التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
-الرعد

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مثَلُ الجنَّة } أى صفتها العجيبة البالغة مبلغا يضرب بها المثل فى الغرابة، وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه، أى مما قصصنا عليك، أو فيما ققصنا عليك، أو خبر لمحذوف، أى هذا مثل الجنة أشير إليه قبل ذكره تعظيما له، وتنبيها وإيقاظا لمن يصغى إليه، وقيل: مبتدأ خبره تجرى الخ ولم يحتج لأنه نفس المبتدأ، فإن جريان الأنهار من تحتها، وما ذكر بعدهما نفس المثل، وتقدير موصوف أى جنة تجرى تمثيلا لما غاب بما نشاهد، لكن بزيادة قيد دوام الأكل والظل لو دام فى ما نشاهده، وعلى زيادة مثل وهذا فى مذهب مجيز زيادة الأسماء، ونسبه فى الآية بعضهم لسيبويه، والمشهور أنه مذهب الكوفيين، والمانع يئول ما تعين للزيادة بأنه نادر فلا يحمل الآية عليه وعلى الزيادة، فكأنه قيل الجنة.
{ الَّتى وُعدَ المتقُون } على اتقاهم { تَجْرى مِنْ تَحْتها الأنهارُ } وإذ لم تجعل جملة، وتجرى خبرا، ولا نعت الخبر كانت مستأنفة أو حالا من رابط الصلة المحذوف، أى التى وعدها المتقون جارية أنهارها من تحتها، على أن الوعد فى كتب الله، وأن الجنة مخلوقة اليوم.
وإن قلنا: المراد بالوعد الوعد الأزلى، أو أنها ستخلف، فالحال مقدرة، والمتقون نائب الفاعل، وهو المفعول الأول نائب عن الفاعل، وها مفعول ثان يقدر مقدما على النائب، وقرأ على أمثال الجنة بالجمع أى صفتها.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أن أنهار الجنة من ماء وعسل ولبن وخمر، تجرى فى غير شق فى الأرض، ولا بناء، ويصعد الماء فى جريانه عن الأرض اثنى عشر ذراعا"
{ أكُلها } أى المأكول فيها وهو الفواكه والثمار، أو جميع ما يؤكل فيها { دائمٌ } لا ينقطع ولا يفنى، ولا يختص بحين دون حين.
روى أن ولى الله إذا تناول ثمرة لم تصل فاه إلا وقد بدل الله سبحانه مكانها أخرى، والجذع من ذهب، وسعفها حلل، وكربها زبرجد أخضر، وشماريخها در أبيض، وطول العرجون اثنا عشر ذراعا، مركب من أعلاه إلى أسفله، ليس لثمره نوى، أحلى من العسل، وأبيض من الثلج وألين من الزبد، والرمانة كالبعير بقتبه.
{ وظلُّها } مبتدأ محذوف الخبر، أى دائم، أو كذلك لا تنسخه شمس كما تنسخ الظل فى الدنيا، إذ لا شمس فى الجنة.
وإن قلت: إذا جعلنا ذلك ذكرا للجنة بصفتها فلا إشكال، وإذا جعلناه تمثيلا بجنة الدنيا أشكل الفهم عنا، إذ لا جنة فى الدنيا دائمة الأكل والظل؟
قلت: ساغ ذلك على شريطة الدوام، كأنه قيل: الجنة الموعودة للمتقين كجنة فى الدنيا جارية الأنهار، دائمة الأكل والظل، لو دام أكلها وظلها كما مرت الإشارة إليه، أو قوله:{ أكلها دائم وظلها } ليس داخل فى التمثيل بجنة الدنيا، بل يعود إلى جنة الآخرة، والتحقيق عندى إنما المراد دوام أكل الجنة وظلها بعد دخولهم فيها، سواء قلنا: إنها مخلوقة اليوم وهو الصحيح لما مر فى مواضعه، أو قلنا: إنها ستخلق، وسواء قلنا: بفنائها عند قيام الساعة لظاهر قوله:
{ كل شئ هالك إلا وجهه } أو قلنا: بأنها لا تفنى، وإنما المراد موت كل حى سواه تعالى، فلم يصح قول بعضهم كعبد الجبار المعتزلى أنها لو كانت مخلوقة اليوم لفنيت عند قيام الساعة فينافى الدوام للذكور فى هذه الآية.
{ تِلكَ } الجنة الموصوفة الرفيعة الشأن { عُقْبى الَّذين اتَّقوْا } ما عاقبة غضب الله سبحانه وتعالى من الكفر ومعاصى { وعُقْبى الكافِرينَ النَّار } الدائمة الجوع والايجاع بالحرارة والزمهرير، وتعريف الطرفين فى الجملتين مفيد للقصر، قصر موصوف على صفة فى الأولى، وقصر صفة على موصوف فى الثانية، كأنه قيل: تكون الجنة عاقبة للمتقين لا غير عاقبة، وأما الكافرون فلا عقبى لهم إلا النار، كقولك: السمن واللحم غداك، وجزاء زيد الضرب والسجن، ولا يخفى ما فى ذلك الذى قررت من الترغيب للمتقين وإقناط الكافرين.