التفاسير

< >
عرض

وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
-هود

تفسير كتاب الله العزيز

قوله: { وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } أي: بأمرنا { وَوَحْيِنَا } أي: وبوحينا فعملها على مثل جؤجؤ الطير. قال بعضهم: رأسها مثل رأس الحمامة، وذنبها مثل ذنب الديك.
قوله: { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ }، أي: ولا تراجعني في الذين ظلموا أنفسهم بشركهم { إِنَّهُم مَّغْرَقُونَ }.
قال: { وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } أي: إن نوحاً عمل الفلك بيده، فكان يمر عليه الملأ من قومه، فيقولون له استهزاءً به: يا نوح، بينما تزعم أنك رسول رب العالمين إذ صرت نجّاراً.
{ قَالَ } لهم: { إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ }. وكان الرجل من قومه يأخذ بيد ابنه فيذهب به إلى نوح فيقول: يا بُنَيّ، لا تطع هذا، فإن أبى قد ذهب بي إليه، وأنا مثلك، فقال لي: لا تطع هذا.
قوله: { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } يعني عذاب الدنيا، أي: الغرق.
قال: { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي: دائم في الآخرة. وهي تقرأ على وجهين: يحِل ويحُل؛ فمن قرأها: ويحل، أي: يجب. ومن قرأها: ويحُل: أي وينزل به.
قوله: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ } والتنور في تفسير الحسن: الباب الذي يجتمع فيه ماء السفينة؛ ففار منه الماء، والسفينة على الأرض. [فكان ذلك علامة لإِهلاك القوم].
وقال بعضهم: التنور عين ماء كانت بالجزيرة يقال لها التنور.
وبعضهم يقول: كان التنور في أقصى داره. وقال بعضهم: كان التنور أعلى الأرض وأشرفها.
وقال مجاهد: { وَفَارَ التَّنُّورُ } حين ينبجس الماء منه. فأوحى الله إليه إذا فار التنور أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، وهو قوله:
{ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي: من كل صنف اثنين. والزوج هو الواحد، والزوجان اثنان. وقال مجاهد: ذكر وأنثى من كل صنف. فحمل فيها من جميع ما خلق الله من البهائم والهوام والسباع والدواب، دوابّ البر والبحر والطير والشجر. وشكوا إلى نوح في السفينة الزبل، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نوح أن يمسح بيده على ذنب الفيل، ففعل؛ فخرج منه خنزيران كانا يأكلان الزبل. وشكوا إليه الفار، فأوحى الله إلى الأسد، أي ألقى في قلبه، مثل قوله تعالى:
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [النحل:68]، فعطس الأسد فخرج من منخريه سنّوْران فكانا يأكلان الفار. وشكوا إلى نوح عرامة الأسد، فدعا عليه نوح فسلط الله عليه الحمى، فقال له نوح: "إزناتاعت لسري" وهي بالسريانية. فقال له نوح: أيها الأسد: أتريد لحماً؟ فأومأ الأسد: لا.
قوله: { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ } أي: الغضب، وهو ابنه الذي غرق، وقال الحسن: { مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ } أي: كل من غرق يومئذٍ.
وقال الحسن: وأهلك إلا من سبق عليه القول: { وَمَنْ ءَامَنَ } يقول: احمل أهلك ومن آمن. وهم الذين كانوا في السفينة، هم أهله، وهم الذين آمنوا إلا من سبق عليه القول.
قال: { وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }. قال بعضهم: لم ينج في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنين له: سام وحام ويافث ونساؤهم، فجميعهم ثمانية.
ذكروا عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"سام أبو العرب، وحام أبو الروم، ويافث أبو الحبش"
قال الحسن: وكان طول السفينة ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، مطبِّقَة تسير ما بين الماءين، بين ماء السماء وماء الأرض.
وقال بعضهم: كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وبابها في عرضها. وإنما استقلَّت بهم في عشر خلون من رجب، وكانت بهم في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرّت بهم على الجودي شهراً، وأهبطوا إلى الأرض في عشر خلون من المحرم.
قال: وذكر لنا أن نوحاً عليه السلام بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة، فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورقة زيتون، فأعطيت الطوق الذي في عنقها، وخضاب رجليها. وأن السفينة لما مرّت بالبيت طافت به أسبوعاً.
قال: وكان للسفينة ثلاثة أبواب، باب للسباع والطير، وباب للبهائم، وباب للناس. وفصل بين الرجال والنساء بجسد آدم عليه السلام، حمله معه نوح. وكان إبليس على الكوثل، وهو ذنب السفينة. فعرض عليه نوح التوبة، فقال إبليس: كيف أصنع؟ قال تسجد لجسد آدم، أي: بالوحي قال: ما سجدت له حياً فكيف أسجد له ميتاً.