التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٦٧
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وقالَ يَا بنىَّ لا تدْخُلوا } مصر، وقيل ذلك فى الفرماء، وهى من أعمال مصر { مِنْ بابٍ واحدٍ وادْخُلوا مِن أبْوابُ مُتفرقةٍ } ولها يومئذ أربعة أبواب: باب الشام، وباب المغرب، وباب اليمن، وباب الروم، وقيل خمسة بزيادة باب النون.
وقال السدى: أراد بالأبواب الطرق، والذى سبق فى حفظى أولا أنه أمر كل واحد أن يدخل من باب غير باب الآخر، وطريق غير طريقه، فيكون لمصر أحد عشر بابا أو أكثر.
ولم أر وفى المسألة شيئاً من شيخى، وقيل: أمرهم بذلك لأنه قد علم أن ملك مصر هو يوسف، إلا أن الله لم يأذن له فى إظهار ذلك، وكان غرضه أن يضل بنيامين إلى أخيه يوسف قبل إخوته فى وقت الخلوة، وقيل: علم يعقوب أن يوسف بمصر من رسالة الأعرابى المذكورة فيما مر، فقال لأولاده: ادخلوا من أبواب متفرقة، لعلكم تجدون يوسف، قيل: ولم يدر أن يوسف وصل الملك.
وقال ابن منبه: أمرهم بذلك مخافة أن يغتالوا أحدا لما ظهر له فى أرض مصر من التهمة بالحسد، والصحيح أنه فعل ذلك مخافة العين عليهم، إذا كانوا ذوى جمال وقوة، وامتداد قامة، وكانوا أولاد رجل واحد، وهو قول الجمهور، وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
وفى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"العين حق لو كان شئ يسبق القدر لقلت العين لا تزال بالرجل حتى تورده القبر، ولا بالجمل حتى تورده القدر، ولا بالنخلة حتى توردها التنور، وإذ استغسلتم فاغسلوا" قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعاين فيتوضأ ثم يغسل منه المعين" . وقالت أسماء بنت عميس: "يا رسول الله صلى الله عليك وسلم إن بنى جعفر أسرع شئ إليهم العين، أفأسترقى لهم؟ فقال: استرقى لو كان شئ يسبق القدر لسبقته العين" .
وقال ابن عباس: "إن يتيمة كانت عند ميمونة، فافتقدها النبى صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها قيل له: اشتكت عينيها، فقال: استرقوا لها فإنها أعجبتنى عيناها" .
وقال سهل بن حنيف: إذا أعجب أحدكم شئ فليبارك وصفه وضوء العاين، ما ذكروا أن سهل بن حنيف أصيب العين عند اغتساله، فأمر صلى الله عليه وسلم عاينه أن يتوضأ.
وذكروا أنه يؤتى بقدح ولا يوضع فى الأرض لتؤخذ منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمجها فى القدح، ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به وجهه، ثم يأخذ ما يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى، ثم بشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن، ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى، ثم ركبته اليمنى، ثم اليسرى على الصفة المتقدمة، وكل ذلك فى القدح، ثم داخله إزاره وهو الطرف المتدلى الذى يلى حقوه الأيمن، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن القدح، وجمهور العلماء على ما قدمنا.
وهذا الوضوء واجب على العاين، ويجبر عليه ويصبه من خلفه على رأس المعين صبة واحدة، وهذا ونحوه هو المراد بقوله: "فإذا استغسلتم فاغسلوا" والأمر للوجوب فيه على الصحيح، وقيل: لغير الوجوب، وحدث والد سهل المذكور
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا نحو ماء، حتى إذا كان بشعب الحرام من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد محباة، فلبط سهل، أى صرع، فأتى أبوه حنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تتهمون أحداً؟ قال: عامر بن ربيعة، فدعا عامرا فتغيظ عليه، فقال: علام يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك تبركت ثم قال: اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخله إزاره فى قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفى القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس" .
وذكر عياض: أن المراد بداخلة إزاره ما يلى جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: وركه، لأنه معقد الإزار، وعن مالك ما يلى الجسد من الثوب مطلقا، وتلك الرقيا لا تعرف علتها فلا ترد، وقد عضدتها التجربة، وصدقتها المعاينة، فإن التوقف فيها متشرع.
قلنا له: قل: الله أعلم أو متفلسف فالرد عليه أظهر، لأن الأدوية عنده تفعل بتواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواصر، ومن المتحرز ستر محاسن من يخاف أن يعان.
رأى عثمان بن عفان صبيا مليحاً فقال: دسموا نونته وهى النقرة التى تكون فى ذقن الصغير، وكان رجل يقال له أبو عبد الله الساجى فى حجة أو غزوة على ناقة فارهة، وكان فى رفقة الرجل عاين، فما نظرإلى شئ إلا أتلف، فقيل لأبى عبد الله: احفظ ناقتك من العاين، فقال: ليس له إليها سبيل فأخبر العاين بقوله، فتحين غيبة إلى الله فجاء إلى رحله فنظر إليها فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العاين قد عانها وهى كما ترى، فقال: دلونى عليه فوقف عليه فقال: باسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، اردد عين العاين عليه فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، فخرجت حدقتا لعاين، وسالتا على خده، وقامت الناقة لا بأس بها.
والعين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد ولو من الرجل المحب، ومن الرجال الصالح أو الذى يعجبه الشئ يبادر إلى الدعاء للذى يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقيا منه، كما يستفاد من الحديثين السابقين، ويستفاد منه ومن التجربة أن العين تقتل.
واشتهر أن من رأى ما يعجبه فليصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت، كلاما فى مختصر القواعد والحاشية، والذى أقول به: إن العاين إذا أتلف شيئا ضمنه، وإن قتل فالقصاص أو الدية، وإن تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة كما يقتل الساحر قصاصا كما قال القرطبى، وإلا لزمه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، وقيل: يقتل الساحر بكفره ولو لم يتلف نفسا، ومنعت الشافعية قتل العاين قصاصا، لأنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا.
قال النووى: منهم لا دية فيها، ولا كفارة، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال، مما لا انضباط له كيف ما لم يمنع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد، وتمن بزوال النعمة، وقد يكون الموت بغير عين الذى عانه، بل بشئ آخر، ويرد عليه الساحر إلا إن قال: لا يقتل إلا كفرا وينبغى للإمام.
بل يجب عندى منع العاين إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا أرزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذى منعه عمر من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذى منع الشارع أكله من حضور الجماعة، ومعنى كون العين حقا إن الإصابة بها شئ ثابت موجود، وأنكرتها طوائف من المبتدعة، والحق ثبوتها للأحاديث والتجربة، وأنها تضر عند نظر العاين بعادة أجرها الله سبحانه وتعالى، أن يحدث الضرر عند نظره، وأنه لا قطع بأن ثم جواهر حقيقة لطيفة غير مرئية تنبعث من العاين، فتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه، فيخلق الله جل وعلا الهلاك عندها، ولا تقى، بل جاز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة وأخطأ من قطع بذلك.
روى جابر بن عبد الله: أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس يعنى العين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواص فى الأجسام والأوراح، كالحمرة عند نظر من تحتشمه إليك والاصفرار عند رؤيتك من تخافه، وكثير يسقم بمجرد النظر إليه.
قيل: الذى يخرج من عين العاين سهم معنوى إن صادف البدن لا وقاية له ولا أثر فيه، ولو لم يفيد، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسبى، والوقاية حفظ الله، وزعم بعض أهل الطبائع، أن العاين تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالعين فتهلكه أو تفسده، كإصابه السم من نظر الأفعى، وطبائع الناس تختلف، وقد تكون ذلك من سم يصل من عين العاين فى الهوى إلى المعين لشدة خبث روح صاحب تلك الطبيعة قبل التأثير بالروح، وهو على كل حال بإرادة الله.
قال بعض العاينين: إذا رأيت شيئا يعجبنى وجدت حرارة تخرج من عينى، ويقرب من ذلك أن المرأة الحائض تضع يدها فى إناء اللبن فيفسده، ولو وضعته بعد طهر لم يفسد، وأن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، قلنا: إن كان هذا المنبعث عند القابل عرضا رد بأن العرض لا يقبل الانتقال، لأنه لا يستقل بنفسه، قيل: وإن كان جوهرا رد بأن الجواهر متجانسة، فليس بعضها أولى بأن يكون مفسد البعض من عكسه، وللعين علاج بأشياء من الطب.
وأنشاء من الأدعية منها ما كان صلى الله عليه وسلم يعيذ الحسن والحسين به:
"أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة، ومن كل عين لامه" الهامة مفرد الهوام، وهو كل ذى سم يقتل كالحية وما يسم، ولا يقتل فهو السام، والجميع سوام كالزنبور والعقرب، قد تقتل، وقد يطلق لفظ هامة على كل ذى روح يدب، ولامه الملمة وهى النازلة وعبر بالملامة ليناسب الهامة، أو اللامة على ظاهره من لممت الشئ جمعته، فهى بمعنى جامعة شر، ولا محل للتطويل بطب العين وأدعيتها هنا.
ولم يخف يعقوب عليهم العين أول مرة، لأنهم حينئذ مجهلون فى أهل مصر، بخلاف المرة الثانية، فإنهم يعرفون، ويشار إليهم بالأصابع أن هؤلاء اضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم وما أحقهم بالإكرام، أو كان الداعى إلى ذلك خوفه على بنيامين، وما مجردهم فلم يخطر بباله أنهم يعانون، ولو خطر ما قصر.
{ وما أغْنى عنكُم من الله مِنْ شىْءٍ } أى ما أدفع عنكم من الله شيئا من الدفع أو من الضر إن قضاه الله، فإن الحذر لا يدفع القدر، وذلك منه جمع بين التسبب والتوكل بما أشرت عليكم من الدخول من أبواب متفرقة.
قال الشبلى: أجل طريق عمل الأسباب فى الظواهر، وخلوا الباطن من تعليق بغير الله، وذلك جمع بين الحكمة وحقيقة التوحيد، ولذا مدح الله يعقوب بقوله:
{ وإنه لذو علم لما علمناه } وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شذ فى رفض السعى بالكلية، وقنع بالماء ويقبل البرية.
{ إن الحُكم إلا لله } يصيبكم ما قضى أن يصيبكم إن كان قد قضى عليكم بشئ { عليْه توكَلتُ وعليْهِ فلْتوكَّل المتوكِّلون } الفاء صلة وعليه متعلق بما بعدها وإنما ساغ الجمع بين الواو والفاء للفصل بينهما بعليه، وإنما قدم عليه فى الموضعين للحصر، وإنما لم يسقط الفاء لأنها فى الأصل للتسبب، فأتى بما هو صورة للتسبب وصفة له، وفعل الأنبياء سبب لأن يقتدى به.