التفاسير

< >
عرض

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
١١
-الرعد

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لهُ } أى للمذكور من مسر وجاهر، ومستخف وسارب، أو للإنسان { معقِّباتٌ } جماعات معقبات، فهو جمع معقبة، ولذلك جمع بألف وتاء، مع أن المراد الملائكة، أو هو جمع معقبة بتاء المبالغة والكثرة، كراوية لكثير الرواية، أو جمع معقب شذوذا وهو من عقبه بالشديد للمبالغة بمعنى جاء عقبه، أو التشديد لكثرة المعقب عليه، ولأن الأصل متعقبات، نقلت فتحة التاء للعين، وأبدلت قافا وأدغمت فى القاف، وذلك أن الملائكة يجئ بعضها عقب بعض لحفظ ابن آدم، أو أنه يعقبون كلامه وفعله بالكتابة.
قال صلى الله عليه وسلم:
"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون عند صلاة الصبح وعند صلاة العصر فيسألهم ربهم وهو أعلم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون" .
وروى "أن مع كل آدمى ملكين: ملك عن يمينه وملك عن شماله إذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين فى حينه عشرا، وإذا عمل سيئة قال لصاحب الشمال وهو أمين عليه: لا تكتبها حتى تمضى ساعات لعله يستغفر، وإذا مضت ولم يتب فاكتبها واحدة" وقرئ معاقب جمع معقب أو معقبة بالتاء على توجيهها المذكور، والباء فى الجمع عوض عن إحدى القافين.
{ مِنْ بَين يَديه ومن خَلْفه } عبر بالجهتين عن تعميم الجهات، وفى مصحف أبى ورقيب من خلفه، وعن ابن عباس ورقباء من خلفه.
{ يحْفظونَه مِنْ أمر اللّهِ } من بمعنى الباء، وقد قرأ بالباء: على، وابن عباس، وزيد بن على، وجعفر بن محمد، وعكرمة أى يحفظونه عما يضره، أو يحفظونه عمله بإذن الله، فإن لكل آدمى ملكين يكتبان عمله، وملكا آخذا بناصيته إذا تواضع لله عز وجل رفعه بها، وإذا تكبر وضعه بها، وملكا موكلا بعينيه يحفظهما من الأذى، وملكا موكلا بفيه، ولا يدع شيئا يدخل فيه من الهوام وغيرها، وكذا لا يدع ما يضره بجسده كلما أراده شئ قال: إليك حتى يأتى القدر.
وعن بعض الصحابة: ملك يحفظه عما لم يقدر له، وملك يحفظ عمله، وعن الحسن: المعقبات ملكان بالليل وملكان بالنهار، قال كعب الأحبار رضى الله عنه: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم لتخطفكم الجن.
وقيل له: معقبات مما قدم من عمل، ومما أخر يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بأن يطلبوا له المهلة والمغفرة، فمِنْ على أصلها، وكذا إذا فسرنا أمر الله بالمضار فإنه تكون مِنْ على أصلها، ومعنى حفظه منها وهى أمر الله حفظه منها وهى مخلوقة لله تعالى فى الجملة، وليس المراد أن الله جل وعلا يوجهها إليه فتصرفها الملائكة إذ هذا محال لا طاقة به، وقيل: من للتعليل، أى يحفظونه من أجل أمر الله لهم بحفظه، وتحتمل هذا المعنى قراءة الباء، وقيل: من أمر الله نعت ثان لمعقبات، والأول من بين يديه.
وقال عكرمة: المعقبات حرس السلطان يحفظونه عن المضار التى هى أمر من أمور الله، أو يحفظونه من قضاء الله فيما توهم، أو قيل ذلك تهكما به، والسابق إلى فهمى أول مرة أن الهاء فى له عائدة إلى الله سبحانه وتعالى، وفيما بعد ذلك للإنسان المذكور بالإسرار أو الجهر، والاستخفاء والسروب، ثم رأيته قولا لفرقه.
وعن ابن عباس: الهاءات لمحمد صلى الله عليه وسلم، أى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن، من بين يديه ومن خلفه، يحفظونه من الجن والإنس وغيرهما.
وقال عبد الرحمن بن زيد كذلك، وقال: إنها نزلت فى حفظة عن عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، لقنهما الله إذا أرادا به غدرا، وفيه نقص بعد، وإنما الأولى فى مثل ذلك أن يقال: نزلت بسبب قصة كذا وأن المعنى على العموم والسابق فى حفظى أن الذى نزل فيهما هو قوله تعالى:
{ هو الذى يريكم البرق } إلى قوله: { دعوة الحق } }. { إنَّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ } أى ما فى قوم من العافية والنعمة { حتَّى يُغيروا ما بأنفسِهِم } أى ما فيهم من الأحوال الجميلة بالمعاصى، وهذا فى الموحد ظاهر، وأما فى غيره فوجهه أن المشرك قد تصدر عنه أحوال جميلة كالعدل بين الخلق، والرحمة والصدقة، وإذا تركوها او أكثروا الفواحش أو أعظموها كوصف الله بأنه إنما يكون من نحو حديد أو رصاص أو نحاس، وكإرادة الغدر بالنبى أزيلت عنهم النعم بعد استدراجهم بها، وأن العقل داع إلى الأحوال الجميلة، فإذا غيروها بترك اتباعها زالت عنهم النعم، وإن دين الله كالشئ الثابت فيهم، ولو لم يؤمنوا به لظهوره كالشمس، فإذا غيروه بالإعراض عنه زالت.
{ وإذا أرادَ الله بقوم سُوءاً } هلاكا وما دونه { فَلا مردَّ له } أى فلا راد له من المعقبات، ولا من غيرها، والمراد مصدر ميمى، والجملة جواب إذا، أو الجواب محذوف أى أصابهم بالجملة دليل عليه وفاؤها للتعليل.
{ وَما لهم مِنْ دُونه } من دون الله، أو من دون السوء { مِنْ } صلة للتأكيد ومجرورها مبتدأ، والخبر لهم أو فاعل لقوله: { لهم } لاعتماد على النفى { والٍ } أحد يلى أمرهم بالنصر ودفع السوء.