التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ
٢٠
يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ
٢١
قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
٢٢
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٣
قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
٢٤
قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٥
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٦
-المائدة

تفسير الأعقم

{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله } أشياع أبناء الله عزير والمسيح { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فإن صحّ أنكم أبناؤه فلِمَ يعذبكم بذنوبكم وتعذبون وتمسخون وتمسكم النار على زعمكم، ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين القبائح ولا مستوجبين العقاب، ولو كنتم أحباؤه لما أغضبتموه ولما عاقبكم { بل أنتم بشر ممن خلق } من جملة من خلق من البشر { يغفر لمن يشاء } من أهل الطاعة { ويعذب من يشاء } وهم العصاة { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم } الدين والشرائع { على فترة } أي جاءكم على حين فترة { من } ارسال { الرسل } وانقطاع من الوحي { أن تقولوا } كراهة { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } قيل: كان بين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسمائة وستون سنة، وقيل: ستمائة، وكان بين موسى وعيسى ألف وسبع مائة سنة وألف نبي، وبين عيسى ومحمد أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي قال ذلك جار الله، والمعنى الامتنان عليهم وإن الرسل تبعث إليهم حين انطمست آثار الوحي أحوج ما يكون إليه { إذ جعل فيكم أنبياءَ } لأنه لا يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وجعلكم ملوكاً } لأنهم ملكهم بعد فرعون وبعد الجبابرة، وقيل: لأن الملوك تكاثرت فيهم، وقيل: كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذ الله قسماً إنقاذهم ملكاً، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه نهر جاري، وقيل: من له بيت وخدام، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وعمل المشاق { وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين } من فلق البحر وإغراق العدوّ وإنزال المن والسلوى، وقيل: أراد عالمين زمانهم { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } أرض بيت المقدس، وقيل: الطور وما حوله، وقيل: الشام، وقيل: فلسطين ودمشق وكانت بيت المقدس قرار الأنبياء ومساكن المؤمنين { التي كتب الله } فيها { لكم } وسماها أو خط في اللوح أنها لكم { ولا ترتدوا على أدباركم } ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من جور الجبابرة لما حدثهم النقباء بجور الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا ليتنا بمصر { ولا ترتدوا على أدباركم } في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم { فتنقلبوا خاسرين } ثواب الدنيا والآخرة { قالوا يا موسى أن فيها قوماً جبَّارين } أي ممتنعين من أن يقهروا ويغلبوا، قيل: طوال الأجسام عظامها وذلك أن موسى (عليه السلام) بعث اثني عشر نقيباً يتجسسون أخبارهم فلما رأوهم عادوا وأخبروا قومهم وقد عاهدهم موسى ألا يخبروا أحداً منهم كيلا يجبنوا عن لقائهم فخالفوا وأخبروا إلاّ رجلين منهم يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، قوله تعالى: { إنا لن ندخلها } نفي لدخولهم في المستقبل على جهة التوكيد { حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون } فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون لله ساجدين، وحزن يوشع بن نون، وكالب، وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما بقوله: { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } بالايمان قالا لهم أن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وارجعوا إليهم فإنكم غالبون، وأراد بالباب قرية الجبارين، وروي عن الفقيه شهاب الدين أحمد بن مفضل نور الله ضريحه أنه لقي مرَّة رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق، كان يتحجر بالسحاب أن يبلغ السحاب منه حجره السراويل ويشرب من السحاب، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس ثم يأكله، ولم يبلغ الماء من طوفان نوح ركبتي عوج، روى الثعلبي أن طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألفاً وثلاثمائة وثلاث وثلاثون ذراعاً، وعاش ثلاثة آلاف سنة وأهلكه الله على يدي نبيه موسى (عليه السلام) وكان عسكر موسى فرسخ في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء الجبل وقدر منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها عليهم، فأقبل موسى (عليه السلام) وكان طوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة وصد في السماء عشرة، فما أصاب إلا كعب فقتله قال: فلما قتل وقع على نيل مصر فحصرهم سنة وكانت أمه عنق، وقيل: عناق إحدى بنات آدم (عليه السلام) ويقال أنها كانت أول بغيَّة على وجه الأرض، قال: وكان كل اصبع من أصابعها ثلاثة أذرع في ذراعين وكان موضع مجلسها حربياً وروي أن عوج لقي النقباء وعلى رأسهم حزمة حطب فأخذ الاثني عشرة وحملهم في حجرته وانطلق بهم إلى امرأته، قال: انظري إلى هؤلاء القوم يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لأطحنهم برجلي، فقالت امرأته له: لا بل خلهم حتى يخبروا قومهم، ففعل ذلك، فلما خرج النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم أنكم إن أخبرتم بني اسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون، فلما بلغوا إلى موسى وهارون أخبروا قومهم إلا رجلان، قوله تعالى: { إنا لن ندخلها أبداً } نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد وهذا دليل على كفرهم ومخالفتهم له ولم يبق معه مطيع إلا هارون (عليه السلام) { فاذهب أنت وربك } قالوا ذلك استهانة بالرسول واستهزاء وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وخطابهم وجفائهم وقسوة قلوبهم، ولما عصوه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر { قال رب إني لا أملك } لنصر دينك { إلا نفسي وأخي } وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى والحسرة ورقة القلب، وعن علي (عليه السلام): "أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة على قتال البغاة فما أجابه إلا رجلان" { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } اي فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون وهو في معنى الدعاء { قال فإنها محرَّمة } يعني الأرض المقدسة { عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها، قال جار الله: فإن قلتَ كيف يوافق بين هذا وبين قوله تعالى: { التي كتب الله لكم }؟ قلتُ: فيه وجهان أحدهما أنه كتبها لهم بشرط أن يجاهدوا اهلها فلما أبُوْا الجهاد قيل: { أنها محرمة عليهم أربعين سنة } فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني اسرائيل وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتح أريحا وأقام بها ما شاء الله ثم قبض، وقيل: لما مات موسى (عليه السلام) بعث يوشع نبياً فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل، وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال أنا لن ندخلها أبداً، وأهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذراريهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها، قوله تعالى: { يتيهون في الأرض } يعني يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً، روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم حادين حتى إذا سئِموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا منه، وكان الغمام يظلهم من حرّ الشمس، ويطلع عليهم عمود من نور بالليل يضيء لهم وينزل عليهم المن والسلوى، ولا يطول شعرهم، فإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول طوله، قال جار الله: فإن قلت: كيف كان ذلك نعمة عليهم وهم يعاقبون؟ قلت: كما يقول بعض النوازل على بعض العصاة عركا لهم وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة وروي أن هارون مات في التيه، ومات موسى بعده، ودخل يوشع أريحا، ومات النقباء في التيه إلا الرجلان، وروي أن موسى وهارون لم يكونا في التيه.