التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ }: نزل حكمها ولفظها أو حكمها فقط أو لفظها فقط، فإن من معانى النسخ الإزالة، والآية من هذا المعنى كنسخ الليل والنهار والنهار والليل، والظل والشمس والشمس الظل، والشيب الشباب، فبعض القرآن منسوخ وأكثره غير منسوخ، ويطلق مع بقاء الناسخ فى موضع المنسوخ وبدون بقائه كنسخ الأثر بالريح، ومواضع فى القرآن مثل نسخ الناسخ، ويطلق النسخ أيضاً على تحويل الشئ من موضع لآخر، تقول: نسخت تراب الدار، أى نقلته إلى المزبلة، وفى هذا المعنى إزالة لكن من موضع لآخر بلا إفناء، بخلاف الإزالة فى المعنى الأول فإنها بمعنى الإفناء، وليس شئ من القرآن بهذا المعنى منسوخا، ويطلق النسخ أيضا على النقل مع الإبقاء لأصل المنقول منه، فالقرآن على هذا كله منسوخ، لأنه كله منسوخ من اللوح المحفوظ، ولا يطلق عليه هذا النسخ إلا ببيان أنهُ من اللوح المحفوظ، وهو فى المصاحف مشابه به لا فى اللوح المحفوظ لفظا وخطا.
وقد ذكر منه فى القرآن
{ إِنّا كُنّا نَستَنسِخُ ما كُنتُم تَعمَلُونَ } وقال مكى: إنه لا يصح هذا الوجه فى القرآن، لأن الناسخ لا يأتى بلفظ المنسوخ، بل بلفظ آخر ويرده قوله تعالى: { { وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم } ، وقوله: { { فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } ، وأصل النسخ فى اللغة هو المعنى الأول، وحقيقة النسخ الشرعى بيان انتهاء التعبد بقراءة الآية، وبالحكم المستفاد منهما أو بهما جميعا، وقال ابن الحاجب: رفع حكم شرعى بدليل شرعى متأخر عنه، ويخالف التخصيص بأن التخصيص يقع بشئ ثالث بين شيئين، والنسخ يقع بشئ على شئ أو بلا شئ، وبأن التخصيص يقع فى غير النص وفيه، والنسخ فى النص وبأن التخصيص يفيد أن العموم فى المخصص بفتح الصاد انتفاء إرادته من أول مرة، والمنسوخ مراد ظاهره ومعناه إلى وقت علمه الله علما أزليا ينتهى فيه.
واختلفوا هل النسخ رفع لتعلق الحكم بالمكلف أو بيان الانتهاء أمده؟ والمختار الأول لشموله قبل التمكن من الفعل، ولا يشمله التعريف الثانى وذلك كنسخ ما زاد على خمس صلوات من الخمسين ليلة الإسراء، فإنه قبل التمكن وقيل دخول الوقت، وقد يبحث بأن التعريف الثانى شامل له أيضا لأنه لابد من وجود أصل التكليف، وإنما يتحقق بالتعلق وبيان انتهاء التعلق يصدق بانتهائه بعد التمكن من الفعل وقبله، وإذا قلنا المراد بالانتهاء انتهاء أمد المكلف به لم يرد هذا البحث، وذكر الغزالى فى المصطفى والباقلانى قبله: أن الفعل إذا أمر به فى وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة، فليس النسخ عبارة عن انتهاء مدة العبادة، لأن بيان انتهائها إنما يكون بعد حصول المدة، فقبل حصولها يستحيل بيان انتهائها، والمراد برفع الحكم رفع الحكم الشرعى بخطاب، فخرج بالشرعى رفع الإباحة الأصلية وهى براءة الذمة المأخوذة من العقل، لكن هذا على قول المعتزلة بأن ما يحسنه العقل فهو حسن، وما يقبحه فقبيح، وخرج الرفع بما يغذر به كالموت والجنون والنسيان والغفلة والغلط، وقيل بتكليف الغافل، وصححوا هذا القول.
وقيل المنع للحائض والنفساء والجنب من القراءة والصلاة ومس المصحف من النسخ، لأن ذلك حكم، وخرج بالخطاب العقل والإجماع فلا نسخ بها، وأما قول الفخر فى مباحث التخصيص أن من سقط رجلاه نسخ غسلهما وأن ذلك عرف بالعقل فمعيب، لأنه جعل رفع وجوب الغسل بالعقل لسقوط محله نسخاً، ولوجوب ما ثبت فى أول الأمر لا مشروطا بقدرة واستطاعة، وبقاء المحل ودوام الحياة وعدم الحكم عند عدم شرطه ليس نسخا، وقال فى باب النسخ لا يلزم أن يكون العجز ناسخا للحكم الشرعى، لأن العجز ليس بطريق شرعى فيناقض كلامه، والظاهر أنه أراد حقيقة النسخ إلا أن يقال جمعاً بين كلامه أنه تساهل فى تسمية سقوط الغسل عند التعذر نسخا وهو تساهل بعيد، ويقر به بعض فرب أنه ذكره فى باب التخصيص، وذكر ما هو الحق فى باب النسخ، وإنما لم يثبت النسخ بالإجماع لأنه ينعقد بعد وفاته، وأما فى حياته فالحجة فى قوله ولا نسخ بعد وفاته، ولكن إذا وقع الإجماع على خلاف النص دلت مخالفة الإجماع له على وجود ناسخ هو مسند الإجماع، لكنا لم نعرفه وكذا لا تخصيص بالإجماع، لكن إذا خصص الإجماع نصا علمنا بوجود مخصص من الكتاب أو السنة ولو لم نعرفه وخرج بالخطاب أيضاً الفعل فإنه لا نسخ به خلافا للتفتزانى، قيل كان وضوء الصلاة مما مسته النار واجباً ونسخ بأكله صلى الله عليه وسلم لحم شاة مسته النار ولم يتوضأ، وقد يجاب بأنه دل على نسخ سابق وليس فعله هو الناسخ، ولا يصح قول بعض أنهم تركوا ذكر النسخ بالفعل، لأنه مفهوم بالأولى لأنه أقوى من القول، لأنا نقول لا يكتفى فى التعاريف بالمفهوم ولو مفهوم الأولوية، ولأنا لا نسلم أن الفعل أقوى من القول، بل القول أقوى فى الدلالة وهو محط الكلام، والفعل أقوى فى الدلالة على الكيفية، والنسخ من قبيل القول فوصف الصلاة بفعلها والجواز عليها أدل فى بيانها من وصفها بالقول، لأن فيه المشاهدة واستفادة الوقوع على جهة معينة، ووصفها بالقول أدل فى وجوبها وصحتها وفسادها، وما شرطية جازمة لننسخ منصوبة به على المفعولية، ومن آية: متعلق بمحذوف نعت لما أو حال لها، والمسوغ العموم وليست من زائدة، وآية تمييزاً لما كما قال بعض.
وقرأ ابن عامر: ننسخ بضم النون الأولى وكسر السين من قولك أنسخت المتعدى لاثنين بالهمزة، فما على هذه القراءة مفعول ثان والأول محذوف، أى ما ننسخك أو ينسخ جبريل، أى نصيرك أو نصيره ناسخاً أو من أنسخ بمعنى الأمر بالنسخ كذلك فى التعدى، أو من أنسخ من قراءة أبى عمرو يتعدى تنسخ لواحد كقراءة الجمهور، على الوجهين منها قبله يتعدى لاثنين كما مر، والمعنى عليهما أن محمداً أو جبريل صلى الله وسلم عليهما ينسخان الآية بمعنى يعلم غيره بنسخها، فجبريل يعلم محمداً بنسخها، ومحمد يعلم الناس بنسخها ومعنى قراءة أبى عمرو وقراءة الجمهور كلتيهما فى نسخ الآية وهو إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما.
{ أَوْ نُنْسِها }: من النسيان لكن أدخلت الهمزة ليتعدى إلى اثنين أى نجعلك ناسيا إياها بأن نمحوها من قبلك، فالمفعول الأول محذوف أى ننسيكها أو ننسيكموها، وقد قرأ حذيفة بإثباته ننسكها، وقرأ عبدالله بن مسعود: (ما ننسك من آية أو ننسخها)، فذكر أيضا المفعول الأول وهو الكاف كحذيفة. والثانى فى قراءة ما وفى قراءة حذيفة ها وقرئ ننسها بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين للتعدية، وحذف المفعول الأول. وقرئ (تنسها) بضم التاء وفتح النون وتشديد السين مفتوحة على البناء للمفعول والخطاب، والنائب ضمير مستتر عائد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المفعول الأول، وقرئ تنسها بفتح التاء والسين وإسكان النون بينهما خطابا له صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من النسيان تمحى من القلوب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ننسها) بفتح النون الأولى والسين، وإسكان النون بينهما والهمزة بعد السين، وكذا قرأ عمر فى رواية ابن عباس، أى نؤخرها، ومعنى تأخيرها إذهابها عن القلوب بعد إذ كانت فيها.
ونسب للحسن وضعفه بعض، وقال إنه لا مفعول عليه أو عدم إنزال حكمها أو تركها فى اللوح المحفوظ، وزعم بعض أن معناه ترك نسخها، ونسب لابن عباس ويرده قوله: { نأت بخير منها أو مثلها } إلا أن يقال بتكلف الإتيان بخير منها أو مثلها لا يستلزم إذهابها، بل يحتمل إبقاؤها، وقيل معناه إذهابها بلا بدل من معناها، بل ببدل من غيره، كآية الزكاة أو قطع اليد بآية الرجم، والصحيح عصمته صلى الله عليه وسلم من نسيان الشرع قبل تبليغه إلا ما أريد نسخه قبل تبليغه، والظاهر أنه جائز، وإذا بلغ لواحد من أصحابه جاز نسيانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"وقد أسقط فى الصلاة آية، ولما فرغ من الصلاة قال: أفى القوم أبى؟قال: نعم يا رسول الله. قال: فَلِمَ لَم تذكِّرنى؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال، صلى الله عليه وسلم: لم ترفع، ولكنى نسيتها" وفى الآية رد على اليهود إذ أنكروا النسخ، وكذا أنكره المشركون، وقالوا هم أو اليهود أو كلهم إن محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ما يقول إلا من تلقاء نفسه، كما قال الله علا شأنه وعظمت آياته: { { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل.. } الآية فنزل: { ما ننسخ من آية أو ننسها.. } الآية. وأقول بدل على ثبوت النسخ أن الله ـ عز وعلا ـ حرم عليهم العمل فى يوم الجمعة، فاختاروا السبت فحكم عليهم به، أو حرم فى يوم عموما عليهم فعينوا السبت إذ وكل الأمر إلى اختيارهم، أو حرم عليهم السبت خضوعا وتعيينا، ولم يحرم على من قبلهم يوم من ذلك، وأن الله ـ عز وعلا ـ أحل لنوح حين خرج من السفينة، ,لمن معه ولذريته كل دابة ولم يحرم عليهم الخنزير، ثم حرم يعقوب على نفسه الجمل، فكان حراما، وحرم على اليهود كل ذى ظفر وشحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، وأن الله ـ جل وعلا ـ أحل للأخ نكاح الأخت على عهد آدم عليه السلام وحرم بعد قال:

أو ما حرم الإله نكاح الـ أخت بعد التحليل فهو الزنا

وأقول من أعظم الأدلة على ثبوت النسخ مسخهم قردة وخنازير، قال البوصيرى:

جوزوا النسخ مثل ما جوزوا الــ مسخ عليهم لو أنهم عقلاء

يعنى لو كانوا عقلاء لجوزوا النسخ ما أقروا بمسخ طائفة منهم، وزعموا أن النسخ بداء والبداء محال فى حق الله عز وجل، لأنه يستلزم الجهل، لأنهُ ظهور ما كان خفيا وليس كما زعموا، بل النسخ إبطال الشئ فى وقت قد علم فى الأزل أنهُ سيبطله فى ذلك الوقت بعد أن لم يبطله. كما قال:

هو إلا أن يرفع الحكم بالحكــــ ـم وخلق فيه وأمر سواء

يعنى إيجادا فى الشئ المنسوخ، قال:

ولحكم من الزمان انتهاء ولحكم من الزمان ابتداء

فكما أراد الله إبقاءهم على صورهم إلى وقت مخصوص، ثم مسخهم. كذلك النسخ كما قال أيضاً:

فسلوهم أكان فى مسخهم نسخ لآيات الله أم إنشاء

يعنى بآيات الله أجسام الممسوخين إذا سئلوا، فلابد أن يقولوا هى الصور الأولى مسخت لا صور أخر أنشئت، ووقعوا فى إثبات البداء إذ قالوا ندم الله على خلق آدم، ومن الأدلة عليهم محو القمر، وقد كان كالشمس، قال:

أم محا الله آية الليل ذكرا بعد سهو ليوجد الإمساء

وكذا فداء إسحاق بالكبش فى زعمهم أنهُ المفدى، والصحيح أنهُ إسماعيل.
قال بانيا على زعمهم:

أم بدا للإله فى ذبح إسحا ق وقد كان الأمر فيهِ مضاء

وزعمت طائفة من اليهود أن النسخ جائز عقلا غير وارد سمعا. وهو خطأ لصحة وروده كما مر فيرد عليهم بوروده، وعلى من أنكر جوازه عقلا ووروده سمعا بما يعلم مما مر من وروده، ومن أنه بيان مدة الحكم كالإحياء بعد الإماتة، والإماتة بعد الإحياء، والمرض بعد الصحة، والصحة بعد المرض، والفقر بعد الغنى، والغنى بعد الفقر، ونحو ذلك، ولا بدء فى ذلك ولا تغير إرادة، لأن الله ـ جل وعلا ـ ما أراد المنسوخ إلا إلى وقت نسخة، وزعم طائفة من الموحدين أنه لا نسخ فى القرآن، ولكنه ناسخ لغيره وغيره نسخ بعضه بعضا، وحمل الآية على هذا المعنى، ووجه آخر حملها على النسخ من اللوح المحفوظ، ويرد على الوجه الأول أن الآية إذا أطلقت انصرفت إلى آية القرآن، وقد قال الله عز وجل: { ما ننسخ من آية } وليس عندى من المنسوخ آية العفو والصفح، والأمر بالتولى عنه والأمر بتركهم والإعراض عنهم، وزعم غيرى أنهن منسوخات بأية السيف، فكثر بها عدد المنسوخ مع أنهن ليست منه كما سأبينه فى مواضعه، وما زلت أعتقد هذا مخالفا للعلامة الأندلسى، للقاضى أبى بكر بن العربى تليمذ الغزالى من المسجد الحرام حتى رأيته للعلامة الحافظ السيوطى، كما زعم بعض أن { { أليس الله بأحكم الحاكمين } منسوخ بآية السيف، وليس كذلك فإنه تعالى أبدا أحكم الحاكمين، ولكنه أراد إنما بضمنته من الترك لقتالهم منسوخ بآية القتال ولا حاجة إلى ذلك، بل المراد التفويض وترك المعاقبة، وكذا، وقولوا للناس حسناً عده بعض فى المنسوخ لما تضمنه من الملاينة ولا حاجة لذلك، مع أنه مما أمر به بنو إسرائيل، والخطاب لهم محكى، وكذا زعم بعض فى استثناءات القرآن وتخصيصاته أنهن نسخ، وليس كذلك، بل تخصيص فإن المخصص لم يتناوله العموم فى الحكم والإرادة ولو تناوله اللفظ مثل: { { إن الإنسان لفى خسر. إلا الذين آمنوا } ومثل: { { فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره } ومثل: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } فإنه مخصوص بقوله تعالى: { { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } لا منسوخ به، وليس منه ما كان فى أول الإسلام بدون أن ينزل فيه القرآن، أو كان فى شرع من قبلنا أو فى الجاهلية، ثم نزل القرآن بإبطاله إذ لو عددنا ذلك نسخا لعد أكثر القرآن ناسخاً، ولو كان ذلك أقرب إلى النسخ، ولكن عدم عده أقوى بالنظر إلى النسخ المصطلح عليه، وهو نسخ بعض القرآن ببعضه أو بحديث متواتر، وكذلك ليست آية الزكاة ناسخة بكل صدقة فى القرآن كما قيل، بل الصدقة فيه صدقة نفل غير الزكاة إلا ما دل دليل على أنها الزكاة، وذلك مثل قوله تعالى: { { ومما رزقناهم ينفقون } فإنهُ مدح بالإنفاق المحتمل للزكاة وغيرها كما مر وقوله عز وعلا: { { وأنفقوا مما رزقناكم } فإنهُ يحتمل نفس الزكاة، وإذا تحقق ذلك ظهر أن المنسوخ فى القرآن قليل يحصره العد ويغنى عن كتاب الناسخ والمنسوخ المشهور، الذى هو لبعض البغداديين الذين دخل فيه بعض أصحابنا المشارقة بقوله ومن غيره، ثم يرجع بعد زيادة ما زاد إلى كلام البغدادى فأنا أذكر المنسوخ الحقيق بما فيه من بعض الخلاف مجموعاً، ويأتى مفرشا فى مواضعه، فمن ذلك قوله تعالى عز وجل: { { كتب عليكم إذا حضر... } الآية نسخ منه الإيصاء للوالدين بآية الإرث، وقيل بحديث: "لا وصية لوارث" وقيل بالإجماع. حكاه ابن العربي ولكنه أدخل فى النسخ وصية الأقرب وليست منسوخة عندنا، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر، وابن أبى ستة أبحاثا فى حاشية الترتيب، وقوله عز وجل: { وعلى الذين يطيقونه فدية } قيل نسخ بقوله سبحانه وتعالى: { { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقيل غير منسوخ لكن بتقدير حرف النفى، أى على الذين لا يطيقونه وقوله عز وجل: { { كما كتب على الذين من قبلكم } فإنه قيل منسوخ بقوله: { { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } لأن مقتضاه الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم، وقيل نسخ لما كان بالنسبة. وقوله عز وجل: { يسألونك عن الشهر الحرام } زعم الطبرى عن عطاء ابن ميسرة أنه منسوخ بقوله تعالى: { { قاتلوا المشركين كافة } وليس كذلك عندى، وقوله عز وجل: { { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول } فإنه منسوخ بقوله: { { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } والوصية إن قلنا إنها وصية بالمال منسوخة بالميراث والسكنى ثابتة عندنا منسوخة عند بعض قومنا، لحديث ولا سكنا وقوله عز وجل: { { إن تبدو ما فى أنسكم أو تخفوه } فإنه منسوخ بقوله تعالى: { { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ، فيما قيل، وقوله عز وجل: { اتقوا الله حق تقاته } قيل إنه منسوخ بقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقيل: ليس على طريق ما ينسخ بل على معنى ثابت، وقوله عز وجل: { { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } فإنه منسوخ بقوله تعالى: { { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وقوله تعالى: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى.. } الآية قيل منسوخة، وقيل لا، ولكن تهاون الناس فى العمل بها، واختاره السيوطى. وقوله عز وجل: { { واللاتى يأتين الفاحشة } فإنه منسوخ بآية النور، وقوله عز وجل: { { ولا الشهر الحرام } فإنه منسوخ بإباحة القتال فيه، وقوله تعالى عز وجل: { { فإن جاءوك فاحكم بينهم وأعرض عنهم } فإنه منسوخ بقوله تعالى عز وجل: { { وأن أحكم بينهم بما أنزل الله } وقوله عز وجل: { { أو آخران من غيركم } فإنه منسوخ بقوله تعالى: { { وأشهدوا ذوى عدل منكم } وقوله عز وجل: { { إن يكن منكم عشرون صابرون.. } الآية فإنه منسوخ بالآية بعده، وقوله عز وجل: { انفروا خفافاً وثقالا } فإنه منسوخ بآية النور وهى قوله تعالى: { { ليس على الأعمى حرج.. } الآية وقوله تعالى: { { ليس على الضعفاء.. } الآيتين وبقوله تعالى: { { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وقوله عز وجل: { الزانى لا ينكح إلا زانية } فإنه منسوخ بقوله: { وانكحوا الأيامى منكم } فللزانى أن ينكح غير الزانية، وللزانية أن تنكح غير الزانى، ولا يحل له أن يتزوج أو يتسرى من زنى هو بها، وكذلك هى، وقوله تعالى: { { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم.. } الآية زعم بعض أنها منسوخة، والصحيح أنها غير منسوخة، لكن الناس تهاونوا بالعمل بها، وقوله عز وجل { { لا يحل لك النساء من بعد.. } الآية فإنه منسوخ بقوله تعالى: { إنا أحللنا لك أزواجك.. } الآية وقوله تعالى: { { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة } فإنه منسوخ بما بعده، وقوله عز وجل: { { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } فقيل منسوخ بآية السيف، وقيل بآية الغنيمة، وقيل غير منسوخ، وقوله عز وجل: { { قم الليل إلا قليلا } ، قيل نسخ بآخر السورة ثم أخرها بالصلوات الخمس، وقوله عز وجل: { { فأين ما تولوا فثم وجه الله } فإنه منسوخ عند ابن عباس بقوله: { { فول وجهك شطر المسجد الحرام } }. والله أعلم.
والمنسوخ هو الحكم الثابت نفسه، وقيل إنها مثل الحكم الثابت فيما يستقبل ونسب للمعتزلة والذى قادهم إلى ذلك مذهبهم فى أن الأوامر مراده، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وأن الحسن والقبيح فى الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية والله أعلم. وإذا أعددنا ما فى القرآن من الصفح والتولى والإعراض عن الكفار والكف عنهم منسوخا بآية السيف، وهى:
{ { فإذا انسلخ الأشهر الحرام فاقتلوا المشركين.. } الآية كان المنسوخ بها مائة وأربعا وعشرية آية، ثم نسخ آخرها أولها قاله أبو بكر بن العربى، وليس ذلك بنسخ عندى كما مر، وقال أيضا من عجيب المنسوخ قوله تعالى: { { خذ العفو.. } الآية فإن أولها وآخرها وهو: { { وأعرض عن الجاهلين } منسوخ ووسطها غير منسوخ وهو { { وأمر بالعرف } انتهى. وقد علمت من كلامى أنها كلها محكمة، أعنى أنها غير منسوخة، قال ومن عجبيه أيضا آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ ولا نظير لها، وهو قوله: { { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يعنى اهتديتم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله تعالى: { { عليكم أنفسكم } وهذا عندى تخصيص لا نسخ، لأن المعنى: الزموا أنفسكم ولا يضركم لزومها إذا اهتديتم. وقال السعيدى لم يمكث منسوخ أكثر من قوله تعالى: { { قل ما كنت بدعا من الرسل } فإنه مكث ستة عشر عاما فنسخها أول الفتح عام الحديبية، انتهى. قلت: ليس ذلك نسخا بل كان ما درى ما يفعل به ولا بهم، ثم علم بالفتح، وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال فى قوله: { { ويطعمون الطعام على حبه.. } الآية أن المنسوخ من هذه الجملة { وأسيرا }، والمراد وأسير المشركين، فقرئ عليهم الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبت، قال: وكيف؟ قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعاً، فقال: صدقت. ويجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخا ومثل له شيد له بقوله تعالى: { { لكم دينكم ولى دين } نسختها آية السيف، ويرده عندى أن هذا ليس نسخا فإن لهم دينهم ولنا ديننا سواء أمر بقتالهم أم لم يؤمر، قيل إنه إذا نظرنا إلى ما يفهمه من ترك قتالهم قلنا إنه مخصوص بقوله تعالى: { { حتى يعطوا الجزية } وهذا على أن الكافرين فى سورة الكافرين أهل الكتاب أو هم ومشركوا العرب وغيرهم، والمشهور أنهم مشركوا العرب، ومثل السيوطى لذلك بآخر سورة المزمل، فإنه ناسخ لأولها منسوخ بفرض الصلوات الخمس، وقوله عز وجل: { { انفروا خفافا وثقالا } فإنه ناسخ لآية الكف منسوخ بآية العذر، ويبحث فيه بأن آيات الكف عن القتال ليست منسوخة، لأنها سيقت لمجرد اللين وترك الانتقام كما مر، وأن آية العذر مخصصة لقوله: (ثقالا) فالثقل الذى أمروا فيه بالنفار دون العذر الذى يسقط به النفار. وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبى ميسرة ليس فى المائدة منسوخ، ويبحث فيه، بما فى المستدرك عن ابن عباس أن قوله: { { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } منسوخ بقوله: { { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، وأخرج أبو داود عنهُ من وجه آخر أول آية نسخت للقبلة ثم الصيام الأول.
قال مكى وعلى هذا فلم يقع فى المكّى ناسخ. قال: وقد ذكر أنهُ وقع منهُ آيات منها قولهُ تعالى فى سورة غافر:
{ { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } فإنه ناسخ لقوله: { { ويستغفرون لمن فى الأرض } ويبحث فيه عندى بأن هذا إخبار والإخبار الذى ليس بمعنى الأمر أو النهى لا يدخله نسخ، ففى لفظ عمنا موسى بن عامر ـ رحمهما الله ـ من أجاز النسخ فى الإخبار كفر. انتهى. لأن القول بهِ يستلزم نسبة الكذب أو البداء على الله سبحانه، ولا مانع عندنا من جواز نسخ الإخبار الذى بمعنى الأمر أو النهى، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، ومنع مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة نسخ الإخبار ولو كان بمعنى الأمر أو النهى، وأجازه عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم ولو لم يكن بمعنى الأمر أو النهى، وتبعهُ جماعة بل ذلك تخصيص، كأنه قيل يستغفرون لمن فى الأرض من المؤمنين. نعم تقدم نسخ قيام الليل فى أول سورة المزمل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بآخرها أو بإيجاب الصلوات الخمس. وذلك بمكة اتفاقاً، وليس فى القرآن ناسخ إلا والمنسوخ قبله فى ترتيب الآيات والسور كما فى النزول، إلا آية العدة فى البقرة، وقولهُ: { لا يحل لك النساء } وآية الفئ فى الحشر على القول بأنها نسخت بآية الأنفال: { { واعلموا أنما غنمتم من شئ } وقوله: { { خذ العفو } يعنى الفضل من أموالهم على القول بأنها نسخت بآية الزكاة. والله أعلم. وإنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو عن صحابى يقول: آية كذا نسخت آية كذا، وقد يحكم بالنسخ عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المقدم والمتاخر، ولا يعتمد فى النسخ قول عامة المفسرين المجتهدين ولا غيرهم من غير نقل صحيح ولا معارضة، لأن النسخ يتضمن رفع الحكم وإثبات حكم تقرر فى عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال بعض: يكتفى فيه بقول مفسراً ومجتهداً، وقال بعض: لا يقبل فيه الآحاد بل يؤخذ بالتواتر، وبه قال ابن العربى والله أعلم. وقد مر أن النسخ إما اللفظ أو الحكم، وإما لأحدهما، فأما نسخ اللفظ والحكم فمنه ما روى البغوى بلا سند عن أبى أمامة بن سهل: "أن قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة، فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فغدوا إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك السورة رفعت تلاوتها وحكمها" ، وقيل إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة، فرفع بعضها تلاوة وحكماً. وعن عائشة ـ رضى الله عنها: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنخست بخمس معلومات فتوفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهن مما يُقرأ من القرآن، رواه البخارى ومسلم، والمعنى أنهُ قارب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوفاة وقد نسخت التلاوة ولم يبلغ نسخها بعض الناس، فكان يقرؤها بعد نسخها. وبعض بعد وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال أبو موسى الأشعرى: نزلت ثم رفعت، وقال مكى: هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو ولا أعلم له نظيراً، وانتهى النسخ فى الخمس المعلومات عند الشافعى، وقال مالك: نسخت الخمس، وكذا نقول معشر الإباضية الوهبية، كما قلنا إن التحريم يقع ولو بقطره، والفائدة مع نسخ اللفظ والحكم مما الثواب على الفعل، لو بقى والعزم على فعله لو بقى وامتثاله، وأما ما نسخ حكمه دون لفظه فقد تقدم ذكره، وذكر ما ورد عنه، وتقدم أنهُ ليس من النسخ آيات القتال لآيات الصفح والإعراض ولو عد ذلك كثير نسخاً وسماه بعضهم منسئا.
قال السيوطى: ما أمر بهِ لسبب ثم يزول السبب ليس نسخاً بل منسئا أى مؤخر كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح، ثم أوجب القتال لما زال الضعف وهو الأمر الذى ورد ووجب امتثاله فى وقت ما لعلة تقتضيه، ثم ينتقل بانتقال العلة إلى حكم آخر، وإنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله. قال مكى: ذكر جماعة إنما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت مثل:
{ { فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره } محكم غير منسوخ، لأنهُ مؤجل والمؤجل لا نسخ فيهِ، والحكمة فى رفع الحكم وبقاء اللفظ أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم يعمل به، كذلك يتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه، فأبقى اللفظ لذلك، وأن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة والعزم على العمل قبل النسخ، وقيل لا يكون النسخ حتى يرفع التلاوة ويرده ما نسخ بالقرآن من التوراة وهما متلوان، وأما نسخ اللفظ وبقاء الحكم فمثل ما أخرجه مسلم والبخارى عن ابن عباس، واللفظ لمسلم، أن عمر بن الخطاب قال على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليهِ آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم فى كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم فى كتاب الله عز وجل على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، فإن قلت فى أى سورة؟ قلت: فى الأحزاب؟ قال أبو عبيدة: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم ابن أبى النجود، عن زر بن حبيش قال: قال لى أبى بن كعب كم آى تعد سورة الأحزاب؟ قال اثنين وسبعين آية أو ثلاثا وسبعين آية، قال إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقول فيها الرجم، وما آية الرجم؟ قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهم البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. وقال: حدثنا عبدالله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبى هلال عن مروان بن عثمان، عن أبى أمامة بن سهل أن خالته قالت لقد أقرأنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا ارجموهما البتة بما قضيا من اللذة، وقال حدثنا حجاج عن ابن جريع أخبرنى ابن أبى حميدٍ عن حميدة بنت أبى يونس، قالت: قرأ على أبى وهو ابن ثمانين سنة فى مصحف عائشة ـ رضى الله عنها ـ وأن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلىّ الذين يصلون الصفوف الأول. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف، وقال حدثنا عبدالله بن صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبى واقد الليث، قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أوحى إليه آتيناه فعلمنا ما أوحى إليه، فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون إليه الثانى، ولو كان له الثانى لأحب أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" ، وإن قلت فى أى سورة؟ قلت فى سورة لم يكن. لما أخرجه الحاكم فى المستدرك "عن أبى بن كعب، قال: قال لى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أمرنى أن أقرأ عليك القرآن فقرأ { لم يكن الذين كفروا } فقرأ فيها لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، سأل ثانياً، فلو أعطيه سأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وأن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية والنصرانية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره" قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن أبى حرب بن أبى الأسود، عن أبى موسى الأشعرى قال: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها أن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى موسى الأشعرى قال: كنا نقرأ سورة شبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أنى قد حفظت منها:
{ { يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون } فتكتب شهادة فى أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال أبو عبيدة: حدثنا حجاج، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عدى بن عدى قال: قال عمر: كنا نقرأ إلا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم، ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك؟ قال: نعم. وقال: حدثنا ابن أبى مريم، عن نافع بن عمر الجنحى حدثنى أبى بن أبى مليكة، عن المسور بن محرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فأنا لا نجدها. قال أسقطت فيما أسقط من القرآن، وقال: حدثنا ابن أبى مريم، عن أبى لهيعة، عن زيد بن عمر والمغافرى، عن أبى سفيان الكلاعى، أن مسلمة بن مخلد الأنصارى قال لهم ذات يوم: أخبرونى بآيتين من القرآن لم تكتبا فى المصحف؟ فلم يجبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال مسلمة: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا وأنتم المفلحون. والذين آووا ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. وأخرج الطبرانى فى الكبير "عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرا ذلك لهُ فقال: إنها مما نسخ فالهوا عنها" . وفى صحيح البخارى ومسلم عن أنس فى قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا وقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو على قاتليهم قال أنس ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا. وروى الحاكم فى المستدرك عن حذيفة ما تقرأون ربعها يعنى براءة. قال أبو الحسن عن المنادى: ومما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظ سورتا القنوت فى الوتر وتسميان سورتى الحفد والخلع،
وعن عمر رضى الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها، يعنى آية الرجم. قال الزركشى فى البرهان: ظاهره أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس، والجائز فى نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب، وقد يقال لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس، إذ لا تصلح مانعا وبالجملة فهى ملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد، والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم ومن هنا أنكر ابن ظفر فى الينبوع عد هذا مما نسخ تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن، قال: وإنما هذا من النساء لا من النسخ وهما مما يلتبسان، والفرق بينهما أن المنسا لفظة قد يعلم حكمه، وقوله: لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقاها من النبى صلى الله عليه وسلم، أخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت: كان زيد بن ثابت وسعيد بن القاضى يكتبان المصحف فمرا على هذه الآية، فقال زيد:
"سمعنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، فقال عمر: لما نزلت أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلقت أكتبها فكأنهُ كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحْصن رجم" ، قال ابن حجر فى شرح البخارى: يستفاد من هذا الحديث السبب فى نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها، ويحتمل أن يكون مراد عمر لكتبتها منبهاً على أن تلاوتها قد نسخت، ليكون فى كتابتها الأمن من نسيانها، لكن قد تكتب بلا تنبيه فى بعض المصاحف غفلة من الناسخ، فيقول الناس: زاد فى كتاب الله فترك كتابتها بالكلية دفعاً لأعظم المفسدتين بأخفهما، قال السيوطى: وخطر لى فى ذلك نكتة حسنة وهو أن سببه التخفيف على الأمة بعدم إشهار تلاوتها وكتابتها فى المصحف، وإن كان حكمها باقيا، لأنه أثقل الأحكام وأشدها وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر. وأخرج النسائى أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا كتبتها فى المصحف؟ قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان، ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم. فقال: يا رسول الله أكتبنى آية الرجم. قال: لا أستطيع. قوله: أكتبنى أى ائذن لى فى كتابتها ومكنّى من ذلك. وأخرج ابن الضريس فى فضائل القرآن عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن أسلم: أن عمر خطب الناس فقال: لا تشكوا فى آية الرجم فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبها فسألت أبى بن كعب فقال ليس أتيتنى وأنا أستقرؤها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدفعت فى صدرى وقلت: أستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر.. قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب فى رفع تلاوتها وهو الاختلاف، وقد أنكر أقوام نسخ اللفظ والحكم معا، وأثبتوا نسخ اللفظ وحده والحكم وحده، لأن الأخبار فى نسخهما معها أخبار آحاد، قالوا: ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها. وقال الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه فى المصحف، فيندرس على أيام كسائر كتب الله القديمة التى ذكرها فى قوله سبحانه وتعالى: { إن هذا لفى الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } وكلما نسخ فقد نسخ قبل موته ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ ولا نسخ بعده والله أعلم.
وفائدة نسخ اللفظ دون الحكم، مع أن فى بقاء اللفظ جمع ثواب العمل والتلاوة أن يظهر مقدار طاعة هذه الأمة فى المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال الطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شئ كما سرع الخليل بذبح ولده، والمنام أدنى طريق الوحى، ومما نسخ لفظه بعض الأحزاب، ولكن لا يدرى حكمه كله. قال أبو عبيدة: حدثنا ابن أبى مريم، عن أبى لهيعة، عن أيوب الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ فى زمان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائتى آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر إلا على ماهو الآن. ويتحصل إنما نسخ لفظه إما معروف الحكم وإما مجهوله، وأن النسخ إما بالوحى وإما بالإزالة من الحفظ ومن الموضع المكتوب فيه، وإما بإنزال ما يخالفه وإما بالاندراس وفى هذا الأخير عندى ضرر، لأنه يكون ممكنا ولو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما فى الرواية المذكورة آنفا عن عائشة، مع أنهُ لا نسخ بعده، ولعل ذلك لم يصح عنها، ولأن ذلك ينافى قوله تعالى:
{ { وإنا له لحافظون } لا أن يتكلف بأن المراد حفظه عن التبديل. والله أعلم.
قال بعضهم: النسخ إما قبل الامتثال وهو النسخ على الحقيقة. قلت ذلك مثل قوله تعالى:
{ إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة } وقيل إن على بن أبى طالب عمل بها قبل أن تنسخ وأما بعد الامتثال وهو كثير. والنسخ إما لما فى القرآن وهو النسخ حقيقة، وإما لما فى أول الإسلام أو فى شرع من قبلنا، وتسمية ذلك نسخا مجاز كآية شرع القصاص والدية، وكان أمر به إجمالا، وكنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، والنسخ إما نسخ فرض بفرض، لا يجوز العمل بالأول كنسخ حبس الزوانى بالحد، وأما نسخ فرض بفرض يجوز العمل بالأول كآية المصابرة فى الأنفال، فإنهُ يجوز حمل الواحد على مائة إذا رجا منفعة، وأما نسخ ندب بفرض كالقتال كان ندبا ثم كان فرضا، وأما نسخ فرض بندب كنسخ قيام الليل بقراءة ما تيسر من القرآن. والله أعلم.
قال أبو عبيدة: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه مأكله قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر، وكلما ثبت الآن من القرآن ولم ينسخ فهو بدل مما قد نسخت تلاوته، فكلما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن فقد أبدله بما علمناه وتواتر لفظه ومعناه، فلم يقع نسخ إلى غير بدل فلم يناف ذلك قوله عز وجل:
{ نَأتِ بِخَير مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }: أى نأت بآية أو آيتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، أنفع لكم أو أسهل عليكم فى الامتثال، أو أكثر لأجوركم من الآية المنسوخة أو بمثلها فى النفع أو السهولة أو الأجر، ويجوز أن يراد بالمثل أمثال، وإنما قلت هذا وأجزت أن يكون خيراً شاملا لآية فصاعداً لما فى أثر عن ابن الخصار: أن كلما ثبت من القرآن فهو بدل مما نسخ لفظه، لكن ليس متعينا لإمكان أن يراد آية بآية فقط، بل هذا هو المتبادر من الآية. وقرأ أبو عمرو نات بقلب الهمزة ألفاً، كما نقرأ عن ورش عن نافع، والخيرية إنما هى باعتبار النفع أو السهولة أو كثرة الأجر، وليس المراد أن آية فى ذاتها خير من أخرى، إذ لا نقص فى كلام الله، وكل منه فى غاية الكمال، وأجاز بعضهم التفاضل بين الآيات والسور من غير اعتقاد نقص أو ذم، وهو عندى غير بعيد لأن القرآن مخلوق كسائر ما خلق الله، كما فضل بعض الرسل على بعض، وما نسخ إلى السهولة كان أسهل فى العمل، كنسخ فرض قيام الله على المؤمنين، فذلك خير لهم فى الدنيا لسقوط التعب عنهم وما نسخ إلى الأشق كان أكمل فى الثواب كنسخ وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان أو الأيام المعدودات برمضان على القول بأنهن غيره، فذلك خير أيضاً، لأنه أكثر ثواباً فهو خير للآخرة، وأما نسخ المثل بالمثل فكنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، فإنه لا مشقة فى أحدهما زائدة على الآخر والأجر على الامتثال سواء، ولكن تقدم أن تسوية مثل هذا نسخا تجوز، لأنه لم يكن التوجه إلى بيت المقدس آية فى القرآن، ومن النسخ إلى الأسهل نسخ عدة الحول بعدة أربعة أشهر وعشر، ومن النسخ إلى الأثقل نسخ وصية الأقرب بآية الإرث على زعم الشافعى أنها منسوخة، فإن الحصر للمال فى ورثة مخصوصين ثقيل على الموصى، والسهولة له تصرفه فى الوصية بما شاء لمن شاء، هذا ما ظهر لى، والحق أن وصية الأقرب ثابتة للأقرب الذى ليس وارثا، هذا مذهبنا خلافا لما روى عن الشافعى من أن وصية الأقرب على الإطلاق منسوخة بآية الإرث. ولما قال غيره إنها منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا وصية لوارث" ، والجمهور على جواز نسخ القرآن بالحديث المتواتر، مستدلين بالحديث المذكور أنه ناسخ، وأجاب الشافعى بأن ذلك ضعيف، لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وبأن الحديث لا يكون خيراً من القرآن ولا مثله، ولو كان وحْياً، لأن القرآن كلامه، والوحى ولو كان كلامه لكن جعل درجة قراءته أعظم بحيث جعله يتلى بلفظ مخصوص لا يبدل، ومدحه فى آياته، وقد قال: { نأت بخير منها أو مثلها } فعلمنا أن المأتى به هو القرآن، فيكون من جنس المنسوخ كما هو المتبادر، وقيل: إن كانت السنة بوحى جاز نسخ القرآن بها وإلا فلا، فإذا كانت باجتهاد فلا ينسخ بها، وأنا أعجب ممن أجاز نسخه بالسنة مطلقاً، وإنما يقرب كلامه من الجواز لو كان يقول السنة كلها وحى، كما استدل بعض بقوله تعالى { إن هو إلا وحى يوحى } ويأتى تفسير هذه الآية فى محلها إن شاء الله، سبحانه وتعالى، ومحل تطويل مباحث النسخ أصول الفقه ولى فيه بسط يأتى قريباً، بإذن الله، إذا رأيته أغناك عن غيره إن شاء الله.
{ ألمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ }: فهو قادر على نسخ ما كان وإيجاد ما لم يكن مما هو أنفع لكم أو أسهل أو أعظم أجرا، وما هو مثل المنسوخ، والاستفهام للتقرير. قال القاضى: الآية يعنى (ما ننسخ) إلخ، دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال لأن الأصل اختصاص أدوات الشرط بالأمور المحتملة، وإنما جاز النسخ لأن الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد، وتكميل نفوسهم فضلا من الله ورحمة، ولا يخفى أن شرع الأحكام وإنزال الآيات للمصلحة والتكميل تختلف باختلاف الأعصار والأشخاص، فإن النافع فى عصر قد يضر فى آخر، واحتج بالآية من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل، ونسخ الكتاب بالسنة، فإن الناسخ هو المأتى به بدلا، والسنة ليست كذلك، والكل ضعيف. فأما وجه ضعف منع النسخ بلا بدل فإنهُ قد يكون عدم الحكم أصلح، والنسخ قد يعرف بغير القرآن، وأما وجه ضعف منع النسخ بالأثقل فإنه قد يكون الأثقل أصلح، وأما وجه ضعف منع نسخ الكتاب بالسنة فإن السنة مما أتى به الله، والنسخ قد يعرف بغير القرآن، كما مر آنفا، وأما وجه ضعف الاستدلال، لأن الناسخ هو والمأتى به بدلا، والسنة ليست كذلك، فإنه ليس المراد بالخير، والمثل ما يكون كذلك فى اللفظ. انتهى بتصرف وإيضاح. وذلك مذهب الجمهور. وخالفهم الشافعى. فمنع نسخ القرآن بالسنة بحديث البيهقى:
"كلامى لا ينسخ كلام الله" وكلام الله ينسخ بعضه بعضا ولأن الذى يأتى بخير أو مثل هو الله كما فى الآية، لا النبى. ويجاب بأن ما أتى بهِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ما أتى به الله جل وعلا، كما قال : { { إن هو إلا وحى يوحى } ولأن السنة لا تكون خيراً من القرآن أو مثله، ويجاب بأن محط الخيرية والمثلية الحكم لا اللفظ، ولا يبعد كون حكمها خيراً من حكمه أو مثلا له، باعتبار كونه أسهل أو أنفع أجراً.
وقيل: يجوز كون مراد الشافعى أنه لا ينسخ بمجرد السنة، بل مع ما يعضدها من القرآن وأنه لا تنسخ به إلا مع سنة تعضده، وإنما قيل يجوز أن يقال تعضده السنة مع أنهُ قوى نفسه لأنه غير السنة، فناسب حضور سنة أخرى معهُ، وفى نسخ بعض القرآن دليل على حدوث القرآن، إذا التفاوت والتغاير من لوازم الحدوث، ولكن لا أظن عاقلا يقول إن ألفاظ القرآن قديمة، فحقيقة الخلاف فى إثبات الكلام النفسى فأثبته المخالفون ونفيناه، لأن فيه تشبيهاً، تعالى الله عنه، وزعم المخالفون أن التفاوت والتغاير من عوارض الألفاظ المتعلقة بالمعنى القائم بالذات. وأجاز بعضهم عقلا نسخ جميع القرآن، وقيل: يجوز نسخ جميع الشريعة عقلاً، قلت: لا يجوز هذا إلا فى بادئ العقل، وأما عند التدقيق للنظر فلا يجوز ذلك عقلا، كما لا يجوز شرعا، وقيل لا يجوز فى البعض نسخ اللفظ دون الحكم، ولا العكس، لأن الحكم هو ما دل عليه اللفظ، فإذا قدر انتفاء أحدهما لزم انتفاء الآخر، فإذا نسخ اللفظ نسخ الحكم، وإذا نسخ الحكم نسخ اللفظ، فلا يجوز إلا نسخ اللفظ والحكم معاً، ويجيب معشر من أجاز نسخ أحدهما إنما يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر لو كنا قد لاحظنا فى الحكم كونه مدلولا للفظ، وفى اللفظ كونه دالا على الحكم، إذ المدلول باعتبار كونه مدلولا ليس يوجد بدون الدال عليهِ، والدال باعتبار كونه دالا ليس يوجد بدون المدلول، لكن لم نلاحظ ذلك فلا يلزم ما ذكر، فإن بقاء الحكم دون اللفظ ليس بوصف لكون الحكم مدلولا بلفظ، وإنما هو مدلول لما دل عليه بقاؤه وهو الناسخ، كأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجم ماعز كما فى صحيح البخارى ومسلم، وانتفاء الحكم دون اللفظ ليس بوصف كونه مدلولا له، فإن دلالة اللفظ على الحكم وصفية لا تزول، سواء نسخ أو لا، وإنما يرفع النسخ العمل به. والله أعلم.
ونسخ اللفظ قسمان إما إفناؤه من المصاحف والقلوب، وإما إزالته من أحكام القرآن، فيجوز للجنب والحائض والنفساء قراءته ومسه، ودلالته على معناه أمر وضعى ليس مشروطاً ببقاء هذه الأحكام، فموضع نسخ يفهم منه معناه، ونسخ الحكم ليس معناه عدمه، فإنه معنى ثابت مفهوم من اللفظ بل معناه عدم العمل به. وقد يقال لا مانع من كون بقاء الحكم دون اللفظ هو بوصف كونه مدلولا، فإن اللفظ ولو نسخ هو دال على ذلك الحكم، وذلك الحكم مدلول لهُ ومفهوم منه. والله أعلم.
وتقدم جواز النسخ قبل الامتثال، ويجوز على الصحيح قبل التمكن من الامتثال بأن لم يدخل وقته أو دخل ولم يمض منه ما يسعه أم أمر به على الفور بلا وقت معين. وقيل لا يجوز لعدم استقرار التكليف. ورد بأن الاستقرار يتحقق بدخول الوقت وإن لم يمض ما يسع الفعل، واستقرار التكليف هو حصول التعلق التنجيزى، فالدليل لا يشمل المدعى بشقيه، ويجاب بعدم تسليم كون استقرار التكليف هو حصول التعلق التنجيزى، لأن حصول التعلق التنجيزى أصل التكليف لا استقراره، لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة أو طلبه وهو الأمر والنهى، ولا إلزام ولا طلب قبل الوقت، بل لا يتحقق إلا بعد دخول الوقت، ثم إن الأمر أو النهى يتعلق بالفعل قبل المباشرة بعد دخول وقته إلزاماً وقبله إعلاما، والتعلق الإعلامى ليس تكليفا، ولذا صرح المخالفون بجواز النوم قبل الوقت، وإن علم أنه يستغرق الوقت. وفسروه بأنه غير مكلف، ولا نقول بجواز النوم قبله لمن علم بالاستغراق، لأن ما يؤدى إلى حرام حرام، وما يؤدى إلى واجب واجب، فترك النوم لمن لم يطمع فى الانتباه قبل فوت الوقت من تعلقات التكليف، وهو مكلف بتركه، ولك تفسير الاستغراق بدخول الوقت، ومضى زمان يسع الفعل، ويصح الرد على مانع النسخ بأنه يكفى النسخ وجود أصل التكليف وهو أوله، كما تقول لعبدك افعل كذا وتأمره على الفور بتركه رحمة له، فينقطع التكليف بالنسخ، وقيل وقد وقع النسخ قبل التمكن فى قصة ذبح إسماعيل إذ فداه الله ـ جل وعلا ـ بذبح عظيم، قيل: وضع السكين على منحره ويبعد أن يكون النسخ فيه بعد التمكن لمبادرة الأنبياء إلى امتثال الأمر ولو كان موسعاً. ألا ترى أن إبراهيم ـ صلى الله وسلم على سيدنا محمد وعليه ـ لما أمر بالاختتان اختتن بالقدوم، فتألم مدة مديدة، فشكى إلى الله ذلك التألُّم، فأوحى الله إليه: تعجلت قبل أن أخبرك بالآلة، فقال امتثالا لأمرك يا رب والله أعلم.
وقيل لا يجوز نسخ بعض السنة ببعض القرآن لقوله تعالى:
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } فجعل النبى ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ مبيناً للقرآن، فلا يكون القرآن مبيناً لسنته، ومذهبنا كالشافعية والجمهور الجواز، لأن الذكر المنزل يعم القرآن والسنة، لأنها وحى يوحى، فالقرآن منزل لفظاً ومعنى، والسنة معنى، وسنته الاجتهادية لا تنسخ بعض القرآن، فإن الصحيح أنه يجتهد ولا يوافق إلا الصواب، ولقوله تعالى: { { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ } إذ السنة شئ من كل الأشياء، وإن خص من عمومه ما نسخ بغير القرآن، وإن قلت أراك جعلت التبيين نسخاً؟ قلت: نعم هو شامل للنسخ، لأن فى النسخ بياناً لانتهاء أمد المنسوخ، وتجديد حكم الناسخ ثم أقول يحتمل أن يكون معنى قوله: { وأنزلنا إليك.. } إلخ. أنزلناه إليك لتبلغه للناس، فإن تبليغه تبييناً لهُ بعد خفائِه عنهم، فلا تتعين الآية لنا دليلا. والله أعلم.
وتقدم اختيار أن سنة الآحاد لا تنسخ القرآن، واختار ابن مكى أنه يجوز النسخ بها، لكن لم يقع، وأنه لم يقع إلا بالمتواترة، واحتج من منع النسخ ولو بالمتواترة بقوله تعالى:
{ { قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى } والنسخ بالسنة تبديل منه، وأجيب بأنها من الله لا من تلقائه، وأنها وحى. وبقوله: { { لتبين للناس ما نزل إليهم } وإن كان يجتهد وكان النسخ بالنسة الاجتهادية، فالأمر بالنسخ بها وارد من الله إليه بالوحى، وحجة مانع النسخ بسنة الآحاد القرآن مقطوع به، وحديث الآحاد مضنون، وجاب بأن النسخ بسنة الآحاد للحكم لا للفظ، ودلالة القرآن على الحكم ظنية، واستدل مجيز ذلك بحديث الترمذى وغيره: "لا وصية لوارث" على أنه ناسخ لوصية الوالدين والأقربين، ورد بأن هذا الحديث متواتر للمجتهدين الحاكمين بالنسخ لقربهم من زمان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن التواتر قد يحصل لقوم دون قوم، قال الشافعى فى رسالته: لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، ثم قال: وهكذا سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينسخها إلا سنته و. لو أحدث الله فى أمر غير ما سن فيه رسوله لسن رسوله ما أحدث الله، حتى يتبين للناس أن له سنة ناسخة لسنته موافقة لكتاب الناسخ لها، إلا إذ شك فى موافقته صلى الله عليه وسلم للكتاب، وذلك كنسخ التوجه لبيت المقدس الثابت بفعله، صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى: { { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وفهم السبكى كلام الشافعى على أنه حيث وقع نسخ القرآن بالسنة فمعها قرآن عاضد لها يبين توافق الكتاب والسنة، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له تبين توافقهما، وأنكر على الشافعى جماعة من العلماء قوله: واستعظموه، وفهم نسخ السنة بالقرآن ظاهر من كلامه، وأما نسخه بها فمقبس فى الفهم من كلامه على نسخها به كنسخ وصية الوالدين والأقربين من سورة البقرة فى زعمهم بحديث: "لا وصية لوارث" بواسطة معاضدة قوله تعالى: { { يوصيكم الله فى أولادكم.. } الآية للحديث. ويحتمل أن الشافعى لم يذكر ما يفهم منه نسخ القرآن بالسنة، لأن ظاهره بشع، وإن كان لا بشاعة بالنظر إلى أن الكل من الله وهو المحدث حقيقة، والرسول لا ينطق عن الهوى. وحكى أصحاب الشافعى عنه أنه لا تنسخ السنة بالكتاب فى أحد القولين، وهو المشهور عنه، ولا الكتاب بالسنة قيل جزماً وقيل فى أحد القولين، ثم اختلفوا أيضاً عنه، هل عدم جواز نسخ الكتاب بالسنة والعكس، بالسمع أو بالعقل فلم يجز ولم يقع وبعض استعظم منه منع نسخ أحدهما بالآخر. وما مر عن ابن السبكى دافع لمحل الاستعظام وهو الحكم بعدم نسخ كل للآخر، والاستعظام إنكار ذلك الحكم، ويجوز نسخ السنة بالسنة مطلقاً على الصحيح، وقيل سنة الآحاد لا تنسخ سنة التواتر، ومن نسخ السنة بالسنة نسى حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن ماذا يجب عليه؟ فقال: "إنما الماء من الماء" بحديث مسلم والبخارى "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل" زاد مسلم فى رواية: "وإن لم ينزل" . والشعب الأربع الساقان والفخذان، أو اليدان والرجلان، أو نواحى فرجها الأربع، ومعنى جهدها جامعها وهو (بفتح الجيم والهاء) واحد الجهد المشقة، كنى به عن الجماع لما يلزم عادة من الحركة التى شأنها المشقة، ويعنى أن الغسل واجب بمجرد الجماع ولو لم ينزل، وإنما قلنا بأن الثانى ناسخ للأول لما صح عن جابررحمه الله أن الأول متقدم فى أول الإسلام، وكذا روى أبو داود وغيره عن أبى بن كعب أن الفتية (بضم الهاء) التى كانوا يقولون الماء من الماء رخصة رخصها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أول الإسلام ثم أمر بالغسل بعدها. وقيل: إن الماء من الماء فى الرؤيا، ولا يجوز نسخ النص بالقياس عندنا حذرا من تقديم القياس على النص الذى هو أصل له فى غير المسألة التى يدعى المدعى نسخها بالقياس مع أنها بالنص، فلتكن مسألة دعواه كذلك أصلا للقياس الذى يدعيه فلا تنسخ به، وقيل: يجوز نسخ النص من حديث أو قرآن بالقياس، وصححته جماعة الشافعية لاستناد القياس إلى النص، فكأن النص هو الناسخ، بل زعم بعض أن النص هو الناسخ، ونقول ببطلان ذلك، لأن النص مقطوع به والقياس مظنون، ولو استند إلى النص ثم رأيت المنع للقاضى حسين من الشافعية، وأنه المعتمد فى مذهب الشافعية، وأنه مذهب أكثر الشافعية على وفق ما قلنا، ومثل له بعض الشافعية بما لو فرضها، وورد نص بيع الأرز متفاضلا، ثم ورد النهى عن الربا فى المطعومات، فإنه يقاس الأرز على غيره من بقية المطعومات، لاستنادة إلى نص وهو النهى عن بيع الربويات، وهذا على مذهبهم فى الربا، وقيل: إن كان القياس جليا جاز نسخ النص به إلا إن كان خفيا لضعفه، والقياس الجلى ما قطع فيه بنفى الفارق من المقيس، والمقيس عليه والخفى بخلافه، ومثل الصبان للجلى بما لو فرض وورد النص بجواز الربا فى القرآن، ثم ورد نص بتحريم الربا فى العدس، فيقاس على العدس الفول لوجود اتخاذ الناس له طعاما وادخاره كالعدس، بل أكثر فى ذلك فيكون الحكم الثابت له بالقياس على العدس ناسخاً لحكمه الأول، ومثل للخفى بما لو ورد النص بحرمة الربا فى العدس، ثم ورد بعد ذلك نص بجواز الربا فى الجلبان مثلا، فلو قيس عليه العدس لكان القياس خفيا لوجود الفرق بينهما فى عموم استعمال العدس دون الجلبان، وقيل: يجوز نسخ النص بالقياس إن كان القياس فى زمانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت العلة منصوصة، ومثل له الصبان بما لو ورد النص بجواز الربا فى الفول، ثم ورد بعد ذلك نص بحرمة الربا فى الحمص لأنه يستعمل مطبوخاً فيقاس عليه الفول لوجود العلة فيه، ويكون الحكم الثابت له بالقياس ناسخا لحكمه الأول، ومثل له بعض بما لو ورد بيعوا الأرز بالأرز متفاضلا لأنه مطعوم، ثم ورد النهى عن الربا فى المطعومات، وهذه الأمثلة كلها على مذهب الشافعية فى الربا، وإن كانت العلة مستنبطة غير منصوصة لم يجز نسخ القياس للنص، لضعف القياس الذى علته مستنبطة، وكذا إن كان القياس بعد زمانه صلى الله عليه وسلم، لانتفاء النسخ بعده ـ صلى الله عليه وسلم وقيل: يجوز ولو كان بعده، لأنه يتبين بالقياس أن مخالفه وهو النص كان منسوخاً فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، بالنص الذى استند إليه القياس، ولا يجوز نسخ القياس الموجود فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، أو بالنص قياس بعده، لأنه مستند إلى نص فيدوم بدوام النص. وقيل: يجوز. وصححه ابن السيكى والمحلى قائلا: لا نسلم لزوم دوام القياس بدوام نصه كمالا يلزم دوام حكم النص، فإنه يزول بالنسخ يعنى فإذا كان النص لا يدوم حكمه لأنه ينسخ فالقياس أولى بعدم الدوام، ومثل الصبان لنسخ القياس الموجود فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، بنص بأن يرد نص فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، بتحريم الربا فى الذرة فيقاس عليها الأرز، ثم يأتى نص بجواز الربا فى الأرز، ومثل نسخه بالقياس بأن يرد بعد النص على تحريم الربا فى الذرة المذكورة، وقياس الأرز عليها نص آخر بجواز الربا فى البر، فيقاس عليه الأرز فيكون الحكم الثابت للأرز بقياسه على الربا ناسخا للحكم الثابت له بقياسه على الذرة، وبشرط نسخ القياس الموجود فى زمانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقياس أن يكون القياس الناسخ أجلى من القياس المنسوخ عند العجز لانتفاء المرجح فى المساوى، وأجازه الآمدى بالمساوى، لأن تأخير نسخ القياس الناسخ مرجح، إذ لا بد من تأخر نص القياس عن نص القياس المنسوخ بالقياس، وعن النص المنسوخ بالقياس، ولا ينسخ بالأدنى لانتفاء المقاومة فضلا عن الترجيح، وفسر الزركشى الأجلى بأن تكون الأمارة الدالة على عليه المشترك بين الأصل والفرع، وذلك كقياس الأرز على الذرة وعلى البر، فإن قياسه على البر أجلى من قياسه على الذرة لذلك، ويشكل هذا الشرط بما تقدم من أن القياس ينسخ النص الأقوى، لكن الإشكال عند القائل بنسخ النص بالقياس إلا أن يشترط هنا كون العلة مستنبطة، وثم كونها منصوصة، فتكون منصوصيتها ثم مقابلا للجلاء هنا، ورجح بعضهم مذهب الآمدى بأن الناسخ فى الحقيقة هو النص الذى استند إليه القياس، والنص ينسخ المساوى إذا تأخر عنه ويبحث بأن النص ينسخ الأجلى إذا تأخر عنه أيضا مع عدم نسخ القياس الأدون جزماً فالترجيح المذكور لا يتم فلا يكفى الأدون جزما. وقال ابن القاسم فى الآيات البينات عدم كفاية الأدون سواء كان مجزوماً به أم لا، مشكل لأن القياس بمنزلة النص، ولذا صح نسخ به، والنص يجوز أن يسنخ نصاً آخر، أو إن كان النص ناسخاً دون النص المنسوخ متنا ودلالة مثل أن يكون المنسوخ قطعى المتن واضح الدلالة، والناسخ ظنى المتن خفى الدلالة، فكذا ما هو بمنزلته، ويجاب بأنه ليس بمنزلته من كل وجه لأن النص مطلقا دال على الحكم بخلاف القياس، إذ لا دلالة له على الحكم إلا بواسطة العلة وهى تحتمل الخطأ لفوات شئ من متغيراتها احتمالا قريبا، وهذا الاحتمال قوى جداً فى الأدون، فلا يقوى على نسخ الأعلى، ومن هنا يظهر وجه المنع فى المساوى أيضا، فإنه لا مرجح حينئذ لأحد القياسين على الآخر مع احتمال الخطأ فيه احتمالاً قريباً بخلاف الأجلى لوجود المزية مع ضعف احتمال الخطأ فيه. والله أعلم.
ويجوز نسخ مفهوم الموافقة الذى هو أولى بالحكم والذى يساوى المنطوق، وبقاء المنطوق، ويجوز نسخ المنطوق وبقاء المفهوم، لأن المفهوم وأصله وهو المنطوق مدلولان متغايران فلا مانع من نسخ أحدهما وبقاء الآخر، كما لو نسخ تحريم ضرب الوالدين وهم المفهوم، ولم يحرم قول أف وهو المنطوق أو بالعكس، ولا مانع من أن يقول ذو العرض الصحيح لا تشتم زيداً ولكن اضربه. ولا لزوم بينهما حقيقياً فلا ارتباط بينهما عقلا فضلا عن أن يمتنع رفع أحدهما دون الآخر، ولو سلم فالمنافى للزوم إنما هو نسخ اللازم دون الملزوم لتضمنه وجود الملزوم بدون اللازم، وهو محال. بخلاف العكس، إذ لا يمتنع وجود اللازم بدون الملزوم، حيث لم يكن مساويا ملزومه كالمثال بخلاف اللازم المساوى وهو المتحد مع ملزومه ما صدقا، فإنهُ يلزم من نفى الملزوم نفيه كقبول العلم والكتابة للإنسان، فبطل قول من قال إنهُ لا ينسخ المفهوم، ويبقى الأصل ولا العكس، مدعيا أنه لازم لأصله، وقيل: يمتنع نسخ المفهوم مع بقاء الأصل، واختاره ابن الحاجب لامتناع بقاء الملزوم وهو هنا الأصل وهو المنطوق مع نفى اللازم، وهو المفهوم هنا بخلاف نسخ الأصل، وبقاء المفهوم لجواز بقاء اللازم مع نفى الملزوم، وقيل: يجوز نسخ الأصل وبقاء المفهوم، واتفقوا على جواز نسخ المفهوم والأصل معاً. ويجوز النسخ بالمفهوم اتفاقا على ما قال الفخر والآمدى، وقال أبو إسحاق الشيرازى: إنهُ قد قال بعض بالمنع بناء على أنهُ قياس وأن القياس لا يكون ناسخاً، ومثال النسخ بالمفهوم أن يقال: اضربوا آباءكم، ثم يقال لا تقولوا لهم أف، وأكثر العلماء أن نسخ المفهوم أو أصله يستلزم نسخ الآخر، لأن المفهوم لازم لأصله وتابع له، ورفع اللازم وهو هنا المفهوم يستلزم رفع الملزوم، وهو هنا المنطوق ورفع المتبوع لا يستلزم رفع التابع، والمنطوق متبوع والمفهوم تابع، وقيل: لا يستلزم نسخ واحد منهما الآخر، لأن رفع التابع لا يستلزم رفع المتبوع، ورفع المتبوع لا يستلزم رفع اللازم، واختاره ابن السبكى. وقيل: نسخ المفهوم لا يستلزم نسخ المنطوق، لأنه تابع، ونسخ المنطوق يستلزم نسخ المفهوم، وقيل: عكس هذا لأن المنطوق ملزوم واختاره ابن الحاجب، ويجوز نسخ مفهوم المخالفة مع المنطوق، ومع بقاء المنطوق لا نسخ المنطوق مع بقائه، لأنهُ تابع للمنطوق فيرتفع بارتفاعه، ولا يرتفع المنطوق بارتفاعه، وقد يبحث بأنه يتبع المنطوق فى الدلالة فقط لا فى الثبوت، والدلالة باقية قطعا فإن دلالة اللفظ لا تزول بنسخ حكمه، ولو سلم زوال الدلالة فلا يلزم من زوالها زوال المدلول، ولا سيما بعد فهمه من الدال وثبوته، ويبحث أيضا بأن مفهوم الموافقة تابع للمنطوق فى الثبوت بمثل الطريق الذى بين به تبعية مفهوم المخالفة لأصله، وقيل: يجوز نسخ المنطوق مع بقاء مفهوم المخالفة، وتبعيته للمنطوق إنما هى من حيث دلالة اللفظ على مفهوم المخالفة مع المنطوق، ولا من حيث ذات المنطوق ودلالة اللفظ على حكم المنطوق لم ترفع، وإن ارتفع الحكم بدليل منفصل، ويجاب بأنهُ متى ارتفع تعلق حكم المنطوق سقط اعتبار دلالة اللفظ عليه، فسقط ما يترتب على اعتبارها من فهم الحكم، ويبحث فى هذا الجواب بأنا لا نسلم سقوط اعتبار الدلالة، بل يجوز اعتبارها، وفائدة اعتبارها إفادة حكم المفهوم بل لو سلمنا سقوط اعتبارها لم يضرنا، لأن الذى قلناه هو التبعية فى الدلالة لا فى اعتبارها، ولا يلزم من سقوط الدلالة سقوط نفسها، وفهم الحكم مترتب على نفسها لا على اعتبارها، وغاية ما يدفع الإشكال الفرق بأن مفهوم الموافقة أقوى من مفهوم المخالفة، لأنك إن قلت إنهُ منطوق كما هو قول ظاهر، لأنه حينئذ مدلول مطابقى ولا تبعية لهُ لشئ، وإن قلت: إنهُ قياس كما هو قول فيكفى فى الدلالة على أنه أقوى أنه قيل بأنه منطوق دون مفهوم المخالفة، ولأنه مفهوم من العلة لا من مجرد الأصل، فلهُ من الاستقلال ما ليس لمفهوم المخالفة، فجاز نسخ الأصل مع بقائه، والأصل أعنى بهِ المنطوق، وإن لم يجز نسخ المنطوق دون مفهوم المخالفة، ذكر ذلك ابن قاسم قال: ومع ذلك فالأوجه التسوية فى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، كما أن الأوجه جواز النسخ بالمخالفة وفاقا لما صححه الشيخ أبو اسحاق، فليتأمل. انتهى. ومثال نسخ مفهوم المخالفة دون المنطوق نسخ حديث إنما الماء من الماء، فإن مفهومه وهو عدم الغسل عند عدم الإنزال منسوخ، بحديث إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل، ومثال نسخ المنطوق ومفهوم المخالفة أن ينسخ على سبيل الفرض والتقدير وجوب الزكاة فى السائمة، وينسخ وجوب الزكاة فى المعلوفة، ففى الحديث:
"فى الغنم السائمة زكاة" ومفهوم المخالفة أنه لا زكاة فى غير السائمة، فلو نسخ الحديث والمفهوم لقيل مثلا: لا زكاة فى السائمة ووجبت الزكاة فى غير السائمة، أو نحو ذلك من الألفاظ، ولا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة لضعفه عن مقاومة النص، وصحح أبو إسحاق الشيرازى الجواز لأنهُ فى معنى النطق، ويجوز نسخ الإنشاء ولو كان لفظ القضاء وما يتصرف منه، فإن قول الله ـ جل وعلا ـ قضيت كذا إخبار أريد به الإنشاء، وكأنه قيل افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا. وقيل: لا ينسخ من الإنشاء ما كان بلفظ القضاء، وما تصرف منه لأن لفظ القضاء إنما يستعمل فيما لا يتغير حكمه نحو: { { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أى أمر فإنه لا ينسخ إلى جواز عبادة غير الله، وقد لا نسلم أن لفظ القضاء لا يستعمل إلا فيما يتغير حكمه، إذ لا مانع من أن يقال قضى الله كذا إلى وقت كذا، فيجوز أن يقول قضيت كذا ثم بعد ذلك يبطله، فيكون بمنزلة قضيت كذا إلى وقت كذا، وتقدم أنه يجوز نسخ ما هو إنشاء، ولفظه خبر كما لو فرض نسخ قوله تعالى: { { والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ومثل الشيخ خالد صاحب التصريح بقوله تعالى: { { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } قال نسخت بقوله تعالى: { { فستُرضع له أخرى } قلت: ليس نسخاً بل تخصيص ومنه الدقاق نسخ ما لفظه أخبار نظر إلى لفظ الأخبار والأخبار لا تنسخ، ويبحث فيه بأنه فى حكم الإنشاء معنى، والمبحث فى نسخ الحكم، وأما نسخ اللفظ وحده أو مع الحكم فالظاهر عندى الجواز، ولو فيما هو خبر لفظاً ومعنى، ويجوز نسخ ما قيد بالتأييد أو نحوه، نحو: صوموا أبدا صوموا حتما، لأن التأييد يختلف استعماله فتارة يستعمل بمعنى الدوام الذى لا غاية لهُ نحو الله حى أبدا، وبمعنى الدوام المنتهى بعمر الدنيا نحو: هذه الجبال خالدة أبدا، وبمعنى دوام زمان مخصوص نحو: لازم غريمه المؤسر أبدا، أى ما دام غريماً لك بأن لم يقضك حقك، فيتبين الانتهاء والتخصيص بالنسخ، فإذا نسخ ما تأبد ظهر أن المراد به افعلوا إلى وقت كذا فبطل قول مدعى عدم جواز نسخ ما قرن بالأبدية أو نحوها، وادعاؤه أن النسخ ينافى الأبدية ونحوها، ويجوز نسخ قولك الصوم واجب مستمر أبدا إذا قيل على معنى الإنشاء، ومنع ابن الحاجب نسخه وأجاز نسخ صوموا أبدا لأن التأييد فيه قيد للفعل، وفى قولك الصوم واجب.. إلخ: قيد للوجوب والاستمرار، ويبحث فيه بأنه لا فرق لأن التقييد حقيقة فى الثانى، وإنما هو فى الفعل كالأول لا فى الوجوب، وكذا الخلاف لو أسقط لفظ واجب أو لفظ مستمر، ويجوز نسخ إيجاب الإجبار بشئ بإيجاب الإخبار بنقيضه، مثل أن يوجب الشارع الإخبار بقيام زيد تم بعدم قيامه قبل الإخبار بقيامه لجواز أن يتغير حاله من القيام إلى عدمه، فيقال أخبروا بقيام زيد، ثم يقال أخبروا بعدم قيامه قبل أن يخبروا بقيامه، وأما بعده فلا يتأتى النسخ وإن كان المخبر به مما لا يتغير كحدوث العالم، منعت المعتزلة جواز هذا النسخ فيه لأنه تكليف بالكذب، فينزه البارى عنه، وأجازته الشافعية قائلين:
إنه قد يدعو إلى الكذب عرض صحيح فلا يكون التكيف به نقصاً، وقد ذكر العلماء أماكن يجب فيها الكذب منها: إذا طلبه ظالم بالوديعة أو بمظلوم ستره فينكر ذلك، ومنع المعتزلة ذلك مبنى على قاعدتهم من التحسين والتقبيح العقليين، وإن قالوا قبح الكذب بالعقل متفق عليه، فكيف جاز التكليف به؟ قالت الشافعية: لا نسلم ذلك على إطلاقه لما فيه من حسن منفعته، ولو سلمناه لنقولن قبحه باعتبار فاعله لا باعتبار التكليف به، ولا مانع عقلا من أن يبيحه الشرع لفرض المكلف من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، ويدل على أنه لا تكليف لا نقض ولا نقص ولا قبح فى التكليف بالكذب أن الله تعالى أباح للمكره التلفظ بلفظ الكفر، وأيضاً لا نسلم أن التكليف تابع للمصلحة، فإن الله ـ جل وعلا ـ لا يسأل عما يفعل. والله أعلم.
وتقدم أن نسخ لفظ الإخبار جائز لا حكمه ولو مما يتغير لأنه يوهم الكذب، وإن قلت نسخ حكم الطلب يوهم البداء، قلت: لا بل يفيد التخفيف أو زيادة النفع فلا يتبادر البداء، وأيضا الذى فى نسخ الأمر هو الإيهام المقابل للتحقق، والذى فى نسخ الخبر الإيهام المجامع للتحقق. وإن قلت النسخ للخبر دال على أن الخبر المنسوخ لم يتناول تلك الصورة، كما أن النهى الذى ينسخ الأمر دال على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت فهما سواء، فالجواب ما ذكرته من أن الإيهام الذى نسخ الأمر والذى فى نسخ الخبر متخالفان، وكذا يكون جوابا للاعتراض بأن الواقع تحقق الكذب لا إيهامه، فإن المراد بالإيهام الإيقاع فى الوهم أى الذهن فيصدق بالتحقق لا مقابل التحقق، وقال البيضاوى وغيره: يجوز نسخ مدلول الخبر إن كان خبراً عن مستقبل قابلا للتغير، قال الشافعية بجواز المحو لله فيما يقدره فى الأزل قال الله تعالى:
{ { يمحو الله ما يشاء ويثبت } والإخبار يتبع المحو بخلاف الخبر عن ماض، ويبحث بأنه ليس المراد كما زعموا من محو الشقاوة إلى السعادة والعكس، وتأخير من بلغ أجله ونحو ذلك، فإن الله عز وجل قال: { ما يبدل القول لدى } بل المراد النسخ والإحكام ومحو الذنوب من صحيفة من يشاء وإثباتها فى صحيفة من يشاء ونحو ذلك مما يأتى إن شاء الله. وقال الفخر والآمدى يجوز نسخ مدلول الخبر أيضا، ولو كان خبراً عن ماض لجواز أن يقول الله تبارك وتعالى: (لبث نوح فى قومه ألف سنة) ثم يقول: (لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً). قلت: ليس هذا نسخاً بل تخصيص. وتقدم جواز النسخ بالأثقل ومنعه بعض المعتزلة لأنه لا مصلحة فى العسر، ويرده ما تقدم من كثرة الثواب، ويأتى بحث، إن شاء الله، فى سورة النحل، وتقدم أن اليهود أنكروا النسخ مطلقا، لكن الشمعونية منهم قالوا غير جائز غير واقع، والعتابية منهم قالوا جائز غير واقع، وأجاز العيسوية منهم وقوعه وقالوا إنه واقع، وهم أصحاب أبى عيسى الأصبهانى المعترفون ببعثة نبينا، صلى الله عليه وسلم، إلى بنى إسماعيل خاصة وهم العرب. قلنا: ليس على وجه الأرض من يجهل أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "بعثت إلى الكافة" ومن ثبتت رسالته ولو إلى إنسان واحد بحيث ينضم فى جملة الأنبياء لا يتصف بالكذب فلا كذب فى قوله: "بعثت إلى الكافة" وسماه أبو مسلم الأصبهانى من المعتزلة تخصيصاً، أعنى النسخ. ووجهه أنه قصر للحكم أو التلاوة أو لهما على بعض الأزمان فهو تخصيص فى الأزمان كالتخصيص فى الأشخاص، فما ذكره الآمدى عنه من نفى النسخ وهم أو خلف لفظى إذ أثبته ولم يسمه نسخا، وجعل المغيا فى علم الله سبحانه إلى الوقت كالمغيا لفظا، فسمى الكل تخصيصا وأجازت الروافض النسخ وعللوه بجواز البداء على الله، وكفروا بتجويز البداء عليه تعالى، ونسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع، لانتفاء اعتبار العلة الموجبة للقياس لما انتهى اعتبارها فى الأصل المنتفى حكمه. مثل أن يرد النص بحرمة الربا فى القمح فيقاس عليه الأرز وغيره بجامع المثل بالمثل إلا يداً بيد ثم يرد النص على سبيل الفرض والتقدير بجواز الربا فى القمح، وقالت الحنفية يبقى لأن القياس مظهر له لا مثبت لأنه ثابت فى نفسه، وإنما القياس أظهره. ويجاب بأنه كما أنه مظهر لحكم الفرع مظهر لاعتبار معنى العلة فيه، إذ لولا الارتباط بينهما ما كان القياس مظهراً لحكم الفرع ولا دالا عليه، ويجوز عقلا نسخ كل حكم شرعى ونسخ بعض دون بعض عند الشافعية، والحق منع نسخ الكل إلا إلى شرع آخر، إذ لا يبقى المكلف سدى وإلا معرفة الله ـ جل وعلا ـ فإن العقل يحكم إذا دقق بعدم جواز إبقاء الإنسان أو غيره من المكلفين سدى، وبعدم جواز ألا يعرف الله. ألا ترى أن أهل الفترة لا يعذرون فى عدم المعرفة، وأن الله جل وعلا يقول: { { إن فى خلق السمٰوات والأرض... لآيات } كذا ظهر لى، ومنعت المعتزلة والغزالى نسخ جميع التكاليف، لتوقف العلم بنسخ جميع التكاليف، بتقدير وقوعه على معرفة النسخ والناسخ، والمعرفة من التكاليف، ولا يمكن نسخها، واجيب بأنه بحصول معرفة النسخ والناسخ ينتهى التكليف بالمعرفة، فلا نزاع فى المعنى، لأن القائل بنسخ جميع التكاليف مراده أنه يجوز عقلا ألا يبقى تكليف، وإن كان فيما عدا معرفة الله ورسوله بطريق النسخ وفيهما بطريق الانتهاء، ومراد القائل بعدم الجواز أنهُ لا يجوز عقلا ارتفاعها كلها بطريق النسخ، وإن جاز انقطاع التكليف فى البعض بانتهائه وانقضائه، ومنعت المعتزلة نسخ وجوب معرفة الله تعالى أيضاً وهو الحق كما مر، والعلة عندنا ما ذكرته، وعندهم العلة أن المعرفة حسنة بالذات، وهى معرفة الله لا تتغير بتغير الأزمان فلا يقبل حكمها النسخ، وأجاب الشافعية بأن الحسن الذاتى باطل ومثلهم المالكية والحنفية والحنبلية، وأجمعنا نحن وهم والمعتزلة على عدم وقوع ذلك، وإذا وقع النسخ بعد البلوغ لجبريل وقبل النزول إلى الأرض أو بعد النزول وقبل البلوغ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو بعد البلوغ إليه وقبل تبليغه الأمة فليس ذلك نسخاً فى حق الأمة لعدم علمهم به وكذا ما نسخ قبل بلوغه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبس نسخاً فى حقه، ولو وقع علمهم أو علمه بعد النسخ، هذا مختار الشافعية، وقيل: ذلك نسخ فى حقه وحقهم فهو مستقر فى الذمة لا بمعنى طلب الامتثال كما فى النائم وقت الصلاة فإنه - ولو لم يخاطب - لكن استقر الفرض فى ذمته فى الجملة فيجب القضاء بالناسخ، وقيل: القضاء وجب بأمر جديد وإن اقتضى الناسخ التحريم ثبت أثره فى الذمة كالضمان حيث اقتضاء التحريم، وإن لم يثبت الإثم لعدم العلم، وإن اقتضى الإباحة بعد التحريم سقط الضمان فيجرى الخلاف فى ذلك كله، ومثله التخصيص وكذا بعد بلوغه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقيل النزول إلى الأرض كرفع خمسين صلاة بخمس صلوات ليلة الإسراء. وقال الصفى الهندى: الخلاف بعد وصول الناسخ له صلى الله عليه وسلم لا قبله، وإن وصل لجبريل واستدل العضد على ذلك القول المحتار بأنهُ لو ثبت حكمه قبل تبليغ الرسالة لثبت قبل تبليغ جبريل، واللازم باطل إذ هما سواء فى وجود الناسخ وعدم علم المكلف به. وقد يقال وجوده مقتضى لحكمه وعدم علم المكلف لا يصلح مانعاً، فثبت حكمه عملا بمقتضى السالم من المعارض. والله أعلم.
وبعد التبليغ يثبت فى حق من بلغه ومن لم يبلغه ممن تمكن من علم التبليغ، فيعصى بعدم تعلمه وإن لم يتمكن من فعلى الخلاف، وليست الزيادة على النقص نسخا خلافا للحنفية كزيادة ركعة أو صفة فى رقبة الكفارة كالإيمان ومنشأ الخلاف هل رفعت الزيادة حكماً شرعيا؟ فنقول نحن والشافعية: لا فليست بنسخ وتقول الحنفية: نعم. نظراً إلى أن الأمر دونها بما استلزم تركها، فهى رافعة لحكم ذلك الترك المقنضى، فنجيب بأن الذى يقتضى تركها البراءة الأصلية لا الأمر بما دونها، فإنما زاد على المأمور به مستند إلى البراءة الأصلية، ورفع ما استند إلى البراءة الأصلية ليس بنسخ، وقيل إن غيرت الزيادة المزيد عليه بحيث لو اقتصر عليه وجب استئنافه، كزيادة ركعة فى المغرب مثلا، فهى نسخ، وإلا كزيادة الجلدة على مائة جلدة لو زيدت فلا، وقيل إن اتصلت الزيادة بالمزيد على اتصال اتحاد كزيادة ركعتين فى الصبح فهى نسخ، وإلا كزيادة الجلدة على المائة فلا، وكذلك الخلاف فى نقص جزء عبادة كنقص ركعة أو شرط كنقص الوضوء، هل هو نسخ للعبادة الكاملة؟ قيل: نسخ منتهى إلى ذلك الناقص لجوازه أو وجوبه بعد تحريمه، وقلنا نحن وجمهور الشافعية: غير نسخ وإنما النسخ للجزء أو الشرط فقط، لأنه هو الذى يترك، وقيل نقص الجزء نسخ بخلاف نقص الشرط، وقيل نسخ المتصل نسخ وذلك كالاستقبال فإنه متصل بالصلاة، ونقص المنفصل ليس نسخاً كالوضوء، فإنه منفصل عنها وطريق العلم بالناسخ كما مر الإجماع على تأخير الناسخ، وقوله صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ لذاك بعد ذاك، أو كنت نهيت عن كذا فافعلوه. كحديث مسلم:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" وذكر الشئ على خلاف ما ذكر فيه أولا، مثل أن يباح شئ ثم يوجب، وقول الراوى: هذا سابق على ذاك، ولا يقبل قول القائل هذا ناسخ. لأن دعوى السبق لا تكون عادة إلا من طريق صحيح، بخلاف دعوى النسخ فإنها قد تكون عن اجتهاد واعتماد قرائن قد تخطّأ، وقد لا يقول بها غير الراوى، وكلما يفيد الترتيب فهو مثل قوله: هذا سابق ولا تتأثر موافقة أحد النصين للبراءة الأصلية فى أن يكون متأخراً عن المخالف لها، خلافا لما قال بذلك، نظراً إلى أن الأصل مخالفة الشرع لها فيكون المخالف هو السابق، فيكون الموافق للبراءة هو الناسخ على هذا القول المرجوح لتأخره، إذ لو تقدم ليكون منسوخا لم يفد إلا ما كان حاصلا قبله، فيعرى عن الفائدة.
وقال الزركشى ومن تبعه: إن الناسخ هو المخالف، لأن الانتقال من البراءة إلى اشتغال الذمة يقين، والعود إلى الإباحة ثانيا شك، ويبحث فى ذلك بأن عود الموافق إلى الإباحة يقين، وتأخر المخالف شك، مع أن ما قالوه يستلزم عرو الموافق عن الفائدة، وإن قلت: لا يلزم ذلك لجواز العكس، فيكون الموافق هو السابق، قلت: يكفى أن الظاهر هو سبق المخالف، والنسخ يكفى فيه الظاهر، بدليل أنه قيل بثبوت النسخ بخبر الإحاد، ولا يدل التأخير فى المصحف على المتأخر فى النزول خلافاً لمن يستدل به، نظراً إلى أن الأصل موافقة الوضع للنزول. قالت الشافعية هذا غير لازم لجواز المخالفة، إذ كم آية متقدمة الوضع متأخرة النزول، وبالعكس. والتحقيق أنه إذا صير إلى النسخ ولا يد إذ لم يمكن الجمع فإن تبين المتأخر فى النزول بدليل فهو الناسخ وإلا تمسكنا بالأصل وهو تقديم المتقدم فى الوضع، وتأخير المتأخر فيه، ولا يؤثر تأخير إسلام الراوى فى تأخير مرويه عما رواه متقدم الإسلام عليه، خلاف لبعض إذ قال بتأثير ذلك نظراً إلى أنه الظاهر، قال المحلى قلنا لكنه على تقدير تسليمه غير لازم لجواز العكس، ولا أثر لقول الراوى هذا ناسخ فى ثبوت النسخ خلافاً لمن زعمه، نظراً إلى أنهُ لعدالته لا تقول لك إلا إذا ثبت عنده، قلنا ثبوته عنده يجوز أن يكون باجتهاد لا يوافق عليه، وإن قال الراوى فيما علم أنه منسوخ أن ناسخه كذا ولم يعلم خلافه جاز قوله للعلم بالمنسوخ بدون قوله لكن لم يعلم عين الناسخ إلا من قوله وضعف احتمال كونه عن اجتهاد، بخلاف ما إذا أفاد أصل النسخ، فإنه يقرب أن يكون عن اجتهاد، وإذ قال هذا ناسخ لكذا أفادنا كلامه أن كذا منسوخ وكان كلامه موضوعاً لأفادة ذلك، ولأفادة أن نسخه وقع بكذا فبطل اعتراض ابن القاسم بقوله: قد يقال حيث كان الغرض العلم بأنه منسوخ، فينبغى أن يكون قوله هذا ناسخ لكذا، كقوله فيما كان معلوم النسخ إن ناسخه كذا. والله أعلم.