التفاسير

< >
عرض

رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
٣٧
-إبراهيم

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ رَّبَّنَا إِنِّى } وسكن الباء غير نافع وابن كثير وأبى عمرو، { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى } أى أسكنت شيئا ثابتاً من ذريتى وهو إِسماعيل أو ذرية ثابتة من ذريتى وهى إسماعيل ومن ولد منه فإِن إِسكان إِسماعيل متضمن لإِسكان من ولد منه والمفعول محذوف كما رأيت ومن قال باسمية من التبعيضية وإِضافتها لما بعدها جهلها المفعول، { بِوَادٍ } أى فى واد، { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } وهو وادى مكة فإن أرضها حجرية قليلة النبت ولا شىء فيها من الزرع يومئذ { عِندَ } متعلق بمحذوف نعت ثان لواد أو حال منه أو هو بدل من مجموع الجر والمجرور لا من المجرور وحده، ولذلك لم يخفض مع أن عند لا يجر بغير من، فلو جعل بدلا من المجرور وحده وهو واد وجر لزم أنه مجرور بالياء. { بَيْتِكَ الْمُحَرِّمِ } أى الذى منع عنده ما لم يمنع عند غيره ومنع المحرم إِليه نفسه من أشياء ومنع من أن يتعرض له أحد بسوء وأن يتهاون به وأن تستصغره الجبابرة، أو منع من الطوفان فإِنهُ لم يستول عليه ولذلك سمى عتيقاً أى عتيقاً أى أعتق من الطوفان والجبابرة، وكل من التحريم المقابل للتحليل ومن التحريم بمعنى إِثبات الحرمة بمعنى العظمة تصرف فى الاستعمال عن الأَصل الواحد وهو المنع، ألا ترى أنما لم يكن جلالا ممنوع من فعله وإن المعظم المحترم من ممنوع من التهاون به، وهذا الكلام من سيدنا إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد بناء الكعبة، لقوله عند بيتك المحرم، ويجوز أن يكون قبله باعتبار ما كان عليه قبل الطوفان فإنه كان مبنياً ولما جاء الطوفان رفع سالماً أو باعتبار ما يكون بعد من بناء إِبراهيم له بأَن علم بالوحى أنه سيبنيه وأنه سبق فى علم الله أنه سيحدث فى موضعه، { رَبَّنَا } كرر النداء كما تقول يا ربى يا ربى اغفر لى، فهو تكرير للنداء قبله وإنما كرره وفصل به بين قوله أسكنت وقوله { لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ } بلام التعليل المتعلقة بأسكنت للإِشعار بأَن المقصود بالذات من إِسكانهم هنالك إنما هو إِقامة الصلاة عند بيت الله المحرم، كأَنه قيل ما أسكنتهم بهذا الوادى الخالى من الزرع والضرع والإِنس إِلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم، ويجوز أن يكون النداء غير مكرر بل داخل على محذوف، أى يا ربنا أسكنتهم ثم ليقيموا الصلاة والمراد من الدعاء توفيقهم لإِقامة الصلاة، وقيل اللام لام الأَمر والمراد الدعاء لهم بإِقامتها كأَنه طلب منهم أن يقيموها ومن الله عز وجل أن يوفقهم إِليها فالنداء أيضاً تكرار ومستأنف لما بعده، كأَنه قال ربنا اجعلهم مقيمين الصلاة { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً } قلوباً، وقال ابن الأَنبارى: الفؤاد غير القلب ولكن عبر به عن القلب لقربه منه، قيل سمى فؤاد لأَنه يفتئد، أى يتقد عند الغضب أو الشدة والمفتاد المستوقد حيث يشوى اللحم { مِّنَ النَّاسِ } من للتبعيض متعلقة بمحذوف نعت لأفئدة ويقدر مضاف أى أفئدة ثابتة من أفئدة الناس والمراد جعل أفئدة المؤمنين وهى بعض أفئدة الناس. قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم على حج الكعبة فارس والروح والترك والهند والنصارى واليهود والمجوس والناس كلهم ويجوز أن تكون من للابتداء أى أفئدة ناشئة من الناس وتنكيرها لأَن المراد أَفئدة مخصوصة وهى أفئدة المؤمنين. وقرأ هشام فى رواية أبى الفتح أفيدة من الناس بياء بعد الهمزة وبه أخذ الحلوانى ونص عليه وقرأ هشام فى غير تلك الرواية كالجمهور وهى ياء إِشباع وقرأ أفيدة بهمزة فألف ففاء مكسورة بدال بوزن ناصرة إِما على أنه مقلوب أفيدة بأَن قدمت الهمزة على الفاء بعد نقل كسرتها إِلى الفاء فقلبت الفاء أو قدمت متحركة فقلبت الفاء بعد حرف كسرتها فكسرت الفاء لئلا يلتقى ساكنان كما يقلب أدور بواو أو همزة جمع دار إِلى أدر بهمزة فألف بدل من الواو أو الهمزة التى كانت بعد الدال بعد نقل ضمها إِلى الدال، وإِما على أنه اسم فاعل أفيدة الرحلة إِذا عجلت أى فاجعل جماعة أفئدة أى عاجلة إِليهم بالرحلة من الناس والمراد جنس مخصوص من الجماعات وهو جماعات المؤمنين، وقرأ فدة بحذف الهمزة بعد نقل حركتها للفاء قبلها للتخفيف، والوجه إِثباتها بين بين، ويجوز على هذه القراءة أن يكون من أفد بمعنى عجل على أنه صفة مشبهة أو صفة مبالغة فلا حذف ولا نقل، { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع أو تنحط وتنحدر وقرأ بالبناء للمفعول من أهوى فلان فلاناً إلى كذا بمعنى أسرعه إِليه أو حطه إليه والمراد نحن إليهم شوقاً ووداً دالاً لذاتهم بل لحج البيت ولا مانع أن يكون دعا لهم أن يحبهم المؤمنون لذاتهم، وقرأ تهوى بفتح الواو وبمعنى تحب وعليه فإنما عدى مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى تميل، وقال ابن مالك: يجوز أن يكون الأَصل تهوى بالكسر قلبت الكسرة فتحة والياء ألفاً فيكون معناه مامن فى قراءة الجمهور كما يقال فى رضى رضى، وفى ناصية ناصاه. قال ابن هشام وفيه نظر لأَن شرط هذه اللغة تحرك الياء فى الأَصل، وأجاب بعضهم بأَن الياء متحركة بالضم وإِنما سكنت استثقالا، ورده الشمنى بأَن الإِعراب عارض، وشرط التحريك هنا الأَصالة كما فى الخلاصة، قلت: التحقيق أن الإِعراب بالرفع لازم للمضارع أول وجوده مجرداً عن ناصب وجازم لا عارض، وقال الفراء إن إِلى زائدة فى المفعول به والأَصل تهواهم أى تحبهم { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ } شيئا ثابتاً من الثمرات كما ترزق من سكن وادياً ذا زرع منبتاً. وقد أجاب الله دعاءهُ فعمر قرى بقرب مكة ذوات زرع ونبات يجلب منها ومن غيرها إِلى مكة وتجبى إِليها ثمرات كل شىء حتى أنه لتوجد فيها الفواكه الصيفية والخريفية والشتوية بيوم واحد قيل فعل الله ذلك بنقل الطائف إليه من فلسطين، ونسب هذا لابن عباس رضى الله عنهما، جمع لهم أمر الدنيا والآخرة فى دعائه. { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعم بتوحيدك وطاعتك وتعظيمك وإِنما النعم مخلوقة لذلك.