التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
٥٥
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٥٦
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(بيان)
الآيتان - كما ترى - موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب والكفار، ولذلك رام جماعة من مفسّري القوم إشتراكهما مع ما قبلهما وما بعدهما من حيث السياق، وجعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الأشخاص ولاية النصرة، والنهي عن ولاية اليهود والنصارى والكفَّار، وقصر الولاية في الله سبحانه ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً فيخرج بذلك المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ويبقى على وجوب الولاية المؤمنون حقاً، وتكون الآية دالَّة على مثل ما يدل عليه مجموع قوله تعالى:
{ { والله وليّ المؤمنين } [آل عمران: 68]، وقوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6]، وقوله تعالى في المؤمنين: { { أُولئك بعضهم أولياء بعض } [الأنفال: 72]، وقوله تعالى: { { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [التوبة: 71]. فمحصّل الآية جعل ولاية النصرة لله ولرسوله والمؤمنين على المؤمنين.
نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحالية التي يتعقَّبها قوله: { ويؤتون الزكاة } وهي قوله: { وهم راكعون } ويرتفع الإِشكال بحمل الركوع على معناه المجازي وهو مطلق الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر ونحوه، ويعود معنى الآية إلى أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة، أو أنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون هذا.
لكن التدبّر واستيفاء النظر في الآيتين وما يحفّهما من آيات ثم في أمر السورة يعطي خلاف ما ذكروه، وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، وان غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة، وتمييز الحق منها من غير الحق فإن السورة وإن كان من المسلّم نزولها في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع لكن من المسلّم أيضاً أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، ومضامينها تشهد بذلك، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده فليس مجرّد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معاً دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.
على أن الآيات السابقة أعني قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } "الخ"، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود والنصارى، وتعيّر المنافقين والذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم ورعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود والنصارى وإسماعهم الحديث بوجه بخلاف الآيات التالية أعني قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } "الخ"، فإنها تنهى عن ولايتهم وتتعرض لحالهم بالأمر بمخاطبتهم ثم يعيّرهم بالنفاق والفسق فالغرض في القبيلين من الآيات السابقة واللاحقة مختلف، ومعه كيف يتحد السياق؟!
على أنك قد عرفت في البحث عن الآيات السابقة أعني قوله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } (الآيات) أن ولاية النصرة لا تلائم سياقها، وأن خصوصيات الآيات والعقود المأخوذة فيها وخاصة قوله: { بعضهم أولياء بعض } وقوله: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } لا تناسبها فإن عقد ولاية النصرة واشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الآخر ولحوقه به، ولا أنه يصح تعليل النهي عن هذا العقد بأن القوم الفلاني بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودة التي توجب الامتزاج النفسي والروحي بين الطرفين، وتبيح لأحدهما التصرف الروحي والجسمي في شؤون الآخر الحيوية وتقارب الجماعتين في الأخلاق والأعمال الذي يذهب بالخصائص القومية.
على أنه ليس من الجائز أن يعدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليّاً للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإن هذه النصرة التي يعتني بأمرها الله سبحانه، ويذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين وحينئذٍ يصح أن يقال: إن الدين لله بمعنى أنه جاعله وشارع شرائعه فيندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنون أو هما جميعاً إلى نصرته أو يدعوا أنصاراً لله في ما شرّعه من الدين كقوله تعالى:
{ { قال الحواريون نحن أنصار الله } [الصف: 14]، وقوله تعالى: { { إن تنصروا الله ينصركم } [محمد: 7]، وقوله تعالى: { { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } [آل عمران: 81] إلى أن قال: { لتؤمنن به ولتنصرنه } [آل عمران: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ويصح أن يقال: إن الدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أنه الداعي إليه والمبلِّغ له مثلاً، أو إن الدين لله ولرسوله بمعنى التشريع والهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى:
{ { وعزروه ونصروه } [الأعراف: 157]، وقوله تعالى: { { وينصرون الله ورسوله } [الحشر: 8]، وقوله تعالى: { والذين آووا ونصروا } [الأنفال: 72]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويصح أن يقال: إن الدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين جميعاً، بمعنى أنهم المكلفون بشرائعه العاملون به فيذكر أن الله سبحانه وليهم وناصرهم كقوله تعالى:
{ { ولينصرن الله من ينصره } [الحج: 40]، وقوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } غافر: 51]، وقوله تعالى: { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } [الروم: 47]، إلى غير ذلك من الآيات.
لكن لا يصح أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصة، ويجعلوا أصلاً فيه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعزل عن ذلك، ثم يعدّ صلى الله عليه وآله وسلم ناصراً لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينية إلاَّ هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، ومساهمهم أفضل سهام؛ ولذلك لا نجد القرآن يعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة، وحاشا ساحة الكلام الإِلهي أن يساهل في رعاية أدبه البارع.
وهذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية في القرآن هو ولاية التصرف أو الحب والمودة كقوله تعالى:
{ { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6]، وقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (الآية)، فإن الخطاب للمؤمنين، ولا معنى لعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولياً لهم ولاية النصرة كما عرفت.
فقد ظهر أن الآيتين أعني قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } إلى آخر الآيتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، ولا يغرنك قوله تعالى في آخر الآية الثانية: { فإن حزب الله هم الغالبون }، فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة، والغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله ورسوله بأي وسيلة تمّت وحصلت، وقد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال:
{ { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21]، وقال: { { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } } [الصافات: 171ـ 173]. على أن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة وأهل السنة على أن الآيتين نازلتان في أمير المؤمنين علي عليه السلام لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، فالآيتان خاصتان غير عامتين، وسيجيء نقل جل ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
ولو صح الإِعراض في تفسير آية بالأسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها وتراكمها لم يصح الركون إلى شيء من أسباب النزول المأثورة في شيء من آيات القرآن وهو ظاهر، فلا وجل لحمل الآيتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامة.
نعم استشكلوا في الروايات - ولم يكن ينبغي أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة:
أولاً: بأنها تنافي سياق الآيات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدمت الإِشارة إليه.
وثانياً: أن لازمها إطلاق الجمع وإرادة الواحد فإن المراد بالذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة "الخ"، على هذا التقدير هو علي ولا يساعده اللغة.
وثالثاً: أن لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدق بالخاتم، ولا يسمى ذلك زكاة.
قالوا: فالمتعين أن تؤخذ الآية عامة، وتكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الإِفراد فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب ويؤكدونها، فنهى الله عن ذلك وذكر أن أولياءهم إنما هم الله ورسوله والمؤمنون حقاً دون أهل الكتاب والمنافقين. ولا يبقى إلاَّ مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله: { وهم راكعون } ويندفع بحمل الركوع على معناه المجازي، وهو الخضوع لله أو الفقر ورثاثة الحال، هذا ما استشكلوه.
لكن التدبر في الآية وما يناظرها من الآيات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعاً:
أما وقوع الآية في سياق ولاية النصرة، ولزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أن الآيات غير مسوقة لهذا الغرض أصلاً، ولو فرض سرد الآيات السابقة على هذه الآية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الآية في هذا الغرض.
وأما حديث لزوم إطلاق الجمع وإرادة الواحد في قوله: { والذين آمنوا } "الخ"، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، وأنه فرَّق بين إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد واستعماله فيه، وبين إعطاء حكم كلي أو الإِخبار بمعرف جمعي في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه، ثم لا يكون المصداق الذي يصح أن ينطبق عليه إلاَّ واحداً فرداً واللغة تأبى عن قبول الأول دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات.
وليت شعري ماذا يقولون في مثل قوله تعالى:
{ { يا أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [الممتحنة: 1] إلى أن قال: - { { تسرون إليهم بالمودة } } [الممتحنة: 1]، (الآية) وقد صحَّ أن المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشاً؟ وقوله تعالى: { { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8]، وقد صحَّ أن القائل به عبد الله بن أُبي بن سلول؟ وقوله تعالى: { { يسألونك ماذا ينفقون } [البقرة: 215] والسائل عنه واحد؟، وقوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } [البقرة: 274] وقد ورد أن المنفق كان عليّاً أو أبا بكر؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
وأعجب من الجميع قوله تعالى: { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } والقائل هو عبد الله بن أُبي، على ما رووا في سبب نزوله وتلقوه بالقبول، والآية واقعة بين الآيات المبحوث عنها نفسها.
فإن قيل: إن هذه الموارد لا تخلو عن اناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبّر الله تعالى عنهم وعمّن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إن محصله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوزة فليجر الآية أعني قوله: { والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } هذا المجرى، ولتكن النكتة هي الإِشارة إلى أن أنواع الكرامات الدينية - ومنها الولاية المذكورة في الآية - ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفاً جزافياً، وإنما يتبع التقدم في الإِخلاص والعمل لا غير.
على أن جل الناقلين لهذه الأخبار هم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعون المتصلون بهم زماناً وهم من زمرة العرب العرباء الذين لم تفسد لغتهم ولم تختلط ألسنتهم، ولو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة ولا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، ولكانوا أحق باستشكاله والاعتراض عليه، ولم يؤثر من أحد منهم ذلك.
وأما قولهم: إن الصدقة بالخاتم لا تسمى زكاة، فيدفعه أن تعين لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنما تحقق في عرف المتشرعة بعد نزول القرآن بوجوبها وتشريعها في الدين، وأما الذي تعطيه اللغة فهو أعم من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة ويساوق عند الإِطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر مما وقع فيما حكاه الله عن الأنبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم وإسحاق ويعقوب:
{ { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } [الأنبياء: 73]، وقوله تعالى في إسماعيل: { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً } [مريم: 55]، وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام في المهد: { { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } [مريم: 31] ومن المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة المالية بالمعنى الذي اصطلح عليه في الإِسلام.
وكذا قوله تعالى:
{ { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربّه فصلَّى } [الأعلى: 14ـ15] وقوله تعالى: { الذي يؤتي ماله يتزكى } [الليل: 18] وقوله تعالى: { الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } [فصلت: 7] وقوله تعالى: { والذين هم للزكاة فاعلون } [المؤمنون: 4] وغير ذلك من الآيات الواقعة في السور المكية وخاصة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة وغيرها، ولم تكن شرعت الزكاة المصطلحة بعد؛ فليت شعري ماذا كان يفهمه المسلمون من هذه الآيات في لفظ الزكاة.
بل آية الزكاة أعني قوله تعالى:
{ { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } [التوبة: 103] تدل على أن الزكاة من أفراد الصدقة، وإنما سميت زكاة لكون الصدقة مطهرة مزكية مطلقاً، وقد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة.
فتبين من جميع ما ذكرنا أنه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة والإِنفاق في سبيل الله زكاة، وتبيّن أيضاً أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازي، وكذا ارتكاب التوجيه في قوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } حيث أتى باسم إن { وليكم } مفرداً وبقوله { الذين آمنوا } وهو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.
قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) والتوالي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولي الأمر، وقيل: الولاية والولاية (بالفتح والكسر) واحدة نحو الدلالة والدلالة وحقيقته تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي (بكسر اللام) ومعنى المفعول أي الموالى (بفتح اللام) يقال للمؤمن: هو ولي الله عزّ وجل ولم يرد مولاه، وقد يقال: الله ولي المؤمنين ومولاهم.
قال: وقولهم: تولى إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، ووليت عيني كذا، ووليت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عز وجل: { فلنولينك قبلة ترضاها * فول وجهك شطر المسجد الحرام * وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وإذا عدي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإِعراض وترك قربه. انتهى.
والظاهر أن القرب الكذائي المعبّر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الإِنسان إنما اعتبره في الأجسام وأمكنتها وأزمنتها ثم استعير لأقسام القرب المعنوية بالعكس مما ذكره لأن هذا هو المحصل من البحث في حالات الإِنسان الأولية فالنظر في أمر المحسوسات والاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإِنسان من التفكر في المعقولات والمعاني وأنحاء اعتبارها والتصرف فيها.
وإذا فرضت الولاية - وهي القرب الخاص - في الأمور المعنوية كان لازمها أن للولي ممن وليه ما ليس لغيره إلاَّ بواسطته فكل ما كان من التصرف في شؤون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولي لا غيره كولي الميت، فإن التركة التي كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولي أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، وولي الصغير يتصرف بولايته في شؤون الصغير المالية بتدبير أمره، وولي النصرة له أن يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، والله سبحانه ولي عباده يدبر أمرهم في الدنيا والآخرة لا ولي غيره، وهو ولي المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية والدعوة والتوفيق والنصرة وغير ذلك، والنبي ولي المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم ولهم وعليهم بالتشريع والقضاء، والحاكم ولي الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، وعلى هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق والحلف والجوار والطلاق وابن العم، وولاية الحب وولاية العهد وهكذا، وقوله: { يولون الأدبار } أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب وتدبر أمرها، وقوله { توليتم } أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإِعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإِعراض عنه؛ فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعاً من حق التصرف ومالكية التدبير.
وقد اشتمل قوله تعالى: { إنما وليكم الله رسوله والذين آمنوا } "الخ" من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: { الله ورسوله والذين آمنوا } وأسند الجميع إلى قوله: { وليكم } وظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. ويؤيد ذلك أيضاً قوله في الآية التالية: { فإن حزب الله هم الغالبون } حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعاً حزباً لله لكونهم تحت ولايته؛ فولاية الرسول والذين آمنوا إنما هو من سنخ ولاية الله.
وقد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينية التي تصحح له التصرف في كل شيء وتدبير أمر الخلق بما شاء وكيف شاء، قال تعالى:
{ { أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } [الشورى: 9] وقال: { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } [السجدة: 4] وقال: { أنت وليي في الدنيا والآخرة } [يوسف: 101]وقال: { { فما له من ولي من بعده } [الشورى: 44] وفي معنى هذه الآيات قوله: { { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق: 16]، وقوله: { { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } } [الأنفال: 24]. وربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التي ذكرها لنفسه في قوله: { { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [محمد: 11] وقوله: { فإن الله هو مولاه } [التحريم: 4] وفي معنى ذلك قوله: { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } } [الروم: 47]. وذكر تعالى أيضاً لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة والهداية والإِرشاد والتوفيق ونحو ذلك كقوله تعالى: { { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [البقرة: 257] وقوله: { { والله ولي المؤمنين } [آل عمران: 68]، وقوله: { والله ولي المتقين } [الجاثية: 19]، وفي هذا المعنى قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً } } [الأحزاب: 36]. فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، ويرجع محصلها إلى ولاية التكوين وولاية التشريع، وإن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية والولاية الاعتبارية.
وقد ذكر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية التي تخصه الولاية التشريعية وهي القيام بالتشريع والدعوة وتربية الأُمة والحكم فيهم والقضاء في أمرهم، قال تعالى:
{ { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6]، وفي معناه قوله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [النساء: 105]، وقوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52]، وقوله: { { رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } [الجمعة: 2]، وقوله: { { لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل: 44]، وقوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [النساء: 59]، وقوله: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب: 36]، وقوله: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } [المائدة: 49]، وقد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للأُمة.
ويجمع الجميع أن له صلى الله عليه وآله وسلم الولاية على الأُمة في سوقهم إلى الله والحكم فيهم والقضاء عليهم في جميع شؤونهم فله عليهم الإِطاعة المطلقة فترجع ولايته صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، ونعني بذلك أن له صلى الله عليه وآله وسلم التقدم عليهم بافتراض الطاعة لأن طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الآيات السابقة كقوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } (الآية) وقوله: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً } (الآية)، وغير ذلك.
وهذا المعنى من الولاية لله ورسوله هو الذي تذكره الآية للذين آمنوا بعطفه على الله ورسوله في قوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالاصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى.
ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا - والمقام مقام الالتباس - كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعاً للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى:
{ { قل أُذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } [التوبة: 61]، فكرر لفظ الإِيمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الآخر، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [النساء: 59]، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.
على أن لفظ { وليكم } أُتي به مفرداً وقد نسب إلى الذين آمنوا وهو جمع، وقد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الاصالة ولغيره بالتبع.
وقد تبيّن من جميع ما مرَّ أن القصر في قوله: { إنما وليكم الله } "الخ"، لقصر الإِفراد كأن المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الآية وغيرهم فأفرد المذكورون للقصر، ويمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.
قوله تعالى: { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } بيان للذين آمنوا المذكور سابقاً، وقوله: { وهم راكعون } حال من فاعل { يؤتون } وهو العامل فيه.
والركوع هو الهيئة المخصوصة في الإِنسان، ومنه الشيخ الراكع، ويطلق في عرف الشرع على الهيئة المخصوصة في العبادة، قال تعالى:
{ { الراكعون الساجدون } [التوبة: 112]، وهو ممثل للخضوع والتذلل لله، غير أنه لم يشرع في الإِسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.
ولكونه مشتملاً على الخضوع والتذلل ربما استعير لمطلق التذلل والخضوع أو الفقر والإِعسار الذي لا يخلو عادة عن التذلل للغير.
قوله تعالى: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }، التولي هو الأخذ ولياً، و { الذين آمنوا } مفيد للعهد والمراد به المذكور في الآية السابقة: { والذين آمنوا الذين } "الخ"، وقوله: { فإن حزب الله هم الغالبون } واقع موقع الجزاء وليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، والتقدير: ومن يتول فهو غالب لأنه من حزب الله وحزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله.
والحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، وقد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، ووسمهم بالفلاح فقال: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه } إلى أن قال:
{ أُولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } } [المجادلة: 22]. والفلاح الظفر وإدراك البغية التي هي الغلبة والاستيلاء على المراد، وهذه الغلبة والفلاح هي التي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به وبشرهم بنيله، قال تعالى: { قد أفلح المؤمنون } [المؤمنون: 1]، والآيات في ذلك كثيرة، وقد أطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة والفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة والفوز بالحق والغلبة على الشقاء، وإدحاض الباطل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى وورع، وأما في الآخرة ففي جوار رب العالمين.
(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أُذينة، عن زرارة؛ والفضيل بن يسار، وبكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وأبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } وفرض من ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة والزكاة والصوم والحج.
فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عزّ وجل إليه: { يا أيُّها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية علي عليه السلام يوم غدير خم فنادى: الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب.
قال عمر بن أُذينة: قالوا جميعاً غير أبي الجارود: قال أبو جعفر عليه السلام: وكانت الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي }، قال أبو جعفر عليه السلام: يقول الله عزّ وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض.
وفي البرهان وغاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجل: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا }، قال: إن رهطاً من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبي الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"قوموا فقاموا وأتوا المسجد فإذا سائل خارج فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا سائل هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي؛ قال: على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً فكبَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكبّر أهل المسجد.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علي وليكم بعدي قالوا: رضينا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً، فأنزل الله عزّ وجل: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } "
الحديث.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم ذلك المصلي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو علي عليه السلام.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام.
وفي أمالي الشيخ قال: حدثنا محمد بن محمد - يعني المفيد - قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد الكاتب، قال: حدثني الحسن بن علي الزعفراني، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا العباس بن عبد الله العنبري، عن عبد الرحمن بن الأسود الكندي اليشكري، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه، عن جده أبي رافع قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وهو نائم وحية في جانب البيت فكرهت أن أقتلها وأوقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظننت أنه يوحى إليه فاضطجعت بينه وبين الحية فقلت: إن كان منها سوء كان إليَّ دونه.
فكنت هنيئة فاستيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } - حتى أتى على آخر الآية - ثم قال: الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمته، وهنيئاً له بفضل الله الذي آتاه، ثم قال لي: ما لك ها هُنا؟ فأخبرته بخبر الحية، فقال لي: اقتلها ففعلت ثم قال لي: يا (أبا، ظ) رافع كيف أنت وقوم يقاتلون علياً وهو على الحق وهم على الباطل؟ جهادهم حقاً لله عز اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شيء فقلت: يا رسول الله ادع الله لي إن أدركتهم أن يقويني على قتالهم، قال: فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
"إن لكل نبي أميناً، وإن أميني أبو رافع"
]. قال: فلما بايع الناس علياً بعد عثمان، وسار طلحة والزبير ذكرت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعت داري بالمدينة وأرضاً لي بخيبر وخرجت بنفسي وولدي مع أمير المؤمنين عليه السلام لأستشهد بين يديه فلم أُدرك معه حتى عاد من البصرة، وخرجت معه إلى صفين فقلت (فقاتلت، ظ) بين يديه بها وبالنهروان أيضاً، ولم أزل معه حتى استشهد علي عليه السلام، فرجعت إلى المدينة وليس لي بها دار ولا أرض فأعطاني الحسن بن علي عليه السلام أرضاً بينبع، وقسم لي شطر دار أمير المؤمنين عليه السلام فنزلتها وعيالي.
وفي تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوّع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلم بذلك فنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } (إلى آخر الآية) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا ثم قال:
"من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه"
]. وفي تفسير العياشي، عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام قال: قال: إنه لما نزلت هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } شق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخشي أن تكذبه قريش فأنزل الله: { يا أيُّها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك } (الآية) فقام بذلك يوم غدير خم.
وفيه عن أبي جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن الله أوحى إليَّ أن أُحب أربعة: علياً وأبا ذر وسلمان والمقداد" ،فقلت: ألا فما كان من كثرة الناس أما كان أحد يعرف هذا الأمر؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الآيات التي أنزلت: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } وقوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ما كان أحد يسأل فيمن نزلت؟ فقال: "من ثمّ أتاهم لم يكونوا يسألون"
]. وفي غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الوراق، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده في حديث مناشدة علي عليه السلام لأبي بكر حين ولي أبو بكر الخلافة، وذكر عليه السلام فضائله لأبي بكر والنصوص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما قال له: فانشدك بالله ألي الولاية من الله مع ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك.
وفي مجالس الشيخ بإسناده إلى أبي ذر في حديث مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص يوم الشورى واحتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكل منهم يصدقه عليه السلام فيما يقوله فكان مما ذكره عليه السلام: فهل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } غيري؟ قالوا: لا.
وفي الاحتجاج في رسالة أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي عليه السلام إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض.
قال عليه السلام: اجتمعت الأُمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا تجتمع أُمتي على ضلالة" ، فأخبر عليه السلام: أن ما اجتمعت عليه الأُمة ولم يخالف بعضها بعضاً هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون، ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، واتباع أحكام الأحاديث المزورة، والروايات المزخرفة، واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصلاة، ويهدينا إلى الرشاد.
ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بصدق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الأُمة عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة، فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب ضلالاً، وأصح خبر مما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" واللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا"
]. وجدنا شواهد هذا الحديث نصاً في كتاب الله مثل قوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }. ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام: أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له، وأنزل الآية فيه. ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه" وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "علي يقضي ديني، وينجز موعدي، وهو خليفتي عليكم بعدي" وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أتخلفني على النساء والصبيان؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبي بعدي؟"
]. فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، وتحقيق هذه الشواهد فيلزم الأُمة الإِقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن فلما وجدنا ذلك موافقاً لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله موافقاً لهذه الأخبار، وعليها دليلاً كان الاقتداء فرضاً لا يتعداه إلاَّ أهل العناد والفساد.
وفي الاحتجاج في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرض علينا شيء آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره؟ فأنزل الله في ذلك: { قل إنما أعظكم بواحدة } يعني الولاية فأنزل الله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }، وليس بين الأُمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذٍ وهو راكع غير رجل واحد، الحديث.
وفي الاختصاص للمفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن الحسن بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: نعم، هم الذين قال الله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وهم الذين قال الله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }.
أقول: ورواه في الكافي عن الحسين بن أبي العلاء عنه عليه السلام، وروى ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنه عليه السلام.
وإسناد نزول ما نزل في علي عليه السلام إلى جميع الأئمة عليهم السلام لكونهم أهل بيت واحد، وأمرهم واحد.
وعن تفسير الثعلبي أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الشعراني قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين قال: حدثنا المظفر بن الحسن الأنصاري قال: حدثنا السري بن علي الوراق قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجماني عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن الربعي قال: حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو جالس بشفير زمزم يقول: قال رسول الله، إذ أقبل رجل معتم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول: "قال رسول الله" إلاَّ وقال الرجل: قال رسول الله.
فقال له ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيُّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله بهاتين وإلاَّ فصمتا، ورأيته بهاتين وإلاَّ فعميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.
أما إني صليت مع رسول الله يوماً من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: سنشد عضدك بأخيك، ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا.
اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم واشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري.
قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى: فقال يا محمد اقرأ قال: وما أقرأ: قال: اقرأ: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
وعن الجمع بين الصحاح الستة لزرين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } (الآية) من صحيح النسائي عن ابن سلام: قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله ورسوله، وأقسموا أن الله يكلموننا فأنزل الله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } (الآية).
ثم أذن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلون فمن بين ساجد وراكع وسائل إذ سائل يسأل، وأعطى علي خاتمه وهو راكع فأخبر السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }.
وعن مناقب ابن المغازلي الشافعي في تفسير قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } (الآية) قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز إذناً قال: حدثنا الحسن بن علي العدوي قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } قال: نزلت في علي.
وعنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب قال: حدثنا محمد بن أحمد العسكري الدقاق قال: حدَّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبادة قال: حدثنا عمر بن ثابت، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان علي راكعاً فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (إلى آخر الآية).
وعنه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن طاوان إذناً: أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا علي بن عابس قال: دخلت أنا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث علياً بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالساً إذ مرَّ عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي أُنزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل: { ومن عنده علم الكتاب } { أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه } { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (الآية).
وعن الخطيب الخوارزمي في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو بن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الآيات المتلوات في فضائله التي لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى: { يوفون بالنذر } { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } { أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله }، وقد قال الله تعالى: { رجال صدقوا ما عاهدوا الله }، وقد قال الله تعالى لرسوله: { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى }.
وعنه بإسناده إلى أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس، وإن قومنا لما رأونا قد آمنا بالله ورسوله وقد صدقناه رفضونا، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا، وقد شق ذلك علينا فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، وبصر بسائل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم - وأومأ بيده إلى علي بن أبي طالب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: { ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون } فأنشأ حسان بن ثابت يقول:

أبا حســـن تفديك نفسـي ومهجتي وكــــل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحــي والمحبيـن ضائعاً ومـا المدح في ذات الإِله بضائع؟
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً فدتــــك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمــك الميمـــون يا خيــر سيد ويا خيــــر شـــار ثم يا خير بائع
فأنزل فيــــك الله خيــــر ولايـــة وبينهــــا فـــي محكمات الشرائع

وعن الحمويني بإسناده إلى أبي هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبأنا أنس بن مالك: أن سائلاً أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملي الوفي؟ وعلي راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر وجبت، قال: بأبي وأُمي يا رسول الله ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وجبت له الجنة، والله ما خلعه من يده حتى خلعه من كل ذنب ومن كل خطيئة"
]. وعنه بإسناده عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاوة التطوع فنزع خاتمه وأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"
]. وعن الحافظ أبي نعيم عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء عبد الله بن سلام وأتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إياهم منذ أسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابغوا إليَّ سائلاً فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فأذهب فأرني؟ قال: فذهبنا فإذا علي قائم، فقال: هذا؛ فنزلت: { إنما وليكم الله ورسوله }.
وعنه عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت: { إنما وليكم الله ورسوله } (الآية).
وعنه عن عوف بن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم إذ يوحى إليه وإذا حية في جنب البيت فكرهت أن أدخلها وأوقظه فاضطجعت بينه وبين الحية فإن كان شيء في دونه، فاستيقظ وهو يتلو هذه الآية: { إنما وليكم الله ورسوله } قال: الحمد لله فأتى إلى جانبي فقال: ما اضطجعت ها هُنا؟ قلت: لمكان هذه الحية قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها.
ثم أخذ بيدي فقال:
"يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون علياً حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك"
]. أقول: والروايات في نزول الآيتين في قصة التصدق بالخاتم كثيرة أخرجنا عدة منها من كتاب غاية المرام للبحراني، وهي موجودة في الكتب المنقول عنها، وقد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصة.
وقد اشترك في نقلها عدة من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وأنس بن مالك وعمّار وجابر وسلمة بن كهيل وأبي رافع وعمرو بن العاص، وعلي والحسين وكذا السجاد والباقر والصادق والهادي وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وقد اتفق على نقلها من غير رد أئمة التفسير المأثور كأحمد والنسائي والطبري والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم من الحفاظ وأئمة الحديث وقد تسلم ورود الرواية المتكلمون، وأوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة، وفي مسألة "هل تسمى صدقة التطوع زكاة" ولم يناقش في صحة انطباق الآية على الرواية فحول الأدب من المفسرين كالزمخشري في الكشاف وأبي حيان في تفسيره، ولا الرواة النقلة وهم أهل اللسان.
فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن حديث نزول الآية في قصة الخاتم موضوع مختلق، وقد أفرط بعضهم كشيخ الإِسلام ابن تيمية فادعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوع؟ وهي من عجيب الدعاوي، وقد عرفت ما هو الحق في المقام في البيان المتقدم.