التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قالُوا لَئِنْ أكلهُ الذِّئبُ } أى والله لئن أكله الذئب { ونحْنُ } الواو للحال { عُصبةٌ إنَّ إذاً لخاسِرُونَ } عاجزون ضعفاء تعبير، فإن الخسران فى المال مثلا يكون فى الجملة لعجز وضعف فى البدن، أو فى النفس والعقل، وجملة إنا الخ جواب القسم الموطأ له بلام لئن، مغن عن جواب الشرط، أو يقدر له مثله، أو معنا خاسرون مغبونون فى أمره، أو خاسرون فى مواشينا بأن لا نقدر على حفظها، أو غادرون أو ضالون فى الدين، أو مستحقون للموت، إذ لا نفع فيهم إن كان ذلك، أو مستحقون أن يدعو عليهم أبوهم بالهلاك والدمار.
وقالوا: يا نبى الله كيف يأكله الذئب وفينا شمعون إذا غضب لا يسكن غضبه حتى يصيح، وإذا صاح لا سمعه حامل إلا وضعت ما فى بطنها، وفينا يهودا إذا غضب شق السبع نصفين، فلما سمع يعقوب ذلك اطمأن إليهم.
وأقبل يوسف حتى وقف بين يدى أبيه ثم قال: يا أبت أرسلنى معهم، فإنى رأيت منهم اللطف والدين.
قال: أتحب ذلك يا بنى؟ قال: نعم. قال: فاذهب فإذا كان الغد أذنت لك، فلما أصبح لبس ثيابه، وشد على نفسه منطقه، وأخذ قضيبه، وخرج مع إخوته، وعمد يعقوب إلى السلة التى يحمل فيها الزاد، فجعل فيها زاد يوسف، وخرج يشيعهم.
قالوا: يا نبى الله ارجع، فقال: يا بنى أوصيكم بتقوى الله وحبيبى يوسف أسألكم بالله إن جاع فأطعموه، وإن عطش فاسقوه، وقوموا عليه ولا تخذلوه، وكونوا متواصلين متراحمين.
قالوا: يا أبانا كلنا كذلك، وهو أخونا كأحد منا، بل له الفضل علينا.
قال: يا بنى يوسف حبيبى عندكم، مع أنى أخاف أن أكون قد ضيعته، ثم أقبل يوسف فالتزمه وضمه إلى صدره وقبله بين عينيه، ثم قال: استودعتك الله رب العالمين وانصرف راجعا.
وكانت زينة بنت يعقوب أخت يوسف نائمة، فرأت فى منامها كأن يوسف وقع بين ذئاب تنهشه فانتبهت فازعة مرعوبة، ومضت إلى أبيها باكية وقالت له: ما فعلت بأخى يوسف؟ قال: أسلمته إلى إخوتك، فمضت خلفه حتى لحقته، فأمسكت بيوسف فقالت: لا أفارقه أبدا، فقالوا لها: أرسليه، فقالت: لا أفعل أنى لم أطق فراقه، فقالوا لها: بالعشى نأتيك به، ثم أقبل يوسف يقلب يديها ويقول لها: دعينى أسر مع إخوتى نرتع نلعب، فتركته وجلست موضعها تشيعه بعينيها، ودموعها تجرى، ورجعت باكية حزينة على فراقة، فقال لها يعقوب: لِمَ تبكين؟ فقالت: ساعة أخرى تبكى أنت معى.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم لما خلوا به فى البرية أظهروا له العداوة، وجعلوا يضربونه، وذكروا أنهم كانوا يحملونه بمرأى [من] يعقوب على أعناقهم، ولما غابوا عنه ألقوه على الأرض، وأظهروا له ما فى أنفسهم، وجعلوا يضربونه إذا ضربه واحد استغاث بالآخر فيدفعه ويضربه، وأخذوا ما زوده أبوه وأطعموه الكلاب، وضربوه حتى كادوا يقتلونه، وعطش عطشا شديدا فقال لهم: اسقونى جرعة من ماء قبل أن تقتلونى فلم يسقوه.
وبكت الملائكة عند ذلك رحمة بيوسف، ولما لم ير منهم رحيما، وظن أنهم يقتلونه جعل ينادى: يا أبتاه، يا يعقوب، لم تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء، ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيعوا وصيتك، لو رأيت ما يصنعون بى لأحزنك وأبكاك بكاء شديداً.
وهموا بقتله، وأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره، وأراد قتله، فقال له: مهلا يا أخى لا تقتلنى، فقال له: يا ابن راحيل، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه، فاستغاث يوسف بيهود وقال له: اتق الله فىَّ، أتخلى بينى وبين من يريد قتلى؟
فرقّ له وقال: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتمنى، ألم تعطونى موثقا لا تقتلونه، ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به، أن تلقوه فى هذا الجب فيموت، أو يلتقطه بعض السيارة.
روى أن شمعون جرد سكينه على أن يقتله، فتعلق بذيل روبيل فضربه وطرده، وكذلك جميع إخوته يطردونه ويضربونه، فضحك عند ذلك، فقال له يهودا: ليس هذا موضع الضحك، فقال: بينى وبين الله سر، قال: ما هو؟ قال: تأملت فيكم وفى قوتكم وشدتكم فقلت فى نفسى: ما يفعل العدو بنا، ومن يقدر علىَّ ولى مثل هؤلاء الإخوة، فسلطكم الله علىَّ بشؤم تلك الفكرة، حتى لا يتكل العبد إلا على مولاه.
وأن يهودا أدركته رحمة الإخوة فقال له: تعالى وادخل تحت ذيلى لأحفظك، فقالوا له: كأنك رجعت عن عهدنا؟ فقال: الرجوع عن كل أمر ليس فيه رضا الله تعالى أولى من الوفق عليه، إذا أردتم قتله فاقتلونى معه، قالوا: لا نتركه، قال ألقوه فى غيابات الجب.