التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ودَخَل مَعَه السِّجْن } خادمان للملك، قال بعض: هما عبدان له غير حرين، اتفق دخولهما ودخول يوسف بوقت واحد، كما تدل عليه لفظة مع، فإنها للصحبة، وقد تستعمل بمعنى جميع، والغالب دخولها على الفاضل كما هنا، وكما فى قولك: جاء الجند مع الأمير، وتدخل مع المفضول.
والفتيان: صاحب شراب الملك، وصاحب طعامه، سمع الملك أنهما يريدان أن يسماه فسجنهما وهو الملك الأكبر ريان بن الوليد العملقى، واسم صاحب الشراب: بنوى، واسم صاحب الطعام: مجلة، وذلك أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله، فأتوهما وضمنوا لهما مالا على أن يسماه فى طعامه وشرابه، فأجابوا إلى ذلك، ثم ندم الساقى، وقبل صاحب الطعام الرشوة، فسم الطعام، فلما حضر وقت الطعام قال الساقى: أيها الملك لا تأكل الطعام فإنه مسموم، وقال الخباز: أيها الملك لا تشرب فإن الشراب مسموم، وكان لم يلق فى الشراب [سم].
وروى أنه جعله بين أصبعيه ليلقيه فندم، فطرحه فى غير الماء، فقال الملك للساقى: اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فجرب ذلك الطعام فى دابة فهلكت من حينها.
ورواية السدى: أن الملك اتهمهما بأن الخباز منهما أراد أن يسمه ووافقه الساقى فسجنهما، قال فى زهر الأكمام: إن قوما من أهل مدين ضموا لهما مالا على أن يسماه فقبلا، وانتهى خبرهما إلى الملك، وكان الساقى فطنا كيسا، راجع عقله وقال: لا أعجل بإلقاء السم فلعل الملك قد يسمع فيأمرنى أن أشرب، فإن لم أشرب افتضحت، وإن شربت مت، فجعل السم بين ظفرين من أظافره، وقال: إن بلغه ذلك وأمرنى أن أشربه شربت، وإن لم يبلغه وأمرنى أن أناوله شرابه جعلت السم فيه.
وأما صاحب الطعام فلم يدبر شيئا فألقى فيه السم، فلما قدم الساقى الشراب قال له: اشرب فشرب، ورمى السم من يده، ولما قدم الخباز طعامه المسموم قال له: كل ما قدمت إلى، فتغير لونه واضطربت مفاصله، واصطكت ركبتاه، وامتنع أن يأكل، فدعا الملك بسنور وأمر بتقديم الطعام إليه فأكله فهوى من ساعته، وانتفخ وانتثر، وتحقق الملك خيانته، وارتاب فى صاحب الشراب فسجنهما معا ليرى رأيه فيهما.
{ قالَ } ليوسف بعد استقرارهما فى السجن { أحدُهُما } وهو ساقيه { إنِّى } وسكن الياء غير نافع وأبى عمرو { أرانى } سكنها غيرهما وغير ابن كثير، أى أرى نفسى فى المنام، والرؤيا الحلمية يجوز أن تعمل فى ضميرين متصلين مرجعهما واحد كالرؤية العلمية والظنية، وقد عملت الحلمية هنا فى الضمير المستتر وفى الياء.
{ أعْصِرُ خَمراً } أى أعصر عنبا وسماه خمرا، لأنه يئول بعد العصر خمرا، فهو مجاز مرسل، وعلاقته الأول وهذا هو المشهور فى كتب المعانى والبيان وغيرها، ويجوز أن يكون أعصر مضمنا معنى أستخرج، فالتجوز على هذا فى أعصر لا فى خمرا، وقيل ذلك بلغة أزد عمان، وكانوا يسمون العنب خمرا، وعليه فلا مجاز، وقرأ ابن مسعود أعصر عنبا، ويحتمل أن تكون قراءة تفسير، والمضارعان فى أرانى أعصر خمرا حكاية حال ماضية، كان الساقى حال إخباره يوسف بذلك ملبس بالرؤيا والعصر للخمر.
روى أن الساقى قال: رأيت كأنى فى بستان فيه أصل شجرة عنب فيها ثلاثة قضبان فى كل قضيب عنقود، وكان كأس الملك فى يدى، فجنيت العناقيد فعصرتهن فى الكأس، فسقيت الملك فشرب. وفى رواية رأيت كأن الملك دعانى وردنى لقصره، فبينما أنا أدور فى القصر إذا بثلاثة عناقيد عنب فعصرتها، فجعلتها فى كأس لأسقى الملك، وفى رواية أنه استيقظ فرحا وقال: إنى رأيت فى منامى كأن بين يدى ثلاث طسوس من ذهب فى طبق، فى كل طست ثلاثة أصول من الكرم، وعلى كل أصل ثلاثة عناقيد من العنب، فأخذت العناقيد وعصرتها خمرا، وسقيت الملك.
{ وقال } ليوسف أيضا { الآخرُ } وهو صاحب طعام الملك { إنِيِّ أرانى } فى الياءين ما مر { أحْملُ فَوقَ رأسى خبزاً تأكلُ الطَّيْر منْهُ } نهشا بأفواهها، وهكذا أكل الطير فى الكشاف: رأيت أن فوق رأسى ثلاث سلال فيها ألوان أطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها ا هـ.
ولم يذكر الله فى الآية إلا الخبز، ولكن لم يذكر بصيغة حصر، فإن صح أن مع الخبز سواه لم يناف الآية، وفى رواية: رأيت كأن المك أخرجنى ودفع إلىَّ طيفورة عليها خبز فوضعتها فوق رأسى، والطير تأتى وتأكل منها.
وفى رواية كأنى خرجت من مطبخة الملك، وعلى رأسى ثلاث سلال من خبز، فأكل الطير من أعلاها، وفى رواية كأن فوق رأسى ثلاثة تنانير من حديد، مضرمة بنار، فخبزت خبزا كثيرا، وملأت منه ثلاث سلات وحملتهن على رأسى، وكانت السلة العليا مكشوفة، والطير تسقط عليها من الهوى فتأكل منها.
أما الساقى فرأى تحقيقا، وأما الخباز فلم ير شيئا، ولكنه ابتدع الرؤيا المذكورة، وقيل كلاهما رأيا تحقيقا، وعن ابن مسعود ما رأى أحدهما شيئا، ولكنهما تحالما أى ادعيا رؤية المنام، وقال: تعال نجربه، وذلك أنه أخبرهم أنى عالم بتأويل الرؤيا. وروى أنهما رآهما مهمومَيْن فسألهما فذكرا أنهما غلامان الملك حبسهما، وأنهما رأيا رؤيا.
{ نبِّئْنا } أخبرنا { بتَأويلِهِ } أى بتعبير ما رأينا إن كنت تعرفه { إنَّا نَراكَ من المحْسِينينَ } إلى أهل السجن بالإقامة على مريضهم، ومداواة الجريح، والتوسيع لمن ضيق عليه فى المكان، ومواساة من احتاج من وظيفته، وبالجمع له، وتصبير المحزون.
وكان فى السجن ناس أنقطع رجاؤهم، وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، إن لهذا لأجراً، فقالوا: بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، ابن صفى الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم، قال الفتيان: أحسن إلينا بتأويل ما رأينا، بماتفرج به الغمة.
ومع ذلك الإحسان، كان يقوم الليل كله بالصلاة، ويصوم النهار، ويجتهد فى العبادة، وذلك قول الضحاك وقتادة، وقيل: المعنى إنا نراك من الذين يحسنون تعبير الرؤيا، وكانا قد رأياه يجيد تعبيرها إذا قصها عليه بعض أهل السجن، وقيل: إنا نراك من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم، وهذا قول الجمهور.
وروى أن الفتيين قالا له: إنا قد أحببناك مذ رأيناك، فقال: أنشدكما بالله لا تحابنى، فوالله ما أحبنى أحد إلا دخل علىَّ من حبه بلاء، لقد أحبتنى عمتى فدخل علىَّ من ذلك بلاء، وأحبنى أبى فألقيت فى الجب، وأحبتنى امرأة العزيز فحبست، فلا تحبانى بارك الله فيكما.
وقال له عامل السجن: لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن أحسن جوارك، فكن فى أى بيوت السجن شئت، وقال: لقد أحببتك حبا شديدا، فقال له: لا تفعل، فإنى أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك؟ قال: أحبنى أبى ففعل بى إخوتى ما فعلوا، وأحبتنى سيدتى فكان من أمرى ما ترى.