التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

تفسير كتاب الله العزيز

قوله: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي: شدة العذاب، وتفسير يسومونكم أي: يذيقونكم سوء العذاب { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } فلا يقتلونهن { وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي نعمة من ربكم عظيمة إذ نجاكم منهم.
قوله: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } يَعني حين جازوا البحر { فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } يعني أَوَّليهم. وقال بعضهم: وأنتم تنظرون كأنَّمَا عهدكم بهم أمس.
قوله: { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي لأنفسكم. { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لكي تشكروا. يعني التوبة التي جعلها الله لهم، فقتل بعضهم بعضاً فغلَّظ عليهم في المتاب.
قوله: { وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } الكتاب التوراة، والفرقان حلالها وحرامها. { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }. يقول: لكي تهتدوا بالكتاب وبالحلال والحرام.
قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } أي: إلى خالقكم { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } أي خالقكم { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }.
ذكروا أن موسى عليه السلام لما قطع البحر ببني إسرائيل، وأغرق الله آل فرعون، قالت بنو إسرائيل لموسى: يا موسى، ايتنا بكتاب من عند ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه. فلما تجهّزوا قال الله لموسى: أخبر قومك أنك لن تأتيهم إلى أربعين ليلة، وذلك حين أتممت بعشر، وهي ثلاثون من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة. قال الحسن: كانت أربعين من أوّل؛ يقول:
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } [الأعراف: 142] وبعدها عشراً، كقوله: { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة: 196].
قال الكلبي: فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروا في أسفل الجبل. وصعد موسى الجبل فكلّمه ربه، وكتب له في الألواح. ثم إن بني إسرائيل عدّوا عشرين يوماً وعشرين ليلة فقالوا: قد أخلَفَنَا موسى الوعد. وجعل لهم السامري العجل
{ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } [طَهَ:88] فعبدوه.
قال الكلبي: فبلغنا ـ والله أعلم ـ أن الله قال عند ذلك: يا موسى إن قومك قد عبدوا من بعدك عجلاً جسداً له خوار. فرجع موسى إلى قومه ومعه السبعون، ولم يخبرهم موسى بالذي أحدثت بنو إسرائيل من بعده بالذي قال له ربه. فلما غشي موسى محلّة قومه سمع اللغط حول العجل، فقال السبعون: هذا قتال في المحلَّة. فقال موسى ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة. فلما دخل موسى ونظر ما يصنع بنو إسرائيل حول العجل غضب، وألقى الألواح فانكسرت، فصعد عامة ما فيه من كلام الله.
{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } [الأعراف:150] فقال له هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِيَ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه:94]. فأرسله موسى وأقبل على السامري وقال: ما خطبك يا سامري؟ ولم صنعت ما أرى؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، يعني بني إسرائيل. قال: وما الذي بصرت به؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيت عليه من شيء كان له روح ودم. فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً فكذلك سوّلت لي نفسي أن أصنع إلهاً، ثم ألقي عليه القبضة فيصير ربّاً لبني إسرائيل، فيعبدونه بين ظهرانيهم.
فغضب موسى فأمر بالسامري أن يخرج من محلّة بني إسرائيل ولا يخالطهم في شيء، فأمر بالعجل فذبح ثم أحرقه بالنار. فمن قرأ
{ لَّنُحَرِّقَنَّهُ } [طه:97] فهو يريد لنبردنه ومن قرأها { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } فهو يريد لنحرّقنه بالنار. وهي أعجب القراءتين إلي، لأن الحريق للذهب الذي لا تحرقه النار آية عجيبة لموسى. فسلّط الله عليه النار فأحرقته فلما أحرقته النار ذراه موسى في اليم، وهو البحر.
ثم أتاهم موسى بكتاب ربهم فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض. فلما نظروا إليه قالوا: لا حاجة لنا فيما أتيتنا به، فإن العجل الذي حرّقته كان أحبّ إلينا مما أتيتنا به، فلسنا قابليه ولا آخذين ما فيه. فقال موسى: يا رب، إن عبادك بني إسرائيل ردّوا كتابك، وكذّبوا نبيّك، وعصوا أمرك. فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل، فغشوا به بني إسرائيل، حتى أظلوا به عسكرهم، فحال بينهم وبين السماء. فقال موسى: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقى عليكم الجبل فيشدخكم. فقالوا: سمعنا وعصينا. أي: سمعنا الذي تخوّفنا به، وعصينا الذي تأمرنا به. ثم أخذوا الكتاب، ولم يجدوا بداً من أخذه. ورفع عنهم الجبل. فنظروا في الكتاب، فبين راض وكاره، ومؤمن وكافر. يقول الله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لكي تشكروا. فندم القوم على ما صنعوا وعاتبهم موسى وعيَّرهم بالذي صنعوا، وقال: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتِّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم، أي إلى خالقكم. فقالوا: كيف التوبة يا موسى؟ قال: فاقتلوا أنفسكم، يعني يقتل بعضكم بعضاً. ذلكم، أي: المتاب، خير لكم عند خَالِقكم. قالوا: قد فعلنا يا موسى. فأخذ عليهم العهد والميثاق: لتصبرنَّ للقتل ولترضَوُنَّ به. قالوا: نعم. قال: فأَصبِحوا في أفنية بيوتكم، كل بني أب على حدتهم، ففعلوا. فأمر موسى السبعين الذين لم يكونوا عبدوا العجل من بني إسرائيل أن يأخذوا السيوف ثم يقتلون من لقوا. ففعلوا، فمشوا في العسكر، فقتلوا من لقوا. فبلغنا ـ والله أعلم ـ أن الرجل من بني إسرائيل كان يأتي قومه في أفنية بيوتهم جلوساً فيقول: إن هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل حبوته، أو قام من مجلسه، أو أحدَّ إليهم طرفاً، أو اتَّقاهم بيد أو رجل، فيقولون: آمين. فجعلوا يقتلون من لَقُوا. ثم نزلت الرحمة من الله فرفع عنهم السيف وتاب الله عليهم. [وذلك قوله]: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }. وكانت قتلاهم ـ فيما بلغنا، والله أعلم ـ سبعين ألفاً.
وقال بعض المفسرين: أمروا أن ينتحروا بالشِّفار. فلما بلغ الله فيهم نقمته سقطت الشفار من أيديهم، فكان للمقتول شهادة، وللحي توبة.