التفاسير

< >
عرض

ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٠٦
وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
١٠٧
وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٠٨
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٩
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١٠
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
١١١
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١١٢
وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
١١٣
-الأنعام

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
اتصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، والكلام مسرود في التوحيد.
قوله تعالى: { اتبع ما أُوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } أمر باتباع ما أُوحي إليه من ربه من أمر التوحيد وأُصول شرائع الذين من غير أن يصده ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق والإِعراض عن دعوة الدين.
وفي قوله: { من ربك } المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة الإِلهية إلا أن قوله: { من ربك } لما كان ملحوقاً بقوله: { وأعرض عن المشركين } وكان ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحي واعبد ربك، وأعرض عنهم يعبدوا أربابهم، ولا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم وشركهم قدم على قوله: { وأعرض } الخ، قوله: { لا إله إلا هو } ليندفع به هذا الوهم، ويجلو معنى قوله: { وأعرض } الخ، ويأخذ موضعه.
فالمعنى: اتبع ما أُوحي إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك والرحمة المشتملة عليك إذ خصك بوحيه وأيدك بروح الاتباع، وأعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم وما يعبدون وتسكت راضياً بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما الإِله واحد وهو ربك الذي يوحي إليك لا إله إلا هو بل أن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد ولا تتحمل شقاً فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ ولست عليهم بحفيظ ولا وكيل، وإنما الحفيظ الوكيل هو الله ولم يشأ لهم التوحيد ولو شاء ما أشركوا لكنه تركهم وضلالهم لأنهم أعرضوا عن الحق واستنكفوا عن الخضوع له.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل } تطييب لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجد لشركهم ولا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشيئة لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالإِيمان عن طوع ورغبة كما تلبس من وفق للإِيمان، وذلك أنهم استكبروا في الأرض واستعلوا على الله ومكروا به وقد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم وحرمهم التوفيق للإِيمان والاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب وقانون العلية والمعلولية العام، والمشيئة الإِلهية إنما تتعلق بالأشياء وتقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل والشرائط وارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشيئة الإِلهية وإن كان الله سبحانه له فيه المشيئة مطلقاً إن لم يشأه لم يكن وإن شاء كان، كذلك السنة في نظام التشريع والهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه ومن أعرض عن رحمته حرمه، والهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة الإِلهية ولم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد شملته وأحيته بأطيب الحياة، ومن اتبع هواه وعاند الحق واستعلى على الله وأخذ يمكر بالله، ويستهزئ بآياته حرمه الله السعادة وأنزل الله عليه الشقوة وأضله على علم وطبع عليه بالكفر فلا ينجو أبداً.
ولولا جريان المشيئة الإِلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب وقانون العلية والمعلولية وحلت الإِرادة الجزافية محله ولغت المصالح والحكم والغايات، وأدى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأن التشريع ينتهي بالآخرة إلى التكوين بوجه ودبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله.
وهذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الإِيمان وخرج بذلك النوع الإِنساني عن منشعب طريقي الإِيمان والكفر، وسقط الاختيار الموهوب له ولازم بحسب الخلقة الإِيمان، واستقر في أول وجوده على أريكة الكمال، وتساوى الجميع في القرب والكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة ولغو التربية والتكميل، وارتفع الاختلاف بين الدرجات، وأدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والأعمال والأحوال والملكات وانقلب بذلك النظام الإِنساني وما يحيط به ويعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.
ومن هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: { ولو شاء الله ما أشركوا } على الإِيمان الاضطراري، وأن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهراً وإجباراً لاضطرهم إلى ذلك وذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق المشيئة الإِلهية على تركهم الشرك اختياراً كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الأوفق بكمال القدرة، والأنسب بتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب قلبه.
فالمعنى: أعرض عنهم ولا يأخذك من جهة شركهم وجد ولا حزن فإن الله قادر أن يشاء منهم الإِيمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنك لست بمسؤول عن أمرهم لا تكويناً ولا غيره فلتطب نفسك.
ويظهر من ذلك أيضاً أن قوله: { وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل } أيضاً مسوق سوق التسلية وتطييب النفس، وكأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة شؤون وجودهم كالحياة والنشوء والرزق ونحوها، وبالوكيل القائم على إدارة الأعمال ليجلب بذلك المنافع ويدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله: { وما جعلناك } الخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية ولا أمر حياتهم الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك وعدم إجابتهم إلى طلبتك.
وربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه وبالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكل عنه، ولا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص بالتكوين والوكيل يعم التكوين وغيره، ولا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينية، والأخرى على ما يعمها وغيرها بل الوجه حمل الأولى على إحدى الجهتين، والأخرى على الأخرى.
قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } السب معروف، قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز ومنافاة الإِلتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشي فيقال له العدو، وتارة في الإِخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان والعدو قال: فيسبوا الله عدواً بغير علم وتارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء. انتهى.
والآية تذكر أدباً دينياً تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإِهانة والإِزراء بشنيع القول والسب والشتم والسخرية ونحوها فإن الإِنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعدياً إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسب لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له عندهم كرامة الألوهية وهو الله عز اسمه ففي سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه.
وعموم التعليل المفهوم من قوله: { كذلك زينا لكل أُمة عملهم } يفيد عموم النهي لكل قول سيئ يؤدي إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى.
قوله تعالى: { كذلك زينا لكل أُمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضماً يجلب الرغبة إليه ويحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة وينتهي إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإِنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد.
وقد أراد الله سبحانه أن يعيش الإِنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع ويديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف فيها بحواسه وقواه الباطنه ثم يتغذى بأكل أشياء وشرب أشياء ويهيج إلى النكاح بأعمال خاصة ويلبس ويأوي ويجلب ويدفع وهكذا.
وله في جميع هذه الأعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها وغايات حيوية ينتهي إليها وآخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية. وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والانس والمدح والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والأمن وغير ذلك مما لا يحصى.
وهذه اللذائذ أُمور زينت بها هذه الأعمال ومتعلقاتها، وقد سخر الله سبحانه بها الإِنسان فهو يوقع الأفعال ويتوخى الأعمال لأجلها، وبتحققها يتحقق الغايات الإِلهية والأغراض التكوينية كبقاء الشخص، ودوام النسل، ولولا ما في الأكل والشرب والنكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الإِنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه والثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، وفني الشخص وانقطع النسل فانقرض النوع، وبطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.
وما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية ولذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإِنسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهي منسوبة أيضاً إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى:
{ { حبب اليكم الإِيمان وزينه في قلوبكم } [الحجرات: 7]. وما كان منها لذة فكرية توافق الهوى وتشقي في الأخرى والأولى بإبطال العبودية وإفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإِلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والأحكام الناشئة منها والأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإِذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: { { لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين } [الحجر: 39]. وقال تعالى: { { فزين لهم الشيطان أعمالهم } [النحل: 63]. أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فانه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإِنسان الكونية السليمة عقائد وآراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبة المسعى، وجلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهي عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعاً بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معاً فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيّم فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة بريئة من هذا التناقض وأمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية.
فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح، والنفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة والمعصية جميعاً هو الله سبحانه.
قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، وعلى تقديرها تنسب الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالإِذن فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
وأما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع الأحكام، ومن حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: إن الله سبحانه يدعو إلى الإِيمان والكفر جميعاً أو يبعث إلى الطاعة والمعصية معاً؟ وهو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الإِنساني المبني على الفطرة الإِلهية وهذه الشرائع الإِلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى:
{ { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون، قل أمر ربي بالقسط } [الأعراف: 28]. وأما أنها منسوبة إليه تعالى بالإِذن فإن الملك عام والسلطنة الإِلهية مطلقة وحاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شيء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة والهداية، قال تعالى: { { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } [يونس: 3] وقال: { { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141]. فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإِذن أو بلا واسطة، وعليه يجري قوله تعالى: { كذلك زينا لكل أُمة عملهم } وأوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: { { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [الكهف: 7]. وللمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية:
منها: أن المراد هو التزيين بالأمر والنهي وبيان الحسن والقبح فالمعنى: كما زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زيّنا لكل أُمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله وترك سب الأصنام ونهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق. وفيه أنه مخالف لظهور الآية في العموم، ولا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما تقدم.
ومنها: أن المعنى: وكذلك زينا لكل أُمة عملهم بميل الطباع إليه ولكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق ويجتنبوا الباطل.
وفيه أنه كما لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة والمعصية والإِيمان والكفر إليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة والسيئة على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية وما يشابهها وبين الدعوة التشريعية إلى القبائح والمساوي، ونسبة الأول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله.
ومنها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله:
{ { ولكن الله حبب إليكم الإِيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } [الحجرات: 7] أي حبب إليكم الإِيمان بذكر ثوابه ومدح فاعليه على فعله، وكره الكفر بذكر عقابه وذم فاعليه. وفيه: أن فيه تقييداً للأعمال بالحسنة من غير مقيّد. على أنه معنى بعيد من السياق ومن ظاهر لفظ التزيين. على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين.
ومنها: أن المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها وسيئاتها ابتداء من غير واسطة الدعوة منه تعالى إلى الطاعة والمعصية جميعاً بناء على أن الإِنسان مجبر في الأفعال المنسوبة إليه.
وفيه: أن ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالإِجبار فإن الشيء إنما تضم إليه الزينة ليرغب فيه الإِنسان ويحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به وترك غيره، ولو لم تكن نسبة فعله وتركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، وهو ينطبق في الطاعات وحسنات الأعمال على ما يسمى في لسان الشرع هداية وتوفيقاً، وفي المعاصي وسيئات الأعمال على ما يعد إضلالاً ومكراً إلهياً، ولا مانع من نسبة الإِضلال والمكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الإِضلال والمكر الابتدائيين، وقد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب وتقدم البحث عن الجبر وما يقابله من التفويض والأمر بين الأمرين في الجزء الأول من الكتاب.
وقوله تعالى: { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } يؤيد ما تقدم أن حكم التزيين عامّ شامل لجميع الأعمال الباطنية كالإِيمان والكفر والظاهرية كأعمال الجوارح الحسنة والسيئة فإن ظاهر الآية أن الإِنسان إنما يقصد هذه الأعمال ويوقعها لاجل ما يرغب فيه من زينته غافلاً عن الحقائق المستوره تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، وعاينوا ما هم مصروفون عنه، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفى لهم من قرة أعين، وأما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات والسيئات.
قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد إيمانهم } إلى قوله { عند الله } الجهد بفتح الجيم الطاقة والإِيمان جمع يمين وهي القسم، وجهد الإِيمان أي ما تبلغه قدرتها وهو الطاقة، والمراد أنهم بالغوا في القسم وأكدوه ما استطاعوا، والمراد بكون الآيات عند الله كونها في ملكه وتحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه.
فالمعنى: وأقسموا بالله وبالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية - وهذا اقتراح منهم للآية كناية - { قل إنما الآيات عند الله } وهو الذي يملكها ويحيط بها وليس إليّ من أمرها شيء حتى أُجيبكم إليها من تلقاء نفسي.
قوله تعالى: { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } قرئ: لا يؤمنون بياء الغيبة وتاء الخطاب جميعاً، والخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، وعلى القراءة الثانية للمشركين والكلام من تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ظاهر.
والظاهر أن "ما" في قوله: { وما يشعركم } للاستفهام، والمعنى: وما هو الذي يفيد لكم العلم بواقع الأمر وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم وصدقتم بحلفهم وليس لكم علم بأنّهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأن الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم.
وربما قيل: إنّ "أنَّ" في قوله: { أنّها إذا جاءت } الخ، بمعنى لعل وهذا معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.
قوله تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } الخ، ظاهر السياق أن الجملة عطف على قوله: { لا يؤمنون } وهي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، والمراد بقوله: { أول مرة } الدعوة الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من المرة الثانية التي هي الدعوة مع نزول الآيات.
والمعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، وذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، وأبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة ونذرهم في طغيانهم يترددون ويتحيرون. هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية.
وللمفسرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها والبحث عنها، من شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها.
قوله تعالى: { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى } إلى آخر الآية بيان آخر لقوله: { إنما الآيات عند الله } وإن قولهم: { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الآيات التي يظنون أنها أسباب مستقلة في إيجاد الإِيمان في قلوبهم وإقدارهم على التلبس به أن تودع في نفوسهم الإِيمان إلا بمشيئة الله.
فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفاً وإيجازاً، والمعنى: ولو أننا أجبناهم في مسألتهم وآتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، وأحيينا لهم الموتى فواجهوهم وكلموهم وأخبروهم بصدق ما يدعون إليه، وحشرنا وجمعنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً وصنفاً صنفاً، أو حشرنا عليهم كل شيء قبلاً ومواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو المقال، ما كانوا ليؤمنوا ولم يؤثر شيء من ذلك في استجابتهم للإِيمان إلا أن يشاء الله إيمانهم.
فلا يتم لهم الإِيمان بشيء من الأسباب والعلل إلا بمشيئة الله فإن النظام الكوني على عرضه العريض وإن كان يجري على طبق حكم السببية وقانون العلية العام غير أن العلل والأسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شيء من شؤونها ومقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلا بمشيئة الله ولا يحيا لها رسم إلا بإذنه.
غير أن المشركين أكثرهم - ولعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم ويتعلقون بالأسباب على أنها مستقله في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب الإِيمان - وهو الآية المقترحة - آمنوا واتبعوا الحق وقد اختلط عليهم الأمر بجهلهم فأخذوا هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشيئة الله أسباباً مستقلة تامة مستغنية عنه.
قوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن } إلى آخر الآية. الشياطين جمع شيطان وهو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذي يصفه القرآن وذريته، والجن من الجن بالفتح وهو الاستتار، وهو في عرف القرآن نوع من الموجودات ذوات الشعور والإِرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها وهم غير الملائكة. يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم. والوحي هو القول الخفي بإشارة ونحوها، والزخرف الزينة المزوّقة أو الشيء المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذي يشبه الحق وليس به، وغروراً مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له.
والمعنى: ومثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدواً هم شياطين الإِنس والجن يشير بعضهم إلى بعض - وكأن المراد وحي شياطين الجن بالوسوسة والنزغة إلى شياطين الإِنس ووحي بعض شياطين الإِنس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر والتسويل - بأقوال مزوّقة وكلمات مموّهة يغرونهم بذلك غروراً أو لغرورهم وإضلالهم بذلك.
وقوله: { ولو شاء ربك ما فعلوه } يشير بذلك إلى أن حكم المشيئة عام جار نافذ فكما أن الآيات لا تؤثر في إيمانهم شيئاً إلا بمشيئة الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء ووحيهم زخرف القول غروراً كل ذلك بإذن الله ولو شاء الله ما فعلوه ولم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدواً للأنبياء، وبهذا المعنى يتصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقّف الأمور على المشيئة.
وقوله: { فذرهم وما يفترون } تفريع على نفوذ المشيئة أي إذا كانت هذه المعاداة والإِفساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله ولم يكونوا بمعجزين لله في مشيئته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالأمر وإفسادهم له بل اتركهم وما يفترونه على الله من دعوى الشريك ونحوها.
فقوله: { ولو شاء ربك ما فعلوه } إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات: { وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا }.
والكلام في قوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن } الخ، حيث أسند ظاهراً جعلهم عدواً للأنبياء - وفيه التسبب إلى الشر والبعث إلى الشرك والمعصية - إلى الله سبحانه وهو منزه من كل شر وسوء نظير الكلام في إسناده تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله: { كذلك زينا لكل أُمة عملهم } وقد تقدم الكلام فيه، وكذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية: { ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } الخ، حيث جعل هذه المظالم والآثام غايات إلهية للدعوة الحقة.
وللمفسرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينه الأعمال إليه تعالى.
وقد عرفت أن الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى من كل سوء وقبح تعطي أن الخيرات والحسنات جميعاً مستندة إلى مشيئته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها، والشرور والسيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان والنفس بلا واسطة، وإنما تنتسب إليه تعالى بالإِذن فهي مملوكة له تعالى واقعه بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإِلهي ويتم بذلك أمر الدعوة الإِلهيه بالأمر والنهي والثواب والعقاب ولولا ذلك لبطلت ولغت السنة الإِلهية في تسيير الإِنسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكوني الذي لا سبيل فيه إلى الكمال والسعادة إلا بالسلوك التدريجي.
قوله تعالى: { ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } إلى آخر الآية. الاقتراف هو الاكتساب، وضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة، واللازم في قوله: { لتصغي } للغاية والجملة معطوفة على مقدر، والتقدير: فعلنا ما فعلنا وشئنا ما شئنا ولم نمنع عن وحي بعضهم لبعض زخرف القول غروراً لغايات مستورة ولتصغي وتجيب إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعاً ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة، فإن الله سبحانه يمد كلاً من أهل السعادة أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم ويرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى:
{ { كلاً نمد هٰؤلاء وهٰؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } [الإسراء: 20]. (بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال:
" لما حضرأبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه.
فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأُمية وأُبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري، وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم الخراج؟ قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا واشمأزّوا"
.
قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ولو آتونى بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله: { ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم }.
أقول: والرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها وترك التقرب إليها حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم وكان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوه إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك ويذكروا شتمه ويهددوه على ذلك وليس في الآية إشارة إلى صدر القصة وهو أصلها.
لى أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته صلى الله عليه وآله وسلم كان يمنعه من التفوّه بالشتم الذي هو من لغو القول، والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهمّ العن فلاناً وفلاناً، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله:
{ { لعنهم الله بكفرهم } [البقرة: 88] وقوله: { { فقتل كيف قدر } [المدثر: 19] وقوله: { { قتل الإِنسان } [عبس: 17] وقوله: { { أُف لكم ولما تعبدون من دون الله } [الأنبياء: 67] ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإِهانة تخييلاً، والذي ورد من قبيل قوله تعالى: { { منّاع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم } [القلم: 12 - 13] فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيراً بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء" فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم.
وفي تفسير العياشي عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: { ولا تسبوا } الآية. قال: فقال: يا عمرو هل رأيت أحداً يسب الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال: بل يتوب تائبهم فأنزل الله: { وأقسموا بالله جهد إيمانهم } إلى قوله { يجهلون }.
أقول: القصة المذكورة سبباً للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد تقدم أن ظاهرها الإِخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، وأنهم ليسوا بمفارقي الشرك وإن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإِيمان ولم يشأ ذلك، وإذا كان هذا هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل: إن شئت صار ذهباً فإن لم يؤمنوا عُذبوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، الخ.
فالظاهر أن الآيات في معنى قوله:
{ { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه الآيات وأخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالاً عليهم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } الآية في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في الآية، يقول: وننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، ونعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن ما تقلبون عليه من الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيراً أبداً.
أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها وانعكاس أحكامها من جهة اتباع الهوى والإِعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام عن قول الله: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } إلى آخر الآية أما قوله: { كما لم يؤمنوا به أول مرة } فإنه حين أُخذ عليهم الميثاق.
أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى:
{ { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } [الأعراف: 172] الآية لكن تقدم أن ظاهر السياق أن المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة.