التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٨٣
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَالَ } أبوهم بعد ذلك { بَل سوَّلت } زينت وسهلت { لكُم أنفسُكم أمراً } فعملتموه كيدا لأخيكم، وإلا فمن أعلم الملك أن السارق يستعبد بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم، اتهمهم لما سبق منهم فى أمر يوسف.
وإن قلت: إذا كان استرقاق السارق حكما شرعيّاً فكيف ينكر عليهم تعليم الملك إياه؟
قلت: لم ينكر عليهم التعليم، وإنما أراد أن الملك لا يعلم هذا الحكم، وإنما علمتم أنتم لأمر جائز يتوصلون إليه، أو أنكره عليهم، لأن هذا حكم من سرق من مصر، وهذا على أنه لا يعلم أن ملك مصر مؤمن، وقيل: بل زينت لكم أنفسكم أمرا هو حمل أخيكم إلى مصر، لطلب نفع عاجل هو حمل البعير المزاد فآل أمركم إلى ما آل، وقيل: بل خيلت لكم أنه سرق وما سرق.
{ فصبرٌ جميلٌ عَسَى الله أن يأتينى بهِم جَميعا } أى بالثلاثة أو الأربعة الباقين، لما اشتد بلاؤه أخذ ينادى: من يريد الفرج وأحسن الظن بالله سبحانه، طمع أيضا بدعاء الملائكة أن يجمع الله بينه وبين أولاده كما مر.
قال شاعر:

وكلُّ الحادثات إذا تناهت يكون وراءَها فرجٌ قريب

وقال آخر:

إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً وأضيق الأمر أدناه إلى الفرج

وقال آخر:

فلا تجز عنَّ إن أظلم الدهر مرة فإن اعتكار الليل يؤذن بالفجر

فلما جرى عليه وعلى بنيه من أول الأمر إلى ذلك الوقت من الرؤيا وكيد الإخوة، علم ان الأمر قد تناهى، فقال: { عسى الله أن يأتينى بهم جميعا }.
{ إنَّه هُو العَليمُ } بخلقه وأحوالهم، ومنها حزنى عليهم وحالهم { الَحكيمُ } فى صنعه فما أبلانى بذلك إلا لحكمة.
وقيل: إنه لما فقد يوسف قال:
{ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } فتعلق بالصبر فأنساه الشيطان حسن الظن بربه فزيد كربه بفراق بنيامين، فصبر وتذكر حسن الظن، عسى الله أن يأتينى بهم جميعا، فأتاه الله بهم جميعا أعنى جمع بينه وبينهم.
وروى أنهم لم يقولوا له إن ابنك سرق الصواع، بل قالوا إن ابنك سرق، فقال: وما سرق؟ فقالوا: سرق صواع الملك، استخرج من رحله، فحبسه الملك، وأردنا مقاتلته إذا به أشد منا، ونجانا الله ببركته دعائك، فبكى يعقوب وزينة وعيال أبنائه وأهل خاصته، وقامت عندهم صيحة لحبس بنيامين، ولفقد يهودا وشمعون على ما مر، وليس مرادى بإنساء الشيطان يعقوب حسن الظن بالله سبحانه وتعالى أنه أساء الظن به تعالى، بل ذهل وغفل عن تقوية الرجاء.
قال قتادة: إن نبى الله يعقوب ما ساء ظنه بالله تعالى فى طول بكائه ساعة قط، من ليل أو نهار، قيل: نزل ملك الموت على يعقوب عليه السلام فقال: جئتَ لقبض روحى قبل أن أرى أولادى؟ قال: بل جئت زائرا، قال: أقسمت عليك بربك، هل قبضت روح يوسف فى الأرواح؟ قال: بل هو حى سوى، وهو ملك مصر، وله الخزائن والجنود والعبيد، وعن قريب إن شاء الله تعالى ترأه.
وفى رواية أنه رآه فى المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله وهو حى يرزق.
وروى أنه زاره فقال: السلام عليك أيها الكظيم، فاقشعر جلده، وارتعدت فرائضه، فرد عليه السلام وقال له: من أنت؟ ومن أدخلك هذا البيت وقد أغلقت على نفسى، وأمرت أن لا يدخل على أحد، وأشكوا بثى وحزنى إلى الله؟ فقال له يا نبى الله أنا الذى أيتِّم الأولاد، وأرمل الأزواج، فقال له: أنت ملك الموت، إذن فأخبرنى عن الأرواح أتقبضها مجموعة أمر مفترقة روحا روحا؟ قال: روحا روحا، قال: هل مرت بك روح يوسف؟ قال: لا، قال: فهل جئتنى زائرا أو داعيا؟ قال: ما جئتك إلا مبشرا، فإن الله لا يميتك حتى يجمع بينك وبين يوسف ولو فى الصخرة التى على قرار الأرض، فعند ذلك حول وجهه عن المحارب لهيجانه شوقا إلى يوسف بهذا، وبفقد بنيامين، لأن المصيبة الحادثة بحديث الحزن للأولى وأعرض بوجهه عنهم أيضا واشتغل بالبكاء كما قال الله عز وجل: { وتَولَّى عَنهم وقالَ... }