التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَنْ أَظلمُ ممن منَع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَر فيها اسمُه وسَعَى فى خرابها }: أى لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه بتلاوة كتابه والصلاة والتسبيح والاستغفار، فإن القرآن وسائر كتب الله والصلاة والتسبيح والاستغفار لا تخلو من ذكر اسم من أسماء واجد الوجود سبحانه وتعالى، والآية بلفظها تشمل كل من هدم مسجداً أو مصلى أو منع الناس من دخوله أو من العبادة فيه جهاراً، أو فعل فيه ما ينفر عنه الناس كغيبة المسلمين فيه والحمية فيه، والركون فيه إلى الباطل والتلبيس على العوام ومن لا بصيرة له، فإن خراب المسجد أو المصلى كما يكون بهدمه، يكون بترك عمارته. والاستفهام بمعنى النفى كما رأيت، وليست مجردة عن الاستفهام بالكلية، فإن المراد الاستفهام التوبيخى أو التقريرى المشوب بالنفى، ومصدر يُذْكر مفعول ثان لمنع أو على تقدير مِنْ الجارة، أى من أن يذكر فيها اسمه، أو بدل اشتمال المساجد، والرابط (ها) من قوله فيها، فإن ذكر اسم الله تعالى فيها ملابس لها بغير الجزئية أو الكلية، أو مفعول لأجله على حذف مضاف، أى كراهة ذكر اسمه تعالى فيها.
قال الكلبى: والآية نزلت فى النصارى ـ قبحهم الله ـ لما طرحوا الأذى فى بيت المقدس ومنعوا الناس أن يصلوا فيه: وغزوا أهله وخربوه وأحرقوا التوراة، وقتلوا أهله وسبوا وغنموا. وقيل: فى مشركى العرب لما منعوا النبى، صلى الله عليه وسلم، من إظهار دينه فى المسجد الحرام والصلاة فيه، ويؤذونه إذا فعل ذلك، وكذا أتباعه رحمهم الله قبل الهجرة ومنعوهم بعدها عام الحديبية من الحج ودخول مكة والمسجد الحرام، وبه قال ابن زيد. وقيل: نزلت فى ذلك كله فعلة النصارى وفعلة العرب. وروى أن طوس الرومى غزى بنى إسرائيل فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس، فلم يزل خراباً حتى بناه المسلمون فى زمان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وهذا هو عين القول الأول وفيه بيان سلطانهم واسمه. وقيل: إن بخت نصر المجوسى البابلى هو الذى غزا بنى إسرائيل وخرب بيت المقدس، وأعانه النصارى على ذلك من أجل أن اليهود قتلوا يحيى بن زكريا، ونزلت الآية فى ذلك، ورجح ابن جرير الطبرى القول الأول وهو تفسيره مجمع على حسنه واعتباره. قال: إن النصارى هم الذين سعوا فى خراب بيت المقدس، بدليل أن مشركى العرب لم يسعوا فى خراب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فى بعض الأوقات من الصلاة فيه، وأيضاً الآية التى قبل هذه وبعدها فى ذم أهل الكتاب، ولم يَجْرِ لمشركى العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام. انتهى.
قلت يبحث فى كلامه بأن المشهور أن العمدة فى خراب بيت المقدس هو بختنصر وجنوده، لا النصارى، وإنما النصارى أعانوه إعانة لما رأوه مشمراً لذلك، فإنما يحسن أن تنزل الآية فيمن هو العمدة لا فيمن هو تبع، فإذا صرنا إلى التخصيص قلنا: إنها نزلت فى بختنصر وجنوده، ومن أعانهم من النصارى. وإلا فالأولى أن يقال: الآية نزلت فى بختنصر وجنوده ومن أعانهم من النصارى، وفى مشركى العرب وفى طوس الرومى وجنوده، إذ خرب بيت المقدس، وقتل وسبى وغنم، بعدما عمره اليهود من تخريب بختنصر، اللهم إلا أن يقال: نزلت فى النصارى ولو كان العمدة بختنصر وجنوده توبيخاً لهم، لأنهم أهل كتاب، كما روى عن مجاهد: أنهم النصارى أعانوا بختنصر على خراب بيت المقدس، ويبحث أيضاً فى كون مشركى العرب ساعين فى منع المسجد الحرام وخرابه أنهم منعوا منه أفضل الرسل وخاتمهم وأشياعه قبل الهجرة وبعدها، فإن عمارتهم إياه غير عمارة لشركهم وأقدارهم ولو لم يمنعوه أو لم يؤذوه على عمارته إلا مرة كان سعيا فى خرابه، لأنه رسول خاتم الرسل والأنبياء، ولأن منعه منع للأمة كلها، ويبحث أيضاً بأن ما قبل هذه الآية ليس خاصاً بأهل الكتاب، فإن العرب مذكورة بقوله عز وجل:
{ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } وما بعدها ليس متعيناً فى أهل الكتاب، بل محتمل كما سترى. ورجح بعضهم أن الآية نزلت فى مشركى العرب بأن النصارى يعظمون بيت المقدس أكثر من اليهود، وكيف يسعون فى خرابه وهو موضع حجهم، ويبحث فيه بأن يقول صاحب هذا القول بأن الآية نزلت فى النصارى الخاربين له لا فيمن يعظمه، ففى رواية عن ابن عباس وغيره: أن المراد النصارى الذين يؤذون من يصلى فى البيت المقدس. وصحح ابن العربى القول بأن المراد فى الآية: كل من منع مسجدا من مساجد الله، قال لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع فتخصيصه ببعض المساجد أو ببعض الأزمنة محال، يعنى أنه ليس لنزول الآية سبب مخصوص كلفظها عام ونزولها عام، ثم إذا بنينا على أنها نزلت لمانع ومسجد مخصوص كالنصارى وبيت المقدس كان ينبغى أن يراد بمن منع مساجد الله العموم لا خصوص أولئك النصارى مثلا. وإن قلت: كيف يصح أن يقال مساجد الله إذا أريد بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت: عبر بالعموم ليفيد الحكم العام، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحاً: ما جزاء من يؤذى الصالحين؟ وكما قال تبارك وتعالى: { { وَيْلٌ لِكلِّ هُمَزةٍ لُمَزة } مع أن الهاء من اللامز الذى نزلت فيه الآية على ما يأتى ـ إن شاء الله ـ الأخنس بن شريف.
{ أولئك ما كان لهم أن يَدْخلوها إلا خائفين }: الإشارة عائدة إلى مطلق المانعين المساجد، الساعين فى خرابها، وهذا مما يدل على أن المراد بقوله: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } العموم ولو كان سبب النزول خاصا، إذ لا يحسن أن يقال: ما كان لبختنصر وجنوده أن يدخلوا المساجد إلا خائفين، نعم لا مانع من إرادة خصوص النصارى ومساجد الشام، فإن منعهم من بيت المقدس منع من سائر مساجد الشام، أو هم خربوا مساجد الشام كلها، أو ما قدروا عليه فمنعوا من دخولها كما منعوا غيرهم، ولكفرهم، وكان بيت المقدس موضع حج النصارى وزيارتهم، بعد ما خربه من خربه منهم. قال ابن عباس: لم يدخله بعد عمارته بالمسلمين يهودى ولا نصرانى إلا خائفاً، إن عُلِمَ به قُتِل، وهذا معنى الخوف فى الآية، وقيل إنهم أخيفوا بالجزية على الذمى والقتل على الحربى، فالذمى إذا كان يعطى الجزية بترك أن يدخل المساجد عند أبى حنيفة. ومنع مالكٌ الكفار كلهم من دخلو المسجد ـ أىَّ مسجد كان ـ أعطى الجزية أو لم يعطها، وأجاز الشافعى أن يدخل الكفار المساجد غير المسجد الحرام مطلقاً، وقيل عنه يجيز لهم دخول غير المسجد الحرام بشرط أن يأذن له السلطان أو نحوه، وعلى كل حال إذا دخل الكافر مسجداً من المساجد، يدخلها وفى قلبه خوف من أن يزجره المسلمون ويضربوه، وهذا معنى الخوف عندى، وذلك نصر من الله تعالى للمؤمنين سابق فى اللوح المحفوظ وفى علمه الأزلى، أخبرنا الله به فكان لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارَقة. قال قتادة والسدى لا يوجد نصرانى فى بيت المقدس إلا أُنهْم ضرباً وأبلغ إليه فى العقوبة، ونادى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى شأن المسجد الحرام ومواسم الحج: ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يدخل المسجد الحرام، ولا يطوفن بالبيت عريان. وقيل خوفهم هو فتح مدائنهم الثلاث قسطنطينية وهى إسلامبول ورومية وعمورية، يعنى بفتح الثلاث فيلزمهم الذل بفتحهن حيثما كانوا، وقيل ليس ذلك إخبارً بأنهم يخافون ويقهرون، بل بمعنى أنه يكون الحق خوفهم وذلهم، سواء ذلوا وخافوا، أم تجبروا وعتوا، وقد علم الله ما يكون من ذلهم ومن تجبرهم، ويحتمل أن يكون اللفظ إخباراً والمعنى نهياً، أى لا تتركوهم يدخلون المساجد ولا تمكنوهم من دخولها، فإنهم إذا كانوا لا يتركونهم ولا يمكنونهم لم يصدر منهم الدخول إلا على خوف كقوله تعالى:
{ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } فإن بمعنى لا تؤذوه، وضابطه أنه إذا نفى الله عن الشئ أن يكون حقاً أفادنا النهى عنه، وقرأ عبدالله بن مسعود إلا خيفاء (بضم الخاء وفتح الياء مشددة مع تكسير) كصائم وصيم.
{ لهم فى الدنيا خزى }: كالقتل والسبى والغنيمة والذل والجزية، وقيل فتح قسطنطينية ورومية وعمورية، ومن فسر هذا أو الخوف بشئ لم يفسر به الأخرى.
{ ولهم فى الآخرة عذاب عظيم }: هو عذاب النار والحشر، كل ذلك لكفرهم. والله أعلم.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون يصلون إلى بيت المقدس قبل الهجرة، وصلوا إليه بعدها أيضاً سنة وأربعة أشهر، ثم نسخ التوجه إليه فى الصلاة بالتوجه إلى الكعبة، فكانوا يصلون إليها، فقالت اليهود ما لم تحولوا عن بيت المقدس؟ وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة، فتارة يستقبلون هكذا، وتارة يستقبلون هكذا، فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب.. }