التفاسير

< >
عرض

وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الحقُّ.. } الآية.
وعن ابن عباس: المراد أبناء أخطب: حيى وأبو ياسر وأتباعهما، فقيل إن عماراً وحذيفة أتيا مدارس اليهود، فأراد اليهود صرفهما عن دينهما، فثبتا، فنزلت الآية. ووجه الجمع بين ذلك أن المتكفل يقول ذلك فنحاص وزيد وحيى وأبو ياسر وغيرهم من اليهود فى التبع لهم، وأن ذلك بعد أحد واقع فى مدارس من مدارسهم، أتاهم عمار وحذيفة، وقيل نزلت الآية تبعاً فى المعنى من نهى الله ـ عز وجل ـ عن متابعة أقوال اليهود فى راعنا وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل على المؤمنين خير. ويجمع أيضاً أن نزولها تبعاً لذلك لا ينافى كونها نزلت فيما قيل لعمار وحذيفة، وما قالا فإنهما فيهما وهى تابعة لما مر من النهى عن متابعة اليهود. والله أعلم.
ومعنى (ود) أحب وتمنى، والكثير من أهل الكتاب فنحاص وزيد ابن قيس وحيى وأبو ياسر وغيرهم من أحبارهم ورؤسائهم، وغيرهم. ولو مصدرية كما مر لا حرف تمنى، وإنما أفاد التمنى لفظ ود، ومعنى لو المصدرية الاستقبال، كأن الناصبة للمضارع، أى ود كثير من أهل الكتاب ردكم. وكفاراً: حال لازمة من كاف يردونهم مقارنة، أى يردونكم من بعد إيمانكم إلى دينهم، وأنتم كافرون حال حصول الارتداد، وإن فسرنا الرد بشروعهم فى الوسوسة والتمويه الذى تمنوه قبل تأثيره كانت الحال مقدرة، والأولى أن يكون يردونكم بمعنى يكفرونكم بتشديد الفاء، أى يدخلونكم فى الكفر، فتكون الحال مؤكدة، وذلك تضمين أو يكون يردونكم بمعنى يصيرونكم، فيكون كفاراً مفعولا ثانيا، والآية صريحة فى اعتراف كثير من أهل الكتاب بأنهم على كفر إذ اعترفوا بأن من يرتد إلى دينهم يكون كافراً، ويقوى هذا قوله تعالى: { حسداً من عند أنفسهم } لأن من حسد الإنسان لا يود له الخير، بل الشركا لكفر، ولأن معنى { من عند أنفسهم } من عند أنفسهم الأمارة بالسوء، أو من عند ذواتهم لخبثها باتباع الأمارة بالسوء، يعنى لا من جهة التدين والميل مع الحق، لأن الله لم يأمرهم بذلك، ومن بعد متعلق بيردونكم، ومن عند متعلق برد، ومن للابتداء، فإن الود صادر من عند أنفسهم. قيل أو للسببية، فإن المعنى بالإغواء والتزيين، أو تتعلق بمحذوف نعت مصدر محذوف، أى ود ثابتا من عند أنفسهم، ويجوز أن يتعلق بحسد أو بمحذوف نعت (لحسدا)، أى صادراً من أنفسهم الأمارة بالسوء، أو منبعثاً منها، وحسداً مفعول لأجله ناصبه ود، أى وقعوا فى ود ذلك لأجل الحسد، وإذا لم تتعلق من عند بحسداً تعلق به من بعد ما تبين، ومن للابتداء، وإذا علقت من عند بحسدا تعلق من بعد ما تبين بود لا بحسد إلا على طريق تقييد حسدا بالعندية، ثم تقييد حسداً والعندية معاً بالبعدية، وما مصدرية، والحق هو كون محمد رسولا من الله، والقرآن كتاب من الله، خوطب المكلفون كافة به لا العرب فقط، والخطاب فى يردونكم للمؤمنين، وإنما تبين لهم الحق بالتوراة، والمعجزات ذكر الله تعالى فى التوراة اسمه ونعوته، ولكن جحوده حسدا. قال أبو داود عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
"إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أو قال: "العشب" وفى صحيح الربيع بن حبيب عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد رحمه اله، وفى موطأ مالك عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" . وأسند أبو عمر بن عبد البر فى التمهيد، عن الزبير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء حالقتا الدين لا حالقتا الشعر" . وفى الإحياء عنه صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة هى الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذى نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم افشوا السلام بينكم" ، وإن قلت: كل الكبائر تأكل الحسنات فما وجه تخصيص الحسد؟ قلت: المبالغة فيه، وكونه أشد فى الإيقاع فى المعاصى الآخر وهو تمنى زوال النعمة عن النعم بها عليهِ، والمحرم منه تقريره والإصغاء للنفس فيه، وعمل اليد أو الجارحة بمقتضاه، سواء عن مسلم أو كافر، إلا أن تمنى زوالها عن كافر لإضراره بها ولا ضير بوقوعه فى النفس، لأنه ضرورى وعنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ" ، والحديث فى صحيح الربيع، وذكر الغزالى رواية أخرى أيضاً: "ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن.." وذكر الحديث كما ذكرته.
{ فَاعْفُوا }: عم، اتركوهم ولا تشغلوقلوبكم ولا ألسنتكم بكلامهم
{ وَاصْفَحُوا }: أى لا تجاوزهم على ما كان منهم، والصفح الإعراض، ويجوز أن يكون العفو ترك مجازاتهم على ما وقع منهم، والصفح ترك المبالغة فى معاتبتهم عليه وتوبيخهم، ويجوز أن يكون العفو ترك العقوبة، والصفح الإعراض عن المذنب، كأنه يولى صفحة العنق.
{ حَتَّى يَأتِىَ الله بأمْرِهِ }: وهو عقابهم بما شاء فى الدنيا من قتل وسبى وغنم وإجلاء، وفى الآخرة من تضييق قبر وعذابه، وعذاب الحشر وعذاب النار، أى لا تجازوهم حتى يكون الله هو الذى يجازيهم، ولا تنتقموا منهم لأنفسكم، وهذا معنى لا يقبل النسخ، فليس قوله: { فاعفوا واصفحوا } منسوخاً بآية القتال لما ذكرته من أن ذلك لا يقبل النسخ، ولأنه مغبا باتيان أمر الله، والمقيد بغاية أو غيرها، لا يسمى منسوخاً كما مر، بل توفيقا على مدة أو قيد ما قال ابن عباس الآية منسوخة بقوله تعالى:
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. } الآية. وقيل بقوله تعالى: { اقتلوا المشركين }، ومرجع الخلاف إلى تقدم النزول، فمن قال نزل: { { قاتلوا الذين لا يؤمنون.. } الآية قبل { اقتلوا المشركين } جعله هو الناسخ، ومن قال نزل: { اقتلوا المشركين } أولا جعله الناسخ، وإلى المراد بالمشركين هل هو ما يشمل أهل الكتاب فيصلح لأن يكون ناسخاً أولا فلا وقد علمت عدم صحة النسخ، فما قيل عن ابن عباس مشكل وتحقيق الكلام عندى فى ذلك أنه إن فسر أمر الله بما مر، فقد يصح كلام ابن عباس لأنه لم يدع النسخ بذلك القيد الذى هو قوله: { حتى يأتى الله بأمره }، بل بآية القتال كما مر، وهى غير غاية فى لفظ الآية فضلا عن أن يقال المغيا لا يسمى منسوخاً بغايته، ولكن هذا التقرير يحتاج إلى أن يقال المنسوخ هو قوله: { فاعفوا واصفحوا } على أن معناه لا تقاتلوهم، وإن فسر أمر الله بالإذن فى القتال، وضرب الجزية، والقتل والإجلاء، كما قتلت قريظة وأجليت النضير لم يصح ادعاء النسخ، لأن آية القتال ومعنى أمر الله على هذا واحد. قال أبو العباس أحمد بن سعد الأندلسى فى الكوكب الذى أخرج النسائى عنه صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل إليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطى من حرمك، وتصل من قطعك" . وروى الربيع بن حبيب رحمهُ الله، عن محمد بن عمير العبدى، عن أبى هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "ألا إن التواضع للعبد لا يزيده إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله"
{ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ }: فهو قادر على أن ينتقم منهم، وهذا وعيد وتهديد لهم ووعد للمؤمنين.