التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَيَسْأَلُونَكَ عِنِ الرُّوحِ } أى يسأَلك قريش عن الروح المركب فى الحيوان من الإِنسان وغيره الذى به يحيا ما هو. { قُلِ } لهم { الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّى } مما وجد الله بقوله كن من غير مادة وتولد من أصل كأَعضاء الجسد فإِنها تولدت من نطفة والنطفة تولدت من متولد بواسطة مأْكول ومشروب إِلى آدم المتولد من تراب، والمعنى: قل الروح وجد بأَمر ربى وحدث بتكوينه لكن هذا على أنهم سأَلون هل الروح قديم أو حادث؟ أو المعنى قل الروح من أمور الله التى اختص بعلمها. { وَمَا أُوتِيتُم } وقرأ الأَعمش وما أوتوا الخ، وفى قراءة الجمهور التفات. { مِّنَ الْعِلْمِ } علم الدين وعلم الدنيا. { إِلاَّ قَلِيلاً } بالنسبة إِلى علم الله فإِن قريشاً قد علمت بعضاً كعلمهم بوجود الله وبأَنه الرازق وعلمهم بأُمور المعيشة، وأشار بهذا إِلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى على قوله رب السماوات والأَرض وما بينهما إن كنتم موقنين، فى جواب قول فرعون وما رب العالمين. والقليل الذى أوتيتموه إِنما هو بواسطة حواسكم فإِن العلم النظرى إِنما يستفاد من الضروريات المستفاد من إِحساس الجزئيات ومن فقد حساً فقد علماً، وأكثر الأَشياء لا تدركه الحاسة بذاته بل بواسطة القياس والتمثيل وغيرهما. "قال الكلبى بعث المشركون رسولا إِلى المدينة يسأَلون اليهود عن نعت النبى الذى حل مبعثه، فوجدوا بها علماء اليهود من كل أرض قد اجتمعوا فيها لعيد لهم فسأَلوهم عن محمد ووصفوه لهم. فقال: لهم حبر من أحبار اليهود: إِن هذا نعت النبى الذى يبعثه الله فى هذه الأَرض فقال له رسل قريش: إِنه فقير يتيم لم يتبعه من قومه من أهل الرأى ولا ذوى الشأَن أحد، فضحك الحبر، قال كذلك نجده. قالت له رسل قريش: فإِنه يقول قولا عظيماً، يدعو إِلى الرحمن الذى باليمامة الساحر الكاذب، يعنون مسيلمة، فقالت لهم اليهود، لا تكثروا علينا اذهبوا فاسأَلوا صاحبكم عن خلال ثلاث فإِن الذى باليمامة قد عجز عنهن فأَما اثنتان فإِنهما لا يعلمهما إلا نبى، وأما الثالثة فلا يجترئ عليها أحد فإِن أخبركم عن الاثنتين دونها فهو صادق. فقالت رسل قريش: أخبرونا بهن. فقالت اليهود: اسأَلوه عن أصحاب الكهف والرقيم فقصوا عليهم قصتهم واسأَلوه عن ذى القرنين وحدثوهم بأَمره، واسأَلوه عن الروح إِن أخبركم بشئ فيه فكاذب، فرجعت رسل قريش إِليهم فأَخبروهم بذلك، فأَرسلوا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيهم فقالوا يا ابن عبد المطلب نسأَلك عن خلال ثلاث فإِن وافقت بالجواب فصادق وإلا فلا تذكر آلهتنا بسوء، فقال - صلى الله عليه وسلم - ما هن. قالوا: أخبرنا عن أصحاب الكهف فإِنا قد أخبرنا عنهم بآية بينة، وأخبرنا عن ذى القرنين فإِنه قد أخبرنا عنه بآية بينة، وأخبرنا عن الروح. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنظرونى حتى أنظر ماذا يحدث إِلى فيه ربى. قالوا: فإِنا ناظروك فيه ثلاثة أيام، فمكث عنه جبريل لا يأْتيه، ثم أتاه فاستبشر - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا جبريل قد رأيت ما سأَلونى عليه، ثم لم تأْتنى. فقال له: وما تنزل إلا بأَمر ربك إِلى وما كان ربك نسياً ثم قال: ويسأَلونك عن الروح. قل الروح من أمر ربى وما أُوتيتم من العلم إلا قليلا، ثم قال: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .. إِلى آخر قصتهم. ثم قال: ويسألونك عن ذى القرنين.. إِلى آخر قصته. ثم لقى قريشاً فى آخر اليوم الثالث فقالوا: ماذا أحدث إِليك ربك فى الذى سأَلناك عنه. فقص عليهم، فعجبوا وغلب عليهم الشيطان أن يصدقوه" . وعن ابن عباس "أن قريشاً اجتمعوا وقالوا: إِن محمداً نشأ فينا بالأَمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفراً إِلى اليهود بالمدينة اسأَلوهم عنه فإِنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إِليهم، فقالت اليهود اسأَلوه عن ثلاثة فإِن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شئ منها فليس بنبى وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحدة فهو نبى، اسأَلوه عن فتية فقدوا فى الزمان الأَول ما كان شأَنهم، فإِنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ شرق الأَرض وغربها ما خبره وعن الروح، وسأَلوا النبى - صلى الله عليه سلم - فقال: أخبركم بما سأَلتم غداً، فلبث الوحى اثنى عشر يوماً فى ما قال مجاهد، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعين، فقال أهل مكة: وعدنا محمد غداً، وحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: { ولا تقولن لشئ إِنى فاعل ذلك غداً إِلا أن يشاء الله }. ونزل { أم حسبت أن أصحاب الكهف... } إِلى آخره. ونزل { ويسأَلونك عن ذى القرنين }. الخ.. { ويسأَلونك عن الروح } ... إِلى آخره" . والآية مكية، وقال ابن مسعود: الآية مكية والسائلون اليهود، أى ويسأَلك اليهود عن الروح، قال ابن مسعود: بينما أنا أمشى مع النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوكأ على عسيب أى جريد النخل، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: اسأَلوه عن الورح. وقال بعض: لا تسأَلوا لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إِليه. وفى رواية قام إِليه رجل، فقالوا أو قال: يا أبا القاسم ما الروح. فسكت. وفى رواية حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر وعرفت أنه يوحى إِليه، فتأَخرت حتى صعد الوحى فقال لهم: ويسأَلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى، وما أوتيتم من العلم إِلا قليلا. فقال بعض لبعض: قد قلنا لكم لا تسأَلوه، وكان عندهم فى التوراة أن الروح مما انفرد الله سبحانه بعلمه ولا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبى مرسل. قال عبد الله بن بريدة: إِن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله تعالى: { قل الروح من أمر ربى } أى من العلم الذى استأثر به الله تعالى: وهو الصحيح. وقيل إِن النبى قد علم به ولكن لم يخبرهم به لأَن ترك الإِخبار علامة لنبوته، وقيل إِن ابن عباس وبعض السلف فسروه مرة واحدة ثم كفوا عن تفسيره. وقال ابن دقيق العيد: رأيت كتاباً لبعض الحكماء فى حقيقة النفس فيه ثلاثمائة قول، قال القرافى: كثرة الخلاف تؤذن بكثرة الجهالات، واختلف علماء الإِسلام فى جواز الخوض فيه على قولين واختلف المجيزون هل هو عرض أو جوهر أو ليس جوهراً ولا عرضاً وليس يوصف بأَنه داخل الجسم ولا خارجه، وبه قال الغزالى: وقال قوم من المتأَخرين إِنها جسم نورانى شفاف سار فى الجسم سريان الماء فى العود أو سريان النار فى الفحم ويدل على أنها فى الجسم قوله عز وجل: { { فلولا إِذا بلغت الحلقوم } }. قال الخطيب أبو محمد البرجينى، قال أبو الطاهر الركزكى: حضرت عند ولى من الأَولياء عند النزع فشاهدت نفسه قد خرجت من مواضع من جسده ثم تشكلت على رأسه بشكله وصورته ثم صعدت إِلى السماء وصعدت نفسى معها، فلما انتهينا إِلى السماء الدنيا شاهدت باباً ورجل ملك ممدودة عليه فأَزال الملك رِجْلُهُ وقال لنفس ذلك الولى اصعدى فصعدت فأرادت نفسى أن تصعد معها، فقال لها: ارجعى فقد بقى لك وقت، فرجعت فشاهدت النفس دائرة على جسمى، وقائل يقول مات، وآخر يقول لم يمت، فدخلت من أنفى، أو قال: يقول من عينى وقمت، ذكر ذلك الثعالبى سماعاً من البرجيسى، أما الثعالبى فمن الجزاء جزيرة مرغنة والبرجينى معروف عند أهل أفريقية، وأبو الطاهر معظم عند أهل تونس يزار قبره بالزلاج، وقيل الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلق والبقاء لوجود ذلك فى حياة الإِنسان وفقده فى موته، وأولى الأَقاويل أن يوكل علمه إِلى الله جل وعلا، وهو قولنا معشر الأباضية وقول المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية، وقيل الروح المسئول عنه هو جبريل، وهى رواية عن ابن عباس، وقال على إنه ملك له سبعون ألف وجه فى كل وجه سبعون لسانا يسبح الله تعالى بكلها، وقال مجاهد: خلق على صورة بنى آدم لهم يد وأرجل ورءوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأْكلون الطعام، وقال سعيد بن جبير خلق لم يخلق الله سبحانه خلقاً أعظم منه غير العرش لو شاء أن يبتلع السماوات والأَرضين ومن فيها بلقمة لفعل، ذلك على صورة الملائكة ووجهه كوجه الإِنسان وهو على يمين العرش يوم القيامة يشفع لأَهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً لاحترق أهل السماوات من نوره، وقال الحسن: الروح هو القرآن لأَنه سماه الله تعالى جل وعلا روحاً، ولأَن به حياة القلب، والصحيح أنه الروح المركب فى الحيوان والخطاب فى قراءة الجمهور عام، وقيل لليهود وكانوا يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير. فقيل لهم: إِن علم التوراة قليل فى جنب علم الله تعالى. روى أنه لما قال لهم: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه. قال: نحن وأنتم، رواه الطبرى. وقالوا ما أعجب شأْنك ساعة تقول: ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً، وساعة تقول هذا، فنزل قوله تعالى: { { ولو أنما فى الأَرض من شجرة أقلام } } ...الآية، وذلك جهل منهم لأَن القلة والكثرة أمران إِضافيان فالحكمة التى أُوتيها العبد خير كثير فى نفسه ولو كانت تقل بالنسبة إِلى علم الله.