التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب الفرد وتثبيت حرمتها وإلغاء نسيء الجاهلية، وفيها الأمر بقتال المشركين كافة.
قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض } الشهر كالسنة والأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم أعصار الإِنسانية، وكأن لبعضها تأثيراً في تنبههم للبعض فقد كان الإِنسان يشاهد تحول السنين ومرورها بمضي الصيف والشتاء والربيع والخريف وتكررها بالعود ثم العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف اشكال القمر من الهلال إلى الهلال، وينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوماً وتنقسم بذلك السنة إلى اثني عشر شهراً.
والسنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وبعض يوم لا تنطبق على اثني عشر شهراً قمرياً هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً تقريباً إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس وينتفع به عامة الناس من الحاضر والبادي والصغير والكبير والعالم والجاهل.
ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع وإن كان هو أيضاً لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحس غلب هناك أيضاً الحساب الدقيق، وهو الذي أثبت اعتبار الأسبوع وأبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرء على حساب السنة من الدقة من جهة الارصاد، وعلى حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة الشمسية تمام الانطباق.
وهذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية وما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل بها من الأرض إلى عرض سبع وستين الشمالي والجنوبي تقريباً، وفيها معظم المعمورة وأما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي والجنوبي فيختل فيها حساب السنة والشهر والأسبوع، والسنة في القطبين يوم وليلة، وقد اضطر ارتباط بعض أجزاء المجتمع الإِنساني ببعض سكان هذه النقاط - وهم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة والشهر والأسبوع واليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض.
على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى أرضنا التي نحن عليها، وأما سائر الكواكب فالسنة - وهي زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة - فيها تختلف وتتخلف عن سنتنا نحن، وكذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو أقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة.
فقوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } الخ ناظر إلى الشهور القمرية التي تتألف منها السنون وهي التي لها أصل ثابت في الحس وهو التشكلات القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.
والدليل على كون المراد بها الشهور القمرية:
أولاً: قوله بعد: { منها أربعة حرم } لقيام الضرورة على أن الإِسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والأربعة من القمرية دون الشمسية.
وثانياً: قوله: { عند الله } وقوله: { في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } فإن هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك ولا يتغير علمه، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والأرض فجعل الشمس تجري لمستقر لها، والقمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، ولا معقب لحكمه تعالى.
ومن المعلوم أن الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية وإن كانت الفصول الأربعة والسنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الأثنا عشر هي ثابتة ذات أصل ثابت هي الشهور القمرية.
فمعنى الآية أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً تتألف منها السنون، وهذه العدة هي التي في علم الله سبحانه، وهي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض وأجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض وهي الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب والدفاتر التي عندنا المؤلفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.
قوله تعالى: { منها أربعة حرم ذلك الدين القيّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه، والقيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة أُمور حياتهم وحفظ شؤونها.
وقوله: { منها أربعة حرم } هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بالنقل القطعي، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: { ذلك الدين القيّم } الخ.
وإنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرماً ليكف الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الأهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربهم بالطاعات والقربات.
وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية.
وقوله: { ذلك الدين القيّم } الإِشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة، والدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أن تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد. كما يشير إليه في قوله:
{ { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [المائدة: 97] الآية وقد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.
وقوله: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعاً إلى { إثنا عشر } المذكور سابقاً لكان الظاهر أن يُقال "فيها" كما نقل عن الفراء، وأيضاً لو كان راجعاً إلى { اثنا عشر } وهي تمام السنة لكان قوله: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبداً أنفسكم، وكان الكلام متفرعاً على كون عدة الشهور عند الله اثني عشر شهراً، ولا تفرع له عليه ظاهراً فالمعنى لما كانت هذه الأربعة حرماً تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها وعظم منزلتها عند الله سبحانه.
فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة وتأكدها لتفرعها على حرمتها أولاً ولأنها نهي خاص بعد النهي العام كما يفيده قولنا: لا تظلم أبداً ولا تظلم في زمان كذا.
والجملة أعني قوله: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وإن كانت بحسب إطلاق لفظها نهياً عن كل ظلم ومعصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهي عن القتال في الأشهر الحرم.
قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } قال الراغب في المفردات: الكف كف الإِنسان وهي ما بها يقبض ويبسط، وكففته أصبت كفه، وكففته أصبته بالكف ودفعته بها، وتعورف الكف بالدفع على أي وجه كان، بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره.
وقوله: وما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافاً لهم عن المعاصي، والهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية وعلامة ونسّابة، وقوله: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } قيل: معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين، وقيل: معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة، وذلك أن الجماعة يُقال لهم: الكافة كما يُقال لهم: الوازعة لقوتهم باجتماعهم، وعلى هذا قوله: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }. انتهى.
وقال في المجمع: كافة بمعنى الإِحاطة مأخوذ من كافة الشيء وهي حرفه وإذا انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة، وأصل الكف المنع. انتهى.
وقوله: { كافة } في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الأول عن الأول وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، والمتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال وذي الحال حينئذ، ومعنى الآية على هذا: وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.
فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيرة قوله تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به هي.
والآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الأوثان غير أهل الكتاب فإن القرآن وإن كان ربما نسب الشرك تصريحاً أو تلويحاً إلى أهل الكتاب لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، وأما الكفر فعلاً أو وصفاً فقد نسب إلى أهل الكتاب وأُطلق عليهم كما نسب وأُطلق إلى عبدة الأوثان.
فالآية أعني قوله: { وقاتلوا المشركين كافة } الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولا هي مخصصة أو مقيدة بها. وقد قيل في الآية بعض وجوه أُخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له.
وقوله: { واعلموا أن الله مع المتقين } تعليم وتذكير وفيه حث على الاتصاف بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة:
أولاً: الوعد الجميل بالنصر الإِلهي والغلبة والظفر فإن حزب الله هم الغالبون.
وثانياً: منعهم أن يتعدّوا حدود الله في الحروب والمغازي بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن ذلك وقتل رجالاً من بني جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله من فعله ثلاثاً، وقتل اسامة يهودياً أظهر له الإِسلام فنزل قوله تعالى:
{ { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة } [النساء: 94] وقد تقدم.
قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر } إلى آخر الآية يُقال: نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة ونسيئاً إذا أخّره تأخيراً، وقد يُطلق النسيء على الشهر الذي أخّر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره وأما أنه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل التاريخ.
والذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنّة جاهلية في أمر الأشهر الحرم وهي المسمّاة بالنسيء، وهو يدل بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرَّمة الذي بعده، وأنهم إنما كانوا يؤخرون الحرمة ولا يبطلونها برفعها من أصلها لإِرادتهم بذلك أن يتحفظوا على سنّة قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم عليه السلام.
فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغى وإنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطئوا عدَّة ما حرَّم الله، وهي الأربعة ثم يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأول.
وهذا نوع تصرف في الحكم الإِلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى وتقدَّس، ولذا عدَّه الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.
وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس حيث قال: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وأظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق الوحيد الذي استفتوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكاه الله سبحانه بقوله:
{ { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [البقرة: 219] وكذا ما في معناه من قوله: { { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } [المائدة: 2] وقوله: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [المائدة: 94]. وكذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال: { ومن دخله كان آمناً } [آل عمران: 97] وقال: { { أولم نمكن لهم حرماً آمناً } [القصص: 57]. فالظاهران النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام. للتوسّل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها.
وهذا كله يؤيد ما ذكروه: أن العرب كانت تحرّم هذه الأشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسّكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زماناً ثم يعود التحريم إلى المحرَّم، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في ذي الحجة.
وأما ما ذكره بعضهم أن النسيء هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمما لا ينطبق على لفظ الآية البتّة، وسيجيء تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. ولنرجع إلى ما كنّا فيه.
فقوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر } أي تأخير الحرمة التي شرعها الله لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في حكم الله المشروع وكفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر.
وقوله: { يضل به الذين كفروا } أي ضلوا فيه بإضلال غيرهم إياهم بذلك، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسيء، وقد ذكروا أن المتصدي لذلك كان بعض بني كنانة، وسيجيء تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله.
قوله: { يحلُّونه عاماً ويحرِّمونه عاماً ليواطئوا عدَّة ما حرَّم الله فيحلوا ما حرَّم الله } في موضع التفسير للإِنساء، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو أنهم يحلّون الشهر الحرام الذي نسؤوه بتأخير حرمته عاماً ويحرّمونه عاماً، أي يحلّونه عاماً بتأخير حرمته إلى غيره، ويحرمونه عاماً بإعادة حرمته إليه.
وإنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والإِثبات أخرى ليواطئوا ويوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنهم يريدون التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة.
وقوله: { زيَّن لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } المزيّن هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، وربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أُخر، ولا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى:
{ { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]. وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذناً لداعي الضلال وهو الشيطان أن يزيَّن له سوء عمله فيغويه ويضله، ولذلك قال تعالى: { زيَّن لهم سوء أعمالهم } ثم عقَّبه بقوله: { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } كأنه لما قيل: زيَّن لهم سوء أعمالهم قيل: كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل: إن هؤلاء كافرون والله لا يهدي القوم الكافرين.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي خالد الواسطي في حديث ثم قال - يعني أبا جعفر عليه السلام - حدثني أبي عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنين عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ثقل في مرضه قال:
"أيها الناس إن السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثم قال بيده: رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات"
]. أقول: وقد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الأثني عشر بالأئمة الاثني عشر، وتأويل الأربعة الحرم بعلي أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعلي بن موسى وعلي بن محمد عليهم السلام، وتأويل السنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال:
"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان" ]. أقول: وهي من خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة، وقد رويت بطرق أُخرى عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وان أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة وغيرهم.
والمراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض استقرار الأحكام الدينية على ما تقتضيه الفطرة والخلقة وتمكن الدين القيم من الرقابة في أعمال الناس، ومن ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم وإلغاء النسيء الذي هو زيادة في الكفر.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعقبة فقال:
"إن النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً فكانوا يحرمون المحرم عاماً ويحرمون صفر عاماً ويستحلّون وهو النسيء"
]. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوفي الموسم كل عام وكان يكنى أبا ثمادة فينادي: ألا إن أبا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ألا إن صفر الأول حلال.
وكان طوائف من العرب إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوّهم أتوه فقالوا: أحلّ لنا هذا الشهر يعنون صفر، وكانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحله لهم عاماً، ويحرمه عليهم في العام الآخر، ويحرم المحرم في قابل ليواطؤوا عدة ما حرم الله يقول: ليجعلوا الحرم أربعة غير أنهم جعلوا صفر عاماً حلالاً وعاماً حراماً.
وفيه اخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله: { إنما النسيء زيادة في الكفر } الآية قال: عمد أُناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: إن آلهتكم قد حرَّمت صفر فيحرِّمونه ذلك العام، وكان يقال لهما الصفران.
وكان أول من نسأ النسيء بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن أُمية وأحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: كان رجل من بني كنانة يُقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أُمامة ينسيء الشهور، وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوماً بمنى فخطب فقال: إني قد أحللت المحرَّم وحرَّمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم فيواطؤوا أربعة أشهر فيحلّوا المحرم.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { يحلّونه عاماً ويحرِّمونه عاماً } قال: هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلّونه سنة ويحرّمونه سنة.
أقول: محصّل الروايات - كما ترى - أن العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم الأربعة رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من القعود عن الحروب والغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بني كنانة أن يحلَّ لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيام الحج بمنى وأحلّ لهم المحرم ونسأ حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم ردَّ الحرمة إلى مكانه في قابل وهذا هو النسيء.
وكان يسمى المحرم صفر الأول وصفر الثاني وهما صفران كالربيعين والجماديين والنسيء إنما ينال صفر الأول ولا يتعدى صفر الثاني فلما أقرَّ الإِسلام الحرمة لصفر الأول عبَّروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خفق وقيل: المحرم، واختص اسم صفر بصفر الثاني فالمحرم من الألفاظ الإِسلامية كما ذكره السيوطي في المزهر.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان شوال وذو القعدة وذو الحجة ثم يحجون فيه.
ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوَّال، ويسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة.
ثم عادوا إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاماً حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العام في ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حجَّ فيها فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول صلى الله عليه وسلم في خطبته:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"
]. أقول: ومحصّله على ما فيه من التشويش والاضطراب أن العرب كانت قبل الإِسلام يحج البيت في ذي الحجة غير أنهم أرادوا أن يحجوا كل عام في شهر فكانوا يدورون بالحج الشهور شهراً بعد شهر وكل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه ذا الحجة وسكتوا عن اسمه الأصلي.
ولازم ذلك أن يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهراً، وأن يتكرر اسم بعض الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، ولذا ذكر الطبري أن العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية اثني عشر شهراً وخمسة وعشرين يوماً.
ولازم ذلك أيضاً أن تتغير أسماء الشهور كلها، وأن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر إلا في كل اثنتي عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ، وذلك على نحو الدوران.
ومثل هذا لا يقال له الإِنساء والتأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر شهراً وتسمية آخرها ذا الحجة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.
على أنه مخالف لسائر الأخبار والآثار المنقولة، ولا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلُّون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل ستة وعشرين سنة مرة وهو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام الحج الأكبر ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" . وهو في الاضطراب كخبر مجاهد.
على أن الذي ذكره من حجة أبي بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق أهل السنَّة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر أميراً للحج عام تسع فحجَّ بالناس، وقد ورد في بعض روايات أُخر أيضاً أن الحجة عامئذ كانت في ذي القعدة.
وهذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمرٍ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمضائه، ولا يأمر بشيء ولا يمضي أمراً إلا ما أمر به ربه تعالى، وحاشا أن يأمر الله سبحانه بحجة في شهر نسيء ثم يسميها زيادة في الكفر.
فالحق أن النسيء هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالي شهور ثلاثة محرَّمة فينسؤون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل.
وأما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة وفي شهر سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، وليس من البعيد أن تكون عرب الجاهلية مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتى وعشائر متفرقة كلٌّ متَّبع لهوى نفسه غير أن الحج كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم، وما كانوا يتمكنون من ذلك لو كان أحلّ الشهر بعضهم وحرَّمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم، وهو ظاهر.