التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
-مريم

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَكُلِى } من الرطب { وَاشْرَبِى } من النهر. { وَقَرِّى عَيْناً } طيبى نفساً وارفضى الحزن.
وقيل: قرى عينا بولدك وعيناً تمييز محول عن الفاعل أى لتبرد عينُك. وذلك أن دمعة الحزن حارة وقرئ قرى بكسر القاف وهو لغة نجد.
ويجوز أن يكون المراد اشربى من عصير الرطب وأن يكون قرى من القرار بمعنى السكون؛ فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه ولم تنظر لغيره وإثمار النخلة فى الشتاء أيضا معجزة.
وقال الثعلبى: إن ابن عمها يوسف بن يعقوب المذكور كان نجارا يتصدق من عمل يديه وإن اليوم الذى لقيها فيه جبريل أطول يوم فى السنة وآخره نفد ماؤها فقالت: يا يوسف ألا تذهب بنا نسقى؟
فقال: إن عندى لفضلا من ماء أكتفى به يومى فمضت لتسقى فلقيها جبريل فاستعاذت منه وهو فى صورة شاب فقال: أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت: أنى يكون لى غلام - إلى - مقضيا. فاستسلمت لأمر ربها فنفخ فى جيبها ثم ملأت قُلّها وانصرفت.
وقيل: وضعت درعها لتسقى وقال لها وقالت له ونفخ فى جيب الدرع ثم لبسته. وإن وَهْباً قال: المسجد الذى تخدمه ويوسف عند جبل صهيون وهو من أعظم مساجدهم يومئذ ولخدمته فضل عظيم وإنه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن المسجد بيت من بيوت الله طُهِّر ورُفع ليذكر فيه اسمُه فابررى لموضع تلدين فيه فتحولت إلى بيت خالتها أم يحيى لما دخلت عليها قامت أم يحيى فالتزمتها فقالت امرأة زكريا: أشعرتِ أنى حبلى؟
قالت مريم: وأنت شعرتِ أبى حبلى؟
فقالت امرأة زكريا: إنى أجد ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك.
قيل: فذلك قوله:
{ مصدقا بكلمة من الله } ثم أوحى الله إليها: إن ولدتِ بين قومك عيَّروك وقذفوك وولدَك.
وقال الكلبى: قيل لابن عمها: إنها حملت من الزنى وسيقتلها الملك فهرب بها على حمار ليس بين ظهره وبينها شئ فانطلق بها حتى بلغ أرض مصر فى منقطع بلاد قومها وأدركها المخاض فى ذلك المكان إلى الجذع.
وإن ابن عباس قال: حملت به ووضعته فى ساعة لقوله سبحانه وتعالى: { فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا }.
وإن مقاتلا قال: حملت فى ساعة ووضعت فى ساعة حين زالت الشمس من يومها وهى بنت عشرين سنة وقد حاضت حيضة واحدة قبل.
ولما اشتد بها الطلق التجأت إلى نخلة يابسة لا سعف ولا كرانيف ولا عروق لها فأحدقت الملائكة بها صفوفا والنخلة فى موضع يقال له: بيت لحم وإن النهر الذى أنبعه الله عذب بارد إذا أرادت الشرب وفاتر إذا أرادت استعمال مائة واستدل بالآية الربيع بن خيثم على أنه ما للنفساء خير من الرطب وميمون على أنه ما لها مثله إذا عسرت.
وكان صلى الله عليه وسلم يحنك به أولاد الصحابة إذا ولدوا بعد ما يمضغه.
وعمد يوسف إلى حطب وجعله كالحظيرة حواليها بالقرب منها لتصطلى به من البرد فأوقد ناراً وكسر لها سبع جوازات كنّ فى خرجه. فمن ذلك يوقد النصارى ويلعبون بالجوز ليلة المولد.
ولما وُلد عيسى أصبحت الأصنام بكل أرض منكوسة فزعت الشياطين وجاء إبليس وهو فى عرش له على نخلة خضراء يمثل بالعرش يوم كان على الماء وقد مرت ست ساعات من النهار ففزع منهم إذ رآهم جماعة وقد كانوا من قبل يلقونه فرادى فذكروا أن الأصنام نكست وأنه ما لنا على بنى آدم أشد عونا منها نكلمهم من جوفها وقد صغرت عندهم وخشينا أن لا تعبد بعد وإنا لم نأتك حتى خضنا الأرض والبحار ولم نزدد إلا جهلا.
فقال لهم: إن هذا الأمر عظيم فكونوا على مكانكم فطار إبليس فلبث ساعة وقد مر على مكان الولادة ورأى الملائكة محدقين.
وعلم أن الحدث فيه فأراد أن يأتيه من تحت الأرض فإذا أقدام الملائكة راسية فى الأرض فأراد أن يدخل من بينهم فنحُّره يريد أن يطعنه بأصبعه فى جبينه كما يفعل بكل مولود فيصرخ فلم يقدر.
فرجع فقال: ما جئتكم حتى خضت الأرض مشرقها ومغربها وبرها وبحرها والخافقين والجو الأعلى.
وقيل: ذلك فى ثلاث ساعات وأخبرهم بمولد عيسى عليه السلام.
وقال لهم: ما اشتملت رحم أنثى على ولد إلا بعلم. ولكن - لعنه الله - لا يعلم ما فى البطن ذكراً أو أنثى لا أحواله وهو كاذب فى ادعاء العلم.
قال: ولا وضعت أنثى إلا بحضرتى وإنى لأرجو أن أصل به أكثر ممن يهتدى وما كان نبى قبله أشد علىَّ وعليكم منه. وخرج فى تلك الليلة قوم يقصدونه من أجل نجم طلع قد تحدثوا أن طلوعه فى كتاب دانيال من علاماته ومعهم الذهب والمر واللبان فمروا بملك من ملوك الشام فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه. فقال: ما بال هذه الأشياء أهديتموها دون غيرها؟
قالوا: تلك مثاله فإن الذهب سيد المتاع كله وكذلك هذا النبى سيد أهل زمانه. والمر يشفى به الجرح والكسر وكذلك هذا النبى يشقى به كل مريض. واللبان يتبع دخان السماء ولا ينالها دخان غيره وكذا هذا النبى يرفع إلى السماء دون غيره فى زمانه فحدث الملك نفسه بقتله.
فقال: اذهبوا فإذا علمتم مكانه فأعلمونى بذلك فإنى أرغب فى مثل ما رغبتم من الخير.
وانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من الهدية إلى مريم فرجعوا إلى الملك ليعلموه بمكانه فلقيهم ملَك فقال: لا ترجعوا إليه ولا تعلموه فإنما أراد قتله فانصرفوا فى طريق آخر.
قال مجاهد: قالت مريم: كنت إذا خلوت تكلم معى من بطنى وإذا شغلنى إنسان سبح فى بطنى وأنا أسمع.
{ فإِمَّا تَرَيِنَّ } إن الشرطية وما الزائدة قال الشيخ خالد: أصله قبل التوكيد ترأيين كتمنعين نقلت حركة الهمزة إلى الراه قبلها ثم حذفت الهمزة فصار تريين بفتح الراء وكسر الياء الأولى وسكون الثانية. فإما أن تقول: حذفت الكسرة لاستثقالها أو تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وعلى التقديرين التقى ساكنان حذف أولهما فصار ترين بفتح الراء وسكون الياء ثم دخل الجازم وهو إن الشرطية المتصلة بما الزائدة فحذفت نون الرفع فصار ترى بفتح الراء وإسكان الياء ثم أكد بالنون فالتقى ساكنان ياء المخاطبة ونون التوكيد وتعذر حذف إحداهما لعدم دليله فحركت الياء بحركة تجانسها وهى الكسرة ولم تحرك النون المدغمة محافظة على الأصل ولعروض الكسرة لم تقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. انتهى.
وعن ابن رومى عن أبى عمرو تَرَيِنَّ بالهمزة مبدلة عن ياء المتكلم والهمزة بدل من الياء التى هى لام الكلمة وأما الياء التى هى ضمير فمحذوفه وذلك أن بين الهمزة والياء تآخيا.
{ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً } صمتاً كما قرأ به ابن مسعود وغيره كأنس بن مالك. وقيل: المراد الصيام وكانوا لا يتكلمون إذا صاموا وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت لأنه نسخ فى أمته وكان أنس يقرأ أيضا صمتا.
روى أن من أراد الاجتهاد من بنى إسرائيل صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حى يمسى وهذا لا يجوز عندنا معشر الأمة أعنى نذر الصمت. والقائل لها فإما ترين الخ جبريل أو عيسى عليهما السلام أمرت أن تقول: إنى نذرت للرحمن صوما الخ ثم تمسك. هذا قول الجمهور.
وقيل: تقول ذلك بالإشارة. وفى الكلام حذف أى فإما ترين من البشر أحدا وسألك فقولى: إنى نذرت للرحمن صوما وتفويض الكلام للأفضل أفضل وذلك لئلا تسرع مع البشر المتهمين لها فى الكلام لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرئ ساحتها ولكراهة مجادلة السفهاء. قيل: السكوت عن السفيه واجب. ومَن أذَلِّ الناسِ سفيهٌ لم يجد مسافها.
{ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ } فى شأن الولد وغيره. { إنْسِيّاً } آدميا بل أكلم الملائكة وأناجى ربى.