التفاسير

< >
عرض

فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٢
-هود

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فاسْتَقم كَما أمِرْتَ } أى كن معتدلا فى الاعتقاد، لا تشبه الله بخلقه، ولا تعطله، وفى الأعمال كالصلاة والصوم، وتبليغ الوحى، وبيان الشرع من غير إخلال بواجب، ومن غير غلو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد - أى نغالبه - إلا غلبه فسددوا - أى اعملوا بالصلاح - وقاربوا" أى وسطاً لا غلو ولا إخلال، أو الواو بين الأعمال فى رفق وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، أى بالعمل أطراف النهار وقتا وقتا، وشئ من الدلجة، أى وقليل من العمل فى الليل.
وقال ما معناه إن من دخل الدين بغير رفق كان كمن حمل على دابته ما لا تطيق وعقرت بحملها قبل الوصول فماله ظهر دابته سالما ولا وصول حيث قصده.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية، ولهذا قال:
"شيبتنى هود وأخواتها" وفى رواية: "الواقعة، والمرسلات، وعم، وإذا الشمس كورت" وقال عياض: المشهور أن ذلك لما فيهن من ذكر ما حل بالأمم انتهى.
قلت: يمكن الجمع بأن ما يشبه من هود هذه الآية، ومن تلك السور ذكر ما حل بهم، ثم رأيت ما يؤيده، وهو أن بعضا ممن يعتد برؤياه،
"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم، فقلت له: روى عنك أنك قلت: لقد شيبتنى هود فقال: نعم فقال: ما الذى شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت" .
وفى رواية رآه بعض العلماء فى النوم فقال: "يا رسول الله بلغنى عنك أنك قلت:شيبتنى هود وأخواتها فما الذى شيبك من هود؟ فقال: قوله عز وجل: فاستقم كما أمرت وقال له أصحابه: لقد أسرع فيك الشيب؟ فقال شيبتنى هود" .
وإن قلت: فهل ينافى ذلك تفسير الاستقامة بالدوام عليها؟
قلت: لا ينافيها، لأيه اشتد خوفه بتلك السور وهو مستقيم، لكنه خاف أن يزل، وخاف لعله كان غير مستقيم بأن قصر مثلا تقصيرا ما، وقال جعفر الصادق: المعنى افتقر إلى الله بصحة العزم، والأولى أن يقال افزع بدل افتقر، ولو كان الافتقار أيضا خلوا وفراغا.
{ ومَنْ تَابَ } من الشرك، والعطف على المستتر فى استقم للفصل بـ { كما أمرت } وهم أيضا مستقيمون، فأمرهم بالاستقامة أمر بالدوام عليها، وإن راعينا خللا فى جانبهم، من حيث إنهم غير معصومين، أو راعينا من لم يستقم، فالأمر بالاستقامة فى جانبهم أمر بالدخول فيها على الأصل، فيكون استقم مستعملا فى معناه المجازى وفى معناه الحقيقى، وقد أجاز غير واحد ذلك، وعلى المعنى يعتبر الحال الذى استقبل بعد نزول الآية فى جانب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه حال غير موجودة فلا يلزم من الأمر بالاستقامة فيها تحصيل الحاصل، وكذا فى جانبهم إن فرضنا استقامتهم، واعتبرناها حال النزول، أو يقدر على المنع أمر آخر لكنه باللام، والمضارع لائق بحالهم، أى وليستقم من تاب.
{ مَعَك } متعلق بتاب، أو حال من المستتر فى تاب، ولا يلزم من تعليقه فيه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشرك وتاب من الشرك، حاشاه عن ذلك، لأنه يجوز أن تقول قمت مع زيد، تريد أنك قمت بحضرته ولو لم يقم هو.
واعلم يا أخى رحمك الله أنى استقريت هذه المذاهب المعتبرة كمذهبنا معشر الأباضية، ومذهب المالكية، ومذهب الشافعية، ومذهب الحنفية، ومذهب الحنبلية، بالمنقول والمفعول، ولم أر مستقيما منها فى علم التوحيد والصفات، سوى مذهبنا، فإنه مستقيم خال عن التشبيه والتعطيل، حججه لا تقاومها حجة، ولا تثبت لها، والحمد لله وحده.
{ ولاَ تَطْغَوا } لا تجاوزوا المأمور به إلى المنهى عنه، ففى ذلك تأكيد لقوله: { استقم كما امرت ومن تاب معك } { إنَّه } تعليل مستأنف { بما تعْملُون بَصيرٌ } فيجازيكم به، ومن انحرف عن النص بنحو قياس واستحسان فقد طغى وخرج عن الاستقامة، وحام حول النهى، ونبذ الأمر، قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهى، ولا تروغ منه روغان الثعلب، وما لم يرد فيه النص فالواجب على غير المجتهد أن يتبع فيه المجتهد، وإن استقل برأيه فسق، قاله أبو يعقوب يوسف بن خلفونرحمه الله .