التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إذْ قالَ يُوسفُ } إذ بدل اشتمال من أحسن،إن جعلنا أحسن مفعولا به، لأن وقت مقال يوسف مشتمل على المخصوص، أو مفعول به باذكر، ويوسف بضم السين عبرى، فمنع الصرف للعملية والعجمة، ولو كان عربيّاً كما قيل لم يمنع صرفه لتجرد العلمية عن غيرها.
قال فى عرائس القرآن: أكثر العلماء على أنه عبرانى، وقيل: عربى، سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبى يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع، وكان حكيما، سئل عنه فقال: الأسف الحزن، أو الأسيف العبد، واجتماعا فيه انتهى.
وقرئ بفتح السين، وذلك لغتان، وفيه لغة ثالثة بكسرها، وقرئ بها أيضا، ولا يقال: إنه على لغة الفتح عربى منقول من الفعل المضارع المبنى للمفعول، وعلى لغة الكسر من المضارع المبنى للفاعل من آسف بالمد، فيمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، لأنا نقول: قراءة الضم، وهى المشهورة، شاهد بالعجمة، فلا يقدم على أن تكون الكلمة أعجمية تارة، عربية أخرى، لأن هذا خلاف الأصل، ومثله يونس، فان فيه ثلاث اللغات.
وإن قلت: فإذا كان عجميا نافى قوله عز وجل: { قرآنا عربيّاً }؟
قلت: لا ينافيه، فكم من لفظة أعجمية فى الأصل عربتها العرب، فجرت فى ألسنتها، فنزلت فى القرآن فعدت عربية، فإن العربى قسمان: أحدهما عربى أصل، والآخر عربى بالتعريب، ومن قال: القرآن شئ من كلام العجم بلا تعريب فقد أعظم على الله القول، فيوسف أعجمى تلعبت به العرب بلغتها، فمن كاسر وفاتح وضام وهو أكثر.
{ لأبِيهِ } يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" وفى رواية: "إذ قيل: من الكريم؟ فقولوا: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" وروى أبى هريرة مثل رواية ابن عمر.
{ يا أبتِ } أصله يا أبى، حذفت ياء المتكلم وعوض عنها التاء، وهى تاء التأنيث فى الأصل: ولو انسلخت عند التعويض عن التاء نيب، ولذلك قلبها فى الوقف هاء ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، كما لحقت تاء التأنيث المذكر فى قولهم: رجل ربعة، وغلام يفعة، وحمامة ذكر، وشاءة ذكر، ولو كان لا يقال: يا أبتى تقومين، بل تقوم كما يقال: جاءت حمامة، وجاءت شاة فى التأنيث، وجاز التذكير، ولا يقال أيضا جاءت ربعة أو يفعة إذ أريد مذكر، وخص فى الباء لأنها مناسبة للياء فى كون كل منهما زائدة آخر الأسم فى نية الانفصال، فإن تاء التأنيث فى نية أكثر من غيرها، وكسرت لتدل عليها كذا قيل، أو لأن الكسرة تناسب الياء المعوض عنها، أو لأنها حركة ما قبل الياء، فإنه مكسور، لكن لما دخلت التاء فتح وزحلقت كسرته إليها.
وقرأ ابن عامر بفتحها فى كل القرآن، لأن الفتحة حركت ياء المتكلم إذا حركت فى الأصل والغالب، أو لأن الأصل يا أبتا بالألف المبدلة عن ياء، وإنما صح أن تجتمع التاء المعوضة عن الياء والألف المبدلة عنها، مع أنه كالجمع بين العوض والمعوض عنه، لأن الألف ليست نفس المعوض عنه، فلا يجوز يا أبى، لأن فيه الجمع بين المعوض والمعوض عنه.
ولا يقال: فى يا أبت بالكسر الجمع بين العوض وشبيه المعوض عنه وهو الكسرة، لأنا نقول ذلك لا يضر، وذلك أنه وجد قبل مجئ التاء كسر وياء، فالتاء عوض عن الياء، والكسر غير متعرض له فهو على أصله، وقد جمع بين التاء والألف التى هو بدل الياء، فكيف لا يجمع بينها وبين حركة تناسبها، فحال الكسر فى يا أبت كحاله فى يا أبى، فلا يقال: الكسر دل على الياء فما الحاجة إلى التاء فهى كالعدم؟
لأنا نقول: كما علمت أنها العوض وكسرها ككسر ما قبل الياء، وقرئ بضم التاء إجراء لها مجرى التاء بالأسماء المختومة بتاء التأنيث المنكرة المقصودة من غير اعتبار التعويض، ولم تسكن كما يسكن ما عوضت عنه وهو الياء، لأنها حرف صحيح نزلت بمنزلة الاسم، ولأنها فى آخر الاسم المعرب، والاسم حقه التحريك، فحركت كما حركت الكاف فى نحو: جاء غلامك، لخلاف الياء فإنها ولو كانت أهل لأن تحرك لأنها حرف لين فسكنت تخفيفا.
{ إنِّى } وقرئ بفتح الياء { رأيتُ } فى المنام بدليل: { لا تقصص رؤياك } "وهذا تأويل رؤياى" فهو من الرؤيا لا من الرؤية، والدليل فى تخصيص تأويل قاطع، وفى لفظة الرؤيا على الأشهر فى استعمال لها فى الرؤية الحلمية، قال ابن هشام: لا تختص الرؤيا بمصرد الحلمية، بل قد تقع مصدرا للبصرية خلافا للحريرى، وابن مالك إلى آخر، والرواية غالب فى البصرية قليل فى الحلمية.
{ أحَدَ عَشَرَ } وقرئ بإسكان عين الهجاء المتصلة بالدال تحقيقا لطول الاسم بالتركيب { كَوْكباً والشَّمسَ والقَمرَ } رأى يوسف فى منامه، وهو ابن اثنتى عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: سبع، ليلة جمعة، ليلة قدر، أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر نزلت من السماء.
روى جابر بن عبد الله:
"أن يهوديا اسمه قيسان، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرنى عن النجوم التى رآهن يوسف؟ فلم يجبه بشئ، فنزل جبريل فأخبره بأسمائهن، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن أخبرتك فهل تسلم؟ قال: نعم" ، وفى رواية حكيم بن حزام، عن السدى، عن عبد الرحمن: عن جابر بن عبد الله: أنه لم يقل نعم، بل قال: أخبرنى.
قال: "جربان بالموحدة، والطارق، والذيال بذال معجمة، أو بزاى فمثناة تحتية، وقابس، وعمودان، والفيلق، والمضئ، والضروح، والفرع، ووثاب، وذو الكتفين، رآها يوسف، والشمس والقمر نزلت من السماء، وسجدت له" فقال اليهودى: إيها والله لأسماؤها.
وفى رواية: هؤلاء المذكورين عن جابر أنه رآها فى أفق السماء ساجدة له، ويحتمل الجمع بين ذلك بأنها نزلت وبقيت فى الأفق لم تصل الأرض، ولكن كلام بعض كالصريح فى وصلها الأرض، وهو أشد مناسبة للسجود.
قال فى عرائس القرآن: إن يعقوب لم يكن يأمن أحدا على يوسف، وكان ينوِّمه إلى جنبه، فبينما هو نائم ليلة جمعة، انتبه فزعا مرعوبا، فالتزمه يعقوب وضمه إلى صدره، وقبله بين عينيه، وقال: يا حبيب أبية ما الذى أصابك؟
قال: يا أبت رأيت رؤيا أفزعتنى.
قال: يا بنى خيرا رأيت ما الذى رأيت؟
قال: رأيت كأن أبواب السماء فتحت، وقد أشرق منها نور، فاستنارت النجوم، وأشرقت الجبال، وزخرت البحار، وهدأت أمواجها، وضجت الحيتان بأنواع اللغات، ورأيت كأنى ألبست رداء أشرقت الأرض من حسنه ونوره، ورأيت كل مفاتيح خزائن الأرض ألقيت بين يدى.
فبينما أنا كذلك إذا رأيت أحد عشر كوكبا انقضت من السماء، ومعها الشمس والقمر فخروا لى ساجدين.
فقال يعقوب:
{ { يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك } الآية.
وسمعت امرأة يعقوب سمعون خالة يوسف ذلك فقال لها: اكتمى ما قال يوسف، ولا تخبرى أولادى.
فقالت: نعم، فلما أٌقبل أولاد يعقوب من مراعيهم، أخبرتهم بالرؤيا، فانتفخت أوداجهم، واقشعرت جلودهم على يوسف غيظا.
فقالوا: ما عنى بالشمس غير أبينا، ولا بالقمر غيرك، ولا بالكواكب غيرنا ابن راحيل، يريد أن يتملك علينا ويقول: أنا سيدكم وأنتم عبيدى، فحسدوه على ذلك، فلذلك قيل فى الحكمة: لا تأمنن قارئا على صحيفة، ولا شابا على امرأة، ولا امرأة على سر، انتهى.
قال قتادة: النجوم إخوته وهم أحد عشر يستضاء بهم، كما يهدى بالنجوم، والشمس أبوه والقمر أمه، وكذا روى عن يعقوب عليه السلام، وهو قول الجمهور، وهو موافق لقول أخوته، إلا أنهم قالوا: القمر زوجة يعقوب، وهى غير أمهم وغير أم يوسف، وعن يعقوب أيضا: إن القمر خالته، وعن السدى: القمر خالته، وكانت تحت يعقوب، لأن [أم] يوسف راحيل قد ماتت.
وعن قتادة وابن جريج: القمر أبوه، والشمس أمه، لأن الشمس مؤنثة، ومن قال: إنها أبوه اعتبر الفضل والقوة.
وروى أن يوسف نام فى حجر يعقوب، وقال يعقوب: أترى هذا الوجه أحسن أم الشمس أم القمر؟ فانتبه من منامه وقال: يا أبت ما قدر الشمس والقمر، إنى رأيتهما يسجدان لرؤيتى. وروى أنه لما قال: يا أبت زعق يعقوب فقال له يوسف: مالك؟ فقال: ما نطق بهذه الكلمة أحد إلا وقعت محبته، فقال: يا أبت إن كنت لى حبيبا فأخبرنى بتأويلها، فأخبره، وإنما أخر الشمس والقمر لفضلهما بذكرهما بعد لفظ لو شاء لعمهما به بأن يقول: رأيت ثلاثة عشر كوكبا فإنهما كوكبان، ولأن الواو بمعنى مع، أى مع الشمس والقمر، كما تقول: جاء الجند مع الأمير والسلطان.
قال فى عرائس القرآن: كان ابتداء أمر يعقوب ويوسف وبدوّ محبته له، وإيثاره على سائر أولاده، أن الله تعالى أنبت ليعقوب شجرة فى صحن داره، فكان كلما كبر الغلام وشبّ طال القضيب وغلظ، ودفعه إلى ولده حتى تم له عشرة أولاد بعشرة قضبان، فلما ولد يوسف، لم يخرج الله له قضيبا، ولما كبر وشب قال لأبيه: يا نبىّ الله إنه ليس أحد من إخوتى إلا وله قضيب، وأنا ليس لى قضيب، فادعو الله أن يخصنى بقضيب من الجنة.
فرفع يعقوب يديه إلى السماء وقال: إلهى إنى أسألك أن تهب ليوسف قضيبا من الجنة، يفتخر به على جميع إخوته، فهبط جبريل ومعه قضيب من الجنة، من الزبرجد الأخضر، فقال ليوسف: خذها، فكان يوسف يأخذه ويخرج به مع إخوته، فرأى يوسف فى منامه وهو إذ ذاك صبى، كأن قضيبه غرس من الأرض، فعلق وتدلت أغصانه، وأثمر كل غصن، ثم جئ بعصى إخوته فغرست حولها، فلم تعلق، ولم تتفرع، ولم تثمر، وإذا بعصى يوسف أقصرها، فلم تزل تعلوا حتى طالت عليهن، ثم هبت الريح فقلعتهن فألقتهن فى البحر، وثبتت عصى يوسف، فانتبه فزعا مرعوبا.
فقال له أبوه ما الذى دهاك؟ فقص عليه رؤياه، فبلغ ذلك إخوته فقالوا: يا ابن راحيل لقد رأيت عجبا يوشك أن تدعى أنك مولانا ونحن عبيدك، فشق ذلك عليهم وحسدوه.
قال وهب بن منبه: رأى هذه الرؤيا وهو ابن سبع، ثم رأى الكواكب والشمس، والقمر، وهو ابن اثنتى عشرة انتهى.
وذكر جار الله، عن وهب: أنه رأى وهو ابن سبع، أن إحدى عشرة عصى طولا لا مركوزة فى الأرض كهيئة الدائرة، وإذا عصى صغيرة تثب عليها، حتى أقلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه، فقال: إياك أن تذكرها لإخوتك، وقيل: كان بين رؤيا يوسف للنجوم والقمرين، ومصير إخوته إليه أربعون سنة، وهو قول ابن عباس، وقيل: ثمانون وهو قول الحسن.
{ رأيتُهم لى سَاجِدينَ } الرؤية الأولى مجرد إخبار بأنه رأى ذلك، وهذه بيان لما وقفت عليه حالها، وما رآها إلا مرة واحدة، كما تقول: جاء زيد مريدا لمجرد الإخبار بمجيئه ثم تقول: جاء راكبا والمجئ واحد، ولكن أردت بذكر مجيئه ثانيا بيانا لحاله، فجملة { رأيتهم لى ساجدين } مستأنفة.
وقيل: رأيتهم تأكيد لقوله: { رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر } وعليه الشيخ خالد، وقيل: إن ذلك من باب الاشتغال، وإنه قد جمع بين المفسِّر والمفسَّر لجواز الجميع بينهما، وهو قول ضعيف، وعلى ما ذكرته أولا وهو الصحيح عندى يكون ساجدين مفعولا ثانيا لرؤيا الثانى، على أن الرؤيا تتعدى لاثنين، أو حالا على أنها تتعدى لواحد.
وصاحب الحال الهاء، ولا مفعول ثانيا ولا حال للرأى الأول، لأن المراد به مجرد إخبار بأنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر.
وعلى القول الثانى والثالث يكون ساجدين مفعولا للأول، أو حالا من مفعوله الأول، وما عطف عليه، ولا مفعولا ثانيا ولا حالا للثانى، وإنما عبر عن الكواكب والشمس والقمر بقوله هم، ولجمع المذكر السالم لتنزيلها منزلة العقلاء إذا وصفت بما يخص العاقل، وهو السجود، ولولا أنك لقال رأيتها أو رأيتهن ساجدة أو ساجدات.
وزعمت الفلاسفة المنجمة أن الكواكب والشمس والقمر لها عقل ونطق وإحساس وحياة، وكذبوا وأراد بسجودهم له حقيقة السجود، لأن تحية أهل ذلك الزمان فى اليقظة السجود، وقيل: أراد تواضعها ودخولها تحت أمره، وعلى كل فذلك كناية عن علو شأنه.