التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فلمَّا استيئسُوا } يئسوا، والسين والتاء للمبالغة أو الموافقة المجرد، وقرأ البزىّ فى رواية أبى عمرو الدانى، عن ابن خواستى الفارسى، عن النقاش، عن أبى ربيعة عنه: فلما استأيسوا ولا تائسوا من روح الله، وحتى إذا استائس الرسل، وأفلم يائس الذى آمنوا بالألف وفتح الباء من غير همز، والباقون بالهمز وإسكان الياء من غير ألف فى اللفظ، وإذا وقف حمزة أو ألقى حركة الهمزة على الياء على أصله { مِنْه } من يوسف أن يرد معهم بنيامين، أو من بنيامين أن يُردَّ معهم، وقال أبو عبيدة: استيئسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم.
{ خلصُوا } اعتزلوا عن يوسف { نجيّاً } أى مشاورة فى خفض صوت، وهو مصدر مفعول لأجله، أى اعتزلوا للتناجى فى أمر أخيهم، أو مفعول مطلق لحال محذوفة أى خلصوا ينجون نجيا، أو ناجين نجيا وهو من النجوى لا من النجاة، أو هو وصف فيكون أيضا حالا، وصح إفراده لأنه بوزن فعيل بمعنى فاعل، أو للتأويل بنوجا نجيّاً أو مصدر جاء حالا مبالغة كأنه نفس النجوى لشدة اهتمامهم، او يقدر مضاف أى ذوى نجوى، والحال على كل حال مقدرة لا مقارنة ولا محكية.
وقالوا فى نجواهم: نقاتل أهل البلد، كان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فغضب روبيل وقال بعد النجوى: أيها الملك، والله إن لم تتركنا لأصيحن صيحة لا تُبقى بمصر امرأة حاملا إلا وضعت ما فى بطنها، وقامت كل شعرة فى جلده، وخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضبوا ومسهم واحد منهم ذهب غيظه، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل ومسه، فمر الغلام إلى جنبه فمسه فسكن غضبه، قال من هذا؟ إن هذا البلد فيه بزر من برز يعقوب، فقال يوسف: مَنْ يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: يا أيها الملك لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله، فقال له: أنت إذن صادق.
وفى رواية: قال لهم يهودا: أنا أجلس على باب السجن فلا أخليه يسجنه، وأنتم اذهبوا كل واحد إلى سوق من أسواق مصر بأسلحتكم، فإذا صحت من هنا انشقت مرارتهم، وإذا سمعتم صوتى فاضربوا يمينا وشمالا، واقتلوا من جاء إليكم، وأنا أقتل من يقصدنى، فأمر يوسف ابنه الصغير واسمه نايل وقال له: يا بنى امض نحو عمك ذلك الرجل فامسح يدك على ظهره، ففعل فسكن ما به، وذهبت قوته، وأخذ ذلك الصبى فوضعه فى حجره، وقبل خده، فقال: أشم منك رائحة يعقوب، من أنت؟ فلم يخبره.
ولما ارتفع النهار، ولم يسمع إخوته رجعوا إليه وقالوا: ما الذى أصابك يا يهودا، لم نسمع لك صوتا، فقال: اسكتوا إن هنا إنسانا من آل يعقوب.
وفى رواية: كان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شئ، وإذا صاح ألقت كل حامل حملها، وكان أقوى إخوته وأشدهم، وقيل: هذه صفة شمعون، قيل: قال روبيل لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة، قال: اكفونى الأسواق وأكفيكم الملك، أو اكفونى الملك أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل: أيها الملك لتردن أخانا أو لأصيحن صيحة لا تُبقى بمصر امرأة حاملا إلا وضعت حملها.
فقال يوسف لولده الصغير: قم إلى جنبه فمسه أو خُذ بيده فأتنى به، ولما مسه سكن غضبه فقال لإخوته: من مسنى منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد، وقال: إنا هنا بزرا من بزر يعقوب، قيل: وغضب ثانيا فقام إليه يوسف فركله برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم، فذلك من جملة نجواهم. وقيل: قالوا ذلك وجرى معهم ذلك قبل قولهم: يا أيها العزيز لما لم ينفع ذلك قالوا: يا أيها العزيز، وقيل: قالوا فى نجواهم ما ذكر الله عز وجل عنهم فى قوله:
{ قالَ كَبيرهُم } فى السن أو فى الرأى وهو روبيل، قيل: يهودا، قال قتادة، والسدى، والضحاك: هو روبيل، وأنه أسنهم ورجحه الطبرى، وقال مجاهد: هو شمعون كان كبيرهم رأيا وعلما لا سنا، وكانت له الرياسة على إخوته، وقيل: إن يهودا أكبرهم عقلا، ورأيا وإنه المراد، وبه قال ابن عباس والكلبى.
{ ألم تعْلَموا أنَّ أباكُم قد أخذَ عليْكم مَوثقا مِنَ اللّهِ } فى أخيكم بنيامين، وإنما جعل حلفهم بالله موثقا من الله لأنه تأكيد به، وواقع بإرادته، ولم لم يرد لم يقع، وكذا فيما مر من كلام أبيهم { ومِنْ قبلُ } أى من قبل هذا متعلق بالفعل فى قوله: { ما فرَّطتُم فى يُوسفَ } على أن ما صلة لتأكيد التفريط، أى قد ضيعتم يوسف من قبل، وقصرتم فى حقه، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، واصدر مبتدأ، ومن قبل خبر، وأن تكون اسما موصولا مبتدأ خبره من قبل، أى من قبل هذا ما فرطتموه، أى قدمتموه فى حتى يوسف من الخيانة العظيمة، وهكذا إذا بنيْنا على قول بعض النحويين كابن مالك فى بعض كتبه، أنه يجوز كون الظرف المقطوع عن الإضافة لفظا لا معنى خبرا وصلة وصفة وحالا، والمشهور المنع، زعموا أنه لا يفيد، وليس كذلك عندى، بل تكفى فائدته، ولو جعل المضاف إليه ولا سيما أنه كثيرا جدا ما يحذف ويعلم كأنه مذكور كما هنا، وأما أن تجعل ما مصدرية والمصدر معطوف على مفعول تعلم، أو اسما موصولا معطوفا عليه فضعيف اللزوم تقدر معمول الصلة على الموصول الحرفى، أو الاسمى لو كان المعمول ظرفا.
{ فلنْ أبْرح الأرْضَ } لن أفارق هذه الأرض الحاضرة المعهودة أرض مصر، فإنما عدى أبرح للمفعول لتضمنه معنى أفارق، ويجوز كون الأرض منصوبا على نزع الخافض، وهو متعلق بأبرح تامة، أى لن أذهب من الأرض إلا أن يقدر عموم فى الأرض، لأن اسم المكان لا يقبل النصب على الظرفية إلا مبهما، ووجهه أن يريد الأرض التى هو فى بعضها بدون أن يستشعرها محدودة مغشاة بموضع كذا، وعلى هذا يجوز كون أبرح ناقصا أى لن أزل فى الأرض.
{ حتَّى يأذنَ لى أبى } فى الخروج من أرض مصر ويدعونى إليه، وسكن ياء لى غير نافع وأبى عمرو، وياء أبى غيرهما وغير ابن كثير { أو يحْكُم الله لى } بالموت أو برد أخى إلىَّ أو بالسيف فأقاتلهم حتى أرده.
روى أنهم قالوا: ندخل على الملك مرة أخرى، فإن سمح بأخينا وإلا حاربناه بالقوة التى ركب الله فينا، وكانوا إذا غضب واحد منهم انتفخ واقشعر جلده، وخرج شعره من ثيابه، فتخرج من تحت كل شعرة قطرة من دم، فيضرب بقدمه على الأرض فتزلزل، ويزعق قلا تسمع زعيقه حامل إلا وضعت، ولا أحد إلا غشى عليه، وإذا مسه أحد من أولاد يعقوب أو من نسله سكن، وكان كواحد من الناس، وكان يوسف أقواهم فقال يهودا: اكفونى أهل مصر أكفكم الملك ممن معه، أو اكفونى الملك ومن معه أكفكم أهل مصر.
وعن ابن عباس: وجه أحد إخوته وقال: أنظر كم أسواق مصر؟ فقال: تسعة، فقال: يقوم كل منكم بسوق، وأقوم بالملك ومن معه، فدخل مغضبا على يوسف وقال: أيها الملك رد علينا أخانا، وإلا صحت الآن فى قصرك صيحة فلا تسمع حامل إلا وضعت ما فى بطنها دما غبيطا، ومات كل من سمع صيحتى، وكانت له شعرة بين كتفيه إذا غضب قامت وخرجت من الثياب فلا تسكن حتى يسفك دما أو يمسه أحد من ولد يعقوب أو نسله، فقامت الشعرة ونظر إليها يوسف وقال لولده الأكبر: قم وخذ بيدك ذلك الرجل وأتنى به، فأخذه بيده فقاده وقد خمدت قوته، فالتفت يهودا يمينا وشمالا ليرى أحد إخوته هل مسه فلم ير أحدا، فقال: والله لقد مسنى أحد أولاد يعقوب، ثم خرَّ وطأطأ رأسه وارفضَّ عرقا، [وقال] لإخوته: من مسنى منكم؟ قالوا: ما مسك منا أحد، قال: وأين أخى شمعون؟ قالوا: مضى إلى الجبل ليأتى بصخرة يشدج بها رءوس من فى المنزل، يعنون منزل الملك، قال: هيهات لا ينفع ذلك.
ثم مضى يهودا على أثره فإذا هو قد أقبل بصخرة عظيمة فقال: ارمى بها فإنها لا تفيدك، أقسم بالله يا أخى إن فى هذا المنزل رجلا من آل يعقوب، وقالوا له: فأشرعلينا برأيك. فقال: { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذه عليكم } الآية.
وذكر أبو صالح أنه لما علم يوسف أن غضب يهودا سكن قام إلى حجر من حجارة طاحونة فوكزه برجله فرمى به خلف الحائط، ثم جذب يهودا جذبه وكاد أن يقلبه، وقال: يا معشر الكنعانيين تظنون أنه ليس لأحد مثل قوتكم فأظهروا الخضوع، فقال: عفوت عنكم، إنما أردت أن أريكم فضل قوتنا وما عندنا، ثم نقر الصواع فقال: إنه يخبرنى أنكم طرحتم أخاكم فى البئر، ثم بعتموه بثمن بخس فأنكروا وقالوا: لم نفعل لعل الملك قد سمع غلطا، فاخرج الكتاب الذى كتبوه يوم بيعه فقال: هذا الكتاب وجدته فى خزانتى فاقرءوه وفسِّروه لنا، فأخذه يهودا فقال: يا روبيل تعرف خطك؟ فنظره وبهتوا وجزعوا، وكلَّت ألسنتهم.
فقال لهم يوسف: ما لكم صممتم؟ فقالوا: أيها الملك هذا كتاب كتبناه فى عبد بعناه، قال: فأخبرونى ما فيه فقرأ روبيل، فقال يوسف: ويحكم لقد جئتكم ما لا يليق، فلو كنتم كما تقولون ما ارتكب صغيركم ما ارتكب، ثم نقر الصوع وأصغى بأذنه وقال: إنه يخبرنى أن أخاكم الذى تزعمون أنه مات حى، وأنه سيرجع فيخبر الناس بصنيعكم معه، ثم نقره وقال: إنه يخبرنى أنكم فرطتم فى أخيكم وكذبتم لأبيكم، ثم نقره وقال: يقول كل ما دخل على أبيكم من الهم والحزن والعماء والبلاء فمن أجلكم، ثم نقره فقال: يقول إنكم أصررتم فإن لم تستغفروا لأصيرنكم نكالا، علىَّ بالحدادين حتى أقطع أيديهم فخضعوا.
وقال يهودا: هذا ما حذرتكم، وقلت: إن الله [لكم] بالمرصاد، لا يترك ظلم العباد فكيف يكون أبونا إذا بلغه فقد أولاده جميعا، وقد أصابه ما أصابه فى واحد، فتوبوا واشهدوا هذا الملك الجليل، فلعل الله يرحمكم فإنه أرحم الراحمين.
فسكنوا جميعا وتابعوا، فقالوا: لو وجدناه لأحسنا إليه غاية الإحسان، ولقلبنا يده ورأسه، فسمع يوسف ففاضت عيناه، فأمر أن يخلى سبيلهم، وأما أخوكم فلن أبرحه، فتشاوروا فقال يهودا: أما أنا فمالى وجه ألقى به والدى، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى.
{ وهُو خَيرُ الحاكِمِين } لأنه لا يكون حكمه إلا بحق.