التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٣
-الرعد

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وهُو الَّذى مدَّ } بسط { الأرضَ } على الماء من تحت البيت الحرام طولا وعرضا لينتفع عليها، سواء قلنا: إنها سطحية وهو الصحيح الظاهر، أو كورية الشكل كما قال أصحاب الهيئة، لأنها ولو كانت كورية لكنها لم تكن ممتدة إلى فوق امتدادا كليا كالسارية، فذلك مدها، ولأن كل قطعة منها تشاهد ممدودة لعظمها، كما أن نحو البيضة تشاهده الأشياء الصغيرة كما لقملة ممدودا قيل: وكان موضع البيت على الماء قبل الأرض الأرض بألف سنة، ثم بسط الأرض من تحته، وعليه عطاء ومجاهد، وقال الحسن: بسطت من تحت موضع بيت المقدس.
{ وجَعَل فيها رَواسىَ } جبالا ثوابت من رسا الشئ أى ثبت، جمع راسٍ كقاض بلا تاء، لأن فاعلا صفة لغير عاقل يجمع على فواعل، ولو مذكر مجردا من التاء، هذا ما ظهر لى، ولا حاجة إلى قول القاضى إنه جمع راسية، وإن التاء فى راسية للتأنيث على أنه صفة أجبل أو للمبالغة انتهى. وهذا تكلف منه يتوصل به إلى أن رواسى جمع لمؤنث وهو جماعة راسية من الجبال، والأولى أن يقول صفة جبالا، لأن الأولى فى جمع القلة لغير العاقل المطابقة، وأجبل جمع قلة، فالأولى به أجبل راسيات، وهذا لا يتمكن به إلى مراده، لأن رواسى لا يكون جمع راسيات، ولذا عدل عنه إلى راسية، ولكن الأولى له أن يقول جبال، وأول جبل وضع على الأرض أبو قبيس قاله ابن عباس رضى الله عنهما.
{ وأنْهاراً } من ماء لمنافع الخلق، قيل: الجبال أسباب لتولد الأنهار، ولذلك عطفها على الجبال، وسلط عليها فعلا واحدا وهو الجعل { ومِنْ كلِّ الثَّمرات } متعلق بقوله: { جَعَل فِيها زوْجَين اثْنين } كحلو وحامض، وأسود وأبيض، وصغير وكبير، وماله قشر وما لا قشر له، أو ماله نوى وما لا نوى له، ونحو ذلك، قال بعضهم: أهبط الله من الجنة ثلاثين ثمرة عشرة يؤكل داخلها وخارجها، وعشرة يؤكل خارجها لا داخلها، وعشرة [يؤكل] داخلها لا خارجها، والمراد بالزوجين الاثنين لا نوعان من كل، ثم تكاثرت وتنوعت، ويجوز كون من كل الثمرات نعتا لمحذوف ومعطوف، أى وشيئا من كل أجناس التمر وما بعده مستأنفا.
{ يغْشِى الليلَ النَّهار } أى يجعل الله سبحانه الليل غاشيا للنهار، فيصير الجو والأماكن مظلمة بعد ما كانت مضيئة، وقرأ حمزة، والكسائى، وأبو بكر بفتح العين وتشديد الشين، فعلى الأول تعدى لاثنين بالهمزة، وعلى الثانى بالتضعيف.
{ إنّ فى ذلكَ } المذكور { لآياتٍ } دليل على وحدانية الله تعالى { لقومٍ يتفكَّرون } فى صنع الله، فإن وجدها مع إمكان عدمها، وكونها صغيرة مع إمكان كبرها، وكبيرة مع إمكان صغيرها، وفى مكانها مع إمكان كونها فى مكان آخر، وفى وقت مع إمكان كونها فى وقت آخر، وكون هذا فوق هذا مع إمكان العكس ونحو ذلك، مع أن الشئ لا يوجد نفسه، ولا يؤثر فى نفسه، ولو أمكن تأثير بعضه فى بعضه الآخر دليل على أن لها موجدا حكيما يتصرف بها كما تقتضيه حكمته.
والفكر هو تصرف قلب الإنسان، أو الجنى فى طلب ما تحصل له صورة فى القلب، فلا فكر فى الله تعالى، إذ لا يدركه أحد بصورة، حاشاه، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تتفكروا فى الخالق لا تطاوع النفس والشيطان فى ادعائهما" إمكان التفكر فيه، فإنه غير ممكن، وإن شئت فقل الفكر قوة يفضى بها للعلم، أى للمعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، أعنى بالمعلوم ما من شأنه أن يعلم فلا فكر فى الله، فإن الفكر فيه مغلوب عن الكفر.
وإن شئت فقل: الفكر إعمال النظر فى الشئ، وإن شئت فقل: التأمل، وإن شئت فقل: انتقال النفس من بعض المعقولات إلى بعض، وهذان على أنه بمعنى التفكر، وقال السدى: يطلق الكفر على حركة النفس فى المعقولات، أى حركة كانت، ويختص بالإنسان، أى والجنى، ويقابله التخيل وهو حركتها فى المحسات، وعلى حركتها من المطلب الذى تردد فى ثبوته، كحدوث العالم إلى مبادئه كتغير العالم وحركتها من مبادئه إليه جازمة به، يعنى يطلق على مجموع هاتين الحركتين الأخيرتين، قال: ويطلق على الحركة الأول منهما من غير أن توجد الثانية انتهى.
وقال فى بعض كتبه: إنه يطلق أيضا على الحركة الثانية انتهى.
وإن شئت فقل: الفكر ترتيب أمور معلومة ليتوصل بها إلى مجهول، وقال المتقدمون: هو مجموع حركة من المطلوب المشعور به بوجه المبادئ، وحركة منها إلى المطلوب المجهول بوجه.