التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٥
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فلمَّا ذهبُوا بهِ وأجْمعُوا } اتفقوا أو عزموا { أن يجْعَلوهُ فى غَيَابات الجُبِّ } فى تأويل المصدر معمول لأجمعوا، على تقدير على، أى اتفقوا أو عزموا على جعلهم إياه فى غيابات الجبِّ، أو مفعول به كقوله تعالى: { فأجمعوا أمركم } أى اعزموه: يقال: عزمت الأمر، وعزمت عليه، وعزم الأمر بالرفع، وفى غيابات القراءات السابقات وجوب لما محذوف، أى فعلوا به من الأذى بأن طرحوا قميصه بعد ضربه وإهانته وإرادة قتله، وأدلوه ثم ألقوه قبل الوصول، وحذف للتهويل، وهذا أولى من جعل الجواب أجمعوا وأوحينا، وزيدت فيه الواو.
ولما أرادوا أن يلقوه فى الجب دلوه فيه، وتعلق بشفيره، وروى أنه تعلق بثيابهم فنزوعها من يديه، فتعلق بشفير البئر، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه ردوا علىَّ قميصى أستر به عورتى، ويكون لى كفنا بعد مماتى، وأطلقوا يدى أدفع بها عنى هوام البئر، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تأتيك، تلبسك وتؤنسك، وقيل: قال لهم تقية: لم أر شيئاً وقال ذلك بالمعرضة.
وإنما نزعوا قميصه ليلطخوه بالدم، ويحتالوا به على أبيهم، ولما بلغ نصف البئر قطعوا الحبل ليسقط فيموت، فسقط ثم آوى إلى صخرة كانت فيها، فيقام عليها، وكان فى الجب ماء، وقيل: أخرج الله تعالى على وجه الماء صخرة ورفعها إلى يوسف فقعد عيلها ولم يسقط كما أرادوا، فجعل يبكى، فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فهموا أن يرضخوه ويقتلوه بحجارة أو صخرة، فمنعهم يهودا وقال: قد أعطيتمونى موثقا لا تقتلونه: وقيل: إنما أدلوه فى دلو.
وروى أنه لما وصل قعرها قال: لهم يا إخوتاه أتدعونى فريدا، ولما وصله أضاء له الجب، وعذب ماؤه، فكان يغنيه عن الطعام والشراب، قاله الحسن، وقيل: إنه أتاه الملك جبريل بسفرجلة من الجنة فأطعمه إياها بعد ما حل يديه، وقيل: كان يهودا يأتيه بالطعام والشراب خفية عن إخوته، وكان إبراهيم عليه السلام حين ألقى فى النار، وجرد من ثيابه، وقذف فى النار عريانا قد أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، ولما مات ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، وإنما توارثوه لأن ذلك ليس من مال الدنيا، وقيل تعاطوه فى حياتهم، ولما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص فى عوذة تعلق على الإنسان، وعلقها فى عنق يوسف خوفا عليه، قيل: وكانت العوذة من فضة.
ولما ألقى فى البئر عريانا جاء جبريل بتلك السفرجلة المذكورة، وأخرج ذلك القميص من العوذة، وألبسه إياه، وكان لا يلبسه صغير أو كبير إلا جاء على طوله، وأنسه نهاره، ولما أمسى نهض ليذهب فقال له: إذا خرجت عنى استوحشت، فقال: إذا أصابك شئ تستوحشه فقال: يا صريخ المستصرخين، ويا غياث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، قد ترى مكانى، وتعرف حالى،لا يخفى عليك شئ من امرى، فلما دعا بذلك، بعث الله سبحانه وتعالى إليه سبعين ملكا يحفون به، ويؤنسونه فى الجب.
وروى أنه لما وصل قعر البئر ولا ماء فيها، خرج إليه رجل من غياباتها من فوره، وضمه إلى نفسه، وقال: واطول شوقاه إليك يا حبيبى، وريحان قلبى، يا نبى الله لا تشكوا إخوتك إلى أحد، فإنى كنت السبب، ثم قال: استودعتك الله تعالى يا حبيبى: وقرة عينى، ثم خر ميتا، وهو رجل صالح يقال له: هود من قوم هود عليه السلام، عمر ألفا ومائتى سنة، وقرأ فى صحف شيث عليه السلام قصة يوسف عليه السلام، وما يجرى له مع إخوته، وصورته وحسنه وجماله، فقال: اللهم إنى أسألك أن لا تقبض روحى حتى أرى يوسف عليه السلام، فأجاب الله دعاءه فهتف به هاتف أن امض إلى الجب الذى حفره شداد بن عاد واسكن فيه حتى يأتيك يوسف، فقصد الجب فسكنه، وكان يعبد الله تعالى فيه ويأكل كل ليلة رمانة، وفوقه قنديل يزهر معلق لا يحتاج إلى فتيلة ولا دهن.
وكانت فى ذلك الجب حيَّات لا تترك أحدا وقع فيه إلا قتلته إلا ذلك الرجل، فإن الله جل وعلا حماه، فلما مات وبقى يوسف أتين إليه من ناحية فخاف منهن، وصاح بهن جبريل وفرقهن وحماه الله منهن وصمت إذا نهز من تلك الصيحة، فكل حية صماء إلى يوم القيامة
قال محمد بن مسلم الطائفى: لما ألقى يوسف فى الجب قال: يا شاهد غير غائب، ويا قريب غير بعيد، ويا غالب غير مغلوب، اجعل لى فرجا مما أنا فيه، فما بات فيه، والمشهور أنه بات فى البئر ثلاث ليال، فلما كان اليوم الرابع أتاه جبريل فقال: يا غلام من طرحك فى الجب هذا؟ فقال: إخوتى من أبى، قال: ولمه؟ قال: حسدنى لمنزلتى من أبى، قال: أتحب أن تخرج من الجب؟ قال: نعم، قال: قل: يا صانع غير مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا ناصر كل شوى: ويا سامع كل نجوى، ويا قريب غير بعيد، ويا مؤنس كل وحيد: ويا غالب غيرمغلوب، ويا حى لا يموت، ويا محيى الموتى، لا إله إلا أنت سبحانك، يا من له الحمد، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، أسألك أن تصلى على محمد وعلى آل محمد، وأن تجعل لى من أمرى فرجا ومخرجا، وترزقنى م حيث لا أحتسب، فقالها يوسف فجعل الله له من الجب مخرجا، ومن كيد إخوته فرجا فأخرجته السيارة.
{ وأوْحَينا إليْه } وحيا حقيقيا عند الجمهور وهو الصحيح، وهو فى الجب على لسان جبريل عليه السلام { لتُنبَئنَّهم } والله لتنبئنهم، أى لتخبرنهم إخبار محاسبة ومجازاة { بأمرهم هَذا } للحال من الضرب، وسلب القميص، والإلقاء فى البئر، وبيعه بثمن بخس،آنسه جبريل وبشره بأنه يخرج، وأنه سيخبرهم بما فعلوا ويستولى عليهم.
{ وهُم لا يشْعُرونَ } الواو فى حال إخبار أنك يوسف لعلو شأنك، وكبرياء سلطانك، وبعده عن أوهامهم، وطول العهد المغير للحلى والهيبة.
أشار إلى ذلك الطبرى، وذلك أنهم دخلو عليه بمصر ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، فدعى بالصواع فوضعه على يده فنقره، فصوت فقال: إنه يخبرنى أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه فى غيابات الجب، وقلتم لأبيكم أكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس، ومجموع القسم وجوابه ومتعلقاته مفعول لأوحينا لتضمنه معنى قلنا.
وقال قتادة: وهم لا يشعرون بوحينا إليك، وأزالت الوحشة عنك، ويحسبونك وحشا على باب الموت، والفائدة فى إخفاء الوحى أنهم لما عرفوا به زاد حسدهم له، فصاحب الحال على الأول الهاء فى لتنبئنهم، أو الضمير المستتر، وعلى الثانى نا أو الهاء فى أوحينا إليه، وقرئ لتنبئنهم بالنون، فصاحب الحال الهاء فى لتنبئنهم، أو المستتر لا غير، وعلى كل حال فإنما أوحى إليه قبل الأربعين تأنيسا له، وإذا بلغ الأربعين أمره بالتبليغ، فقد قيل إنه كان حينئذ ابن ست سنين، وبه قال الضحاك ومجاهد.
وعنه خرج عن يعقوب وهو ابن ست، وجمع بينهما وهو ابن أربعين، وقال الحسن: خرج عنه ابن اثنتى عشرة سنة، ويناسب تلك الأقوال قوله: { هذا غلام } فإنه لما بين الحولين إلى البلوغ، وإن قيل لما فوق ذلك، فعلى استصحاب حال وتجوز.
وعنه ابن عشرة، وكان فى العبودية والسجن والملك ثمانين، وعاش بعد ذلك ثمانية وعشرين، وقال ابن السائب: خرج وهو ابن سبع عشرة، وقيل: ثمان عشرة، وعلى كل حال فقد أكمل عقله قبل أوان الرسالة ليقبل الوحى، وقيل: ذلك وحى فى النوم، وقيل: وحى إلهام.