التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
١٩١
وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ
١٩٢
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَٰمِتُونَ
١٩٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٩٤
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ
١٩٥
إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ
١٩٦
وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاۤ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
١٩٧
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
١٩٨
-الأعراف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الكلام في الآيات جار على ما جرت عليه سائر آيات السورة من مواثيق النوع الإِنساني ونقضها على الأغلب الأكثر.
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى آخر الآيتين. الكلام في الآيتين جار مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم موثقهم الذي واثقوه، وظلمهم بآيات الله.
والمعنى { هو الذي خلقكم } يا معشر بني آدم { من نفس واحدة } هو أبوكم { وجعل منها } أي من نوعها { زوجها ليسكن } الرجل الذي هو النفس الواحدة { إليها } أي إلى الزوج التي هي امرأته { فلما تغشاها } والتغشي هو الجماع { حملت حملاً خفيفاً } والمحمول النطفة وهي خفيفة { فمرت به } أي استمرت الزوج بحملها تذهب وتجئ وتقوم وتقعد حتى نمت النطفة في رحمها وصارت جنيناً ثقيلاً أثقلت به الزوج { فلما أثقلت دعوا الله ربهما } وعاهداه وواثقاه { لئن آتيتنا } ورزقتنا ولداً { صالحاً } يصلح للحياة والبقاء بكونه إنساناً سوياً تام الأعضاء غير ذي عاهة وآفة فإن ذلك هو المرجو للولد حين ولادته وبدء نشوئه دون الصلاح الديني { لنكونن من الشاكرين } لك بإظهار نعمتك، والانقطاع إليك في أمره لا نميل إلى سبب دونك، ولا نتعلق بشيء سواك.
{ فلما آتاهما صالحاً } كما سألاه وجعله إنساناً سوياً صالحاً للبقاء وقرت به عينهما { جعلا له شركاء فيما آتاهما } من الولد الصالح حيث بعثتهما المحبة والشفقة عليه أن يتعلقا بكل سبب سواه، ويخضعا لكل شيء دونه مع أنهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته وربوبيته فنقضا عهدهما وشرطهما.
وهكذا عامة الإِنسان إلا منرحمه الله مهتمون بنقض مواثيقهم وخلف وعدهم، وعدم الوفاء بعهدهم مع الله { فتعالى الله عما يشركون }.
والقصة - كما ترى - يمكن أن يراد بها بيان حال الأبوين من نوع الإِنسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العام النوعي فإن كل إنسان فإنه مولود أبويه فالكثرة الإِنسانية نتيجة أبوين يولدان ولداً كما في قوله تعالى:
{ { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل } [الحجرات: 13]. والغالب على حال الأبوين وهما يحبان ولدهما ويشفقان عليه أن ينقطعا طبعاً إلى الله في أمر ولدهما وإن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت وأخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربه وإن لم يعبد رباً قط فإنما هو حال قلبي يضطر الإِنسان إليه.
فللأبوين انقطاع إلى ربهما في أمر ولدهما لئن آتيتنا صالحاً نرضاه لنكونن من الشاكرين فلما استجاب لهما وآتاهما صالحاً جعلا له شركاء وتشبثا في حفظه وتربيته بكل سبب، ولاذا إلى كل كهف.
ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: { فتعالى الله عما يشركون } فإن المراد بالنفس وزوجها في صدر الكلام لو كان شخصين من الإِنسان بعينهما كآدم وحواء مثلاً كان من حق الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عما أشركا.
على أنه تعالى يعقب هذه الآية بآيات أُخر يذم فيها الشرك ويوبخ المشركين بما ظاهرة أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، وحاشا أن يكون صفي الله آدم يعبد غير الله وقد نص الله سبحانه على أنه اجتباه وهداه، ونص على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله وأي ضلال أضل من عبادة غير الله، قال تعالى:
{ { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } [طه: 122]، وقال: { { ومن يهد الله فهو المهتد } [الكهف: 17]، وقال: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، وبذلك يظهر أن الضلال والشرك غير منسوب إلى آدم وإن لم نقل بنبوته أو قلنا بها ولم نقل بعصمة الأنبياء عليهم السلام.
وإن أُريد بالنفس وزوجها في القصة آدم وزوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنهما اشتغلا بتربية الولد واهتما في أمره بتدبير الأسباب والعوامل، وصرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجه إلى ربهما والخلوص في ذلك، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما: { لنكونن من الشاكرين } وقد تقدم في تفسير أوائل هذه السورة في قوله: { ولا تجد أكثرهم شاكرين } الآية: 17 أن الشاكرين في عرف القرآن هم المخلصون - بفتح اللام - الذين لا سبيل لإِبليس عليهم ولا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجه إليهما في قوله: { فتعالى الله عما يشركون } إنما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الأسباب الكونية يوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى.
لكن يبقى عليه إتيان قوله: { فتعالى الله عما يشركون } بصيغة الجمع، وتعقيبه بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله.
وربما دفعه بعضهم بأن الآية في التخصيص أولاً والتعميم ثانياً عكس قوله تعالى:
{ { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } [يونس: 22]، حيث خاطب أولاً عامتهم بالتسيير ثم خص الكلام براكبي الفلك منهم خاصة، والآية التي نحن فيها تخص أول القصة بآدم وزوجته فهما المعنيان بقوله: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } ثم انقضى حديث آدم وزوجته، وخص بالذكر المشركون من بني آدم الذين سألوا ما سألوا، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إن كل اثنين منهم يولدان ولداً هذا حالهما من العهد ثم النقض.
وفيه أن قوله: { هو الذي يسيركم } الآية محفوف بقرينة قطعية تدل على المراد وتزيل اللبس بخلاف التدرج من الخصوص إلى العموم في هذه الآية فإنه موقع في اللبس لا يصار إليه في الكلام البليغ، اللهم إلا أن يجعل قوله: { فتعالى الله عما يشركون } إلى آخر الآيات قرينة على ذلك.
وكيف كان فهذا الوجه كالمأخوذ من الوجهين الأولين بحمل صدر الآية على الوجه الثاني وذيلها على الوجه الأول.
وربما دفع الإِعتراض السابق بأن في الكلام حذفاً وإيصالاً والتقدير: "فلما آتاهما أي آدم وحواء صالحاً جعل أولادهما له شركاء" فحذف المضاف وهو الأولاد، وأُقيم المضاف إليه وهو ضمير التثنية المدلول عليه في قوله: "جعلا مقامه". وفيه أنه لا دليل عليه.
وربما التزم بعض المفسرين الإِشكال، وتسلم أن المراد بهما آدم وزوجته، وأنهما أشركا بالله عملاً بروايات وردت في القصة عن بعضهم، وهي موضوعة أو مدسوسة مخالفة للكتاب لا سبيل إلى الأخذ بأمثالها.
قوله تعالى: { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } إلى آخر الآيات الثلاث. صدر الآيات وإن احتمل أن يكون المراد الشرك بالأصنام أو بسائر الأسباب غير الله، التي الاعتماد عليها نوع من الشرك لكن ذيلها ظاهر في أن المراد هو الشرك بالأصنام المتخذة آلهة وهي جماد لا يستطيع نصر من يعبدها ولا نصر أنفسها، ولا يشعر بشيء من الدعاء وعدمه.
قوله تعالى: { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } إلى قوله { يسمعون بها } احتجاج على مضمون الآيات الثلاث السابقة، والمعنى إنما قلنا إنهم مخلوقون لا يقدرون على شيء لأنهم عباد أمثالكم فكما أنكم مخلوقون مدبرون كذلك هم.
والحجة عليه أنهم لا يستجيبون لكم إن دعوتموهم فادعوهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن لهم علماً وقدرة - وإنما نسب إليهم دعوى كونهم ذوي علم وقدرة لما في دعوتهم من الدلالة على ذلك - وكيف يستجيبون لكم؟ وليست ما عبأتم لهم من الأرجل والأيدي ماشية وباطشة، ولا ما صورتم لهم من الأعين والآذان مبصرة وسامعة لأنهم جمادات.
وفي الآيات إطلاق العباد على الجمادات.
قوله تعالى: { قل ادعوا شركاء كم ثم كيدون فلا تنظرون } إلى آخر الآيات ثم أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يكر عليهم على انتصارهم بأربابهم وآلهتهم بالتحدي والإِعجاز ليستبين سبيله من سبيلهم، ويظهر أن ربه هو الله الذي له كل العلم والقدرة، وأن أربابهم لا يملكون علماً ليهتدوا به إلى شيء ولا قدرة لينصروهم في شيء.
فقال: قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ثم كيدوني فلا تنظروني ولا تمهلوني إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس، وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم، وهو القائل: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة، وأما أربابكم الذين تدعون من دونه فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم.
وفي الآيات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم أنه من الصالحين ولم يعهد فيما يخبر به القرآن من صلاح الأنبياء مثل ذلك في غيره صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيها التحدي على الأصنام وعبدتهم كما تحدى بذلك غيره من الأنبياء عليهم السلام.
(بحث روائي)
في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السلام في حديث: قال له المأمون: فما معنى قوله تعالى: { فلما أتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما أتاهما } فقال الرضا عليه السلام إن حواء ولدت لآدم خمس مائة بطن في كل بطن ذكرا وأنثى، وإن آدم وحواء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا: لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين، فلما أتاهما صالحاً من النسل خلقاً سوياً بريئاً من الزمانة والعاهة كانا يأتيهما صنفان: صنفاً ذكراناً وصنفاً إناثاً فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل قال الله تعالى: أشهد أنك ابن رسول الله حقاً.
أقول: مرجعه إلى بعض الوجوه السابقة في دفع ما أورد على الآية، وقد وردت في تفسير الآية عدة من الروايات مروية عن سمرة بن جندب وأُبي وزيد وابن عباس فيها أن آدم وحواء لم يكن يعيش لهما ولد فأمرهما الشيطان أو أمر حواء أن يسمياه عبد الحارث حتى يعيش - وكان الحارث اسمه في السماء - وفي بعضها: عبد الشمس، وفي بعضها: أنه خوفها أن تلد ناقة أو بقرة أو بهيمة أخرى، وشرط لها إن سمته عبد الحارث ولدت إنساناً سوياً. الأحاديث. وهي موضوعة أو مدسوسة من الإِسرائيليات.
وقد روي في المجمع عن تفسير العياشي عنهم عليهم السلام: أنه كان شركهما شرك طاعة ولم يكن شرك معصية، وظاهره أنه جرى على ما يجري عليه تلك الأحاديث فحاله حالها وكيف يفرق بين الطاعة والعبادة وخاصة في مورد إبليس وقد قال تعالى:
{ { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني } [يس: 60 - 61]، ومع ذلك فقد ذكر بعضهم أن هذه الروايات لا تدل على أزيد من الإِشراك في التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية، واختاره الطبري هذا.