التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وإذْ جَعلْنا البَيْتَ }: الكعبة، غلب لفظ البيت عليها كما غلب النجم على الثريا، والكتاب على القرآن فى مواضعه، والكتاب أيضاً على كتاب سيبويه فى مواضعه.
{ مَثابةً للنَّاسِ }: أى مرجعا لهم يأتونه من كل جانب للحج، رفيعهم ووضيعهم، من ثاب يثوب بمعنى رجع بمثلثة، كتاب يتوب بمثناة، أو موضع ثواب لأن لهم ثواباً على قصد الحج أو عمرة وطواف، وعلى كلا الوجهين هو اسم مكان، وتأنيث أسماء المكان والزمان والمصدر الميميات يحفظ ولا يقاس عليه، وإن قلت: كيف يصح الوجه الأول وهو التفسير بالمرجع، فإنه لا يصدق بمن لم يأته قط، ثم أتاه؟ قلت استعمالا للمقيد فى المطلق، فإن أصل الرجوع الإتيان إلى الشئ بعد الانصراف عنه، استعمل فى مطلق الإتيان. ولك وجه آخر هو أن المراد الإشعار بأن البيت رغبة للناس يأتونه ويرجعون إلى أهليهم، ثم يأتونه، ويجوز أن يكون المعنى مجمعا لهم، من ثاب يثوب ثبة بمعنى اجتمع، وهو أيضاً اسم مكان شاذ بالتاء، ثم رأيت الوجه الأول قولا للكلبى، ووجه آخر ضعيف هو أن يكون بمعنى موضع التائبين عن الذنوب، أو موضع التائبين أى الراجعين يرجعون إليه، وهو كذلك اسم مكان شاذ بالتاء، ويجوز أن يكون على تلك المعانى كلها مصدرا ميميا بمعنى مفعول، أى مرجوعاً إليه مثوباً على قصده بالجنة، أو مجموعا فيه، أو مرجوعا فيه عن الذنوب، أو يقدر مضاف أى ذا رجوع أو ثواب أو اجتماع، ويدل للمصدرية قوله تعالى:
{ وأمْناً }: فإنه مصدر على تقدير مضاف، أى موضع أمن، فهو بمعنى اسم مكان أو ذا أمن، ويحتمل جعل من باب المبالغة كأنه نفس لفرط الأمن الملتجئ إليه، ومن هو فى حرمه كما سماه أيضاً آمنا فى قوله جل وعلا:
{ { حرما آمناً ويُتَخطف الناس من حولهم } كان المشركون لا يتعرضون لأهل مكة، ويقولون هم أهل الله. قال ابن عباس: أمناً معاذا وملجأ، ومن رواية الربيع بن حبيب بن عمر، وعن أبى عبيدة عنه صلى الله عليه وسلم فى شأن مكة: "أنها حرام لحرم الله، لم تحل لأحد قبلى لا تحل لأحد بعدى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار فغمزها النبى صلى الله عليه وسلم بيده، فقال: لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها ولا يختلى خلاها فقال له العباس عمه، وكان شيخا مجرباً، إلا الأذخر يا رسول الله فإنه لا بد منه للقبور، ولظهور البيوت، فسكت النبى صلى الله عليه وسلم قليلا، فقال: إلا الأذخر فإنه حلال" وكذا روى البخارى ومسلم عن ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيدة ولا يلتقط لقطتها إلا من يعرفها ولا يختلى خلاه. قال العباس: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم قال: إلا الأذخر" ومعنى قوله للقبور إنه يسد به الخلل، لكن قال القسطلانى فى إرشاد السارى على صحيح البخارى: المراد بالقبور اللحود، واستثنى بعضهم ما يؤذى من الشوك، فأجاز قطعه، ومعنى لا تحل لقطتها إلا لمن يعرفها أنه لا يأخذها الإنسان إلا بنية أن يعرفها على الدوام، بخلاف لقطة غيرها فإنه يحل أن يأخذها على أن يعرفها، وأنه إن لم يجئ صاحبها استنفع بها على شرط الضمان لصاحبها إذا جاء يعرفها فى مجمع الناس، وقيل ثلاثة أيام، وقيل ستة وبسطت المسألة فى الفقة. والخلا بالقصر الحشيش الرطب، وجاز قطع ما تيبس منه ومن الشجر، وقوله: لقينهم، القين: الحداد، ومعنى لقبورهم: أنه تسد به فرج اللحد فمكة أمن للناس والوحش والطير، والخلا الشجر، جعل الله سبحانه وتعالى حرمة فى النفوس بحيث يلقى الرجل بها قاتل أبيه فلا يهيجه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: إذا أصاب الرجل حدّاً ثم لجأ إلى الحرم فلا يجالس ولا يطعم ولا يؤوى حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليِه الحد، وإذا أصابه فى الحرم أقيم عليه فيه. وبذلك نقول نحن والحنفية. وقيل إن ذلك فى الجاهلية، وأما فى الإسلام فتقام فيه الحدود، ولو التجأ إليه. وفى رواية للبخارى إلا الأذخر لصاغتنا وقبورنا، والصاغة جمع صائغ. قال عكرمة: هل تدرى ما لا ينفر صيدها هو أن تنحيه عن الظل تنزل مكانهُ، قلت: الظاهر ما ذكره النووى من أنهُ إزعاج عن موضعه، وقيل كناية عن اصطياده، وعنه صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة ما بين لابتيها، واللابة بتخفيف الباء الحجارة السود، ولا ينافى هذا الحديث أحاديث: إن الله حرم مكة لأن معنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله، أو قضى الله أنهُ سُيحرمها أو أنهُ أول من أظهر بتحريمها، وكان قبل ذلك عند الله حراماً أول من أظهره بعد الطوفان، ومعنى تحريم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة على ظاهره بأن فوض الله تعالى إليه أن يحرم ما شاء أو المعنى أنهُ حرمها بأمر الله. وقرئ مثابات بالجمع، لأنهُ مثابة لكل أحد لا يختص به واحد سواء العاكف فيه والباد.
{ واتَّخذوا مِنْ مَقَامِ إبراهيمَ مُصلَّى }: عطف على جعلنا أى واتخذ الناس من المكان الذى لبث فيه إبراهيم موضعاً يصلون فيه أو إليه، وعلى الأخير فهو الكعبة، وذلك بفتح خاء اتخذوا عند ابن عباس ونافع وقال أبو عمر الدانى: قرأ بالفتح نافع وابن عامر، وقرأ غيرهم بكسر الخاء على الأمر وإضمار القول المعطوف على جعلنا، أى وقلنا لهم اتخذوا، ويجوز عطف اتخذوا على اذكر، أى واذكروا إذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوا خطاباً للأمة بأن يذكروا، إذ جعل البيت مثابة للناس، وأن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ويجوز عطفه على محذوف متعرض بين المعطوف عليه وهو جعلنا، والمعطوف وهو عهدنا، أى ثوبوا إليه واتخذوا، وأن يتخذوا، أى ارجعوا إلى البيت واتخذوا، ومن التبعيض فيكون المقام الحرام أو ما يلى المطاف، وكذا إن قلنا بمعنى فى، ويجوز على الوجهين أن يكون المطاف، لكن هذا على قراءة نافع فقط، كانوا يصلون فيه، فورد النهى، فقيل من صلة للتأكيد، ومقام مفعول، فيكون المقام الحرام أو ما يلى المطاف أو المطاف، وهذا على قراءة نافع، أو الحجر الذى جعل فيه قدميه حين بناء البيت، وحين دعى الناس للحج وفيه أثر قدميه، وقيل أثر أصابعهما فقط، فاندرس بالمسح بالأيدى، وقد اختلفوا فى المقام فقيل هو هذا الحجر، وصححه بعض، وإنما أمروا بالصلاة فيه لا بتقبيله ومسحه، وقيل الحرام كله وهو قول النخعى، ورواية عن ابن عباس وقيل مواقف الحج كعرفة ومزدلفة ومنى والمطاف، وهو قول عطاء، واتخاذها مصلى واتخاذها مقام دعاء، فإن الدعاء صلاة، ويدل على أنهُ الحجر المذكور ما يروى
"أنهُ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام إبراهيم وقال عمر: أفلا تتخذه مصلى؟ يعنى تبركاً، به، فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت الآية" ، وقيل المراد بالأمر اتخاذ مصلى من مقام إبراهيم الأمر بركعتى الطواف، كما يقال: خذ مضجعك بمعنى نم، لما روى عن الشيخ هود ومسلم واللفظ لهُ جابر بن عبد الله "أنهُ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين، وقرأ: { واتَّخذوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيمَ مُصلَّى }" وأما لفظ الشيخ هود، فهكذا ذكروا عن جابر بن عبدالله "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما قدم مكة فى حجته طاف بالبيت فمشى إلى المقام وهو يقول: { اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيمَ مُصلًّى }، فصلى خلفه ركعتين قرأ فيهما { قلْ هُوَ الله أَحد } و{ قل يا أيُّها الكافِرُون }" ، وليس الاستدلال بذلك حجة بجواز أن يكون، صلى الله عليه وسلم، أراد بقراءة الآية بيان مقام إبراهيم عليه السلام، واعلم أن إطلاق المقام على الحرام كله حقيقة عرفية مجاز لغوى، وكذا على معالم الحج، وعلاقته المجاورة، وأما الحقيقة اللغوية فإطلاقه على موضع قدميه فقط حين المكث، والأمر باتخاذ المصلى من مقام إبراهيم للوجوب على مستطيع الحج، ندب على غيره، وركعتا الطواف واجبتان، وقيل مستحبتان، وللشافعى فيهما قولان أصحهما عنه الثانى، وأضيف المقام لإبراهيم لأنهُ موسوم به لاهتمامه به، وإسكان ذريته عنده، وسأل عمر رضى الله عنه المطلب ابن أبى وداعة: هل يدرى أين موضع المقام أول أمره؟ قال: نعم فأراه موضعه اليوم، وقيل المراد بالمقام الموضع الذى فيه ذلك الحجر، وأخرج البخارى أنهُ الحجر الذى ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة الذى كان إسماعيل يناوله إياها فى بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، وقد مر هذا القول.
روى أن الله تعالى خلق البيت قبل الأرض بألفى عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، فبسطت الأرض تحتها، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش، فشكى إلى الله تعالى فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة، لهُ بابان من زمردة خضراء، باب شرقى وباب غربى، فوضعه على موضع البيت فقال: يا آدم إنى أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشى، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشى. وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيَّض فى الجاهلية، وتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله لهُ ملكاً يدلهُ على البيت، فحج البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا: بر حجك يا آدم، ولقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام. قال ابن عباس: حج آدم من الهند إلى مكة أربعين حجة ماشياً، وكان على ذلك إلى أيام الطوفان، ثم رفعه ثم إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود فى جبل أبى قبيس صيانة لهُ من الغرق، كان موضع البيت خالياً إلى زمان إبراهيم عليهِ السلام، ثم إن الله أمر إبراهيم عليهِ السلام بعد ما ولد إسماعيل وإسحاق ببناء بنية يذكر فيه، فسأل الله عز وجل أن يبين لهُ موضعه، فبعث الله تعالى إلى السكينة لتدله على موضع البيت، والسكينة ها هنا ريح جموح لها رأسان تشبه الحية، شديدة سريعة تلتوى فى هبوبها، وأمر إبراهيم أن يبنى حيث تستقر السكينة، وتبعها حتى أتى مكة فطوت السكينة على موضع البيت كطوى الحية، هذا قول على والحسن. وقال ابن عباس: بعث الله عز وجل سحابة على قدر الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشى فى ظلها إلى أن وافت مكة، ووقفت على موضع البيت، فنودى منها إبراهيم عليهِ السلام: أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص، وقيل أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام ليدله على موضع البيت، فمشى معه من الشام، وقيل كشفت له الريح عن أساسه، فبنى عليه، قيل فذلك قوله تعالى:
{ { وإذ بَوَّأنا لإبراهِيم مكانَ البَيْت } فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجر، فذلك قوله تعالى: { { وإذْ يرفَعُ إبراهيمُ القَواعِد منَ البَيْتِ وإسْماعِيل } وروى البخارى فى صحيحه عن ابن عبَّاس أن أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهى ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند درجة فوق زمزم من أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم ولى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا، فى الوادى الذى ليس فيه أنيس ولا شئ؟ قالت لهُ مراراً وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: أألله أمرك؟ فقال: نعم. فقالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يريانه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال: { { ربَّنا إنِّى أسْكنتُ مِنْ ذُريَّتى بوادٍ غَيْر ذِى زَرعٍ } حتى بلغ: { { يشْكُرون } "وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى نفذ ما فى السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهة أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل فى الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادى تنظر هل ترى أحداً فلم ترى أحداً، فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادى، رفعت طرف درعها فسعت سعى الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليه فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبى، صلى الله عليه وسلم، فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت صه. تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت قد أسمعت إن كان عندك غوث، فإذا هى بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء فى سقائها وهو يغور بعد ما تغرف" . قال ابن عباس: قال النبى، صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم أخى إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف كانت زمزم عيناً معينا، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافى الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله" . وكان البيت مرتفعا من الأرض مثل الرابية، تأتيه السيول وتأخذ عن يمينه وعن شماله، فبقيت أم إسماعيل كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم من طريق كداء، فغزلوا فى أسفل مكة، فرأوا طائراً عاكفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادى ما فيه ماء، فأرسلوا رجلا أو رجلين، فإذا هما بالماء، فرجعا فأخبرا القوم فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالو: أتأذنين لنا ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم فى الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبى، صلى الله عليه وسلم، فألفى ذلك أم إسماعيل وهى تحب الإنس، فأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية، وأعجبهم حتى شب فأدرك، فزوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم عليه السلام بعد ما تزوج إسماعيل يطالع أمره، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغى لنا، وفى رواية ذهب يصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن فى ضيق وشدة، وشكت إليه. فقال: إذا جاء زوجك فاقرئى عليه السلام، وقولى له بغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً قال: أجاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألنى كيف عيشنا فأخبرته أنا فى جهد وشدة، قال: هل أوصاك بشئ؟ قالت: نعم أمرنى أن أقرئ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك. قال: ذلك أبى وقد أمرنى أن أفارقك الحقى بأهلك فطلقها، فتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله تبارك وتعالى أن يلبث، ثم أتاه فلم يحده فدخل على امرأته فسأل عنه، فقالت: خرج يبتغى لنا، فقال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: بخير وسعة، وأثنى وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم فى اللحم والماء. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم حب لدعى لهم بالبركة فيه" ،وقال: لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفى رواية فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد. فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم فى طعامهم وشرابهم. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئى عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: شيخ حسن الهيئة وأثنت فسألنى عنك فأخبرته، فسألنى كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: هل أوصاك بشئ؟ قالت: نعم يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. فقال: ذلك أبى وأنت العتبة أمرنى أن أمسكك. وذكروا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن إبراهيم لما استأذن سارة فى زيارة إسماعيل هاجر أذنت له، واشترطت عليه ألا ينزل، فقدم وقد ماتت هاجر، فانتهى إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: ليس هو هنا. وكان يخرج من الحرم فيتصيد فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام؟ هل عندك شراب؟ قالت: ليس عندى شئ. فقال لها: إذا جاء صاحبك فاقرئيه السلام وقولى له يغير عتبة بابه، ثم ذهب. فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه إبراهيم. فقال: هل جاءك أحد؟ قال: جاءنى شيخ صفته كذا وكذا، كأنها مستخفة بأمره. قال: فما قال لك؟ قالت: قال لى قولى له غير عتبة بابك. فطلقها وتزوج بأخرى، ثم إن إبراهيم استأذن من سارة بعد ذلك فأذنت له، واشترطت عليه ألا ينزل، فجاء حتى انتهى إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب إلى الصيد وهو يأتى الآن إن شاء الله، انزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة، قالت: نعم. قال: هل عندك خبز؟ قالت: لا. قال: هل عندك برة؟ قالت: لا. قال: هل عندك شعير؟ قالت: لا. وجاءته بلبن ولحم، فدعا لها بالبركة فى اللبن واللحم لمجيئها بهما، ولو جاءته يومئذ ببرة أو شعيرة لكانت أكثر أرض الله برا وشعيراً قالت: فانزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضع عليه قدميه فغسلت أحد شقى رأسه، وبقى أثر قدمه فيه، ثم حولته إلى الجانب الآخر، فوضع قدمه الأخرى على المقام، فغسلت شق رأسه الآخر، وبقى أثر قدمه فيه ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبرى نبلاً قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرنى بأمر. قال: فأسمع ما أمرك ربك. قال: وتعيننى؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرنى أن أبنى بيتاً ها هنا. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة وإبراهيم يبنى حتى ارتفع البناء، وضعف إبراهيم عن نقل الحجارة، فجاءه إسماعيل بحجر المقام، فقام عليه يبنى يطول به الحجر حيث شاء. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" . أخرجه الترمذى. قلت ورواه غيره عن عبد الله بن عمرو ابن العاص موقوفاً عليه لا مرفوعاً إليه، صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى هذا الترمذى، قال الشيخ هود: قال بعض أهل العلم: بلغنى أن المقام قبلة البيت، وأن البيت قبلة المسجد الحرام، وأن المسجد الحرام قبلة مكة، وأن مكة قبلة الحرم، وأن الحرم قبلة أهل الآفاق.
{ وَعَهدْنَا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِىَ }: أى أمرناهما بأن طهرا بيتى، فأن مصدرية بقدر المصدر منصوباً على نزع الخافض وهو الباء أو مجروراً بها، ويجوز أن تكون تفسيرية لأن العهد فيه معنى القول دون حروفه، والمراد تطهيره من الأوثان والزور والمعاصى، والحيض والجنابة والنجس، وكلما لا يليق به، فتح ياء الإضافة فى بيتى نافع وحفص وهشام، وسكنها غيرهم، ولما كان تطهيره من ذلك نفعاً ومعونة على الطواف والعكوف والركوع والسجود قال:
{ للطَّائِفينَ والعاكِفِينَ والرُّكَّع السُّجود }: أى طهراه من ذلك لهؤلاء، ويجوز أن يكون معنى (طهرا بيتى) أخلصناه لهؤلاء ولا تجعلا فيه نصيباً لمن يعبد الاوثان فيه، أو يعصى فهي أو يحضر فيه مالا ينبغى وهو الكعبة وإضافته للتشريف وتضمن ذلك بناء على التوحيد والطهارة والوقار. وعن مجاهد: طهراه من الأوثان وذلك أمر لهما بعد بنائه، ويجوز أن يكون العهد إلى إبراهيم قبل بنائه، وإلى إسماعيل بعده، وأن يكون إليهما قبله، ومعنى تطهيره من ذلك قبل إنشائهِ خارجاً عن ذلك الشأن الخسيس، واعتقاد ضده له وهذا كقولك لمن أراد بناء دار وسع بيوتها وارفع سقفها، ولمن أراد حفر بئر وسع فمها، فإن أصل هذه العبارة أن تكون بعد الوجود. وعن عائشة رضى الله عنها: كسوة البيت على الأمراء، ولكن طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره. وفى قولها هذا أن تطهيره أن يفعل به كلما يستحسن شرعا، حتى إنه منه الكسوة له والتطييب، ولكن كسوته على الامراء، فإن عجز أعين أو كساه غيره، وكل ذلك من حلال، والطائف بالبيت من يدور به وهو الصحيح، وبه صرح عطاء وغيره، وقال ابن جبير: الطائفون الغرباء الحادثون على مكة، والعاكف المقيم عنده من أهل البلد، قال ابن جبير والشيخ هود رحمة الله، وقال عطاء: هو المجاور بمكة للعبادة عند البيت لا يبرح، ويجوز أن يكون من الاعتكاف الذى يبوب له فى كتب الفقه، الذى يلتزم به الإنسان على نفسه، كما اعتكف، صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: المعتكف المصلى، فإن الاعتكاف لزوم المكان فى اللغة، والمصلى لازم لمكانه، والعاكف لغة الواقف، والمصلى يقف. وقيل العاكف الجالس ينظر إلى البيت. وإن قلت: كيف يصح أن يقال العاكفون المصلون مع أنه قد قال بعد ذلك { والرُّكّع السُّجود }؟ قلت: صح لجواز ذكر الشئ عاما ثم يذكر أجزاءه أو بعضها مفصلة، تقول: لى دار أو بيوت وخزانة، وتريد بيوت تلك الدار وخزائنها، وأما إذا فسرنا العكوف بالقيام فى الصلاة، فمن ذكر الشئ مفصلا من أول مرة فإن القيام والركوع والسجود من هيئة المصلى، قيل إن الطواف للغرباء أفضل، أى لأنه لا يفعل بغير الكعبة فيفوتهم بالرحيل عنها، والصلاة لأهل مكة أفضل، وذكروا عن مجاهد وعطاء: أن النظر إلى البيت عبادة، وتكسب به الحسنات، والنظرة حسنة، والحسنة بعشر، وما شاء الله، و { الركع السجود } المصلون، جمعاً: راكع وساجد.