التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٢٢
-يونس

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ هُو الذِى يسَيِّركُم } يجعلكم سائرين، بأن أقدركم على السير وخلقه منكم، والتشديد للتعدية لا للمبالغة، لأن سار لا يتعدى، وأما قول الهذلى:

فلا تجزعَن من سنةٍ أنت سرتها وأول راضٍ سنة من يسيرُها

فلا دليل فيه للفارسى فى تعديه، لأن الضمير فيه إما مفعول مطلق نائب عن السنَّة، والسنَّة بمعنى السيرة، أو بمعنى الظرف، والسنَّة بمعنى الطريقة، كما تقول الطريقة أسرتها، وقرأ ابن كثير فى رواية كسر السين وإسكان الياء بعدها من أسار المعدى بالهمزة، وقرأ ابن عامر، وزيد بن ثابت، والحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبو عبد الرحمن، وشيبة: ينشركم بفتح المثناة، بعدها نون ساكنة، بعد النون شين معجمة مضمومة، أى يفرقكم.
قيل: كانوا يقرءون هكذا، فنظروا فى الإمام وهو مصحف عثمان، فوجدوها بياءين بينهما مهملة فاتبعوه، وأول من كتبها مثله الحجاج، وعن الحسن: ينشركم بضم المثناة وكسر الشين المعجمة، وإسكان النون بينهما.
{ فى البرِّ } على الدواب والأرجل { والبَحْر } على الفلك وذلك دلالة على القدرة، وتعديد للنعمة قبل ركوب البحر، وقت حسن الظن به للجهاد والحج، متفق على جوازه، وكذا لضرورة المعاش، ويكره لطلب الغنى والاستكثار، وقيل: لا يكره، وتركه أحسن، وأما ركوبه فى ارتجاجه فممنوع، وفى الحديث:
"من ركب البحر فى ارتجاجه فقد برئت منه الذمة" وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا أركبه أبداً" .
{ حتَّى إذا كُنتُم فى الفُلْك } جمع فلك بضم الفاء وإسكان اللام أيضا، بدليل ضمير الجماعة بعد وهو النون الموضوعة لجماعة الإناث فى قوله: { وجَرَيْن } وليس مفرداً يطلق على الواحد والجماعة، لقولهم فى التثنية فلكان { بِهِم } الأصل بكم الخطأ، وعدل عنه إلى الغيبة للبلاغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم من سوء الصنيع، وقلة الحياء، معرضا عنهم بعد خطابهم، ليعجبه منهم، ويستدعى منه الإنكار والتقبيح، مع أن ذلك الكلام من الله عز وجل مع نبيه صلى الله عليه وسلم لا معهم، فتقوى ذلك العدول.
وعن بعض: أن كل من أقام غائبا مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغيبة، وقرأ أبو الدرداء: فى الفلكى بياء النسب المزيدة للمبالغة، كقوله:

والدهر بالإنسان دوارى

أى دوار، كقولك أحمرى وأصلى، تريد أنه أحمر وأنه أصل لا النسبة إلى أحمر وأصل، ولزيادتها لم تخرج الكلمة عن معنى الجمع، فأعيد إليها ضمير الجمع، وإلا فإنك إذا أردت بالفلكى فى كلامك شيئاً منسوباً إلى الفلك ترجع إليه الضمير مفرداً وقد يقال: إن النسب على أصله لا زائد، وأن المعنى الماء الفلكى وهو العظيم الذى تجرى فيه الفلك، وعلى هذا فالضمير فى { جرين } عائد إلى الفلك الذى دل عليه هذا النسب، والباء للتعدية، كأنه قيل وأجرينهم، شبه نقلها إياهم من مكان لآخر بالإجراء، أو كمع أى وجرين معهم إذ هم فيهن، فهم معهن أو للاستعانة.
{ بريح طيِّبةٍ } لينة ألهبوب، قيل: الريح إذا لم توصف بطيب ونحوه فهى المكروهة { وفَرِحُوا بها } أى بتلك الريح { جَاءتْها } أى تلك الريح، أو تلك الفلك والأول أولى من حيث مناسبة الضمير فى الإفراد والقرب، والثانى أولى من حيث المعنى وهو الراجح عندى، ولا بأس بإفراد الضمير باعتبار الجماعة، أو الجماعة بعد جمعه، وقرأ ابن أبى عبلة: جاءتهم وهو أنسب بالثانى، ولو ناسب الأول أيضا { رِيحٌ عاصِفٌ } الريح يذكر ويؤنث فى الإظهار والإضمار، وليس التذكير للنسب، لأن النسب لا يبيح التذكير عند التحقيق، تقول: رجل تامر، وامرأة تامرة لا تامر، أى ذات تمر، والعصوف شدة الهبوب السرعة، وأصله كسر الأشياء.
ومعنى مجىء الريح العاصف، الريح الطيبة تلقيها إياها، وإذهابها، أو تغلبها عليها، وجملة جاءتها ريح عاصف جواب إذا، وبمجموع الشرط وما عطف عليه، والجواب وما بعده صح الترتيب على التسيير وإلا فبمجرد كونهم فى الفلك لا يترتب على التسيير فى البحر.
{ وجَاءهُمْ الموْجُ } ما ارتفع من الماء أو شدة حركة الماء واختلاطه { مِنْ كلِّ مكانٍ } ممكن مجئ الموج منه، إذ لا يجيئهم الموج من صحراء أو جبل { وظنُّوا } رجحوا أو أيقنوا { أنَّهم أحِيطَ بِهِم } للهلاك حتى لا يبين لهم سبيل إلى الخلاص.
{ دَعَوُا اللهَ مخْلِصينَ لَه الدِّينَ } أى الدعاء بعد أن كانوا قبل ذلك يدعون سواه، أو مذعنين بأنه لا دين إلا دينه، وأن عبادة الأوثان باطلة، لأنهم يعلمون أنه لا ينجيهم من الشدائد إلا الله، أو لتراجع الفطرة التى ولدوا عليها لزوال معارضها بشدة الخوف، وهذه الجملة بدل اشتمال من ظنوا، لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به وقال الطبرى: هى جواب لقوله: { ظنوا } فلعله أراد بالجوابية هذا الاتصال الذى تفيده البداية أو أنه جواب لـ لما محذوفة أو إذا محذوفة أى ولما ظنوا أو إذا ظنوا.
{ لئِنْ أنجيتَنَا مِنْ هذِهِ } أى هذه الشدة، أو هذا الريح العاصف { لنَكوننَّ منَ الشَّاكِرينَ } بالتوحيد والعبادة، وذلك مقول لقول محذوف، أى يقولون: والله لئن أنجيتنا الخ أو لدعوا لئن بمعنى القول، وذكر الطبرى فى هذا المقام من دعاء العجم: هيا شراهيا، ومعناه يا حى يا قيوم.