التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨٥
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٧
قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
٨٨
قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ
٨٩
وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
٩٠
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩١
ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٢
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ
٩٣
-الأعراف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيباً } الآية معطوف على القصة الأولى وهي قصة نوح عليه السلام، وقد بنى عليه السلام دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة.
وقوله: { قد جاءتكم بينة من ربكم } يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته ولكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه وليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم ولا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة.
على أنه يفرع قوله: { فأوفوا الكيل والميزان } الآية على مجيء الآية ظاهراً وإنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب وتحقق الهلاك. وهو ظاهر.
وقد دعاهم أولاً بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل والميزان وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإِفساد في المعاملات رائجاً فيهم شائعاً بينهم.
ثم دعاهم ثانياً بقوله: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } إلى الكف عن الإِفساد في الأرض بعدما أصلحها الله بحسب طبعها، والفطرة الإِنسانية الداعية إلى اصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، والإِفساد في الأرض وإن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصه - تقريباً - بالإِفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال والأعراض والنفوس كقطع الطرق ونهب الأموال وهتك الأعراض وقتل النفوس المحترمة.
ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: { ذٰلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } أما كون إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم خيراً فلأن حياة الإِنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، وأخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، وهو شيوعه، وإذا شاع البخس والغش والغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء والردي مكان الجيد، والخليط مكان الخالص، وبالأخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل والعلاجات كان فيه هلاك الأموال والنفوس جميعاً.
وأما كون الكف عن إفساد الأرض خيراً لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإِنساني عن حركتها من جميع الجهات وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإِنسانية.
فالمعنى إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.
وربما قيل: إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه وخسرانه وضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي وهو الحياة الدنيا التي هي لعب، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: { ذٰلكم } هو إيفاء الكيل وما بعده كما هو ظاهر السياق، وأما أخذ الإِشارة إلى جميع ما تقدم وجعل المراد بالإِيمان هو الإِيمان المصطلح دون الإِيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشيء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإِيمان به وإيفاء الكيل والميزان وعدم الفساد في الأرض خير لكم.
ويرد على الوجهين الأخيرين جميعاً أن ظاهر قوله: { إن كنتم مؤمنين } ثبوت اتصافهم بالإِيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: { كنتم مؤمنين } المؤلف من ماضي الكون الناقص واسم الفاعل من الإِيمان المقتضى لاستقرار الصفة فيهم زماناً، ولا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر والمؤمن والمستكبر والمنقاد ولو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو إن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإِيمان غير الإِيمان المصطلح.
قوله تعالى: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً } الآية ظاهر السياق أن { توعدون وتصدون } حالان من فاعل { لا تقعدوا } وقوله { وتبغونها } حال من فاعل { تصدون }.
ثم دعاهم ثالثاً إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحاً إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب عليه السلام ويوعدونهم على إيمانهم به والحضور عنده والاستماع منه وإجراء العبادات الدينية معه، ويصرفونهم عن التدين بدين الحق والسلوك في طريقة التوحيد وهم يسلكون طريق الشرك، ويطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجاً.
وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإِيمان بكل ما يستطيعون من قوة واحتيال فنهاهم عن ذلك، ووصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ويعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، وما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.
فقوله: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } كلام مسوق سوق العظة والتوصية وهو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر والنواهي فقوله: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإِنساني لأن الإِنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة والسعادة العالية الإِنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية وغيرها اقتضت أن تهب العناية الإِلهية له أدوات وقوى مختلفة وتركيباً وجودياً خاصاً لا يستطيع أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغيرها تعاضداً في الفكر والإِرادة والعمل.
ومن المعلوم إنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، واشتدت في فكرتها وإرادتها وعملها فأحست وشعرت بدقائق الحوائج، وتنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.
فمن المنن الإِلهية أن النسل الإِنساني آخذ دائماً في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، وذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، ولا الأقوام والعشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شؤونها السياسية والاقتصادية والحربية وغيرها مما يوزن بزنة العلم والإِرادة والعمل.
وإما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعباً، والنفوس دهشة، وخربت الديار، ونهبت الأموال، وسفكت الدماء، وأفنت الجموع، واستعبدت العباد، وأذلت الرقاب.
مهلهم الله في عتوهم واعتداءهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، واستووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش واتخذوا إلههم هواهم وأضلهم الله على علم فسلبوا القدرة والإِرادة، وحرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبا.
فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة والفراعنة والأكاسرة والغفافرة وغيرهم لم يبق منهم إلا أسماء ان لم تنس، ولم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإِلهية الجارية في الكون أن تبتني حياة الإِنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك وأخذ في الفساد والإِفساد أبى طباع الكون ذلك، وضادته الأسباب بقواها، وطحنته بجموعها، وضربت عليه بكل ذلة ومسكنة.
قوله تعالى: { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أُرسلت به } إلى آخر الآية. ثم دعاهم رابعاً إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإِيمان والكفر فإنه كان يوصيهم جميعاً قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإِيمان بالله والعمل الصالح، وكأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، وأن الاختلاف كائن لا محالة وأن الملأ المستكبرين من قومه وهم الذين كانوا يوعدون ويصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض وإيذاء المؤمنين ويوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، وتسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعاً بالصبر وانتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين.
فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة، والاضطراب والحيرة من جهة دينهم وأما الكفار فلا يقعون في ندامة الإِقدام من غير رؤية ومفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، ولا يجور في حكم إذا ما حكم.
فقوله: { فاصبروا } بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي، وبالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي، وهو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.
قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب } الآية. لم يسترشد الملا المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر وانتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده وتهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد.
وفي تأكيدهم القول { لنخرجنك } و { لتعودن } بالقسم ونون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، ولذا بادر عليه السلام بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.
قوله تعالى: { قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم } الآية. أجاب عليه السلام بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل، ولازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.
وقد أجاب عليه السلام عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه، وذكر أنه والمؤمنين به جميعاً كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، وما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: { قد افترينا على الله كذباً } الآية. بمنزلة التعليل لقوله: { أولو كنا كارهين }.
ومن أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: { إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } على أن شعيباً عليه السلام كان قبل نبوته مشركاً وثنياً - حاشاه - وقد تقدم آنفاً أنه يتكلم عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه وقد كانوا كفاراً مشركين قبل الإِيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك وهداهم بشعيب إلى التوحيد فقول شعيب: { نجانا الله } تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي وأما لو أُريد بها التنجية الحقيقية وهي الإِخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب - وهو لم يشرك بالله طرفة عين - وقومه - وهم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب - جميعاً ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإِنسان لنفسه الهالكة ضراً ولا نفعاً وما أصابه من خير فهو من الله سبحانه.
وقوله: { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } كالإِضراب والترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله بل إن ذلك مما لا يكون البتة، وذلك أن كراهة شيء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فاجأب عليه السلام ثانياً بتعذر العود بعد جوابه أولاً بتعسره، وهو ما ذكرناه من الإِضراب والترقي.
ولما كان قوله: { وما يكون لنا أن نعود فيها } في معنى أن يقال: "لن نعود إليها أبداً" والقطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، وهو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشيئة الله سبحان فقال: { إلا أن يشاء الله ربنا } فإن الإِنسان كيفما كان جائز الخطأ فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.
وفي الجمع بين الاسمين في قوله: { الله ربنا } إشارة إلى أن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا وهو إله ورب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين الوثنية فإنه يسلم الألوهيه لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شؤونها بين الأوثان ويسميها رب البحر ورب البر وهكذا.
وقوله: { وسع ربنا كل شيء علماً } كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنه قيل لما استثنيت بعدما أطلقت الكلام وقطعت في العزم؟ فقال: لأنه وسع ربي كل شيء علماً ولا أُحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيتئه بشيء غائب عن علمي ساءني أو سرني كأن يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، وإن كنا اليوم كارهين له، ولعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: { على الله توكلنا } فإن من يتوكل على الله كان حسبه وصانه من شر ما يخاف.
ولما بلغ الكلام هذا المبلغ وقد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإِخراج أو العود، وأخبرهم شعيب عليه السلام بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ عليه السلام إلى ربه واستفتح بقوله عن نفسه وعن المؤمنين: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب والمؤمنين به، وبين المشركين من قومه، وهو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك ولا ذاك هذا دعا عليه السلام بالفتح وكنى به عن الحكم الفصل وهو الهلاك أو هو بمنزلته وأبهم الخاسر من الرابح والهالك من الناجي وهو يعلم أن الله سينصره وأن الخزي اليوم والسوء على الكافرين لكنه عليه السلام أخذ بالنصفة للحق وتأدب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين }.
وخير الحاكمين وخير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، وعن معنى الفتح آنفاً وسيجيء الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } الآية 180 من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { وقال الملأ الذين كفروا من قومه } إلى آخر الآية. هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به ويكون من جملة الإِيعاد والصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله } ويكون إفراد هذا بالذكر ها هنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة والتمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: { الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين }.
ويحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي وهو اقتفاء إثر الماشي على الطريق والسالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه ومن معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم رداً قاطعاً ثم يدعو بمثل قوله: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } لم يشكّوا أنه سيتركهم ويهاجر إلى أرض غير أرضهم، ويتبعه في هذا المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } فهددوهم وخوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالأصالة، وأما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته ولأجله.
وعلى أي الوجهين كان فالآية كالتوطئة والتمهيد للآية الآتية: { الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } كما تقدمت الإِشارة إليه.
قوله تعالى: { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، وقد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح.
قوله تعالى: { الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها } إلى قوله { الخاسرين } قال الراغب في المفردات: وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره بغنى قال: كأن لم يغنوا فيها (انتهى). و { كأن } مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية.
فقوله: { الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها } فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الإِقامة في أرضهم فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع وعقار، وأما من تمكن في أرض واستوطنها وأطال المقام بها وتعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر وخاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها وما اقتنته فيها طول مقامها. وقد ترك هؤلاء وهم أُمة عريقة في الأرض دارهم وما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وقد كانوا يزعمون أن شعيباً ومن تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم وانقلبت الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
وإلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولاً قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب وأبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: { فأخذتهم الرجفة } ولم يقل: فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: { الذين كذبوا شعيباً } الآية أن الحكم الإِلهي والهلاك والخسران كان لشعيب ومن تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، وهم يزعمون خلافه.
قوله تعالى: { فتولى عنهم } إلى آخر الآية. ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم وهلاكهم، وأن الخطاب خطاب اعتبار، وقوله: { فكيف آسى } (الخ) هو من الأسى أي كيف أحزن، والباقي ظاهر.