التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وكَذلكَ مَكَّنَّا ليُوسفَ } قال أبو البقاء: اللام زائدة فى المفعول به أو أصل، والمفعول محذوف أى مكنا الأمور ليوسف { فى الأرْضِ } أرض مصر، وكانت أربعين فرسخا فى كل جهة { يتَبَّؤأ } يتخذ لنفسه { مِنْها } نعتا لمفعول محذوف، أى يتخذ منزلا ثابتا منها، أو يتلو بمعنى ينزل، ومنها نعت لظرف محذوف أى منزلا منها أو من بمعنى فى.
{ حَيثُ يَشاءُ } متعلق { يتبوّأ } أو نعت ثان للمحذوف، أو حال منه، أو من ضميره المستتر فى الجار والمجرور، وقرأ ابن كثير نشاء بالنون، وذلك التبؤُّؤ تفسير للتمكين.
قال فى عرائس القرآن: روى سفيان عن عبد الملك بن المنذر، أن الملك قال ليوسف: إنى أريد أن تخالطنى فى كل شئ، غير أنى أحب أن لا تأكل معنى، قال يوسف: أنا أحق لأن أقف عن ذلك، لأنى ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله، فصار بعد ذلك يأكل معه.
قال ابن عباس: فلما مضى ليوسف سنة من يوم سؤاله الإمارة دعاه الملك فتوَّجه رداءَهُ وقلده بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وضرب له عليه حلة من الإستبرق، وطول السرير ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرة أذرع، وعليه ثلاثون فراشا، وستون نمرقة، ثم أمره أن يخرج متوجا، ولونه كالثلج، ووجه كالقمر الناظر، ووجهه يتلألأ نورا.
فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ولزم الملك، بيته، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم مات قطفير فى تلك الليالى، فزوج الملك يوسف امرأته زليخا، ويقال لها: راعيل على ما مر، ولما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ قالت: أيها الملك الصديق لا تلمنى فإنى امرأة مشركة حسناء ناعمة، فى مُلْك ودنيا، وكان صاحبى لا يأتى النساء، وكنت كما جعلك فى صورتك، وهيئتك، وغلبتى نفسى وعصمك الله، وافتضها يوسف إذ وجدها عذراء، وولدت له ذكرين: أفرايتم وميشا، واستوثق ليوسف أرض مصر، وأقام العدل، وأحبه الرجال والنساء ا هـ.
وتيقنوا أن لا ملك مثله، وقيل: إن قطفير مات قبل خروج يوسف من السجن، وزوجه الملك امرأته بعد خروجه، وقيل: إنه تزوجها بعد أن كبرت وافتقرت على ما يأتى إن شاء الله، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس.
وروى أنه لما قال:
{ اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم } قال: صدقت إنى لا أعلم أحداً أولى بذلك منك، فخذ هذا الخاتم والتاج والسرير، فيهن يقوم ملكى، ويشتد أمرى، فلعمرى أن الذى أعطاك إلهك، وشرفك به ليسير فى حقك، وقليل فى خطرك، فأنت الذى تحمل أهل مصر.
فقال يوسف: أما الخاتم فأشد به أمرك، وأما السرير فأظهر به سلطانك، وأما التاج فليس من لباسى ولا من لباس آبائى، وفى رواية: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، ولما لم يقبل يوسف عنه التاج قال: إن لم تلبسه فأنا أضعه عن رأسى حتى يعلم الناس أنى قد وضعته إجلالا لك، وأنى فضلتك على نفسى، وآثرتك بسلطانى، ثم قال: رضينا بك، وسمعنا كلامك، وأقررنا بعلمك وشرفك، فالحكم حكمك، والقول قولك: والأمر أمرك، وأنت المقدم، ونحن تبع لك سامعون مطيعون، وقد وليتك مملكتى أربع عشرة سنة، قدر أيام السعة والضيق، وإذا مضت هذه المدة رددت علىَّ مملكتى، وتكون أعز أهل مملكتى، لا أمَنعك شيئا تريده، ولا حكما تنفذه، ودخل على ذلك الشرط.
ولما طلع هلال أول ليلة من السنين الصالحة، جمع يوسف أهل مصر دانيها وقاصيها، وأمرهم أن يصلحوا الأرض، ويعمروها بالحرث، ولا يتركوا منها شيئا، فأنبت الله عز وجل زرعهم فوق العادة، وظهر فيه النماء والصلاح، حتى تعجب الناس من ذلك، وأمر ببناء المخازن وحفرها، فبنوا مما لا يعلم عدده إلا الله فى كل سنة، قيل: طول كل مخزن مائة وستون ذراعا بنيت بالصخر، ليس فيها خشب، بعضها للبيع، وبعضها للصدقة، ورزعوا بطون الأودية رءوس الجبال، فما زالت الغلات تنقل إلى الخزائن من جميع المدائن، فيجتمع فيها، وينفق على أهل البيت بقدر حاجتهم.
وكان النيل يفيض كل سنة فيضا عاما شاملا، ولما طلع أول هلال من شهور سنين القحط، أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام فى الثلث الأخير من تلك الليلة: يا جبريل أما تنظر إلى عبدى وإمائى، يأكلون رزقى، ويعبدون غيرى، اهبط فإنى قد سلطت عليهم القحط والجوع سبع سنين، فهبط وصاح من الهوى: يا أهل مصر جوعوا فإن الله جل جلاله قد سلط عليكم الجوع، فانتبه الرجال والنساء والصبيان من منامهم، وكلهم يصيح الجوع الجوع، فكانوا يجوعون قبل أوان الجوع، ويأكلون من الطعام فوق الحاجة، ويسرع اليهم الجوع قبل الميعاد مع عدم الطعام، حتى لا تكون لهم حاجة سواه.
وروى أن أول من أصابه الجوع الملك، وانتبه ينادى بالجوع، وكان قد أمر الخبازين أن لا يفتروا عن الخبز ليلا ونهار، وكان من قضاء الله أن غفلوا تلك الليلة ولم يخبزوا شيئا، فدعا الملك يوسف وشكا إليه شدة الجوع، فجعل يوسف يده على بطنه، ودعا له فسكن ما به، وقال: هذا أول القحط، واحتبس القطر، وتعقمت الأرض، وأذن مؤذن يوسف فى الناس أن لا يزرعوا شيئا حتى تنقضى سبع السنين، فإنه يضيع بذركم ولا ينبت شيئا، وفرغ الطعام من بيوت الناس حتى لم يبق ببيت من بيوت مصر ونواحيها طعام، فأصبحا متحرين لهفين، لأنهم شاهدوا أمرا لا يستطيعون دفعه بحيله.
ففتح يوسف الأبواب، وجعل عليها الأمناء، وأهل الإحصاء، ونادى مناديه: ألا من أراد الميرة وشراء الطعام فليصل إلى باب الصديق.
فاشتروا منه فى السنة الأولى بما كان فى أيديهم من الدراهم والدنانير، والذهب والفضة، حتى لم يبق عند أهل مصر دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة.
وفى الثانية فما فى بيوتهم من الأثاث والفرش والأوانى.
وفى الثالثة بالحلى والجواهر واللؤلؤ.
وفى الرابعة بالمواشى.
وفى الخامسة بالدور والحوانيت والضياع.
وفى السادسة بنسائهم وبنيهم وبناتهم.
وفى السابعة برقابهم.
وقيل: فى الثالثة بالمواشى، وفى الرابعة بالعبيد والجوارى، وفى الخامسة بالدور والحوانيه والضياع، وفى السادسة بأولادهم، وفى السابعة برقابهم.
قال كعب: أصاب الناس فى السنة السابعة شدة حتى أن الرجل يأتى يوسف فيبيع نفسه له بملء بطنه، فلما تملكهم صار ينفق عليهم على مراتبهم، وكان يأكل خبز الشعير ولا يشبع منه، فقيل له: لِمَ وبيدك الخزائن؟ فقال: أخاف أن أنسى الجائع إن شبعت وتلذذت بالطعام.
وروى أنه أمر طباخى الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار ليذوق طعم الجوع فلا ينسى الجائع، وليحسن إلى المحتاجين، فمن ثم جعل للملوك غداءهم نصف النهار، وما زال يتلطف بالملك حتى أسلم هو وكثير، وخاف الملك فى السابعة أن يتعبده يوسف، ثم تذكر ماعهده يوسف من رد ملكه بعد أربع عشرة سنة، فقال: حاشاه أن يقدر.
وقال يوسف: ما رأيك أيها الملك فيما خولنى ربى من ملك مصر، وملكنى رقاب أهلها، أشر على برأيك؟ فقال: رأيك فيهم نافذ، وحكمك جائز، فقال: أيها الملك ما صلحتهم لأفسدهم، ولا أعتقتهم من الموت لأستعبدهم، ولا أنقذتهم من الجوع لأضربهم، ولا أنجيتهم من البلاء لأكون عليهم بلاء، ولم أحيهم ولكن الله أحياهم وإياى.
فقال: يا يوسف وأنا أيضا عبد من عبيدك، ولا أتكبر عن ذلك.
فقال يوسف: أتقول هذا؟
قال: هل الرأى إلا ذلك؟
قال يوسف: فإنى أشهد الله وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر كلهم، وتصدقت عليهم بجميع أموالهم، ورددت عليك ملكك وتاجك، وسريرك وخاتمك الذى تزعم أنه حظى وجمالى.
فقال له الملك: جزاك الله عنا خيرا إنى أعلم أن هذا صنيع إله الأرض والسماء، فما على وجه الأرض من يصنع ما صنعت، ويصبر كما صبرت، بارك الله فى عملك وعقلك، وأنا على عهدى لا أرد لك حكما. ونسمع ونطيع.
وحكى أن الشبلى أظهر بيتا من ذهب فى أصل جبل عليه مصراعان، وفيه امرأة فى عنقها سبعة عقود، وفى ذراعها سبعة أسورة، وإلى جانبها صخرة مكتوب فيها: أنا صارت الملكة بنت فلان الملك، أصابنا مجاعة فى عهد يوسف عليه السلام، فبذلت صاعا من دراهم فى صاع من طعام فلم أجد، ثم بذلت صاعا من دنانير فى صاع من طعام فلم أجد، ثم بذلت صاعا من لؤلؤ فى صاع من طعام فلم أجد، فعمدت إلى اللؤلؤ فسحقته وشربته، فلم يزدنى إلا جوعا، فمت جوعا، فأيما امرأة طلبت الدنيا مثلى أماتها الله ميتتى.
وفى رواية أن العزيز توفى ويوسف فى السجن، فأخذ الملك ما بيده من الأموال، وافتقرت زليخا، وهرمت وعميت، أما فقرها فلأنها لم تلتفت لمالها لما بها من حب يوسف، ولا تبالى بمن أخذه، وأما هرمها فلغفلتها عن الطعام والشراب واللباس، وأما عماها فلكثرة بكائها.
وروى انها هربت لما ولى يوسف مصر لئلا يقتلها بما فعلت به، وروى أنه نسبها وعميت وافتقرت، وكانت فى بيت عجوز خمسا وعشرين سنة.
وروى أنها افتقرت فى أول سنين الشدة وكانت قد بنت بيتا على قارعة الطريق التى يمشى منها يوسف عليه السلام، وكان يركب ويدور فى عمله، وينصف المظلوم من الظالم، ووإذا ركب صهل فرسه فتبلغ صهلته أهل المدينة بأسرها قريبها وبعيدها، فيركبون ويأتون إلى قصره أسرع من طرفة عين، ويركب لركوبة مائتا ألف عن يمينه ومائتا ألف عن يساره، ومائتا ألف أمامه، ومائتا ألف خلفه، وبين يديه ألف سياف، فلا يمره بأحد إلا قال: لقد أكرم الله هذا العبد، وأتاه ملكا عظيما.
وكانت زليخا تشد وسطها بحبل من ليف، وتلبس جبة من صوف، وتقف على قارعة الطريق، فإذا جاز عليها يوسف عليه السلام تناديه فلا يسمع نداءها، ولا يذكرها أحد بين يديه، فأقبلت على صنمها فكسرته، فقال: ما أراك تغنى عنى شيئا، وكانت تقول لخادمتها: قفى بى على طريق يوسف كى يصيبنى غبار عسكره، ثم أسلمت وحسن إسلامها، وقالت: لعلى ألقى يوسف عليه السلام حتى يعرف بإسلامى، فيتعطف علىَّ الآن، لأن إلهه كريم، ومحبته قد دخلت [قلبى] وقالت لامرأة مصرية كانت تخدمها: خذى بيدى وأوقفينى على قارعة الطريق، فإذا دنا يوسف منى فأخبرينى، فلما دنا منها أخبرتها فنادت يوسف فلم يجبها ولم يلتفت إليها، فنزل جبريل عليه السلام، وأخذ بزمام بغلته، وقال له: يا يوسف انزل وأجب هذه المرأة، قال له: ومن هى يا جبريل؟ قال له: انزل واسألها من هى، فقد أسلمت وحسن إسلامها.
فنزل وقال لها: من أنت؟ قالت له: يا يوسف كأنك ما عرفتنى، ما أسرع ما أنكرتنى وكشفت رأسها، وذرت عليه التراب وقالت: وافوت عمرى حين أحببت من لا يعرفنى، يا يوسف إن الطاعة والمعرفة تصيران العبيد ملوكا، والمعصية تصير الملوك عبيدا أنا زليخا التى خدمتك بروحى وجميع جوارحى، فتحير من ضعفها وهرمها، لأنه لم يعلم أنها فى الحياة فدخل حبها قلبه لما أخبره جبريل عليه السلام بإسلامها، فرق عليها، وبكى رحمة لها.
فقال له جبريل عليه السلام: إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: اقض حاجتها. فقال لها عند ذلك يوسف عليه السلام: ما حاجتك يا زليخا؟ قالت له: أردت أن أكون فى دارك لعلى أعيش بكلامك إذا سمعته، فما أوصلنى إلى هذه الحال إلا غيبتى عنك، فقال لها: أتريدين أن تكونى لى زوجة؟ فقالت له: أتهزأ بى، فما نظرت إلىَّ وقت حسنى وجمالى، وقدى واعتدالى، أتنظر إلىَّ اليوم، والله لقد كنت طامعة فى ذلك لرؤيا رأيتها، إذا بها إضغاث أحلام، وما أريد إلا أن يرجع إلىَّ بصرى كى أنظر إلى وجهك نظرة، وتعلمنى شرائع الإسلام حتى أعبد ربك الكريم، وحقه لقد أحببته.
فقال لها: يا زليخا أتعلمين أنى أهزأ؟ قالت: لا والله الذى لا إله إله هو، قال: فإنى ربى يقول لى، على لسان ملك نزل من السماء: إن كانت عجوزا أجعلها جارية عذراء، وإن كانت عمياء أجعلها بصيرة، وإن كانت فقيرة أجعلها غنية، لأنها كانت تحب من يحبها.
فقالت: يا يوسف لا شئ أحب إلى قلبى مما ذكرت لى، فحملها إلى قصره بعد ما مسح عليها جبريل عليه السلام بجناحه، فصارت حوراء تخجل البدر، لها عينان كحلاوان، كأنهما لؤلؤ مكنون، قد ألبسها الله بجمال أهل الجنة، وانقلبت المحبة إلى قلب يوسف عليه السلام، وافتتنت هى بحب الله عز وجل، فعمل لها عرسا كبيرا، وزفت إليه، وغلقت الأبواب على نفسها، واستحيت أن تجعل مع الله شريكا فى قلبها، وأن تشتغل بغيره لما نالها من حبه، واشتغلت بعبادته.
ولما انتصف الليل جاء يوسف عليه السلام، وقرع عليها الباب فقالت له: يا يوسف تغيرت المسألة، ووجدت من هو خير منك، فكسر يوسف عليه السلام الباب، ودخل عليها، فتعلق بها، فهربت منه، فمزق قميصها، فنزل جبريل عليه السلام وقال له: يا يوسف ليس هناك جدال ولا قتال، محبة بمحبة، وعشق بعشق، وطلب بطلب، وهرب بهرب، وتمزيق بتمزيق، ولكن أخبرها عن الله عز وجل أن رضاه فى رضاك، وطاعته فى طاعتك، فأخبرها بذلك.
ففرحت وقالت: الآن قد طابت نفسى، وكملت والله مسرتى، وفرح قلبى، وانشرح صدرى، ولما دخل عليها تعجب من حسنها وجمالها فقال لها: ما هذه الصورة البهية المليحة السنية؟ فقالت له زليخا: قد كنت ترانى منذ تسع سنين وما تعجبت منى قط، قال لها: يا زليخا والله ما ملأت عينى منك قط، قالت: ولم ذلك؟ قال لها: لأنه لا يحل لى أن أنظر إلى ما ليس لى. قالت: يا يوسف وحق الذى فى السماء عرشه، لقد بقيت مع العزيز من يوم رفعت إليه إلى أن مات وما مستنى بشرته، ولا أعلم أنى ذكر أم أنثى، ولا هممت بأحد غيرك.
قال لها: يا زليخا أنت الآن بكر عذراء، قالت له: نعم أيها الصديق كما خرجت من بطن أمى، فقال يوسف عليه السلام: الله أكبر هذا من فضل ربى.
وعلم يوسف عند ذلك أن الله تبارك وتعالى كان يحفظها له، وكتبها له فى الأزل، فحمد الله وشكره، وولدت له اثنى عشر ذكرا كلهم أنبياء مرسلون، وفى رواية أخرى، وهى التى سبقت فى حفظى: أن الله سبحانه وتعالى سلط على أموالها الفناء، ومات العزيز، وافتقرت افتقارا شديدا، وذهب بصرها وصارت تتكفف الناس، فقيل لها: لو تعرضت للملك لرحمك وأعانك بشئ يغنيك عن الناس، ثم قيل لها: لا تفعلى فربما تذكر مافعلت به من المراودة والسجن، فيعاقبك، فقالت: هيهات أنا أعلم بحبيبى منكم، وإن من خلقه الصفح.
ثم نهضت وجلست على ربوة فى طريقه، وكان يركب يوما فى الجمعة، وتركب معه العظماء والوزراء وأرباب دولته، وتركب معه ألوف كما مر، ولما أحست به نادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل العبيد ملوكا بطاعتهم، وجعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، فأمسك العنان ونظر إليها فقال: من أنت؟ قالت: أنا التى كنت أخدمك دهرى على خدى وقدمى، وأرجِّل جمتك بيدى، وأبذل فى خدمتك جهدى، وكان منى ما كان، وقد ذقت وباله، ولقيت نكاله، فذهب مالى، وتغير حالى، وصرت أسأل الناس، فمنهم من يرحمنى، ومنهم من لا يرحمنى، وهذا جزاء المفسدين.
فبكى شفقة عليها، ثم قال: هل بقى فى قلبك شئ مما كان؟ فقالت:: والله لنظرة منك أحب إلى من الدنيا وما فيها، ثم قالت: ناولنى سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد من طرف السوط فى يده ارتعادا فقالت: يا نبى الله هو كما ترى، فجاوزها باكيا، ثم بعث إليها رسولا يقول لها: يقول لك الملك: إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك. فقالت: إليك عنى يا عبد الله، فإن الملك أعرف بالله من أن يستهزئ بى، لم يلتفت إلى زمان شبابى وجمالى وغناى، فكيف يلتفت إلىَّ الآن، فأخبر يوسف بما قالت.
وتعرضت له فى الربوة فى الأسبوع الثانى، ونادت كالنداء الأول، فقال لها: ألم يبلغك رسولى، وقال لك ما قال، فما ترين؟ قالت: ألم أقل لك إن نظرة إليك أحب إلىَّ من الدنيا وما فيها، فأمر بحلمها إلى قصره، وأحضر الشهود وتزوجها، فلما زفت إليه، وأدخلت عليه، نظر إليها فزاد شفقة عليها، فصلى ودعا بالاسم الأعظم، فرد الله عليها جمالها، فكانت كهيئة يوم راودته، فلما نظرت إليه دون رقيب دخل قلبها الوجيب، ودلها لما رأته على السميع المجيب.
وقيل: بل رد الله عليها شبابها بعد وصول يعقوب ليوسف، وارتداده بصيرا، سارت إليه ووقفت بين يديه وقالت: أنت رئيس الصابرين، وإمام المحزونين، فتصدق على الممحنة بقميص يزيل وصبها، فأعطاها منه خيطا وهو القميص الذى كساه الله إبراهيم من الجنة، حين ألقى فى النار، فمرت به على وجهها وجسدها، فرد الله بصرها وشبابها، وتعرضت للصديق كهيئتها يوم راودته، فدعاها إلى الإسلام فأسلمت، فلما زفت إليه استأذنته أن تصلى لله صلاة تشكره على ما وهبها من نعمة، فأذن لها فاستطابت حلاوة المناجاة، فطال على يوسف انتظارها، فدعاها إليه فلم تجبه، فدعاها ثانية فلم تجبه فجذبها من خلفها، فقد قميصها من دبر وواقعها ووجدها عذارء.
{ نُصيبُ بِرحْمتنَا مَنْ نَشاءُ } فى الدنيا والآخرة كالنبوة والتوفيق والملك والمال { ولا نُضيعُ أجْر المحْسِنينَ } بل نثيبهم عاجلا وآجلا، وعن ابن عباس: المحسنون هنا الصابرون، ومن إحسان يوسف الصبر وحب الضيف، وكان لا يأكل إلا مع الضيف.