصور لأحد أمرين - كما تقدم بيانه في الكلام على التوبة -: إما بتبدل نشأة الحياة وارتفاع الاختيار لتبدّل الدنيا بالآخرة، وإما بتكوّن أخلاق وملكات في الإِنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة والرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى: { { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [الأنعام: 158] وقال تعالى: { { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } } [النساء: 18]. وكيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلاَّ أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله: { فيصبحوا على ما أسروا } (الخ) وقوله: { ويقول الذين } (الخ) عليه خفاء تقدم وجهه.
وإن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإِسلام على الكفر والحكم الفصل بين الرسول وقومه فهو من الملاحم القرآنية التي ينبئ تعالى فيها عمّا سيستقبل هذه الأمة من الحوادث، وينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله:
{ { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم } [يونس: 47] إلى آخر الآيات.
وأما قوله: { فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } فإن الندامة إنما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك، وقد فعلوا شيئاً، والله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم تولي اليهود والنصارى لينالوا به وبالمسارعة فيهم ما كانت اليهود والنصارى يريدونه من انطفاء نور الله والتسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.
فهذا - لعله - هو الذي أسروه في أنفسهم، وسارعوا لأجله فيهم، وسوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق.
قوله تعالى: { ويقول الذين آمنوا } (إلى آخر الآية) وقرىء "يقول" بالنصب عطفاً على قوله: { يصبحوا } وهي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم وقول المؤمنين: "أهؤلاء" (الخ) جميعاً تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم في اليهود والنصارى، وقوله: { هؤلاء } إشارة إلى اليهود والنصارى، وقوله: { معكم } للذين في قلوبهم مرض ويمكن العكس، وكذا الضمير في قوله: { حبطت أعمالهم فأصبحوا }، يمكن رجوعه إلى اليهود والنصارى، وإلى الذين في قلوبهم مرض.
لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض، والإِشارة إلى اليهود والنصارى، وقوله: { حبطت أعمالهم }، كالجواب لسؤال مقدر، والمعنى: وعسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإِيمان عند حلول السخط الإِلهي بهم: أهؤلاء اليهود والنصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التي بالغوا وجهدوا فيها جهداً أنهم لمعكم فلماذا لا ينفعونكم؟! ثم كأنه سئل فقيل: إلى مَ انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
(كلام في معنى مرض القلب)
وفي قوله: { في قلوبهم مرض } دلالة على أن للقلوب مرضاً فلها لا محالة صحة إذ الصحة والمرض متقابلان لا يتحقق أحدهما في محل إلاَّ بعد إمكان تلبسه بالآخر كالبصر والعمى ألا ترى أن الجدار مثلاً لا يتصف بأنه مريض لعدم جواز اتصافه بالصحة والسلامة.
وجميع الموارد التي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضاً في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب وآثارها أُموراً تدل على خروجها من استقامة الفطرة، وانحرافها عن مستوى الطريقة كقوله تعالى:
{ وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً } [الأحزاب: 12] وقوله تعالى: { { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } [الأنفال: 49] وقوله تعالى: { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } } [الحج: 53] إلى غير ذلك.
وجملة الأمر أن مرض القلب تلبسه بنوع من الارتياب والشك يكدر أمر الإِيمان بالله والطمأنينة إلى آياته، وهو اختلاط من الإِيمان بالشرك، ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والأفعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته.
وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه مستوى الطريقة، ويؤل إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كل شيء يتعلق به هوى الإِنسان، قال تعالى:
{ { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم } } [الشعراء: 88ـ89]. ومن هنا يظهر أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما بمثل قوله: { المنافقون والذين في قلوبهم مرض } في غالب الموارد عن إشعار ما بذلك، وذلك أن المنافقين هم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، والكفر الخالص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى: { أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } [الأنعام: 122]، وقال: { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } } [الأنعام: 36]. فالظاهر أن مرض القلب في عرف القرآن هو الشك والريب المستولي على إدراك الإِنسان فيما يتعلق بالله وآياته، وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية.
فالذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الإِيمان، الذين يصغون إلى كل ناعق، ويميلون مع كل ريح، دون المنافقين الذين أظهروا الإِيمان واستبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيوية ليستدروا المؤمنين بظاهر إيمانهم والكفار بباطن كفرهم.
نعم ربما أُطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلاً لكونهم يشاركونهم في عدم اشتمال باطنهم على لطيفة الإِيمان، وهذا غير إطلاق الذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلاَّ ظاهراً قال تعالى:
{ { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } } [النساء: 138ـ140]. وأما قوله تعالى في سورة البقرة: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } إلى أن قال: { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً } إلى أن قال: { { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } } [البقرة: 13] الآيات، فإنما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشك في الحق إلى إنكاره، وأنهم كانوا في بادئ حالهم مرضى بسبب كذبهم في الإِخبار عن إيمانهم وكانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضاً حتى هلكوا بإنكارهم الحق واستهزائهم له.
وقد ذكر الله سبحانه أن مرض القلب على حد الأمراض الجسمانية ربما أخذ في الزيادة حتى أزمن وانجرّ الأمر إلى الهلاك وذلك بإمداده بما يضر طبع المريض في مرضه، وليس إلاَّ المعصية قال تعالى:
{ { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً } [البقرة: 10] وقال تعالى { وإذا ما أُنزلت سورة } إلى أن قال: { { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } [التوبة: 125ـ126] وقال تعالى - وهو بيان عام -: { { ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن } } [الروم: 10]. ثم ذكر تعالى في علاجه الإِيمان به قال تعالى - وهو بيان عام -: { يهديهم ربهم بإيمانهم } [يونس: 9] وقال تعالى: { { إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه } [فاطر: 10] فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، وهو الإِيمان به وأن يتذكر بصالح الفكر وصالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر: { { ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } } [التوبة: 126]. وقال سبحانه وهو قول جامع في هذا الباب: { { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً إلاَّ الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأُولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } [النساء: 144ـ146] وقد تقدم أن المراد بذلك الرجوع إلى الله بالإِيمان والاستقامة عليه والأخذ بالكتاب والسنة ثم الإِخلاص.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } ارتد عن دينه رجع عنه، وهو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الإِيمان إلى الكفر سواء كان إيمانه مسبوقاً بكفر آخر كالكافر يؤمن ثم يرتد أو لم يكن، وهما المسميان بالارتداد الملي والفطري (حقيقة شرعية أو متشرعية).
ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين، ويكون الآية على هذا غير متصلة بما قبلها، وإنما هي آية مستقلة تحكي عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.
لكن التدبر في الآية وما تقدم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإن الآية على هذا تذكّر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، وأنه سوف يأتي بأقوام لا يرتدون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى:
{ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [الأنعام: 89] أو كقوله تعالى: { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: 97] وقوله تعالى: { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } } [إبراهيم: 8]. والمقام الذي هذه صفته لا يقتضي أزيد من التعرض لأصل الغرض، وهو الإِخبار بالإِتيان بقوم مؤمنين لا يرتدون عن دين الله، وأما أنهم يحبون الله ويحبهم، وأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهي أُمور زائدة يحتاج التعرض لها إلى اقتضاء زائد من المقام والحال.
ومن جهة أُخرى نجد أن ما ذكر في الآية من الأوصاف أُمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الآيات السابقة من تولي اليهود والنصارى فإن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلق القلب بهم تعلق المحبة والمودة، وكيف يحتوي قلب هذا شأنه على محبة الله سبحانه وقد قال تعالى:
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } } [الأحزاب: 4]. ومن لوازم هذا التولي أن يتذلل المؤمن لهؤلاء الكفار، وأن يتعزز على المؤمنين ويترفع عنهم كما قال تعالى: { أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } } [النساء: 139]. ومن لوازم هذا التولي المساهلة في الجهاد عليهم والانقباض عن مقاتلتهم، والتحرج من الصبر على كل حرمان، والتحمل لكل لائمة في قطع الروابط الاجتماعية معهم كما قال تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } إلى أن قال: { { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } [الممتحنة: 1] وقال تعالى: { قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } } [الممتحنة: 4]. وكذلك الارتداد بمعناه اللغوي أو بالعناية التحليلية صادق على تولي الكفار كما قال تعالى في الآية السابقة (آية: 51): { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال أيضاً: { { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } [آل عمران: 28] وقال تعالى: { { إنكم إذاً مثلهم } } [النساء: 140]. فقد تبيّن بهذا البيان أن للآية اتصالاً بما قبلها من الآيات وأن الآية مسوقة لإِظهار أن دين الله في غنى عن أُولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة وتولي اليهود والنصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، واشتمالها على عدة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، وإيثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة والمكانة الحيوية الفانية على حقيقة العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين، والسعادة الواقعية الشاملة على حياة الدنيا والآخرة.
وإنما أظهرت الآية ذلك بالإِنباء عن ملحمة غيبية أن الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلون هؤلاء الضعفاء الإِيمان، واختيارهم محبة غير الله على محبته، وابتغاء العزة عند أعدائه ومساهلتهم في الجهاد في سبيله، والخوف من كل لومة وتوبيخ سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.
وكثير من المفسرين وإن تنبهوا على اشتمال الآية على الملحمة وأطالوا في البحث عمّن تنطبق عليه الآية مصداقاً غير أنهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الأوصاف حق معناها فآل الأمر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره وتجويز وقوع المسامحات والمساهلات العرفية فيه كما في غيره.
فالقرآن وإن لم يسلك في بلاغته مسلكاً بدعاً، ولم يتخذ نهجاً مخترعاً جديداً في استعمال الألفاظ وتركيب الجمل، ووضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام.
ولكنه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، وهو أنا معاشر المتكلمين من البليغ وغيره إنما نبني الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، والمدرك لنا من المعاني إنما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعية التي اختلقناها بفطرتنا الإِنسانية الاجتماعية، ومن شأنها الحكم بالقياس، وعند ذلك ينفتح باب المسامحة والمساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع، والغالب موضع الدائم، ونفرض كل أمر قياس أمراً مطلقاً، ونلحق كل نادر بالمعدوم، ونجري كل أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح، وكذا محبوب أو مبغوض، وكذا محمود أو مذموم، وكذا نافع أو ضار، وفلان خير أو شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، وإنما هو كذلك في بعض حالاته وعلى بعض التقادير، وعند بعض الناس، وبالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقاً، لكن القائل إنما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحاً في إدراكه وحكمه، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج، وأما ما يغفل عنه لمحدودية إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر، فما يخبر به الإِنسان ويحدثه عن الخارج وخيلت له الإِحاطة بالواقع إدراكاً وكشفاً فإنما هو مبني على التسامح في بعض الجهات، والجهل في بعض آخر، وهو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثم نطبق كلامه عليه، فافهم ذلك.
فهذا حال كلام الإِنسان المبني على ما يحصل عنده من العلم، وأما كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجله عن هذه النقيصة، وهو المحيط بكل شيء علماً وقد قال تعالى في صفة كلامه: { إنه لقول فصل وما هو بالهزل }.
وهذا من وجوه الأخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقاً لم يعقب بقيد متصل أو منفصل، ومن وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلية فإذا قال: { يحبهم } فليس يبغضهم في شيء وإلاَّ لاستثنى، وإذا وصف قوماً بأنهم أذلة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة إيمانهم بالله سبحانه، وأن يكونوا أذلاء في جميع أحوالهم وعلى جميع التقادير، وإلاَّ لم يكن القول فصلاً.
نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحح ذلك كما في قوله:
{ { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين } [الجاثية: 16]، وقوله: { { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78]، وقوله: { { كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [آل عمران: 110]، وقوله: { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } [البقرة: 143]، وقوله: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [الفرقان: 30] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعية يتصف بها الفرد والمجتمع وليس شيء من ذلك جارياً مجرى التسامح والتساهل بل هي أوصاف يتصف بها الجزء والكل، والفرد والمجتمع لعناية متعلقة بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض والجوهرة مقبوضة والأصل في ذلك الجوهرة، ولنرجع إلى ما كنا فيه:
أما قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } فالمراد بالارتداد والرجوع عن الدين بناء على ما مرّ هو موالاة اليهود والنصارى، وخص الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضاً متوجهاً إليهم، والمقام مقام بيان أن الدين الحق في غنىً عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، وقد عدّه الله سبحانه كفراً وشركاً حيث قال: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } لما أن الله سبحانه هو ولي دينه وناصره، ومن نصرته لدينه أنه سوف يأتي بقوم برآء من أعدائه يتولون أولياءه ولا يحبون إلاَّ إياه.
وأما قوله: { فسوف يأتي الله بقوم } نسب الإِتيان إلى نفسه ليقرر معنى نصره لدينه المفهوم من السياق المشعر بأن لهذا الدين ناصراً لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، وهو الله عز اسمه.
وكون الكلام مسوقاً لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لأعدائه من الانتصار القومي، وكذا التعبير بالقوم والإِتيان بالأوصاف والأفعال بصيغة الجمع كل ذلك مشعر بأن القوم الموعود إيتاؤهم إنما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى ولا مثنّى كأن يأتي الله سبحانه في كل زمان برجل يحب الله ويحبه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.
وإتيان هذه القوم في عين أنه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى وهو الآتي بهم لا بمعنى أنه خالقهم إذ لا خالق إلاَّ الله سبحانه قال:
{ الله خالق كل شيء } [الزمر: 62] بل بمعنى أنه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، والمكرم لهم بحبه لهم وحبهم له، والموفق لهم بالتذلل لأوليائه، والتعزز لأعدائه، والجهاد في سبيله، والإِعراض عن كل لائمة، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم ومن طريقهم، وقريب الزمان وبعيده عند الله واحد، وإن كانت أنظارنا لقصورها تفرّق في ذلك.
وأما قوله تعالى: { يحبهم ويحبونه } فالحب مطلق معلق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك، أما حبهم لله فلازمه إيثارهم ربهم على كل شيء سواه مما يتعلق به نفس الإِنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحداً من أعداء الله سبحانه، وإن والوا أحداً فإنما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.
وأما حبه تعالى لهم فلازمه براءتهم من كل ظلم، وطهارتهم من كل قذارة معنوية من الكفر والفسق بعصمة أو مغفرة إلهية عن توبة، وذلك أن جمل المظالم والمعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى:
{ { فإن الله لا يحب الكافرين } [آل عمران: 32] وقال: { { والله لا يحب الظالمين } [آل عمران: 140] وقال: { { إنه لا يحب المسرفين } [الأعراف: 31] وقال: { { والله لا يحب المفسدين } [المائدة: 64] وقال: { { إن الله لا يحب المعتدين } [البقرة: 190] وقال: { إنه لا يحب المستكبرين } [النحل: 23] وقال: { { إن الله لا يحب الخائنين } } [الأنفال: 58]إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات جماع الرذائل الإِنسانية، وإذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبة الله له اتصف بما يقابلها من الفضائل لأن الإِنسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة والرذيلة إذا تخلّق بخلق.
فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقاً غير مشوب إيمانهم بظلم وقد قال تعالى:
{ { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [الأنعام: 82] فهم مأمونون من الضلال وقد قال تعالى: { فإن الله لا يهدي من يضل } [النحل: 37] فهم في أمن إلهي من كل ضلالة، وعلى اهتداء إلهي إلى صراطه المستقيم، وهم بإيمانهم الذي صدّقهم الله فيه مهديون إلى اتباع الرسول والتسليم التام له كتسليمهم لله سبحانه قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } } [النساء: 31]. وعند ذلك يتم أنهم من مصاديق قوله تعالى: { { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31] وبه يظهر أن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة الله متلازمان فمن اتبع النبي أحبه الله ولا يحب الله عبداً إلاَّ إذا كان متبعاً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا اتبعوا الرسول اتصفوا بكل حسنة يحبها الله ويرضاها كالتقوى والعدل والإِحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر وغير ذلك قال تعالى:
{ فإن الله يحب المتقين } [آل عمران: 76] وقال: { إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195] وقال: { { والله يحب الصابرين } [آل عمران: 146] وقال: { { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } [الصف: 4] وقال: { { إن الله يحب المتوكلين } [آل عمران: 159] وقال: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } [البقرة: 222] إلى غير ذلك من الآيات.
وإذا تتبعت الآيات الشارحة الآثار هذه الأوصاف وفضائل تتعقبها عثرت على أُمور جمة من الخصال الحسنة، ووجدت أن جميعها تنتهي إلى أصحابها هم الوارثون الذين يرثون الأرض، وأن لهم عاقبة الدار كما يومي إليه الآية المبحوث عنها: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } وقد قال تعالى - وهي كلمة جامعة -:
{ والعاقبة للتقوى } [طه: 132] وسنشرع معنى كون العاقبة للتقوى فيما يناسبه من المورد ان شاء الله العزيز.
قوله تعالى: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } الأذلة والأعزة جمعا الذليل والعزيز، وهما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيماً لله الذي هو وليهم وهم أولياؤه، وعن ترفّعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العزة الكاذبة التي لا يعبأ بأمرها الدين كما أدّب بذلك نبيه في قوله:
{ { لا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين } [الحجر: 88]. ولعلَّ تعدية { أذلّة } بعلى لتضمينه معنى الحنان أو الحنو كما قيل.
قوله تعالى: { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } أما قوله: { يجاهدون في سبيل الله } فقد اختص بالذكر من بين مناقبهم الجمة لكون الحاجة تمس إليه في المقام لبيان أن الله ينتصر لدينه بهم، وأما قوله: { ولا يخافون لومة لائم } فالظاهر أنه حال متعلق بالجمل المتقدمة لا بالجملة الأخيرة فقط - وإن كانت هي المتيقنة في أمثال هذه التركيبات - وذلك لأن نصرة الدين بالجهاد في سبيل الله كما يزاحمها لومة اللائمين الذين يحذرونهم تضييع الأموال وإتلاف النفوس وتحمل الشدائد والمكاره كذلك التذلل للمؤمنين والتعزز على الكافرين وعندهم من زخارف الدنيا ومبتغيات الشهوة، وأمتعة الحياة ما ليس عند المؤمنين هما مما يمانعه لومة اللائم، وفي الآية ملحمة غيبية سنبحث عنها في كلام مختلط من القرآن والحديث إن شاء الله تعالى.
(بحث ورائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود } (الآية) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أُبي بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أُبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
وفيه وفي عبد الله بن أُبي نزلت الآيات في المائدة: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } إلى قوله: { فإن حزب الله هم الغالبون }.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.
فقال عبد الله بن أُبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي: يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه؟ قال: إذن أقبل فأنزل الله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } إلى أن بلغ إلى قوله: { والله يعصمك من الناس }.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: آمن عبد الله بن أُبي بن سلول قال: إن بيني وبين بني قريظة والنضير حلفاً، وإني أخاف الدوائر فارتد كافراً، وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله والمؤمنين.
فأنزل الله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } إلى قوله: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } يعني عبد الله بن أُبي وقوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون }.
أقول: ورويت القصة بغير هذه الطرق، وقد تقدم أن هذه الأسباب أسباب تطبيقية اجتهادية، وفيها إمارات تدل على ذلك، كيف والآيات تذكر النصارى مع اليهود، ولم يكن في قصة بني قينقاع وما جرى بين المسلمين وبين بني قريظة والنضير للنصارى إصبع، ولا للمسلمين معهم شأن؟ ومجرد ذكرهم تطفلاً واطراداً مما لا وجه له، وفي القرآن آيات متعرضة لحال اليهود في الوقائع التي جرت بينهم وبين المسلمين وما داخل فيه المنافقون من أعمالهم خص فيه اليهود بالذكر ولم يذكر فيه النصارى كما في سورة الحشر وغيرها، فما بال الاطراد والتطفل يجري حكمهما ها هُنا ولا يجري هناك.
على أن الرواية تذكر الآيات النازلة في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أُبي سبع عشرة آية (آية: 51 - 67) ولا اتصال بينها حتى تنزل دفعة (أولاً)، وفيها آية: { إنما وليكم الله ورسوله } وقد تواترت روايات الخاصة والعامة على أنها نزلت في علي عليه السلام (ثانياً)، وفيها آية: { يا أيُّها الرسول بلغ ما أُنزل إليك } ولا ارتباط لها مع القصة البتة (ثالثاً).
فليس إلاَّ أن الراوي أخذ قصة عبادة وعبد الله ثم وجد الآيات تناسبها بعض المناسبة فطبقها عليها ثم لم يحسن التطبيق فوضع سبع عشرة آية مكان ثلاث آيات بمناسبة تعرضها لحال أهل الكتاب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم وقريشاً ليدخلوهم حصونهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح. وكان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام، وبلغني أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون العوز والفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة والنضير فيدسون إليهم الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون عندهم القرض والنفع فنهوا عن ذلك.
أقول: والرواية لا بأس بها وهي تفسر الولاية في الآيات بولاية المحبة والمودة وقد تقدم تأييد ذلك، وهي إن كانت سبباً للنزول حقيقياً فالآيات مطلقة تجري في غير القصة كما نزلت وجرت فيها، وإن كانت من الجري والتطبيق فالأمر أوضح.
وفي المجمع في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم } (الآية) قال: وقيل: هم أمير المؤمنين علي عليه السلام وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين، وروي ذلك عن عمار وحذيفة وابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: قال في المجمع بعد ذكر الرواية: ويؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية فقال فيه وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية إليه مرة بعد أُخرى وهو يجبن الناس ويجبنونه -: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده" ثم أعطاها إياه.
فأما الوصف باللين على أهل الإِيمان، والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف فيه لومة لائم فمما لا يمكن أحداً دفع علي عليه السلام عن استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك والكفر ونكايته فيهم، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، والرأفة بالمؤمنين.
ويؤيد ذلك أيضاً إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بقتال علي عليه السلام لهم من بعده حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمد إن أرقائنا لحقوا بك فارددهم إلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لتنتهن يا معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلاً يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله" ، فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول الله؟ أبو بكر؟ قال: لا. ولكنه خاصف النعل في الحجرة، وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم، وتلا هذه الآية.
وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإِسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يرد إليَّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيحلأون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على ادبارهم القهقرى" ، انتهى.
وهذا الذي ذكره إنما يتم فيه عليه السلام ولا ريب في أنه أفضل مصداق لما سرد في الآية من الأوصاف لكن الشأن في انطباق الآية على عامة من معه من أهل الجمل وصفين وقد غيّر كثير منهم بعد ذلك، وقد وقع قوله تعالى: { يحبهم ويحبونه } (الخ) في الآية بغير استثناء، وقد عرفت معناه.
وفيه أيضاً: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا وذووه، ثم قال:
"لو كان الدين معلقاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس"
]. أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه إلاَّ أن يراد أنهم سوف يبعثون من قومه.
وفيه: وقيل: هم أهل اليمن هم ألين قلوباً، وأرق أفئدة، الإِيمان يماني، والحكمة يمانية، وقال عياض بن غنم الأشعري: لمّا نزلت هذه الآية أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال: هم قوم هذا.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور بعدة طرق، والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي تفسير الطبري بإسناده عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإِسلام إلاَّ ثلاثة مساجد أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين قالوا: نصلي ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل لهم: إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال: لا والله لا أُفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبي بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرّق بالنيران أُناساً ارتدوا عن الإِسلام ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - وهي الزكاة - صغرة أقمياء، الحديث.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي وابن عساكر عن قتادة، ورواه أيضاً عن الضحاك والحسن.
ولفظ الحديث أوضح شاهد على أنه من قبيل التطبيق النظري، وحينئذٍ يتوجه إليه ما توجه إلى ما تقدمه من الروايات فإن هذه الوقائع والغزوات تشتمل على حوادث وأُمور وقد قاتل فيها رجال كخالد ومغيرة بن شعبة وبسر بن الأرطاة وسمرة بن جندب يذكر التاريخ عنهم فيها وبعد ذلك مظالم وآثاماً لا تدع الآية: { يحبهم ويحبونه، الخ } أن تصدق فيهم وتنطبق عليهم، فعليك بالرجوع إلى التاريخ ثم التأمل فيما قدمناه من معنى الآية.
وقد بلغ من إفراط بعض المفسرين أن استغرب قول بعضهم: "أن الآية أوضح انطباقاً على الأشعريين من أهل اليمن منها على هؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة" قائلاً: إن الآية عامة تشمل كل من نصر الدين ممن اتصف بمضمونها من خيار المسلمين من مؤمني عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جاء بعد ذلك من المؤمنين، وتنطبق على جميع ما تقدم من الأخبار كالخبر الدال على أنهم سلمان وقومه - على ضعفه - والخبر الدال على أنه أبو موسى الأشعري وقومه، والخبر الدال على أنه أبو بكر وأصحابه إلاَّ ما دلَّ على أنه علي - عليه السلام فإن لفظ الآية لا ينطبق عليه لأن لفظ القوم - المأخوذ في الآية - لا يجري على الواحد لأنه نص في الجماعة.
هذا محصل كلامه، وليس إلاَّ أنه عامل كلامه تعالى فيما ذكره من الثناء على القوم ومدحهم معاملة الشعر الذي يبني المدح على التخيل، فما قدر عليه خيال الشاعر حمله على ممدوحه من غير أن يعتني بأمر الصدق والكذب، وقد قال تعالى:
{ ومن أصدق من الله قيلاً } [النساء: 122] أو على المتعارف من الكلام الدائر بيننا الذي لا يعتمد في إلقائه إلاَّ على الأفهام البانية على التسامح والتساهل في التلقي والإِلقاء، والاعتذار بالمسامحة في كل ما أُشكل عليها في شيء وقد قال تعالى: { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [الطارق: 13ـ14] وقد عرفت فيما تقدم أن الآية لو أُعطيت حق معناها فيما تتضمنه من الصفات تبين أن مصداقها لم يتحقق بعد إلى هذا الحين فراجع وتأمل ثم اقض ما أنت قاض.
ومن العجيب ما ذكره في آخر كلامه فإن من ذكر نزول الآية في علي عليه السلام إنما ذكر عليّاً وأصحابه كما ذكرآخرون: سلمان وذويه، وآخرون: أبا موسى وقومه، وآخرون: أبا بكر وأصحابه، وكذا ما ورد من الروايات - وقد تقدم بعضها - إنما ورد في علي وأصحابه، ولم يذكر نزول الآية في علي عليه السلام وحده حتى يرد بأن لفظ الآية نص في الجماعة لا ينطبق على المفرد.
نعم ورد في تفسير الثعلبي أنها نزلت في علي وأيضاً في نهج البيان للشيباني عن الباقر والصادق عليهما السلام أنها نزلت في علي عليه السلام، والمراد به بقرينة الروايات الأُخر نزوله فيه وفي أصحابه من جهة قيامهم بنصرة الدين في غزوة الجمل وصفين والخوارج.
مع أنه سيأتي أن الروايات من طرق الجمهور متكاثرة في نزول آية: { إنما وليكم الله ورسوله } في علي عليه السلام ولفظ الآية جمع.
على أن في الرواية - رواية قتادة والضحاك والحسن - إشكالاً آخر وهو أن قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } (الخ) ظاهر ظهوراً لا مرية فيه في معنى التبديل والاستغناء سواء كان الخطاب للموجودين في يوم النزول أو لمجموع الموجودين والمعدومين، والمقصود خطاب الجماعة من المؤمنين بأنهم كلهم أو بعضهم إن ارتدوا عن دينهم فسوف يبدلهم الله من قوم يحبهم ويحبونه - وهو لا يحب المرتدين ولا يحبونه - ولهم كذا وكذا من الصفات ينصرون دينه.
وهذا صريح في أن القوم المأتي بهم جماعة من المؤمنين غير الجماعة الموجودين في أوان النزول، والمقاتلون أهل الردة بعيد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موجودين حين النزول مخاطبين بقوله: { يا أيُّها الذين آمنوا } (الخ) فهم غير مقصودين بقوله: { فسوف يأتي الله بقوم } (الخ).
والآية جارية مجرى قوله تعالى:
{ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } } [محمد: 38]. وفي تفسير النعماني بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن صاحب هذا الأمر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعاً أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال الله عز وجل: { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } وهم الذين قال الله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }.
أقول: وروى هذا المعنى العياشي والقمي في تفسيريهما.
(كلام وبحث مختلط من القرآن والحديث)
مما تقدم في الأبحاث السابقة مراراً التلويح إلى أن الخطابات القرآنية التي يهتم القرآن بأمرها، ويبالغ في تأكيدها وتشديد القول فيها لا يخلو لحن القول فيها من دلالة على أن العوامل والأسباب الموجودة متعاضدة على أن تسوقهم إلى مهابط السقوط ودركات الردى، والابتلاء بسخط الله كما في آيات الربا وآية مودة القربى وغيرهما.
ومن طبع الخطاب ذلك فإن المتكلم الحكيم إذا أمر بأمر حقير يسير ثم بالغ في تأكيده والإِلحاح عليه بما ليس شأنه ذلك، أو خاطب أحداً بخطاب ليس من شأن ذلك المخاطب أن يوجه إلى مثله ذلك الخطاب كنهي عالم رباني ذي قدم صدق في الزهد والعبادة عن ارتكاب أفضح الفجور على رؤوس الأشهاد دلَّ ذلك على أن المورد لا يخلو عن شيء وأن هناك خطباً جليلاً ومهلكة خطيرة مشرفة.
والخطابات القرآنية التي هذا شأنها تعقبت حوادث صدقتها في ما كانت تلوح إليه بل تدل عليه، وإن كان السامعون { لعلهم } ما كانوا يتنبهون في أول ما سمعوها يوم النزول على ما تتضمنه من الإِشارات والدلالات.
فقد أمر القرآن بمودة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالغ فيها حتى عدها أجر الرسالة والسبيل إلى الله سبحانه ثم وقع أن استباحت الأمة في أهل بيته من فجائع المظالم ما لو أُمروا به لم يكونوا ليزيدوا على ما أتوا به فيهم.
ونهى القرآن عن الاختلاف وبالغ فيه بما لا مزيد عليه ثم وقع أن تفرقت الأمة تفرقاً وانشعبت انشعابات زادت على ما عند اليهود والنصارى، وكانت اليهود إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة فأتى المسلمون بثلاث وسبعين فرقة هذا في مذاهبهم في معارف الدين العلمية، وأما مذاهبهم في السنن الاجتماعية وتأسيس الحكومات وغيرها فلا تقف على حد حاصر.
ونهى القرآن عن الحكم بغير ما أنزل الله، ونهى عن إلقاء الاختلاف بين الطبقات ونهى عن الطغيان واتباع الهوى إلى غير ذلك وشدد فيها ثم وقع ما وقع.
والأمر في النهي عن ولاية الكفار وأهل الكتاب نظير غيره من النواهي المؤكدة الواردة في القرآن الكريم بل ليس من البعيد أن يدعى أن التشديد الواقع في النهي عن ولاية الكفار وأهل الكتاب لا يعدله أي تشديد واقع في سائر النواهي الفرعية.
فقد بلغ الأمر فيه إلى أن عد الله سبحانه الموالين لأهل الكتاب والكفار منهم: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ونفاهم من نفسه إذ قال:
{ { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } [آل عمران: 28] وحذَّرهم منتهى التحذير فقال مرة بعد أُخرى: { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران: 28] وقد مرَّ في الكلام على الآية أن مدلولها وقوع المحذور لا محالة قضاء حتماً لا مبدل له ولا محول.
وإن شئت مزيد وضوح لذلك فتدبر في قوله تعالى: { وإن كلاً لما ليوفينهم ربك أعمالهم } - وقد ذكر قبل الآية قصص أُمم نوح وهود وصالح وغيرهم ثم اختلاف اليهود في كتابهم { إنه بما يعملون خبير فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا } والخطاب كما ترى خطاب اجتماعي -
{ { إنه بما تعملون بصير } [هود: 112] ثم تدبر في قوله تعالى بعده: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } } [هود: 113]. وقد بيّن الله سبحانه معنى مسيس هذه النار في الدنيا قبل الآخرة - والآية مطلقة - وهو الذي توعد به في قوله: { ويحذركم الله نفسه } بقوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } [المائدة: 3] فبيّن فيه أن الذي كان يخشاه المؤمنون على دينهم من الذين كفروا وهم المشركون وأهل الكتاب - كما تبيّن سابقاً - إلى يوم نزول الآية فهم اليوم في أمن منه فلا ينبغي لهم أن يخشوهم فيه بل يجب عليهم أن يخشوا فيه ربهم، والذي كانوا يخشونهم فيه على دينهم هو أن الكفار لم يكن لهم هم فيهم إلاَّ إطفاء نور الدين، وسلب هذه السلعة النفيسة من أيديهم بأي وسيلة قدروا عليها.
فهذا هو الذي كانوا يخشونه قبل اليوم، وبنزول سورة المائدة أمنوا ذلك واطمأنت أنفسهم غير أنه يجب عليهم أن يخشوا في ذلك ربهم أن لا يذهب بنورهم ولا يسلبهم دينه.
ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يفاجئ قوماً بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه قال تعالى:
{ { ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الأنفال: 53] فبيّن أن تغييره النعمة لا يكون إلاَّ عن استحقاق، وأنه يتبع تغيير الناس ما بأنفسهم، وقد سمى الدين أو الولاية الدينية كما تقدم نعمة حيث قال بعده: { { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً } } [المائدة: 3]. فتغيير هذه النعمة من قبلهم، والتخطي عن ولاية الله بقطع الرابطة منه، والركون إلى الظالمين، وولاية الكفار وأهل الكتاب هو المتوقع منهم، والواجب عليهم أن يخشوه على أنفسهم فيخشوا الله في سخط لا رادّ له، وقد أوعدهم فيه بقوله: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } } [المائدة: 51] فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم فهي التي تتعلق بها الهداية، وسعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين والسيرة العامة الإِسلامية في مجتمعهم.
وإذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطت شعائره العامة، وحلَّت محلها سيرة الكفار ولم يزل تستحكم أركانها وتستثبت قواعدها، وهذا هو الذي عليه مجتمع المسلمين اليوم.
ولو تدبرت في السيرة الإِسلامية العامة التي ينظمها الكتاب والسنة ويقررانها بين المسلمين ثم في هذه السيرة الفاسدة التي حملت اليوم على المسلمين ثم تدبرت في ما يشير إليه بقوله:
{ فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم } [المائدة: 54] وجدت أن جميع الرذائل التي تحيط بمجتمعنا معاشر المسلمين وتحكم فينا اليوم - مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت ونسلت فينا - إنما هي أضداد ما ذكره الله في وصف من وعد بالإِتيان به في الآية أعني أن جميع رذائلنا الفعلية تتلخص في أن المجتمع اليوم لا يحبون الله ولا يحبهم الله، أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين، لا يجاهدون في سبيل الله، يخافون كل لومة.
وهذا هو الذي تفرسه القرآن في وجه القوم، وإن شئت فقل: هو النبأ الغيبي الذي نبأ به العليم الخبير أن المجتمع الإِسلامي سيرتد عن دينه، وليست ردة مصطلحة وإنما هي ردة تنزيلية يبينها قوله تعالى:
{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51] وقوله: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } } [المائدة: 81]. وقد وعدهم الله النصر إن نصروه، وتضعيف أعدائهم إن لم يقووهم ويؤيدوهم فقال: { إن تنصروا الله ينصركم } [محمد: 7] وقال: { { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إلاَّ بحبل من الله وحبل من الناس } [آل عمران: 110ـ111] وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: { إلاَّ بحبل من الله وحبل من الناس } أن لهم أن يخرجوا من الذلة والمسكنة بموالاة الناس لهم وتسليط الله تعالى إيّاهم على الناس.
ثم وعد الله سبحانه المجتمع الإِسلامي - وشأنهم هذا الشأن - بالإِتيان بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، والأوصاف المعدودة لهم - كما عرفت - جماع الأوصاف التي يفقدها المجتمع الإِسلامي اليوم، ويستفاد بالإِمعان في التدبر فيها تفاصيل الرذائل التي تنبئ الآية أن المجتمع الإِسلامي سيبتلى بها.
وقد اشتملت على تعدادها عدة من أخبار ملاحم آخر الزمان المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام، وهي على كثرتها ومن حيث المجموع وإن كانت لا تسلم من آفة الدس والتحريف إلاَّ أن بينها أخباراً يصدقها جريان الحوادث وتوالي الوقائع الخارجية، وهي أخبار مأخوذة من كتب القدماء المؤلفة قبل ما يزيد على ألف سنة من هذا التاريخ أو قريباً منه، وقد صحَّت نسبتها إلى مؤلفيها وتظافر النقل عنها.
على أنها تنطق عن حوادث ووقائع لم تحدث ولم تقع في تلك الآونة ولا كانت مترقبة تتوقعها النفوس التي كانت تعيش في تلك الأزمنة فلا يسعنا إلاَّ الاعتراف بصحتها وصدورها عن منبع الوحي.
كما رواه القمي في تفسيره عن أبيه، عن سليمان بن مسلم الخشاب، عن عبد الله بن جريح المكي، عن عطاء بن أبي رياح،
"عن عبد الله بن عباس قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع فأخذ باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أُخبركم بأشراط الساعة؟ وكان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان رضي الله عنه فقال: بلى يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:إن من أشراط القيامة إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن وجوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أُمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأُمناء خونة].
فقال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يكون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وائتمن الخائن، ويخون الأمين، ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، فعندها إمارة النساء، ومشاورة الإماء، وقعود الصبيان على المنابر، ويكون الكذب طرفاً والزكاة مغرماً، والفيء مغنماً، ويجفو الرجل والديه، ويبر صديقه، ويطلع الكوكب المذنب].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قيظاً، ويغيظ الكرام غيظاً، ويحتقر الرجل المعسر، فعندها يقارب الأسواق إذا قال هذا: لم أبع شيئاً، وقال هذا: لم أربح شيئاً فلا ترى إلاَّ ذاماً لله].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم وليطؤن حرمتهم، وليسفكن دماءهم وليملؤن قلوبهم رعباً فلا تراهم إلاَّ وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان ان عندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب يلون أُمتي، فالويل لضعفاء أُمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً، ولا يوقرون كبيراً، ولا يتجاوزون عن مسيء أخبارهم خناء، جثتهم جثة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويركبن ذوات الفروج السروج فعليهن من أُمتي لعنة الله].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان ان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس، وتحلى المصاحف وتطول المنارات، وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذي نفسي بيده وعندها تحلى ذكور أُمتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفاقاً].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالغيبة والرشى، ويوضع الدين ويرفع الدنيا].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد، ولن يضر الله شيئاً].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم أشرار أُمتي].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان وعندها يحج أغنياء أُمتي للنزهة، ويحج أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤهم للرئاء والسمعة فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان ذاك إذا انتهك المحارم، واكتسبت المآثم وسلط الأشرار على الأخيار، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشو الفاقة ويتباهون في اللباس، ويمطرون في غير أوان المطر، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من في الأمة، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاؤم، فأُولئك يدعون في ملكوت السماوات: الأرجاس والأنجاس].
قال سلمان: وإن هذه لكائن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان فعندها لا يخشى الغني إلاَّ الفقر حتى أن السائل ليسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في يده شيئاً].
قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة ، فقال: وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم فلم يلبثوا إلاَّ قليلاً حتى تخور الأرض خورة فلا يظن كل قوم إلاَّ أنها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في مكثهم فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها، قال: ذهب وفضة ثم أومأ بيده إلى الأساطين فقال: مثل هذا فيومئذٍ لا ينفع ذهب ولا فضة فهذا معنى قوله: { فقد جاء أشراطها }"
]. وفي روضة الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير جميعاً عن محمد بن أبي حمزة، عن حمران قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال -: إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه، وهو على فرس وبين يديه خيل، ومن خلفه خيل، وأنا على حمار إلى جانبه فقال لي: يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة، وفتح لنا من العز، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم.
قال: فقلت: ومن رفع هذا إليك عني فقد كذب فقال لي: أتحلف على ما تقول؟ قال: فقلت: إن الناس سحرة يعني يحبون أن يفسدوا قلبك عليَّ فلا تمكّنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا، فقال لي: تذكر يوم سألتك: هل لنا ملك؟ فقلت: نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم، وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منا دماً حراماً في شهر حرام في بلد حرام؟ فعرفت أنه قد حفظ الحديث فقلت: لعلَّ الله عز وجل أن يكفيك فإني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته، ثم لعلَّ غيرك من أهل بيتك أن يتولى ذلك، فسكت عني.
فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال، جعلت فداك والله لقد رأيتك في موكب أبي جعفر، وأنت على حمار وهو على فرس، وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته فقلت بيني وبين نفسي: هذا حجة الله على الخلق، وصاحب هذا الأمر الذي يقتدى به، وهذا الآخر يعمل بالجور، ويقتل أولاد الأنبياء ويسفك الدماء في الأرض بما لا يحب الله، وهو في موكبه وأنت على حمار! فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني ونفسي.
قال عليه السلام: فقلت: لو رأيت من كان حولي وبين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه فقال: الآن سكن قلبي.
ثم قال: إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم؟ فقلت: أليس تعلم أن لكل شيء مدة؟ قال: بلى، فقلت: هل ينفعك علمك أن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين؟ إنك لو تعلم حالهم عند الله عز وجل، وكيف هي كنت لهم أشد بغضاً ولو جهدت وجهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الإِثم لم يقدروا، فلا يستفزنك الشيطان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، ألا تعلم أن من انتظر أمرنا، وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غداً في زمرتنا؟ فإذا رأيت الحق قد مات وذهب أهله، ورأيت الجور قد شمل البلاد، ورأيت القرآن قد خلق وأحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الأهواء، ورأيت الدين قد انكفأ كما ينكفئ الإِناء ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق، ورأيت الشر ظاهراً لا ينهى عنه ويعذر أصحابه، ورأيت الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ورأيت المؤمن صامتاً لا يقبل قوله، ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير، ورأيت الأرحام قد تقطعت، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله، ورأيت الغلام يعطى ما تعطى المرأة ورأيت النساء يتزوجن بالنساء، ورأيت الثناء قد كثر، ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه، ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد، ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع، ورأيت الكافر فرحاً لما يرى في المؤمن، مرحاً لما يرى في الأرض من الفساد، ورأيت الخمور تشرب علانية ويجتمع عليها من لا يخاف الله عز وجل، ورأيت الأمر بالمعروف ذليلاً، ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قوياً محموداً، ورأيت أصحاب الآيات يحقرون ويحقر من يحبهم، ورأيت سبيل الخير منقطعاً وسبيل الشر مسلوكاً، ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله، ورأيت الرجال يتمنون للرجال والنساء للنساء، ورأيت الرجل معيشته من دبره ومعيشة المرأة من فرجها، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال، ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر وأظهروا الخضاب وامتشطوا كما تمشط المرأة لزوجها، وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم، وتنوفس في الرجل، وتغاير عليه الرجال، وكان صاحب المال أعز من المؤمن، وكان الربا ظاهراً لا يعير، وكان الزنا تمتدح به النساء، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن، ورأيت المؤمن محزوناً محتقراً ذليلاً ورأيت البدع والزنا قد ظهر، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور، ورأيت الحرام يحلل، والحلال يحرم، ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب واحكامه، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلاَّ بقلبه ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عز وجل، ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم، ورأيت الولاة قبالة لمن زاد، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله، ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها وتعمل ما لا يشتهي وتنفق على زوجها، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدنيء من الطعام والشراب، ورأيت الإِيمان بالله عز وجل كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر، ورأيت الشراب يباع ظاهراً ليس له مانع، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنعها أحد أحداً ولا يجترئ أحد على منعها، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه، ورأيت أقرب الناس من الولاة، من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل، ورأيت الجار يكرم الجار خوفاً من لسانه، ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالأهواء، ورأيت المساجد قد زخرفت، ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب، ورأيت الشر قد ظهر والسعي بالنميمة، ورأيت البغي قد فشا، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضاً، ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن، ورأيت الخراب قد اديل من العمران، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان، ورأيت سفك الدماء يستخف بها، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لغرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتستند إليه الأمور، ورأيت الصلاة قد استخف بها، ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكه منذ ملكه، ورأيت الميت ينشر من قبره ويؤذى وتباع أكفانه، ورأيت الهرج قد كثر، ورأيت الرجل يمسي نشوان ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه، ورأيت البهائم تنكح، ورأيت البهائم تفرس بعضها بعضاً، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شيء من ثيابه، ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه، ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين يطلب الدنيا والرئاسة، ورأيت الناس مع من غلب، ورأيت طالب الحلال يذم ويعير وطالب الحرام يمدح ويعظم، ورأيت الحرمين يعمل فيها بما لا يحب الله لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح أحد، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين، ورأيت الرجل يتكلم بشيء من الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع، ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشر، ورأيت مسلك الخير وطريقه خالياً لا يسلكه أحد، ورأيت الميت يهز به فلا يفزع له أحد، ورأيت كل عام يحدث فيه من البدعة والشر أكثر مما كان، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلاَّ الأغنياء، ورأيت المحتاج يعطى على الضحك به ويرحم لغير وجه الله، ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد ورأيت الناس يتسافدون كما تسافد البهائم لا ينكر أحد منكراً تخوفاً من الناس، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله ويمنع اليسير في طاعة الله، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين وكانا من أسوأ الناس حالاً عند الولد ويفرح بأن يفترى عليهما، ورأيت النساء وقد غلبن على الملك وغلبن على كل أمر لا يؤتى إلاَّ ما لهن فيه هوى، ورأيت ابن الرجل يفتري على أبيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما، ورأيت الرجل إذا مرَّ به يوم ولم يكسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر كئيباً حزيناً يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعه من عمره، ورأيت السلطان يحتكر الطعام، ورأيت أموال ذوي القربى تقسم في الزور ويتقامر بها وتشرب بها الخمور، ورأيت الخمر يتداوى بها ويوصف للمريض ويستشفى بها، ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك التدين به، ورأيت رياح المنافقين وأهل النفاق قائمة ورياح أهل الحق لا تحرك، ورأيت الاذان بالأجر والصلاة بالأجر، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله مجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق ويتواصفون فيها شراب المسكر، ورأيت السكران يصلي بالناس وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر اكرم واتقي وخيف وترك لا يعاقب ويعذر بسكره، ورأيت من أكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع، ورأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسوق والجرأة على الله يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون، ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر، ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها؛ ورأيت الصدقة بالشفاعة ولا يراد بها وجه الله ويعطى لطلب الناس، ورأيت الناس همهم بطونهم وفروجهم لا يبالون بما أكلوا وما نكحوا، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم، ورأيت أعلام الحق قد درست فكن على حذر واطلب إلى الله عز وجل النجاة، واعلم أن الناس في سخط الله عز وجل وإنما يمهلهم لأمر يراد بهم فكن مترقباً واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه فإن نزل بهم العذاب وكنت فيهم عجلت إلى رحمة الله، وإن أُخرت ابتلوا وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على الله عز وجل واعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.
أقول: وهناك أخبار مأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة والسلام كثيرة في هذه المعاني، وما نقلناه من الحديثين من أجمعها معنى، والأحاديث (أخبار آخر الزمان) كالتفصيل لما يدل عليه الآية الكريمة أعني قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم } (الآية) والله أعلم.
تم والحمد لله