التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠٩
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وما أرسَلْنا مِن قَبلكَ إلا رجَالاً } رد على من قال: { لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } وقال ابن عباس: ذلك نفى لاستنباء النساء، ويقال لمن ادعت النبوة: لم تزل أنبياء الله ذكرانا، والمراد بالإرسال الجعل أنبياء، سواء مع رسالة أو عدمها، وما ذكرته أولا أولى من قول ابن عباس، لأنهم لم يدعوا بنبوءة امرأة، ويرد عليهم بذلك، اللهم إلا أن يراد مجرد الإخبار بأن المرأة لا ترسل، وأراد ابن عباس أن الآية تنفى نبوتها، ولو كان المقصود بالذات فيها نفى رسالة الملك، ويجوز أن يراد بيان خطئهم فى استهزائهم وتهكمهم فى أخت العباس، لما رأت فى المنام ما يدل على هلاكهم فى بدر، إذ قال بعضهم للعباس: متى حدثت هذه النبية فيكم؟ وقد مر بيان ذلك، ولو كان بين نزول هذه السورة وقولهم ذلك مدة.
{ نُوحى إليْهم } قال أبو عمرو الدانى: قرأ حفص نوحى إليهم، هنا، وفى النحل، والأول من الأنبياء بالنون وكسر الحاء والباقون بالياء وفتح الحاء، وحمزة والكسائى يميلان على أصلهم انتهى.
{ مِنْ أهلِ القُرى } المراد ما يشمل الأمصار، وذلك لأنهم أعلم وأحلم من أهل البدو، ولم يبعث الله نبيا من أهل البدو لجهلهم وجفائهم وقسوتهم، ولا يعترض ذلك ببدو يعقوب، لأن بدوه لم يكن فى أهل عمود، بل باستقرار ومنازل وربوع، بل قد بنى بيتا سكنه، ومر كلام فى ذلك أو جعله بدوا بالإضافة إلى مصر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فضيلة أهل المدائن، أى الأمصار، على أهل القرى كفضيلة الرجال على النساء وفضيلة أهل القرى على أهل العمود كفضيلة الرجال على النساء، وأهل الكفور كأهل القبور فقيل: ما الكفور؟ فقال: البيت بعد البيت" وقال: "ما من ثلاثة يكونون فى قرية البدو ولا يُجمعون للصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، وإنما يأخذ الذئب من الغنم القاصية" وقال: "الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأتى الشاة القاصية، عليكم بالمساجد والجماعة والعامة، وإياكم والشعاب" .
"وكان معاذ على بعض أهل الشام فجاءه ناس من أهل البادية فقالوا له: قد شقت الإقامة، فقد بدأت بنا، فقال لعمرى لابداء لكم قبل الحاضرة أهل العبادة وأهل المساجد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عليهم تنزل السكينة، وإليهم يأتى الخير، وبهم يبدأ يوم القيامة" قال والخير الوحى، ولا نبى من الجن بعد خلق آدم، وأما قبله فقيل: كانت الجن تعمر الأرض وأنبياءهم منهم لا من النساء، وفى نبوءة بعض النساء خلاف أذكره فى سورة القصص إن شاء الله، والتبدى مكروه إلا فى الفتن والهروب بالدين، فلا يكره بل يستحب، وإن تحقق فساد الدين بعدمه وجب، وهذا كله مع إبقاء وطنه فى الحضر.
{ أفلمَ يسيرُوا فى الأرضِ فينْظُروا كَيفَ كانَ عاقبةُ الذينَ من قَبْلهم } من المكذبين وهى هلاكهم وخراب دورهم، فإنما آخر أمرهم وآخر الشئ يسمى عاقبة، فهلا تركوا التكذيب مخافة أن يكون ذلك عاقبتهم، أو أراد بالذين من قبلهم المبالغون فى حب الدنيا، كانت عاقبتهم ذلك، فهلا انقلعوا عن حب الدنيا لئلا يكون عاقبتهم ذلك، ولما صدق واحد فإن التكذيب مترتب على حب الدنيا.
{ ولدارُ الآخرةِ } أى ولدار المدة الأخيرة، أو لدار النشأة الأخيرة، أو لدار الحالة الأخيرة، أو لدار الساعة الأخيرة، ولدار الحياة الأخيرة، أو نحو ذلك، فحذف الموصوف وأضيف الدار للصفة، وأراد بالدار الجنة، وبالأخرة ما ذكر من زمان أو نشأة أو حياة أو حالة، وقال الكوفيون ذلك ذلك إضافة موصوف لصفة، والأصل الدار الآخرة، حذفت أل وأضيفت دار للآخرة، ولزم إضافة الشئ إلى نفسه وهو غير متصور، وما وأهم صورة التأويل هنا ما ذكرته أولا، أو يجعل ذلك من إضافة العام للخاص كشجر.
{ خيرٌ للذِينَ اتقَوْا } خافوا الله وحذروا معصيته والإشراك به { أفلا تعقلُونَ }أنها خير فتؤمنوا، استعمل تعقل بمعنى تعلم، لأن العلم بالعقل، والمعنى، أفلا تستعملون عقولكم فتعملوا أنها خير فتؤمنوا، والخطاب مجرى على ما يقتضيه قوله سبحانه وتعالى:
{ قُلْ هذه سَبيلِى } فإنه إذا قال لهم خاطبهم فكأنه قال: قل لهم أفلا تعقلون، وذلك قراءة نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب، وقرأ غيرهم أفلا يعقلون بالمثناة التحتية جريا على ما يقتضيه قوله عز وجل: { أفلم يسيروا }.